دراسات قانونية
انقضاء الالتزام عن طريق الوفاء وما يعادله (بحث قانوني)
الفصل الأول – الوفاء:
المواد (391 – 413):
جاء المشروع بالمادة (391) مقابلاً للمادة (311) من قانون التجارة الحالي مع تعديل أكثر إحكامًا في الصياغة، فلم يأخذ بما تنص عليه الفقرة الأولى عن (الوفاء من نائب المدين) إذ يغني عنها (الوفاء من المدين)، كما لم ينقل من تلك الفقرة ما تجري به نهايتها بقولها (إلا إذا كان ضروريًا أن يوفي المدين الدين بنفسه) واستعاض المشروع عنها بفقرة جديدة هي الفقرة الثالثة بالمادة التي جاء بها وهي القاعدة الأصلية للأحوال التي يجوز فيها للدائن أن يرفض الوفاء من غير المدين، سواء كان من يعرض هذا الوفاء له مصلحة فيه اعتبارًا بأن له حق الحلول محل الدائن أو ليست له هذه المصلحة وهي ذات القاعدة التي تحددها المادة (206) من قانون التجارة الحالي المستمدة من المادة (208) من القانون المصري.
ووضع المشروع المادة (392) في فقرتين جمع فيهما معًا الأحكام التي تنص عليها المادتان (312 و313) من قانون التجارة الحالي بعد تعديل الصياغة بما يتفق مع الجمع بين تلك الأحكام المترابطة بعضها مع البعض، وهو الأسلوب الذي جرى عليه التشريع المصري بالمادة (325) وتابعه فيه التشريع السوري بالمادة (324) والتشريع الليبي بالمادة (312) ومؤدى تلك الأحكام أن صحة الوفاء مشروطة بأن يكون الموفي سواء في ذلك المدين أو الغير مالكًا لما وفى به وأن تتوافر لديه أهلية التصرف فيه، فإذا لم يكن الموفي أهلاً للتصرف في الشيء الذي أوفى به كان وفاؤه قابلاً للإبطال بسبب نقص الأهلية على أنه إذا لم يُلحق الوفاء ضررًا بناقص الأهلية انتفت مصلحته في الدفع بالإبطال وبالتالي فإنه يمتنع عليه أن يتمسك به ويعتبر وفاؤه صحيحًا ويترتب عليه انقضاء الدين وبراءة ذمة المدين.
واستحث المشروع في المادة (393) حكمًا يقضي بأن الغير الذي أوفى الدين يكون له الرجوع على المدين بقدر ما أوفاه، أما إذا كان الوفاء رغم معارضة المدين أو بدون علمه فيكون للمدين أن يمنع رجوع الموفي عليه إذا أثبت أن له أية مصلحة في الاعتراض على الوفاء، مثل التمسك في مواجهة الدائن بالمقاصة القانونية، أو الدفع بانقضاء الدين لأي سبب آخر أو الدفع ببطلانه، ويوجه الحكم في الصورة الأولى أن الغير يرجع بدعوى الفضالة، ويوجهه في الصورة الأخرى أن الرجوع لا يستند إلا إلى دعوى الإثراء بلا سبب فيكون رجوعه بأقل القيمتين: مقدار ما دفعه الغير أو مقدار ما عاد على المدين من منفعة وقد نقل المشروع هذه المادة من القانون المدني المصري بالمادة (324) والتشريعات العربية التي أخذتها عنه.
ووجد من الملائم ألا ينقل المشروع ما تنص عليه المادة (314) من قانون التجارة الحالي من أنه (لا يصلح للمدين أن يوفي دين غرمائه في مرض موته إذا أدى هذا الوفاء إلى الإضرار ببقية الدائنين) فقد آثر المشروع أن يترك الحكم في ذلك الشأن للقواعد القانونية العامة التي تحكم سائر تصرفات المريض مرض الموت.
وأورد المشروع في المادة (394) الحكم في شأن حلول من أوفى الدين محل الدائن بحكم القانون وهو الحلول القانوني وحصر أحواله آخذًا – بصفة عامة – بما يقرره قانون التجارة القائم بالمادة (315) والتي سُنت في الأصل على غرار المادة (326) من القانون المصري والقوانين العربية التي نقلت عنه. ويبين جليًا بذلك الحكم أن الموفي الذي يحل محل الدائن بأمر القانون يكون دائمًا صاحب مصلحة في الوفاء بدين المدين وتبعًا لذلك يمكنه القانون من أن يفي بالدين رغم إرادة المدين والدائن على السواء، فيتم بذلك حلوله محل الدائن الذي وفاه، وتتحقق الحالة الأولى للحلول القانوني إذا كان الموفي ملزمًا بالدين مع المدين أو ملزمًا بوفائه عنه كالمدين المتضامن والكفيل الشخصي أو العيني إذ قد يكون لأي من هؤلاء مصلحة في درء مطالبة الدائن له بدين المدين أمام القضاء، وتتحقق الحالة الثانية إذا كان الموفي دائنًا عاديًا أو له تأمين عيني وأوفي الدين إلى دائن آخر له تأمين عيني مقدم عليه ويقوم حق الحلول في هذه الصورة رعايةً لمصلحة الموفي في منع الدائن المتقدم عليه في المرتبة من بيع المال المثقل بالتأمين في وقت غير مناسب، فقد يقدم هذا الدائن على البيع ولو بالوكس طالما كان الثمن الذي لا يزاحمه فيه غرماء يكفي للوفاء بدينه المتقدم في المرتبة، أما الحالة الثالثة من أحوال الحلول فقد لوحظ أن قانون التجارة القائم – متأثرًا بالقوانين العربية التي نقل عنها – قد اختص بها مشتري العقار الذي يفي بثمنه إلى الدائنين المخصص ذلك العقار لضمان دينهم في حين أن هذه الحالة ليست إلا تطبيقًا للحالة الأولى اعتبارًا بأن المشتري في هذه الصورة يعتبر مسؤولاً عن الدين عن المدين وفي حدود ثمن ما اشتراه، وهو اعتبار يصدق سواء أكان المبيع عقارًا أو منقولاً ومن أجل ذلك فقد استبدل المشروع في نطاق تلك الحالة كلمة الشيء بكلمة العقار، وتتوفر الحالة الرابعة للحلول القانوني كلما وجد نص خاص عليها في القانون.
وعرضت المادة (395) من المشروع لحكم الحلول الاتفاقي وإجراءاته على وجه مطابق للمادة (316) من قانون التجارة الحالي والقوانين العربية التي أخذ عنها مع تعديل طفيف في الصياغة، كما أُضيف إلى آخر الفقرة الثانية حكم يقضي بأنه لا يجوز للدائن الأصلي الذي يستوفي حقه من مال اقترضه المدين من شخص آخر أن يرفض ذكر هذه الواقعة في المخالصة المثبتة لسداد دينه إليه .. وقد نقل المشروع هذا الحكم من المادة 2102/ 3 من القانون المدني الإيطالي وذلك لإزالة كل لبس في أن الدائن الأصلي يعتبر ممتنعًا عن قبول الوفاء إذا رفض إثبات تلك الواقعة بالمخالصة مما يجيز إجباره على قبول الوفاء بطريق العرض الحقيقي والإيداع. وتكلفت المادة (396) من المشروع ببيان آثار الحلول بنوعيه سواء أكان حلولاً قانونيًا أو حلولاً اتفاقيًا، وترد هذه الآثار إلى قاعدتين أساسيتين أولاهما أن الموفي يحل محل الدائن الذي أوفاه وفي نفس المركز القانوني الذي كان له، فينتقل إليه حق الدائن بكافة ماله من صفات وتوابع وتأمينات وما يلحقه من الدفوع أما القاعدة الثانية فهي أن الموفي الذي احتل محل الدائن الموفي له لا يرجع على المدين إلا بمقدار ما أداه، ولم يأتِ المشروع في ذلك بجديد غير ما هو مقرر بالمادة (317) من قانون التجارة القائم والمواد المقابلة بالتشريعات العربية التي استمد منها ذلك الحكم.
