دراسات قانونية
مظاهر الدور الإيجابي للقاضي المدني في مرحلة التحقيق (بحث قانوني)
مظاهر الدور الإيجابي للقاضي المدني المغربي في مرحلة التحقيق من خلال قانون المسطرة المدنية الحالي بقلم أنوار بوهلال بماستر الدراسة الميتودولوجية لقانون الإلتزام التعاقدي والعقار
سار قانون المسطرة المدنية ومنذ أول قانون سن بالمغرب بمثابة قانون المسطرة المدنية على تخويل القاضي إيجابية أوفر ونشاطا أكثر في الدعوى، وخاصة في مرحلتها الرئيسية المتمثلة في مرحلة التحقيق، على اعتبار أن قناعة القاضي التي سيكرسها الحكم أو القرار تبنى في هذه المرحلة.
وإذا كان كل خصم يسعى أثناء التحقيق إلى إقناع القاضي بصحة ادعاءاته أو بعدم صحة ادعاءات خصمه فإن الدور الإيجابي للقاضي المكرس في الفرع المتعلق بإجراءات التحقيق العادية والفرع المتعلق بإجراءات التحقيق المسطرية من قانون المسطرة المدنية المغربي (خاصة الفصلين 334 و 336)، يسمح له بالتحرك وعدم الإكتفاء بما يقدمه الخصوم للإلمام بوقائع النزاع والتأكد من مدى مطابقتها للحقيقة تسهيلا لمهمة الفصل في النزاع.
وسنعمل من خلال هذه الدراسة على التفصيل في مظاهر هذا الدور الإيجابي للقاضي والمتمثلة في:
موضوع هام للقراءة : رقم هيئة الابتزاز
الوساطة الإجبارية للقاضي في تبليغ وتبادل المذكرات المدلى بها من طرف الخصوم (أولا)
الصلاحية المخولة للقاضي المدني في التنقيب عن الحقيقة (ثانيا).
أولا: الوساطة الإجبارية للقاضي في تبليغ و تبادل المذكرات المدلى بها من طرف الخصوم
ونستهل الحديث بإيراد مقطع جاء في منشور لوزير العدل حول التبليغ بتاريخ 26/10/94 ورد فيه “لا يخفى عليكم أن التبليغ يكتسي أهمية قصوى بالنسبة للتقاضي إذ لا يمكن أن تسير الدعوى سيرها العادي بدونه فهو يرتبط منذ البداية حتى النهاية”[1]، فضلا عن دور التبليغ المشار إليه في هذا المنشور، فإن التبليغ في الواقع دوره يكون جوهريا حينما تكون الدعوى في مرحلة التحقيق، ففيها يلعب القاضي دور الوسيط بين المتنازعين وذلك من أجل تحقيق غايتين:
الغاية الأولى: هي تمكين القاضي عن طريق هذه الوساطة من الإطلاع على المقالات والمذكرات والوثائق المدلى بها من طرف الخصوم، وتبعا لذلك يمكنه أن يحقق إلماما أكثر بوقائع النزاع هذا من ناحية، من ناحية أخرى هذا الإطلاع يمكنه من تحديد البيانات غير التامة وتقديم الوثائق اللازمة والمثبة للدعوى وكذلك رفع الغموض والإبهام الذي قد يكون حاصلا في موضوعها[2]، خاصة وأن تدخل القاضي لإلزام المتقاضيين بتحديد البينات غير التامة أو تقديم الوثائق المثبة أو التدخل لرفع الإبهام أو الغموض الحاصل في هذه الوثائق المدلى بها من طرف الخصوم، يشكل أبرز مظاهر الدور الإيجابي للقاضي، و قد سار العمل القضائي في هذا التوجه ويستشف ذلك من مجموعة من القرارات الصادرة عن محكمة النقض (المجلس الأعلى سابقا) “إن مقتضيات الفقرة الأخيرة من الفصل 32 من ق.م.م تعطي للقاضي أن يطلب عند الإقتضاء تحديد البيانات غير التامة أو التي وقع إغفالها، وأن المحكمة حينما صرحت بعدم قبول الإستئناف بعلة عدم توقيع المقال دون أن تطالب المستأنف بتدارك هذا الإغفال و تذره بتوقيعه قبل أن تبت في القضية تكون قد عرضت قرارها للنقض”[3]، و نفس هذا التوجه المكرس للدور الإيجابي في تحديد البيانات غير التامة وتنبيه المتقاضي إليها يستخلص من قرار آخر صادر عن نفس المحكمة “إن الفقرة الأخيرة من الفصل 32 من قانون المسطرة المدنية أعطت الحق للمحكمة عند الإقتضاء أن تطلب تحديد البيانات غير التامة او التي وقع إغفالها في المقال.