وتتفق المادة (397) من المشروع مع حكم المادة (318) من قانون التجارة الحالي مع تعديل طفيف في الصياغة يجعلها أدنى إلى الدقة، أما المادة (398) فقد استحدث بها المشروع حكمًا جديدًا يعالج به الصورة التي يكون فيها الدين مضمونًا بعدة رهون على عقارات متعددة ثم يباع كل منها إلى حائز على استقلال ويقوم أحد الحائزين بوفاء الدين كله، ويقرر النص المستحدث أن هذا الحائز لا يكون له أن يرجع على أي من الحائزين الآخرين إلا بقدر نصيبه في الدين بحسب قيمة العقار الذي يكون حائزًا له ومن ثم فإن شأن الحائز الموفي بكل الدين بالنسبة إلى الحائزين الآخرين كشأن المدين المتضامن الذي يوفي بالدين جميعه فيرجع على سائر المدينين الآخرين كل بقدر حصته وقد استمد المشروع ذلك الحكم من المادة (331) من القانون المصري والقوانين العربية التي نقلتها عنه.
وتقرر المادة (399) القاعدة العامة التي تنص عليها المادة (319) من قانون التجارة الحالي بأن الوفاء يكون للدائن ولكن دون استطراد إلى ما تردده من شروط بشأن أهلية الموفي له اغتناءً بما جاء به المشروع في الباب الأول من القواعد والأحكام لتصرفات ناقصي الأهلية وأصحاب الصفة في النيابة عنهم في تلك التصرفات، وإنما أضاف المشروع إلى المادة التي أوردها نصًا مستحدثًا يقضي بصحة الوفاء إلى من قدم للمدين مخالصة صادرة من الدائن ما لم يكن هناك اتفاق على الوفاء للدائن بشخصه أو لنائبه، وقد تغيا المشروع بذلك النص أن يجعل من التقدم بالمخالصة الموقعة من الدائن قرينة على ثبوت صفة مقدمها في استيفاء الدين، على أن تنتفي هذه القرينة بوجود اتفاق مسبق على أن يكون الوفاء للدائن بنفسه أو لمن ينوب عنه إذ يتعين عندئذٍ على المدين أن يرفض الوفاء حتى يستوثق من صفة من بيده المخالصة وقد استمد المشروع ذلك الحكم من بعض التقنينات العربية (332 مصري، 330 سوري، 319 ليبي).
ووضع المشروع المادة (400) بما يتفق مع ما تنص عيه المادة (320) من قانون التجارة القائم. وأضاف حالة أخرى تأخذ ذات الحكم المطبق على الحالتين الواردتين في النص الحالي، ولكن في حدود خاصة، وهي حالة الوفاء لغير الدائن إذا عادت منه منفعة على الدائن وعلى أن تكون براءة المدين الموفي بقدر هذه المنفعة، وتتحقق تلك الحالة مثلاً إذا كان المدين قد وفى الدين إلى شخص كان دائنًا للدائن وقبضه منه استيفاءً لحقه في ذمة ذلك الدائن وكان الحق خاليًا من النزاع وواجب الأداء ومقدمًا على سائر ديون الدائن، وتوجد للدائن مصلحة ما في الوفاء به، وقد استمد المشروع هذا النص من بعض التقنينات العربية (333 مصري، 331 سوري، 320 ليبي) أما قانون التجارة الكويتي فلم يورد نصًا مماثلاً مع أنه تطبيق للأحكام التي أوردها بشأن الفضالة والبادي أنه قد تأثر في ذلك بمسلك القانون العراقي (المادة 384) مع أن هذا القانون إذ لم ينقل تلك الحالة عن القوانين العربية الأخرى قد التزم منطقه الخاص بعدم الاعتراف بالفضالة وفي خصوص الحالة الأخيرة من الحالات التي يطبق عليها الحكم الوارد في النص آثر المشروع التعبير عنها بالأسلوب الذي صاغها به القانون الحالي مع تعديل طفيف في الصياغة، فقد رأى أنه أصح في النظر مما تجري به عبارة بعض التشريعات العربية في ذلك المقام بأنه (الوفاء لشخص كان الدين في حيازته).
عرض الدين عرضًا حقيقيًا وإيداعه:
أغفلت التشريعات الرئيسية الحالية بالكويت النظام القانوني لعرض الدين عرضًا حقيقيًا وإيداعه، على الرغم مما له من أهمية وخطر، حتى لقد دعت الضرورة بعض المتعاملين إلى الأخذ بقواعده الأساسية بدون نص واجتهد القضاء في إقرارهم على ما أخذوا به ما وسعته أسباب الاجتهاد، كذلك لمس المشروع مدى الحاجة إليه في بعض التشريعات الفرعية الحديثة، ففي المرسوم بقانون رقم (25) لسنة 1978 بشأن إيجار العقارات وضع نظام خاص لعرض الأجرة وإيداعها بإجراءات مناسبة لذلك النوع من الأنزعة، وكان حتمًا لدى اقتراح مشروعات للقوانين الرئيسية أن تضمن نصوصها قواعد شاملة لنظام العرض الحقيقي والإيداع تتناول إجراءاته وأحكامه الموضوعية على السواء. وبالنسبة للقواعد الإجرائية فقد احتواها مشروع قانون المرافعات المدنية والتجارية الذي تم إنجازه وأصبح معدًا ليأخذ طريقه إلى مراحله التشريعية، أما القواعد الموضوعية فقد أتى بها هذا المشروع في المواد من (401) إلى (404) وهي مستمدة من المواد (334 و335 و338 و340) من القانون المدني المصري ومن التشريعات العربية الأخرى التي نقلت عنه.
وتعرض المادة (401) من المشروع لحكم لا ينصب مباشرة على العرض الحقيقي والإيداع وإنما ينتظم مرحله يسلكها المدين إذا شاء تمهيدًا لاتخاذ إجراءات العرض والإيداع أو عوضًا عنها، وغاية تلك المرحلة هي وضع الدائن في موضوع التقصير إذا رفض قبول الوفاء بدون مبرر مقبول، مع بيان الآثار التي تترتب على ذلك، ولكي يعتبر الدائن في ذلك الوضع القانوني فإن ذلك يقتضي من المدين أن يعذره، بإعلان رسمي يسجل عليه فيه، إما أنه رفض وفاءً صحيحًا عرضه عليه، وإما أنه امتنع عن القيام بعمل من الأعمال اللازمة لإتمام الوفاء، وإما أنه أعلن عدم قبوله للوفاء، فيترتب على الإعذار إلى الدائن بأنه في حالة من هذه الحالات انتقال تبعة هلاك الشيء إلى عاتقه، والسماح للمدين بإيداع الشيء على نفقة الدائن مع الرجوع عليه بالتعويض عند الاقتضاء. وتتحقق الحالة الأولى كما لو عرض المدين على الدائن عرضًا فعليًا – ولو بدون إعلان رسمي – الدين بتمامه عند حلول الأجل وفي المكان المحدد للوفاء به أو حتى اكتفى بإبداء استعداده للوفاء بالدين على هذا الوجه فرفض الدائن ذلك الوفاء، وتتحقق الحالة الثانية إذا استلزم الوفاء من الدائن أن يتدخل بعمل من جانبه، كما لو كان الدين واجب الوفاء في موطن المدين وأبى أن يسعى إليه، أما الحالة الثالثة فإن الدائن يسبق فيها المدين بأن يُعلن من ناحيته أنه لن يقبل الوفاء إذا ما عُرض عليه، فإن وضع الدائن نفسه في حالة من تلك الحالات وسجلها عليه المدين بالإعذار إليه ترتبت على الإعذار آثاره السابقة.
وللمدين أن يعرض الدين عرضًا حقيقيًا على دائنه – سواء أكان قد أعذر إليه وفقًا لحكم المادة السابقة أم لا – وقد أورد مشروع قانون المرافعات بيان إجراءات العرض وكذلك الإيداع، ففصلت أحكامه كيفية القيام بالعرض الحقيقي وفقًا لطبيعة المعروض، فإن كان تسليمه ميسورًا في موطن الدائن وجب أن يحمله إليه مندوب الإعلان وإلا كلفه بتسلمه حيث يوجد، وإذا ما قبل الدائن العرض على ذلك الوجه فيكون الوفاء قد تم إليه منذ اللحظة التي يقترن فيها القبول بالعرض، وهو حكم واضح في تلك الصورة وفي غير حاجة إلى النص عليه في المشروع، أما إذا لم يقبل الدائن العرض فيكون من اللازم اتخاذ إجراءات الإيداع التي رسمها مشروع قانون المرافعات، وتتم بإيداع الشيء خزانة إدارة التنفيذ إذا كان المعروض نقودًا أو غيرها مما يقبل الإيداع بالخزانة، فإن لم يكن كذلك تعين استصدار أمر من القضاء بالإيداع في مكان أمين، أما إذا كان المعروض شيئًا يستحيل على الإيداع فإن الإجراء البديل هو استصدار أمر القضاء بوضعه تحت الحراسة، أما الأشياء التي يسرع إليها التلف فتباع بإذن القضاء ويودع الثمن المتحصل من البيع، على أن الدائن قد يعود بعد إتمام الإيداع أو الإجراء البديل عنه فيقبل العرض. كما أنه قد يظل على موقفه من رفض العرض والامتناع عن تسلم المعروض حتى يُقضى نهائيًا بصحة العرض والإيداع وتقرر المادة (402) من المشروع الحكم في الحالين فتقضي بأن العرض فيهما يعتبر بمثابة وفاء للدين ونصها قاطع في إسناد وقت الوفاء وبراءة ذمة المدين إلى التاريخ الذي تم فيه العرض الحقيقي على الدائن فابتدره بالرفض ولم يشأ أن يقبله في حينه.
وقد يحول بين المدين وبين إمكان التعرف على الدائن الواجب الوفاء إليه حائل، فيتعذر اتخاذ إجراءات عرض الدين عرضًا حقيقيًا، وكان لزامًا لذلك فتح الباب أمام المدين للخلوص من عبء الدين بإيداعه مباشرة إيداعًا غير مسبوق بالعرض الحقيقي في الأحوال التي يتحقق فيها قيام ذلك الحائل وقد حصرتها المادة (403) فيما يلي:
أولاً: إذا كان المدين يجهل شخصية الدائن أو موطنه، ثانيًا: إذا كانت أهلية الدائن مقيدة أو معدومة وليس له نائب يقوم عنه في استيفاء الدين، ثالثًا: إذا كان الدين محل نزاع بين عدة أشخاص ولم يتيسر للمدين التثبت من صاحب الحق فيهم، رابعًا: إذا كانت هناك أسباب جدية أخرى تبرر عدم إجراء العرض الحقيقي كما إذا كان المدين يطالب بالتزام مقابل لم يتيسر له استيفاؤه قبل تنفيذ التزامه، ومثال ذلك أن يكون المشتري راغبًا في الوفاء بالثمن إلى البائع ولكن البائع يمتنع عن الوفاء المقابل بالتصديق على توقيعه في عقد البيع تمهيدًا لتسجيل العقد ونقل الملكية، فلا يكون أمام المشتري مفر من إيداع الثمن مباشرة على ذمة البائع مشروطًا بعدم صرفه إليه إلا بعد توقيعه على العقد، وترتب المادة (403) على الإيداع (أو ما يقوم مقامه) في هذه الصورة أنه يكون بمثابة وفاء للدين، واعتبارًا من تاريخ القيام به، وبدهي أن الإيداع المقصود هو الإيداع الصحيح الذي قِبله من ثبت له الحق فيه دون أن ينازع في صحته أو الإيداع الذي يقضي بصحته لدى النزاع فيه.
ولا يعتبر العرض الحقيقي المشفوع بالإيداع لازمًا، ولذلك فقد أجازت المادة (404) من المشروع للمدين أن يرجع في عرضه ما دام لم يقبله الدائن وما دام لم يصدر حكم نهائي بصحته، ويرسم مشروع قانون المرافعات إجراءات الرجوع فيوجب على المدين إن أراد رجوعًا أن يُعلن الدائن بعزمه على ذلك وأن يتلبث ثلاثة أيام قبل أن يؤذن له في الرجوع، إذ يكون للدائن خلال هذه المهلة أن يقبل العرض فيقتضي الدين ويمتنع بذلك على المدين أن يرجع، أما إذا انتهت المهلة ولم يبد الدائن قبولاً للعرض ورجع المدين فإن العرض يعتبر كأن لم يكن، ومن ثم تبقى ذمة المدين مشغولة بالدين وملحقاته كما لا تنفك عن الدين ضماناته.
أما إذا جاء رجوع المدين في العرض بعد قبول الدائن له أو بعد الحكم نهائياً بصحته، فإن هذا الرجوع يكون قد وقع على غير محل من الدين الذي صار عرضه وانقضى بما كان له من كافة الضمانات، وحتى إذا كان الدائن لم يقبض الدين فعلاً في هذه الصورة ثم عاد وقبل من المدين الرجوع في العرض، فإن أثر هذا القبول يكون مقصورًا على العلاقة بينهما فتعود ذمة المدين مشغولة بدين جديد معادل للدين القديم الذي انقضى فلا يكون للدين الذي نشأ بذمة المدين ما كان للدين القديم المنقضي من الضمانات ما لم يوجد اتفاق بين ذوي الشأن على ذلك.
وأورد المشروع المادة (405) بحكم يتفق مع ما تقرره المادة (321) فقرة أولى من قانون التجارة الحالي مع تعديل أوفق في الصياغة، ومؤداه أن الوفاء ينبغي أن يكون بالشيء المستحق أصلاً، ولا يجوز أن يستبدل شيء آخر به ولو كانت له قيمة أكبر، إلا إذا وافق الدائن أو كان متعسفًا في قبول الوفاء، وقد رُئي عدم الحاجة إلى إيراد حكم خاص على نحو ما تقرره الفقرة الثانية من (319) بشأن حق المدين بدين لم يعين إلا بنوعه في أن يفي بمثله ولو لم يرضَ الدائن، اعتبارًا بأن هذا الحكم لا يعدو أن يكون تطبيقًا سلسًا للقواعد العامة وقد سبق إلى ذلك النهج القانون المصري بالمادة المقابلة (341) مدني والقوانين العربية التي حذت حذوه (339 سوري، 328 ليبي).
وأوردت المادة (406) من المشروع بفقرتها الأولى حكمًا مطابقًا للحكم المنصوص عليه في المادة (323) من قانون التجارة الحالي بشأن عدم جواز إجبار الدائن على قبول الوفاء بجزء من حقه، ما لم يكن هناك اتفاق أو نص في القانون يقضي بإلزامه بذلك، وإنما أجرى المشروع تعديلاً في العبارة لتكون الصياغة أكثر دقة وإحكامًا، وأورد المشروع فقرة جديدة بالمادة المقترحة تضع حلاً بينًا لكيفية الوفاء إذا كان هناك نزاع في جزء من الدين دون باقيه، ويقضي بأن للدائن في هذه الحالة أن يستوفي من المدين الجزء الذي يعترف به بغير انتظار لحسم النزاع في الجزء الذي انصب عليه ذلك النزاع، ولا يكون للمدين أن يرفض هذا الوفاء الجزئي متذرعًا بالتريث إلى الوقت الذي يتم فيه حسم النزاع في الجزء الآخر، وقد استمد المشروع هذا الحكم من المادة (342) فقرة ثانية من القانون المدني المصري، والقوانين العربية التي سارت على منواله.