وبذلك فإن محكمة الإستئناف عندما صرحت بعدم قبول الإستئاف بمجرد ما لاحظت بأن المقال الإستئنافي قد أغفل ذكر الإسم الشخصي للطرف و لم تطالب دفاع المستأنف برفع هذا الإغفال و بيان الإسم الشخصي لموكله تكون قد جانبت الصواب”[4].
وفيما يتعلق برفع الإبهام والغموض ذهبت نفس المحكمة إلى أن” حقا إن ما بني عليه القرار المطعون فيه من الإجمال و الغموض و إن كان حاصلا في موضوع الدعوى فإنه لا يوجب إلغاءها إلا بعد تكليف المدعي برفعه و بيانه و إغفال المحكمة عن هذا الإجراء نتج عنه ضرر للطرف الطاعن ماديا و زمانيا مما جعل قانون المسطرة المدنية يتحاشاه و ينيط بالمقرر اتخاذ جميع الإجراءات لجعل القضية جاهزة، و لا شك أن من بين الإجراءات رفع الإجمال و الإبهام ليحصل الفهم و يتضح موضوع النزاع و تصبح القضية جاهزة”[5]، و نفس هذا التوجه يستفاد من قرار آخر رغم أنه جاء بصيغة أخرى”لا يعد خرقا لمقتضيات الفصل 32 من قانون المسطرة المدنية إذا بين الخصوم بإيجاز في مقاله موضوع الدعوى و الوقائع و الوسائل المثارة بأفاظ تعبر تعبيرا كاملا عن قصد صاحبها و تساعد على فهم موضوع الطلب و تمكن المحكمة من استخلاص العناصر الضرورية للبت في النزاع”[6].
الغاية الثانية: المستهدفة من هذه الوساطة هي إعمال مبدأ المواجهة أو الوجاهية
Le principe contradictoire[7] بين الخصوم فهذا المبدأ يشكل أبرز ضمانات صحة التقاضي واحترام حقوق الدفاع، وتتمحور الفلسفة التي يقوم عليها على أنه من حق الخصوم في الدعوى المدنية معرفة كل ما يقدم في الدعوى من أدلة وحقهم في مناقشتها أيضا[8]، ودور القاضي في تحقيق التواجهية والمجابهة بالدليل بين المتنازعين يشكل حسب الأستاذ Legeais[9] مظهرا لتدخله المباشر في توجيه الدعوى ويساعده كثيرا في إيضاح موضوعها، وهو ترجمة لمبدأ المساواة بين الخصوم أمام القضاء، وقد اعتبر الفقه الفرنسي هذا المبدأ من النظام العام ملتمسا تنظيمه بواسطة نص دستوريعوض الإكتفاء بمراسيم أو قوانين عادية[10] ، لذلك فالمواجهة بين الخصوم وإعطائهم الحق في مناقشة أدلة بعضهم يشكل واجبا يلقى على عاتق القاضي، و يبرز أنه هو المتحكم و المسيطر في تسيير الدعوى وقد ذهبت محكمة النقض المغربية ( م.أ.س) غير ما مرة إلى التأكيد على هذه المسألة كما هو الحال في القرار الذي ورد فيه: “كل حجة تتعلق بالمدعى فيه أدلي بها للقضاء يجب عرضها على الخصم ليقول كلمته فيها”[11]، ونفس الأمر في قرار آخر ” كان على المحكمة أن تناقش حجج الطاعن و خاصة منها اللفيف الذي لم تناقشه وفق قواعد الفقه .. “[12]، و أيضا يستشف من قرار آخر ” تصريح المحكمة بأن الطاعن لم يدلي بالحكم المحتج به دون أن تتقوم بانذاره للإدلاء بمناقشته تكون قد خرقت الفصل 32 من قانون المسطرة المدنية “[13]، ونفس التوجه في قرار آخر “عدم مناقشة محكمة الإستئناف لطلب إجراء بحث و الرد عليه يجعل قرارها المطعون فيه ناقص التعليل المنزل منزلة انعدامه “[14].