وتأخذ المادة (407) من المشروع بحكم المادة 324/ 2 من قانون التجارة الحالي بشأن كيفية الخصم في حالة الوفاء بالدين وملحقاته، أما المادتان (408 و409) فتنصرفان إلى معالجة كيفية الخصم من أصل الديون المتعددة وهي مسألة تباينت فيها الحلول التشريعية، فمنها ما يذهب على أن المدين له عند الوفاء أن يعين الدين الذي يريد قضاءه، فإن لم يفعل كان للدائن أن يقوم بهذا التعيين ما لم يعترض عليه المدين أو يثبت أن الدائن أجرى التعيين في المخالصة بطريق الغش أو المباغتة (القانون الفرنسي المادة 1255) ومنها ما يذهب إلى إطلاق حق المدين في تعيين الدين الذي يوفِّي به ويستعمله كيف شاء وفي أي وقت يشاء بعد الوفاء وهو منهج القانون العراقي المادة 393/ 1 مدني وقانون التجارة الكويتي المادة 324/ 1 ويأخذ فريق ثالث من التشريعات بتحديد حق المدين في تعيين الدين في وقت قيامه بالوفاء أما إن سكت عن التعيين فإن القانون يتولى ذلك عنه آخذًا في الاعتبار نية المدين المفترضة وقت الوفاء، فإن لم يوجد من الاعتبارات ما يرجح اتجاه النية إلى تعيين دين بذاته فإن الحق في التعيين يؤول إلى الدائن وهو ما أخذ به القانون المدني المصري في المادتين (344 و345) والمدني السوري في المادتين (342 و343) والمدني الليبي في المادتين (331 و332)، وقد اختار المشروع منهج هذه القوانين ضمانًا لاستقرار المراكز القانونية، وتلافيًا للمنازعات حول مشروعية استعمال المدين لحقه المطلق في تعيين الدين بعد أن تم الوفاء دون تعيين.
وقد نصت المادة (408) من المشروع على أن للمدين أن يعين عند الوفاء الدين الذي يريد الخصم منه ما لم يمنعه اتفاق مسبق من ذلك أو يحول بينه وبين حقه في الاختيار نص في القانون كما إذا أراد أن يقع الخصم من دين لا يجوز فيه تجزئة الوفاء، ونصت المادة (409) من المشروع على كيفية إجراء الخصم إذا لم يعينه المدين عند الوفاء، بأن الوفاء يقع من الدين الذي حل تمشيًا مع النية المفترضة للمدين وقت أن أوفى، فإن تعددت الديون الحالة فإن الوفاء يقع من أشدها كلفة تقديرًا بأنه الأصلح للمدين والأكثر اتفاقًا مع قصده عندما أوفى دون تعيين، وعلى ذلك فلا يكون للمدين الذي لم يعين وقت الوفاء، أن يعود بعد هذا الوقت بزمن طال أو قصر فيختار الخصم من دين مؤجل حتى ولو كان الأجل لمصلحته دون الخصم من دين كان حالاً وقت الوفاء واستقر في يقين الدائن الموفي له عندئذٍ أن الوفاء قد انصب عليه، كما لا يكون للمدين بعد ذلك الوقت (وقت الوفاء) أن يعود فيؤثر الخصم من دين عادي على الخصم من دين مكفول كان معتبرًا وقت الوفاء أنه الأشد كلفة من ذلك الدين العادي.
وتطابق المادتان (410 و411) من المشروع الأحكام المقررة بالمادتين (325 و326) من قانون التجارة الحالي مع تعديل أحكم في صياغة أولاهما والاحتفاظ بجوهر الحكم على حاله. ويتضمن هذا الحكم أصلاً عامًا بأن الالتزام يكون مستحق الأداء بمجرد ترتبه بذمة المدين على أن هذا الأصل ليس مطلقًا فقد يوجد اتفاق بإضافة الالتزام إلى أجل فيصير أداؤه معلقًا على أجل واقف كما قد ينص القانون في بعض الأحوال رعايةً لمصلحة يقدرها على تحديد أجل للوفاء بالالتزام، وإلى جانب الأجل الاتفاقي والأجل القانوني أخذ المشروع مأخذ القانون الحالي ومصادره التشريعية بالأجل القضائي فأتاح للقاضي أن يمهل المدين في الوفاء أو يمنحه ما يسمى نظرة الميسرة، وذلك إذا توافرت في الموضوع الأسباب المشروطة قانونًا لذلك إذ يجب أن تكون حالة المدين تستأهل إيثاره بهذه المنحة وبالتالي فلا يجوز أن تعطى لمن تعمد عدم الوفاء أو قصر فيه قصورًا بينًا أو لمن كان معسرًا لا يرجى منه الاقتدار على الوفاء، كما يجب ألا يكون من شأن النظرة إلحاق ضرر شديد بالدائن فلا وجه لإغاثة المدين إذا كان السبيل إلى ذلك هو إنزال الأضرار البالغة بالدائن ويلزم أخيرًا ألا يوجد نص في القانون يمنع النظرة إذ يتعين عندئذٍ التزام حكمه، وغني عن البيان أن القاضي عليه أن يقدر مدى النظرة بالمدة الضرورية لتمكين المدين من الوفاء.
وجاء المشروع بالمادة (412) تتفق مع الحكم المقرر في المادة (327) من قانون التجارة الحالي بفقرتيها مع تعديل أكثر وضوحًا في العبارة، استمده المشروع مما تجري به صياغة المادة (347) من القانون المدني المصري مع التصرف بما اقتضاه المقام، ولم يرَ المشروع وجها لنقل ما تنص عليه المادة (328) من قانون التجارة الحالي من أنه (إذا أرسل المدين الدين مع رسوله إلى الدائن فهلك في يد الرسول قبل وصوله هلك من مال المدين، وإن أمر الدائن المدين بأن يدفع الدين إلى رسول الدائن فدفعه إليه وهلك في يده فهلاكه من مال الدائن ويبرأ المدين من الدين) وذلك تقديرًا من المشروع أن هذا الحكم لا يعدو أن يكون تطبيقًا للقواعد العامة ويمكن إعماله دون لبس وبغير حاجة إلى تخصيصه بالنص أما المادة (413) فوضعها المشروع مطابقةً للمادة (329) من قانون التجارة في حكمها بأن نفقات الوفاء بالدين تكون على عاتق المدين إلا إذا اتفق على غير ذلك أو كان هناك نص أو عرف يجري على خلافه، والنفقات المقصودة في هذا المقام هي تلك التي تصرف في سبيل الوفاء بالدين مثل ثمن الشيك وأجرة الوزن أو الكيل ونفقات إرسال الدين إلى الدائن.
الفصل الثاني – انقضاء الالتزام بما يعادل الوفاء:
المواد (414 – 434):
أولاً: الوفاء بمقابل:
أورد المشروع ماهية الوفاء بمقابل والقواعد التي تحكمه بالمادتين (414 و415) على نسق ما تجري به المادتان (330 و331) من قانون التجارة القائم ومصدرها في القوانين العربية (المادتان 350 و351 مصري والمواد المقابلة بالتشريعات العربية التي أخذت بها)، ويترتب على الوفاء بمقابل نقل الملكية شيء من ذمة المدين إلى ذمة الدائن وفاء لالتزام سابق بينهما فهو بهذه المثابة تجديد بتغيير الالتزام يتبعه بل ويمتزج به الوفاء بالالتزام الجديد على الفور، وبذلك ينطوي الوفاء بمقابل على نقل الملك بمقابل ومن هذا الوجه تنطبق عليه أحكام البيع كما يؤدي إلى انقضاء الالتزام فتسري عليه من هذا الوجه أحكام الوفاء، وقد رُئي التماسًا لوضوح العبارة بالمادة (415) الاستعاضة بعبارة (وبالأخص ما تعلق منها بتعيين الخصم في الوفاء من الديون المتعددة) عن الصياغة المقابلة بالمادة (331) والتي تجري عبارتها (وعلى الأخص ما تعلق منها بتعيين جهة الدفع).