ثانيا: الصلاحية المخولة للقاضي في التنقيب عن التنقيب عن الحقيقة
خول قانون المسطرة المدنية للقاضي سلطات حقيقة أثناء مرحلة التحقيق في الدعوى تمكنه من إبراز دوره التنقيبي خلالها[15]، وسنحاول توضيح ذلك بالتطرق لصلاحية القاضي في الأمر بإجراءات التحقيق بصفة عامة (1) ومن خلال التطرق لصلاحيته في الأمر بالمعاينة والخبرة كنموذجين تطبيقيين من قانون المسطرة المدنية على هذا الدور الإيجابي للقاضي، على اعتبار أن الأولى هي أهم طريق للوصول للحقيقة إذ يقف القاضي بنفسه على الوقائع المتنازع عليها واستخلاص وجه الحق فيها فيكون قناعته من ملامسته للوقائع ذاتها لا مما يقدمه الخصوم من أقوال و مستندات[16]، والثانية هي وسيلة يسترشد بها القاضي لتنوير معارفه في أمور فنية[17] بواسطة خبير للإلمام بالجوانب التقنية للنزاع وذلك للإطلاع على حقيقته كي يستطيع الحكم فيه بارتياح[18]، وهذين الإجراءين البعض يعتبرها إجراءات إخبار و هي بذلك تختلف عن إجراءات التحقيق الأخرى المرتبطة بوسائل الإثبات لأنها تهدف إلى إطلاع و إخبار القاضي بوقائع النزاع وتمكنه م عناصر الإقتناع[19](2).
1- صلاحية القاضي في الأمر بإجراءات التحقيق بصف عامة:
إن فعالية دور القاضي في مرحلة التحقيق تظهر من خلال الصلاحيات المخولة له للأمر بإجراءات هذه المرحلة، فالقاعدة العامة في قانون المسطرة المدنية المغربي على هذا المستوى هي أن إجراءات التحقيق يرجع الحق في إصدارها إلى القاضي، فلا يجبره أحد من الخصوم على الأمر بها بل أكثر من هذا له يعدل أو يستغني عنها حتى في حال صدور حكمه بها.
فبالنسبة لعدم إجبار الخصوم للقاضي على الأمر بإجراءات التحقيق فإنها تستخلص من الفصل 55 من قانون المسطرة المدنية الذي استهله المشرع بعبارة “يمكن” حيث جاء فيه “يمكن للمحكمة بناء على طلب الأطراف او تلقائيا أن تأمر قبل البت في الجوهر بإجراء خبرة أو وقوف على عين المكان أو بحث أو تحقيق خطوط أو أي إجراء آخر من إجراءات التحقيق..”،
فمن هذا الفصل الذي يعتبر بمثابة دستور إجراءات التحقيق يتضح أنه من الممكن للقاضي أن يمتنع عن الأمر بإجراء تحقيقي طلبه الخصوم إذا قدر أنه يتوفر على جميع العناصر الواقعية للبت في الطلب[20]، و لا يكون ملزما على الأمر بإجراء تحقيقي معين إلا إذا كان الفصل في النازلة المعروضة عليه متوقفا عليه، و على هذا الأساس طلبات الخصوم لا تلزمه فالكلمة الأولى و الأخيرة في الإجراء ترجع للمقرر على اعتبار أنه هو الأدرى بالإجراء الأكثر فائدة في النزاع المعروض عليه، و هذا ما أكده العمل القضائي المغربي من خلال مجموعة من القرارات الصادرة عن أعلى هيئة قضائية في البلاد كالقرار الذي جاء فيه: ” الأمر بإجراء من إجراءات التحقيق مخول لسلطة المحكمة و هي غير ملزمة بذلك ما دام توفرت لها العناصر