ثانيًا التجديد:
وتتفق المادة (416) من المشروع مع المادتين (332 و333) من قانون التجارة وإنما أدخل المشروع تعديلاً لفظيًا طفيفًا في صياغة الفقرة الأولى المقابلة للمادة (332) من القانون.
واستحدث المشروع في المادة (417) نصًا على حكم التجديد في حالة بطلان أي من الالتزامين القديم أو الجديد، وتقضي هذه المادة بأن التجديد لا يقع إذ أن الالتزام القديم إذا كان باطلاً استتبع ذلك بطلان الالتزام الجديد لتخلف سببه، وإذا كان الالتزام الجديد باطلاً بقي الالتزام القديم قائمًا لامتناع أثر التجديد.
ونص المشروع في المادة (418) منه على أن التجديد لا يفترض بل يجب أن يتفق عليه صراحةً أو يُستخلص بوضوح من الظروف ذلك أن التجديد يستلزم ظهور إرادة الطرفين في القضاء على الالتزام القديم وفي إنشاء الالتزام الجديد ليكون بديلاً له ومختلفًا عنه، فضلاً عما ينطوي عليه التجديد من نزول من جانب الدائن عن الالتزام القديم ومن ثم لا يجوز افتراض التجديد أو استخلاصه من المظاهر المادية المجردة من قصد التجديد. فمن هذه المظاهر ما يفضي إلى خلق عمليات قانونية تكون صحيحة في ذاتها دون أن يقصد الطرفان منها قضاء الالتزام القديم الذي يستلزم توفر عنصر معنوي هو نية التجديد بإنشاء الالتزام الجديد، وقد نقل المشروع هذا الحكم عن المادة 354/ 1 مدني مصري والتشريعات العربية التي سارت على منواله.
وجاء المشروع في المادة (419) بحكم يطابق ما تنص عليه المادة (334) من قانون التجارة القائم مع صياغة أكثر ضبطًا لتأكيد المعنى المقصود منه وهو أن الالتزام الجديد غير الالتزام القديم وله مقوماته واستقلاله الخاصان به، وقد أضاف المشروع فقرة ثانية إلى المادة التي جاء بها للتأكيد على أن التأمينات لا تنتقل من الالتزام القديم إلى الالتزام الجديد ما لم يقضِ بذلك نص في القانون أو تبين أن النية قد انصرفت إلى ذلك. وقد جرى المشروع في هذه الإضافة على منوال التشريع المصري في المادة (356) من القانون المدني والتشريعات العربية التي حذت حذوه (354 سوري، 343 ليبي).
وقد لوحظ أن المادة (335) من قانون التجارة الحالي تنص على أنه (إذا كان الدين الأصلي مكفولاً بتأمينات شخصية أو عينية وصار تجديده سقطت التأمينات إلا إذا جُددت هي أيضًا) وهو حكم عام ومبهم، إذ أنه لا يفرق بين التأمينات العينية والتأمينات الشخصية مع ما بينهما من اختلاف في الطبيعة القانونية وفي الآثار، كما أنه جاء مرسلاً بلا تحديد للوسيلة القانونية لتجديد هذه أو تلك من نوعي التأمينات، كذلك فإنه ترك حقوق الغير دون تصون أو حماية حيث يقتضي الحال ذلك، وهذا كله من شأنه أن يوسع أسباب الخلاف في وضع الحلول القانونية في كثير من الصور بل وقد يضل الاجتهاد فيها، ولذلك فإن المشروع قد جاء بالمادتين (420 و421) ورسم بهما قواعد.
حاسمة لتحكم المسائل المتماثلة وتلك المخالفة كل بما يتفق مع طبيعتها من الأحكام، والأصل العام في جميعها استمده المشروع من القانون المدني المصري في مادتيه (357 و358) والقوانين العربية الأخرى التي نقلت عنه، ولكنه لم يلتزم النهج الذي سلكته تلك القوانين بحصر تطبيق الحكم المقرر في أولى المادتين (357 مصري وما يطابقها) في التأمينات العينية المقدمة من المدين، وإطلاق الحكم المقرر في المادة (358) على التأمينات المقدمة من غير المدين سواء أكانت عينية أو شخصية، وهو ما يثير اضطرابًا بشأن المفارقة في الحكم بين انتقال التأمينات العينية إذا كانت مقدمة من المدين، وبين انتقال تلك التأمينات إذا كانت مقدمة من غير المدين. مع ما بينهما من تقارب شديد في الطبيعة القانونية والآثار، ولذلك فإن المشروع آثر أن يفرد المادة (420) لحكم التأمينات العينية كافة سواء أكانت مقدمة من المدين أو من غيره، فتقضي هذه المادة أنه إذا كانت تلك التأمينات مقدمة من المدين وكان التجديد بتغيير الدين فإنها تنتقل إلى الدين الجديد بالاتفاق بين الدائن والمدين على ألا يؤثر ذلك على حقوق الغير، وعلى ذلك إذا اتفق الدائن والمدين على انتقال التأمين العيني لضمان الدين الجديد بقيمة تزيد على قيمة الدين القديم، فإن اتفاقهما على امتداد الضمان إلى القدر الزائد في الدين الجديد لا ينفذ ولا يسري في مواجهة الغير وهو كل دائن آخر يكون دينه مضمونًا بحق عيني على التأمين المقدم ضمانًا للدين القديم متى كان تاليًا له في المرتبة، وإن كان التجديد بغير المدين جاز للدائن والمدين الجديد الاتفاق على استبقاء التأمين بغير رضاء المدين الأصلي ويبقى التأمين على حاله يثقل العين المقدمة منه، ويعتبر هو عندئذٍ كفيلاً عينيًا للدين الجديد، وإن كان التجديد بتغيير الدائن فيصير الاتفاق بين أطراف التجديد ثلاثتهم على انتقال التأمينات – فإن كان التأمين العيني مقدمًا من سوى المدين فإنه لا ينتقل إلى الدين الجديد إلا بموافقة من قدم ذلك التأمين وبشرط ألا يضر ذلك بحقوق الغير، وفي جميع الأحوال وسواء كانت التأمينات العينية مقدمة من المدين أو من سواه فإن الاتفاق على انتقالها إلى الدين الجديد لا يعتبر نافذًا في حق الغير إلا إذا كان هذا الاتفاق معاصرًا وقت الاتفاق على التجديد، فإذا كان لاحقًا له في الزمان فإنه يكون من شأن التجديد الذي تم مجردًا من التأمينات العينية انقضاء الدين القديم مع تأميناته، ولا يكون في السعة إعادة تلك التأمينات بعد زوالها لضمان الدين الجديد وبذات المرتبة التي كانت في ضمان الدين القديم، حماية للغير وصيانة لحقوقه، وإن كان التأمين العيني موقعًا على العقار فيلزم لسريانه أيضًا اتباع الأحكام التي يقررها قانون التسجيل العقاري، وخصص المشروع المادة (421) لبيان الحكم في شأن انتقال التأمينات الشخصية فيقضي بأن هذه الأمينات لا تنتقل إلى الدين الجديد إلا برضاء الكفيل أو المدين المتضامن، ومن ثم فإن الكفالة الشخصية لا تضمن الوفاء بالدين الجديد ما لم يوافق الكفيل على ذلك، وكذلك إذا تم التجديد بموافقة بعض المدينين المتضامنين ترتب على ذلك انقضاء الدين الأصلي ونشوء دين جديد بالتضامن بين من وافقوا على التجديد، وتبرأ ذمة من عداهم من المدينين الذين كانوا متضامنين في الدين الأصلي، وإنما يجب التنويه في ذلك المقام بأن الدائن إذا احتفظ عند التجديد بحقه قبل من لم يرتضه من المدينين المتضامنين فإن هؤلاء يبقون ملزمين بالتضامن بالدين الأصلي بعد حط حصة المدين الذي أجرى التجديد وذلك عملاً بما تنص عليه المادة (348) من المشروع المقابلة للمادة (261) من قانون التجارة الحالي، وغني عن البيان أن موافقة الكفلاء الشخصيين أو المدينين المتضامنين ليست مشروطة في نفاذها بحق الغير بمعاصرة الاتفاق على التجديد، فيجوز أن يأتي رضاؤهم بكفالة الدين الجديد أو التضامن فيه عند حصول التجديد، كما يصح أن يكون لاحقًا له، وإذا جعلوا لرضائهم فيما لو كان لاحقًا أثرًا رجعيًا من تاريخ التجديد فإن التزامهم بالكفالة أو التضامن على ذلك الوجه يكون صحيحًا ونافذًا في حدود القواعد العامة في القانون.