الكافية للبت في النزاع “[21]، و القرار الذي جاء فيه “إجراء بحث أو معاينة أمر موكول لمحكمة الموضوع و لا تقوم به إلا إذا كان ضروريا للفصل في النزاع “[22]، و كالقرار الصادر عن استئنافية الرباط “إجراء بحث أو معاينة أمر موكول لمحكمة الموضوع و لا تقوم به إلا إذا كان ضروريا للفصل في النزاع “[23]، و بما أن القاضي غير مجبر على الأمر بإجراءات التحقيق فهذا يعني أن له بصفة تلقائية الأمر بها و قد أشار قانون المسطرة المدنية إلى ذلك في الفصل 55 ،
و إعطاء الصلاحية للقاضي لكي يأمر تلقائيا بإجراءات التحقيق هي تعبير و تجسيد للطابع التنقيبي لدوره في قانون المسطرة المدنية، فهو يسعى أيضا للبحث عن الأدلة بواسطة هذه الصلاحية المخولة له[24]، و إذا كان هناك من يقول بأن القاضي عندما يأمر بإجراءات التحقيق فهو يخفف عبء الإثبات عن أحد الخصوم ويتحيز لجانبه، فإن الأمر هو خلاف ذلك فحكمه بهذه الإجراءات مردها تحيزه إلى الحقيقة[25].
الدور الإيجابي للقاضي يبرز من ناحية أخرى في مرحلة التحقيق من خلال أن له إمكانية تعديل الأمر الذي صدر عنه بإجراء التحقيق، من قبيل ذلك مثلا الإقتصار على شهادة شخص واحد بدل شاهدين اثنين، أو كأن يزيد من نطاق مهمات الخبير أو تقليص نطاقها[26]، دون أن نهمل إمكانية العدول أو الإستغناء عما أمر به من إجراءات تحقيق طالما أن تقديره قد انتهى لعدم جدوى اتخاذ مثل هذا الإجراء، و هذا ما أكده العمل القضائي المغربي في القرار الصادر عن محكمة النقض الذي جاء فيه ” لا ضير على المحكمة التي تراجعت عن قرارها التمهيدي بإجراء خبرة إذا تأكدت بعد ذلك بأن ملكية المدعي غير كاملة”[27].
و ما تجدر الإشارة إليه أنه إذا كانت كل إجراءات التحقيق يمكن الأمر بها بصفة تلقائية، بحيث يقدر القاضي مدى حاجته إليها فإذا كانت ضرورية للفصل في النزاع فلا مفر من الأمر بها[28]، و إذا كان الأمر غير ذلك فله الصلاحية في عدم الأمر بها فإنه بالنسبة لليمين الحاسمة الأمر يختلف فهي ملك لأطراف و لا سلطة للقاضي في ذلك لكن ما تجدر إثارته هنا هو أن هناك بعض القرارات الصادرة عن محكمة النقض المغربية (م.أ.س) نرى فيه ما يشكل تأسيسا لتوجه نحو وقوف القاضي في وجه كل من تعسف في توجيه اليمين الحاسمة، و يتعلق الأمر بالقرار الذي جاء فيه ” المحكمة غير ملزمة بتوجيه طلب اليمين الحاسمة إذا ما ظهر لها بأن صاحبه يتعسف فيه “[29] و بالقرار ” كان على المحكمة قبل أن تقبل توجيه اليمين الحاسمة أن تتأكد بأنها ليست كيدية و ان طالبها ليس متعسفا في توجيهها “[30].
2
– المعاينة و الخبرة باعتبارهما نموذجا تطبيقيا للدور التنقيبي للقاضي:
نبدأ بالحديث عن نموذج المعاينة باعتباره تطبيقا للدور التنقيبي للقاضي في قانون المسطرة المدني(أ) ثم بعدها ننتقل للنموذج الثاني الخبرة(ب).