ثالثًا: الإنابة في الوفاء:
وتعرض المادة (422) لحكم الإنابة في الوفاء مستلهمة نص المادة (336) من قانون التجارة القائم مع تعديل صياغته على وجه أكثر دقة، ونظام الإنابة يفترض وجود أطراف ثلاثة: المدين الأصلي وهو المنيب، الدائن وهو المناب له، والأجنبي وهو الشخص المناب، وتقع الإنابة كاملة إذا اتفق ثلاثتهم على إبراء المدين الأصلي من الدين، وأن يصير على المناب الالتزام بوفائه منفردًا، ويكون ذلك بمثابة تجديد للدين بتغير المدين، وتقع الإنابة ناقصة إذا لم ينعقد الاتفاق على التجديد وإنما تم الاتفاق على إنشاء الالتزام الجديد بذمة المناب إلى جانب الالتزام الأصلي الثابت بذمة المنيب (المدين الأول) وهذا النوع من الإنابة هو الأكثر أهمية وذيوعًا في المعاملات، ومع ذلك فقد لوحظ أن قانون التجارة الحالي في صدد تعريفه بالإنابة – لم يورد سوى عبارة موجزة ومرسلة في معناها – متأثرًا في ذلك ببعض القوانين العربية حيث قال: (إن الأجنبي يلتزم بوفاء الدين مكان المدين)، وهي صياغة يقصر مدلولها عن الإحاطة بالإنابة الناقصة مما حدا بالمشروع إلى تعديلها على الوجه الذي جاء به في النص الذي أورده بالمادة (422).
وقد استمد المشروع المادة (423) بفقرتيها من الأحكام المقررة بفقرتي المادة (337) من قانون التجارة الحالي. وتتناول الفقرة الأولى القاعدة العامة في الإنابة الكاملة المعتبرة تجديدًا للالتزام، وأهم الآثار التي تتميز بها تلك الإنابة وهي براءة ذمة المنيب قبل المناب لديه وقد أجرى المشروع تعديلاً في صياغة الفقرة الثانية لتكون عبارتها أكثر وضوحًا وبيانًا في أنه إذا لم يوجد اتفاق صريح على التجديد فلا تكون الإنابة إلا إنابة ناقصة يترتب عليها إنشاء التزام جديد بذمة المناب إلى جوار الالتزام الأول الثابت بذمة المدين المنيب.
وتتفق المادة (424) من المشروع مع ما تنص عليه المادة (338) من قانون التجارة القائم، ويفيد حكمها المطلق أنه يسري على الإنابة بنوعيها سواء كانت كاملة أو ناقصة، ويوجه هذا الحكم أن الأصل في الإنابة أيًا كان نوعها أنها – كما تقدم – تنشئ بذمة المناب التزامًا مجردًا من سببه، على أساس أن المناب لديه لا يتلقى إلا حقه، وأنه إنفاذًا للإنابة يستأديه من المناب بدلاً من أن يستأديه من المدين الأصلي، ومن ثم فإن الإنابة لا تتأثر ولا تندفع بما قد يكون واردًا على العلاقة بين المدين الأصلي (المنيب) وبين المناب من أسباب البطلان أو الدفوع، وغني عن البيان أن الحال يختلف إذا ورد في الإنابة تصريح بأن المناب يلتزم قبل المناب لديه بسبب العلاقة بينه وبين المنيب (أي بين المناب والمنيب) فسواء أكانت هذه العلاقة علاقة مديونية أو علاقة تبرعية فإن الإنابة لا تصح إلا بصحة الالتزام الذي اتخذ سببًا لها كما تدفع بما يدفع به ذلك السبب.
رابعًا: المقاصة:
لوحظ أن قانون التجارة الحالي وإن صرف عنايته إلى وضع النظام القانون للمقاصة القانوني للمقاصة القانونية وأورد فيه أحكامها الأساسية وما يترتب عليها من الآثار إلا أنه أشار من خلال نصوصه إشارات مبهمة إلى المقاصة الاختيارية وبعض من قواعدها بكيفية تثير الاضطراب في ماهية هذا النوع من المقاصة وفيما تناوله من تنسيق بين أحكامها وأحكام المقاصة القانونية كما سيبين فيما يلي من الإيضاحات، ولذلك فإن المشروع آثر السير على نهج القانون المدني المصري في المواد (362 – 369) والتشريعات العربية التي تابعته فاقتصر على إيراد ما تعلق بالمقاصة القانونية من الأحكام وما ترتب عليها من الآثار، ولم يرَ أن يتناول المقاصة الاختيارية بنصوص خاصة ذلك أن مجالها يكون حيث يتخلف شرط أو أكثر من الشروط اللازمة لوقوع المقاصة القانونية، وعندئذٍ تقع تلك المقاصة الإرادية بإرادة أحد الطرفين أو باتفاقهما معًا على التجاوز عن الشرط أو الشروط المقررة لمصلحة أيهما والمانعة من المقاصة القانونية، فأساسها إذا هو الإرادة وأولى أن يُترك حكمها للقواعد العامة التي تنظم التصرفات القانونية، كما أنها من وقت اتجاه الإرادة إليها أو اتفاق الطرفين عليها ترتب الآثار الناشئة عن المقاصة القانونية فلا تكون هناك حاجة إلى ترديد تلك الآثار في شأنها بنصوص على استقلال.
وترتيبًا على ما تقدم جميعه جاء المشروع بالمادة (425) وضمنها تعريفًا واضحًا بالمقاصة القانونية، وحكمها في انقضاء الدينين قصاصًا بمجرد توافر الشروط التي أحاط بها النص، وقد حذا المشروع فيما أخذ به من ذلك حذو القانون المدني المصري في مادته الـ (362) والتشريعات العربية التي نقلتها عنه، وهي تتفق في جوهرها مع الأحكام المقررة بالمادتين (339 و340) من قانون التجارة الكويتي، مضافًا إليها أن نظرة الميسرة التي يمنحها القاضي للمدين أو يتطوع بها الدائن من جانبه لا تمنع من وقوع المقاصة، وهي إضافة يقتضيها التطبيق السليم للقواعد العامة في القانون، ذلك أن العلة في النظرة تزول من أساسها بصيرورة المدين في مركز الدائن لدائنه بدين تتوافر فيه شروط المقاصة القانونية مع الدين الذي بذمته لذلك الدائن وأمهل في الوفاء به إشفاقًا على ظروفه سواء بالنظرة القضائية أو تفضلاً عليه من الدائن.
وفيما عدا ذلك فإن المشروع التزامًا بسياسته التي رسمها لم يُشر إلى المقاصة الاختيارية التي يقول عنها قانون التجارة الحالي في نصوصه بأنها تحصل بتراضي المتداينين، ومع ذلك فيلزم التنويه في هذا المقام – ودفعًا لأي لبس في حكم القواعد العامة بشأن تلك المقاصة – أن المقاصة الاختيارية كما تقع بتراضي الطرفين إذا كان المانع من تحقق المقاصة القانونية مقررًا لمصلحتهما معًا، فإنها تقع أيضًا بتصرف من جانب واحد إذا كان المانع من المقاصة القانونية لم يقرر إلا لمصلحة ذلك الجانب وحده فيكون له أن ينزل عن المانع ويطلب إلزام غريمه بالامتثال للمقاصة فتقع بين الدينين من تاريخ نزوله عن ذلك المانع.
واستحدث المشروع في المادة (426) الحكم المقرر بها وهو مستمد من المادة (363) من القانون المدني المصري والتشريعات العربية التي نقلت عنه، ويقضي بأنه لا يُشترط لوقوع المقاصة أن يكون الدينان المتقابلان واجبي الوفاء في مكان واحد تقديرًا بأنه لا ينبغي أن يشكل اختلاف مكان الوفاء مانعًا من تحقيق المزايا التي تكفلها المقاصة في المعاملات، وأنه يكفي في هذه الصورة إلزام من تمسك بالمقاصة بأن يعوض الطرف الآخر عما يلحقه من الضرر نتيجة لعدم استيفاء حقه أو عدم وفائه بدينه في المكان المتفق عليه، وتقابل المادة (427) من المشروع المادة (341) من قانون التجارة الحالي التي تنص على أنه (إذا كان للوديع دين على صاحب الوديعة من جنس واحد، أو كان للغاصب دين على صاحب العين المغصوبة من جنسها، فلا تصير الوديعة أو العين المغصوبة قصاصًا بالدين إلا إذا تقاص الطرفان بالتراضي) ويواجه الحكم في حالة الوديعة ما ينبغي أن يسود التعامل من الثقة في النزول على مقتضى التعاقد، ويوجهه في حالة العين المغصوبة القاعدة المستقرة بحظر انتصاف الشخص لنفسه، ومع ذلك فيؤخذ على هذه المادة أنها تقصر عن تناول حالة مماثلة حيث يكون مصدر أحد الدينين عارية استعمال فضلاً عن الحالة التي يكون فيها ذلك المصدر دينًا قابل للحجز وامتناع الحجز تمليه أسبابه تتصل بالنظام العام، ولذلك فقد اختار المشروع أن ينقل المادة التي جاء بها عن القانون المدني المصري بمادته الـ (364) إذ يكفل نصها مواجهة حالات القصور المشار إليها ويترك الشأن في المقاصة الاختيارية فيها للقواعد العامة في القانون، ولكن المشروع أضاف إلى الأحوال المنصوص عليها في القانون المصري حالة أخرى هي حالة ما إذا كان أحد الدينين مستحقًا للمنفعة وذلك ما لم يحصل التمسك بالمقاصة من مستحقها.
هذا ولم يجد المشروع وجهًا لمسايرة قانون التجارة الحالي فيما ينص عليه بالمادة (342) من أنه (إذا أتلف الدائن عينًا من مال المدين وكانت من جنس الدين سقطت قصاصًا، وإن كانت خلافه فلا تقع المقاصة إلا بتراضيهما) مؤثرًا أن يترك الحكم في ذلك الشأن ليجري وفقًا لما تمليه القواعد العامة في القانون.
وقد رُئي أيضًا التجاوز عن إعادة تقنين الحكم المقرر بالمادة (343) من القانون الحالي فيما تنص عليه من أنه (إذا كان للكفيل المحروم من حق التجريد دين على الدائن المكفول له من جنس المكفول به، فالدينان يلتقيان قصاصًا من غير رضاهما، وإن كانت من غير جنس الدين المكفول به، فلا يلتقيان قصاصًا إلا بتراضي الدائن المكفول له مع الكفيل لا مع المدين). فهذا النص في عمومه لا يعدو أن يكون تطبيقًا من تطبيقات القواعد العامة والأحكام الخاصة بالمقاصة، ذلك أن الكفيل المحروم من حق التجريد يكون حسب الأصل كفيلاً متضامنًا مع المدين، فيثبت الحق للدائن في الرجوع عليه بالدين وفي التنفيذ على أمواله ولو لم يجرد المدين المكفول أو يبدأ بالتنفيذ على أمواله، وعلى ذلك فإن الكفيل المتضامن مع المدين إذا صار دائنًا للدائن الذي يكفل له دينه بذمة المدين، فإنه يتحقق التقابل بين الدين المشغولة به ذمة ذلك الكفيل وبين الدين الذي نشأ بذمة الدائن لصالح الكفيل المذكور، ويتقاص الدينان بحكم القانون إذا توافرت الشروط الأخرى للمقاصة القانونية، أما إذا اختل شرط اتحاد الجنس في الدينين أو اختل أي شرط آخر من شروط المقاصة القانونية فلا يكون هناك مجال لغير المقاصة الاختيارية وتنعقد بالاتفاق بين الكفيل والدائن طبقًا للقواعد العامة.
وجاء المشروع بالمادة (428) مقابلاً للمادة (344) من قانون التجارة القائم وبغير مخالفة للحكم المقرر بها، وهو يوجب تمسك صاحب المصلحة بالمقاصة، وذلك تأكيدًا لعدم ارتباط المقاصة بالنظام العام فلا يكون للقضاء سلطة الحكم بها من تلقاء نفسه، وإنما أضاف المشروع حكمًا جديدًا يقضي بعدم جواز النزول عن المقاصة قبل ثبوت الحق فيها تلافيًا من اختلاف الرأي في ذلك الشأن.
والتزامًا بنهج المشروع في الاقتصار على تقنين المقاصة القانونية فإنه قد أفصح بالمادة (428) التي جاء بها عن حدود الأثر الذي ترتبه تلك المقاصة في انقضاء الدينين وهو اعتبار الانقضاء مستندًا إلى الوقت الذي حصل فيه التقابل بين الدينين المذكورين، وكذلك ودفعًا لكل لبس في كيفية المقاصة عند تعدد ديون أحد المدينين أورد المشروع حكمًا جديدًا أخر يقضي باحتساب الخصم في هذه الحالة كما يحتسب الخصم في الوفاء لدى تعدد الديون، وقد أخذ المشروع فيما أضافه من ذلك كله نقلاً عن المادة (365) من القانون المدني المصري بعد إدخال تعديلات لفظية عليها.
أما المادة (429) من المشروع فإنها تقابل الحكم الوارد بالمادة (345) من قانون التجارة الحالي وإنما عدل المشروع في صياغتها على وجه يتفق مع التزامه بمبادئ الفقه الإسلامي في أن الحقوق الشخصية لا تنقضي بالتقادم، وإنما لا تسمع دعوى المطالبة بها بمرور الزمان، وقد نقلت الصياغة المعدلة عن المادة النظيرة بالقانون المدني العراقي وهي المادة (414).
ويستند الحكم المقرر بالمادة (429) في أساسه التشريعي إلى ما للتمسك بالمقاصة من أثر رجعي يرتد إلى وقت التلاقي بين الدينين، فإذا تتحقق التلاقي بينهما قبل أن تتم المدة اللازمة لمنع سماع الدعوى بأحدهما، فإن ذلك لا يحول دون وقوع المقاصة وإن جاء التمسك بها في وقت لاحق لاكتمال تلك المدة.
وجاء المشروع بالمواد (430 و431 و432) مطابقة في أحكمها للمواد (346 و348 و347) – على التوالي – من قانون التجارة الحالي مع تعديلات لفظية في الصياغة ويجمع بين نصوصها مبدأ أساسي يقضي بعدم جواز الإضرار بحقوق كسبها الغير لا عن طريق التمسك بالمقاصة وهو ما يتناوله بالتطبيق المادة (430) (المقابلة للمادة 346 تجاري) ولا عن طريق النزول عن التمسك بالمقاصة وهو ما تناوله بالتطبيق المادتان (431 و432 المقابلتان للمادتين 348 و347).