أ- المعاينة
يمكن تعريف المعاينة بأنها مشاهدة المحكمة للشيء المادي الذي هو محل النزاع و ذلك بهدف التحقق من حالته و أوصافه و كلما يحيط به توصلا لإيجاد الحل[31]، وقد عرفها الأستاذ محمد المجدوبي الإدريسي بأنها المقاربة الحسية للشيء المتنازع عليه و قد ورد النص على إمكانية اللجوء للمعاينة من طرف القاضي في قانون المسطرة المدنية في الفصل 55 و في الفصول 67 إلى 70.
و تتميز المعاينة بأنها تتم بغير واسطة وهذا ما يجعلها وسيلة ناجعة تمكن القاضي من الوقوف على حقيقة النزاع كما هي في المسائل المادية فيتكون اعتقاده الصحيح حول النزاع و بالتالي تظهر الحقيقة في أقصر وقت و بأيسر التكاليف[32].
وإذا كان يظهر أن المعاينة فيها ضرب لذلك المبدأ القائل بعدم استناد القاضي في حكمه إلى علمه الشخصي، فإن الرد على هذا الإعتقاد يكمن من جهة في أن قاعدة عدم القضاء بالعلم الشخصي لا تنطبق إلا على علم القاضي السابق على وقائع النزاع، أما علمه الذي اشتقه من وقائع التداعي وما حصل عليه من فهم فيها فهو أمر جائز القضاء به وهذا يعد استثناء على أصل القاعدة التي لا تجيز للقاضي أن يحكم بعلمه الشخصي[33]، وقد تبنى المشرع المسطري المعاينة بهذا المفهوم لما تحققه من فاعلية أكثر للقاضي في مجال الإثبات ولما تتيحه من تنوير له في فهمه للقضية المعروضة عليه، ولأنها وسيلة فعالة في توفير الدليل المادي للقاضي في ما يعرض عليه من نزاعات، وهكذا نجد مح.ن.م (المج. أ. س) ذهبت في قرار لها إلى القول: ” المعاينة تعتبر من الأدلة في المسائل المادية بالرغم من عدم التنصيص عليها في الفصل 404 من ق.ل.ع كوسيلة من وسائل الإثبات ويعمل بها في المسائل التي يحتاج الإثبات فيها إلى الدليل المادي لإثبات الحال”[34].
وانطلاقا من الفصلين 55 و 76 من قانون المسطرة المدنية يمكن القول أن القاضي له السلطة التقديرية في إجراء المعاينة حسب درجة لزوم هذا الإجراء في تقديره، و نجد محكمة النقض في مجموعة من قراراتها تذهب إلى ضرورة القيام بهذا الإجراء من طرف القاضي خاصة في المسائل التي تحتاج إلى دليل مادي كما هو الحال بالنسبة للقرار الذي ورد فيه ” مادام أن موضوع الدعوى الترامي للمرة الثانية بعد التنفيذ و ما دام إن الترامي واقعة مادية يمكن إثباتها بجميع وسائل الإثبات و منها المعاينة فقد كان حريا بالمحكمة لكي تتوفر على العناصر اللازمة للبت في هذا النزاع أن تأمر بإجراء المعاينة”[35]
و نفس الأمر في قرار آخر ” يجب الوقوف على عين المكان عند اختلاف الطرفين حول محل النزاع المتعلق بقطعتين مختلفتي الأسماء “[36] إذن لجوء القاضي إلى المعاينة يكون على وجه الخصوص في النزاعات التي يكون محلها الوقائع المادية و هو لا يكتفي بما يقدمه الخصوم من حجج بل يخرج من سلبيته و يندفع إلى البحث عن الحقيقة بنفسه دون وساطة أحد و فضلا عن هذا فهي تتيح له الإتصال المباشر بالخصوم لذلك و بشهادة المستشار المعطي الجبوجي كثيرا ما تنتهي بإجراء صلح بين المتداعيين[37] ،و بالتالي فهي عن حق نموذج تطبيقي للدور التنقيبي للقاضي.