فتضع المادة (430) بفقرتها الأولى القاعدة الأساسية حيث تقضي بأنه لا يجوز أن تقع المقاصة إضرارًا بحقوق كسبها الغير، وتورد بالفقرة الثانية تطبيقًا لتلك القاعدة، مؤداه أنه إذا أوقع الدائن حجزًا تحت يد مدين مدينه ثم نشأ بعد ذلك دين للمحجوز لديه بذمة صالح للمقاصة بالدين الموقع عليه الحجز، فإن المقاصة لا تقع في هذه الصورة لعدم المضارة بحقوق الحاجز الذي كسب حقًا بالحجز، أما إذا توقع الحجز بعد تلاقي الدينين لم يحل ذلك من التمسك بالمقاصة التي سبقته إذ أنها بمثابة الوفاء ويترتب عليها انقضاء الدينين بقدر الأقل منهما ومنذ اللحظة التي تم فيها التلاقي بينهما.
وأوردت المادة (431) حكمًا مؤداه أنه إذا توافرت شروط المقاصة القانونية بين دينين، وبعد ذلك حول أحد الطرفين حقه بذمة غريمه إلى شخص آخر، وقبل المدين المحال عليه هذه الحوالة دون تحفظ، فإنه لا يجوز له من بعد ذلك أن يتمسك بالمقاصة إذ يعتبر بقبوله للحوالة نازلاً عن تلك المقاصة فيلتزم بالوفاء إلى المحال له ويرجع بحقه الذي كان انقضى بالمقاصة التي نزل عنها ولكن لا يعود من التأمينات التي كانت تكفل هذا الحق ما تضر عودته بالغير مثل الكفالة الشخصية والعينية، أما إذ كان المدين قد أعلن بالحوالة فلا يُحمل ذلك على أنه قد قبل النزول عن المقاصة ومن ثم يكون له أن يتمسك بها، ومع ذلك فإنه لا يجوز للمحال عليه أن يتمسك بالمقاصة بين الدين المحال به وبين دين نشأ للمحال عليه المذكور بذمة المحيل بعد إعلان الحوالة ذلك أن من شأن إعلان الحوالة أولاً انتقال الدين ولا يبقى بعد انتقاله ثمة محل ترد المقاصة عليه.
أما الحكم الذي تناولته المادة (432) فمؤداه أنه إذا وفى المدين دينًا في ذمته وهو يعلم أنه له أن يطلب المقاصة فيه بحق له بذمة الدائن الذي أوفاه، فإن ذلك وإن كان يعد نزولاً عن المقاصة فإنه يجب ألا يكون من شأن هذا النزول إلحاق الضرر بالغير، فإن كان دينه بذمة غريمه مضمونًا بتأمينات مقدمة من الغير فإنه لا يملك التمسك بتلك التأمينات اعتبارًا بأنه إذا لم يكن قد دفع دينه إلى غريمه وتمسك بالمقاصة لانقضى الدينان قصاصًا وسقطت التأمينات، أما إذا أوفى المدين دينه وكان يجهل وجود هذا الحق فإن تطبيق القواعد العامة كان من شأنه وقوع المقاصة وانقضاء دين ذلك المدين بما يكفله من التأمينات، ويبقى له أن يسترد ما دفعه طبقًا لقواعد استرداد غير المستحق ولكن استثناءً من ذلك ورعايةً لما كان من حسن نية المدين رُئي الاعتداد بالوفاء الصادر منه على أنه وفاء لدين قائم بذمته لم تقع به المقاصة وأن حقه بذمة غريمه يكون قائمًا بما يكفله من التأمينات ولو كانت مقدمة من الغير.
خامسًا: اتحاد الذمة:
وتتفق المادتان (433 و434) في الصياغة والحكم مع المادتين (349 و350) من قانون التجارة الحالي مع تعديل بسيط في العبارة التي وردت بصدر أولاهما، وتتناول المادتان الكيفية التي يقع بها اتحاد الذمة وآثارها وما يترتب على زوالها إن كان بذي أثر رجعي، ومقتضاهما أن اتحاد الذمة يتحقق إذا ما اجتمعت لشخص واحد الصفة القانونية بأنه الدائن والمدين بالنسبة إلى التزام واحد ويقع ذلك أكثر ما يقع عن طريق الميراث كما لو ورث المدين دائنه فإنه إن كان الوارث الوحيد فإن وصف الدائن يثبت له مع صفته كمدين القائمة به فينقضي كل الدين الذي كان عليه إذ يستحيل أن يطالب به نفسه وإن كان معه ورثة آخرون انقضى من الدين بقدر حصته في الميراث، على أنه يلاحظ أنه إذا ورث الدائن مدينه فإن اتحاد الذمة يكون ممتنعًا لأن مقتضى قواعد الفقه الإسلامي أنه لا تركة إلا بعد سداد الديون. فالدائن لا يرث دينه الذي يكون له على التركة وإنما تبقى التركة منفصلة عنه حتى تسدد ديونها كافة، ومنها دين ذلك الوارث ثم يؤول الباقي بعد سداد الديون إلى الورثة جميعًا كل بقدر حصته في الميراث، ويمكن أن يقع اتحاد الذمة أيضًا عن طريق التصرف القانوني بين الأحياء كما لو اشترى المستأجر العين المؤجرة فأصبح دائنًا بالأجرة وهو بذات الوقت مدين بها، أو قام المسحوب عليه الكمبيالة بشرائها من المستفيد فصارت إلى ملكه وهو بذات الوقت مدين بها.
ويرى مما تقدم أن اتحاد الذمة ليس من شأنه أن يقضي الالتزام كما يقضيه الوفاء أو التجديد أو المقاصة، وإنما يتمحض اتحاد الذمة عن إنشاء حاجز منيع يحول دون نفاذ الالتزام، أو يجعل المطالبة به غير متصورة، وفي غير هذه الحدود يمكن أن يبقى للالتزام وجود يُعتد به وتترتب عليه آثار قانونية ومن تطبيقات ذلك ما تنص عليه المادة (350) من المشروع (المقابلة للمادة 263 من قانون التجارة القائم) من أنه ” إذا اتحدت ذمة الدائن وأحد مدينيه المتضامنين فإن الدين لا ينقضي بالنسبة إلى باقي المدينين إلا بقدر حصة المدين الذي اتحدت ذمته مع الدائن ” فلو أن الدين كان ينقضي باتحاد الذمة كما ينقضي بالوفاء لترتب على ذلك في الصورة التي يعالجها النص براءة ذمة سائر المدينين المتضامنين من الدين كله ومن الأمثلة التي تمليها البداهة الحالة التي يرث فيها الكفيل الدائن المكفول دينه، فإن اتحاد الذمة لا يقضي الدين بذمة المدين، إذ يكون للكفيل الذي أصبح وارثًا أن يرجع بذات الدين على المدين، خلافًا لما إذا كان الكفيل قد قضى الدين بطريق الوفاء إلى الدائن فإن الدين الأصلي ينقضي وتبرأ بهذا الوفاء ذمة المدين وإنما يكون للكفيل أن يرجع على المدين إما بدعوى الكفالة وإما بدعوى الحلول محل الدائن الذي أوفاه.
وإذا وجد من الأسباب ما يترتب عليه زوال اتحاد الذمة بأثر رجعي، فإن اتحاد الذمة يعتبر كأن لم يكن، فيعود الدين كما كان بأصله وترتد إليه قوته في المطالبة كما تعود له صفاته وتأميناته، ومثال ذلك أن يكون العقد الذي اشترى به المستأجر العين المؤجرة قابلاً للإبطال، ويُقضى ببطلانه، أما إذا زال اتحاد الذمة بسبب ليس له أثر رجعي فإن الدين الذي يبعث على ذلك الوجه لا تبقى له التأمينات المقدمة من الغير فإذا ما ورث المدين دائنه، واجتمعت له صفتا الدائنية والمديونية ثم قام بوصفه دائنًا بحوالة الحق إلى شخص آخر، فإنه يعود من جديد مدينًا للمحال له بالدين الذي كان بذمته لمورثه، وإنما تبرأ ذمة الكفيل الشخصي أو العيني الذي كان يكفل ذلك الدين اعتبارًا بأنه من الغير في الاتفاق الذي تم بين مكفوله وبين المحال له.
(محاماة نت)