أما عن الشروط الإجرائية للمعاينة فهي محددة في قانون المسطرة المدنية و تم التفصيل فيها و التأكيد عليها في العمل القضائي المغربي إذ ذهبت محكمة النقض في قرار لها إلى أنه: ” إذا أمر القاضي بالمعاينة وجب أن يقف بنفسه على عين المكان و له وحده حق الإستماع إلى الأشخاص الذي يعينهم و يقوم بمحضرهم بالعمليات التي يراها مفيدة و يحرر محضر الإنتقال و يوقع من طرف القاضي و كاتب الضبط “[38]و في قرار آخر “إذا أمر القاضي تلقائيا أو بناء على طلب الأطراف الوقوف على عين المكان فإنه يحدد في حكمه اليوم و الساعة التي تتم فيها بحضور الأطراف الذين يقع استدعاؤهم بصفة قانونية حسب أحكام الفصل 67 من قانون المسطرة المدنية”[39]، و يجوز للقاضي أن يستعين بأهل الخبرة حسب الفصل 68 من ق.م.م إذا كان موضوع الإنتقال يتطلب معلومات لا يتوفر عليها القاضي و في هذه الحالة لا يحتاج إلى إصدار حكم مستقل بالخبرة بل يأمر بها في نفس الحكم الآمر بالمعاينة و في ذلك تخفيف للعبء عن القاضي[40]، و قد ألزمت محكمة النقض بضرورة الإستعانة بخبير في حالة الفصل 68 من ق.م.م “لا يغني الوقوف على عين المكان من ضرورة اللجوء إلى خبراء مختصين تسترشد برأيهم وتستعين بخبرتهم. إن المحكمة لما اكتفت بوقوفها شخصيا على عين المكان و استخلصت النتائج من هذا الوقوف قد عرضت قرارها للنقض”[41].
ب- الخبرة
تعتبر الخبرة أهم إجراءات التحقيق في الدعوى يلجئ من خلالها القاضي للخبراء للبحث في مسائل تقنية و فنية من شأنها مساعدته على توضيح بعض عناصر النزاع من أجل الوصول إلى الحقيقة[42]، و هناك من يعتبر الخبرة القضائية خدمة عمومية وتوعوية و تنويرية للقضاء[43]، و قد نص المشرع المغربي على الخبرة في قانون المسطرة المدنية الفصول 59 إلى 66 و القانون رقم 00-45 المتعلق بالخبراء القضائيين.
والدافع بالقاضي للجوء إلى الخبرة هو استظهار بعض جوانب النزاع التي يستعصي عليه إدراكها بنفسه استنادا إلى معلوماته الشخصية و ليس في أوراق الدعوى و أدلتها المتداولة ما يعين على فهمها، و هذه الجوانب يكون توضيحها جوهريا في تكوين عقيدة المحكمة[44] من أجل الفصل في النزاع ، يتضح إذن أن الهاجس في الحكم بالخبرة هو الوصول إلى الحقيقة التي تمكن القاضي من الفصل في النزاع فصلا يريح ضميره[45] و هذا هو ما يجعل في الواقع الخبرة نموذج تطبيقي للدور التنقيبي للقاضي في مرحلة التحقيق ويبرز أكثر هذا الدور التنقيبي إذا علمنا أن لجوؤه إلى الخبرة قد يكون تلقائيا و هذا ما ذهبت إليه محكمة النقض ” من حق المحكمة أن تقرر إجراء الخبرة بدون طلب الأطراف “[46]، و إن لجوؤها التلقائي للخبرة لا يتنافى مع الحياد المفروض في القاضي و في هذا تقول محكمة النقض “يمكن للمحكمة حتى في حالة كون دعوى المدعي مجردة من الإثبات أن تأمر بإجراء خبرة دون أن يشكل ذلك إخلالا بمبدأ الحياد و لا أن يشكل إقامة للحجة لطرف في مواجهة الآخر”[47].
أما عن إجراءات الخبرة فتبدأ بانتداب الخبير بحكم تمهيدي يأمر بإجراء خبرة و بتعيين الخبير و يحدد النقاط التي تجري فيها الخبرة في شكل أسئلة فنية(الفصل59/2) و يتعين على الخبير أن يقدم جوابا واضحا و محددا عن كل سؤال فني(الفصل59/3)، و الأصل أن يعين الخبير من بين الخبراء المدرجة أسماؤهم في جدول رسمي تحدده وزارة العدل سنويا فإن لم يوجد خبير مختص بالمادة التي يجب أن تجرى فيها الخبرة جاز للقاضي أن يعين خبيرا خارجا عنه و في هذه الحالة يجب على الخبير أداء اليمين على أن يقوم بالمهمة المسندة إليه بإخلاص و أمانة (59/2) و في هذا السياق ذهبت محكمة النقض”اعتماد المحكمة على تقرير خبير لم يكن مسجلا بجدول الخبراء المقبولين لدى المحاكم و لا دليل بالملف على أدائه اليمين القانونية أمام المحكمة مصدرة القرار المطعون فيه يعد خرقا للقانون “[48]، كما يمكن للقاضي أن يعين خبيرا واحدا أو عدة خبراء إذا تبين له أن الخبرة لا يمكن إتمامها بخبير واحد(الفصل66/1)، ويحدد القاضي أجلا للخبير ليدلي بتقريره الشفوي أو المكتوب خلاله(60) إذا لم يحترم هذا الأجل عين القاضي بدون استدعاء الأطراف خبيرا آخر بدلا عنه و أشعر الأطراف بذلك دون استدعائهم(61/1) و في هذا تقول محكمة النقض المغربية ” ليس من اللازم لكي استبدال الخبير الذي لم يقم بمهمته بآخر أن يتم ذلك بحضور الأطراف و لا في جلسة علنية”[49] و لكل من الطرفين تجريح الخبير داخل أجل 5 أيام من تبليغهم بتعيينه و قد حدد (الفصل 62) أسباب التجريح[50] و ضمن ذات الفصل وردت الإشارة إلى أن التجريح يمكن أن يكون من تلقائيا من القاضي و في سياق الفصل سالف الذكر تقول محكمة النقض “يبتدئ أجل الطعن بتجريح الخبير من يوم التبليغ و ليس من يوم التعيين “[51] و في قرار آخر ” تجريح الخبير لا يتم إلا في إطار المسطرة المنوص عليها في الفصل 62 من قانون المسطرة المدنية “[52] ،
و يقوم الخبير بعمله باستدعاء الأطراف و وكلائهم تحت طائلة البطلان (63) هنا و تقول محكمة النقض ” القرار الذي اعتمد على تقرير الخبرة دون قيام الخبير باستدعاء دفاع الأطراف لحضور اجراءاتها يشك خرقا للفصل 63 من قانون المسطرة المدنية يكون قرار فاسد التعليل و يتعين نقضه “[53] وعند انتهاء الخبرة فإن الخبير يضع تقريره بكتابة ضبط المحكمة في الأجل المحدد إذا كان التقرير كتابيا، أما إذا كان شفهيا فإنه يدلي به في الجلسة التي حددها المقرر(الفصل 60).
خاتمة:
إن الدور الإيجابي للقاضي المدني المكرس من خلال قانون المسطرة المدنية تترتب عنه نتيجتان هامتان وهما تسريع وثيرة الفصل في المنازعات وتقريب الحقيقة القضائية من الحقيقة الواقعية.
لكن هذا الدور الذي حاونا أن نسلط الضوء على بعض من مظاهر إيجابيته نعتقد أن المشرع المغربي مدعو إلى تقويته أكثر خاصة وأن التوجه الجديد للمسطرة المدنية يقوم على تعزيز صلاحية القاضي في تسيير الخصومة وفي التنقيب عن الحقيقة وعدم تركها بيد الخصوم ومن قبيل تقوية هذا الدور التنظيم المفصل لإجراء الأمر بتقديم المستندات والأمر بالحضور الشخصي.
(محاماه نت)