رأي عام
المبادئ الثابتة لنظام الحكم وتنظيم المجتمع
الحاكم مسؤول أمام الله الذي مكنه من حكم البلاد ، وأمنه على قيادة العباد وسياستهم والمحافظة على مصالحهم ، ومسؤول أيضا أمام ضميره ، والتاريخ ، هذه المسؤولية مترتبة عن ما يقابلها من الطاعة والانقياد ، الذي ألزم الله به الرعية . يقول الماوردي في هذا المعنى : { ولأنه سبحانه حسم مواد الاعتراض على أفعال ( هذا الحكم ) وكف ألسنة الرعية عن رد ما رآه في اجتهاده ، وأوجب عليها طاعته وألزمها الانقياد لحكمه ، وأمرهم أن يتصرفوا بين أمره ونهيه فقال : [ يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تومنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا ] ( سورة النساء آية 59).( نقلا عن أ . د حامد طاهر : سياسة الدولة الرشيدة عند الماوردي مقال نشر 17\يونيو 2011\ بموقعه الإلكتروني الخاص ) . لكن الطاعة لا تكون إلا في المعروف وفي ما لم يتعلق بمعصية . لقوله تعالى : [ وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا واتبع سبيل من أناب إلي ثم إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون ] ( سورة لقمان آية 15 ) . ولقول رسول الله صلى الله عليه وسلم { لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق } ( رواه أحمد ) .
صحيح أن القرآن الكريم ليس كتاب علم قانون ولا سياسة ، ولا كتاب اقتصاد ، أو هندسة أوفيزياء وكيمياء ، ولا كتاب نظام اجتماعي معين … ولكنه يتضمن مبادئ ثابتة لتنظيم المجتمع وحكمه ، صالحة لكل زمان ومكان ، كمبادئ :
( 1) العدل : ضد الظلم والجور ، وقد عرفه القرطبي بقوله : ( العدل هو كل مفروض ، من عقائد وشرائع في أداء الأمانات ، وترك الظلم ، والإنصاف ، وإعطاء الحق ) ( المجامع لأحكام القرآن 10\166 ) . أما السيوطي فقال ( هو الصراط المستقيم المتوسط بين طرفي الإفراط والتفريط المومى به إلى جميع الواجبات في الاعتقاد والأخلاق والعبودية ) ( الإتقان في علوم القرآن 1\291 ) والسعدي يرى بكل بساطة أن العدل هو : ( أداء حقوق الله ، وحقوق العباد ) ( تفسير السعدي 1\ 943 ) . والقرآن الكريم حث على العدل في أكثر من آية كريمة أذكر منها : قوله سبحانه وتعالى : [ إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا ] ( سورة النساء آية 58 ) وقوله [ إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون ] ( النحل 90 ) . يقول سيد قطب في معنى الآية الكريمة . { فأما الحكم بالعدل بين الناس ، فالنص يطلقه هكذا عدلا بينا شاملا ( بين الناس ) جميعا لا عدلا بين المسلمين بعضهم وبعض فحسب وإنما هو حق لكل إنسان بوصفه ” إنسانا ” فهذه الصفة ـ صفة الناس ـ هي التي يترتب عليها حق العدل في المنهج الرباني والأمة المسلمة قيمة على الحكم بين الناس بالعدل ـ حتى حكمت في أمرهم ـ هذا العدل الذي لم تعرفه البشرية قط ـ في الإسلام هذه الصورة ـ إلا على يد الإسلام . وذلك هو أساس الحكم في الإسلام } . ويعزز ما ذهبت إليه الآيات التي تتحدث عن العدل الحديث القدسي الذي ، يقول الله تعالى : { يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا } . فالعدل إذن قاعدة ثابتة في الزمكان ، يتم التعامل على أساسها دون الميل مع الهوى ، أو التأثر بالرحم والقرابة والمصاهرة ، أو التعاطف مع الزبونية ، ومع من تتحقق المصلحة الخاصة معه ، أو مع الغنى محاباة له ، أو مع الفقير شفقة عليه ، أو مع صاحب الجاه والسلطان ومن يخاف ويخشى جانبه … فمكيال العدل وميزانه في الإسلام واحد للجميع لا لون له ولا جنس .
(2) الأمانة ـ ضد الخيانة ، وهي كل وديعة لغيرك التزمت بالمحافظة عليها إلى أن تردها في موعدها وقد يقصد بها كل التكاليف الشرعية التي كلف بها الإنسان . والنبي صلى الله عليه وسلم ربط بين الإيمان والأمانة فقال : { لا إيمان لمن لا أمانة له ، ولا دين لمن لا عهد له } ( حديث مروي عن أنس بن مالك وأخرجه أحمد في المسند ) والقرآن الكريم يؤكد ما ذهبة إليه السنة فيقول : [ والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون ] ( سورة المعارج آية 32 ) وتتكرر الآية في سورة المومنون [ والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون ] في ( سورة المومنون آية 8 ) ـ ثم يربط القرآن الكريم بين خيانة الله سبحانه وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وخيانة الأمانة فيقول : [ يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون ] ( سورة الأنفال آية 27 ) وهذا يعني منطقيا أن الذي يخون الله ورسوله لن يتورع مطلقا من خيانة أمته وكل من ائتمنه على أي شيء مهما كانت قيمة . والرسول صلى الله عليه وسلم يوصي في خطبة الوداع على أداء الأمانة فيقول : { فمن كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها } ( خطبة الوداع )
(3) الوفاء بالعهد : هو الالتزام بفعل ما يقطعه الإنسان على نفسه من مواثيق في المستقبل . وهو عدم نقض الوعد بما تراضى على تحقيقه الطرفان مستقبلا وهو من المبادئ الأساسية الثابتة ، التي فرضها الشرع وحث عليها القرآن الكريم في أكثر من آية كريمة ، لما لها من آثار تتعلق بالفرد والجماعة وبتنظيم الحياة اليومية بصفة عامة . منها قوله سبحانه وتعالى : [ وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا إن الله يعلم ما تفعلون ] ( سورة النحل آية 91 ) وقوله : [ وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا وأوفوا الكيل إذا كلتم وزنوا بالقسطاس المستقيم ذلك خير وأحسن تأويلا ] ( سورة الإسراء آية 34 ) وقوله : [ ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا ] ( سورة الإسراء آية 34 ) وقوله : [ يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم غير محلي الصيد وأنتم حرم إن الله يحكم ما يريد ] ( سورة المائدة آية 1) [ … والموفون بعهدهم إذا عاهدوا … ] ( البقرة آية 177 ) . إن الوفاء بالعهد مبدأ عظيم لأنه أساس الثقة بين الناس في كل معاملاتهم اليومية ، سواء منها المادية ، أو الأخلاقية ، لأنه بدون الثقة وبدون الوفاء والالتزام بالاتفاقيات الشفوية منها أي الكلامية أو المكتوبة ، تنفرط كل عرى المجتمع وتهتز الثقة بين أفراده ، فيتمزق نظامه الاجتماعي ولا تقوم للإنسانية قائمة أبدا . إن نقض العهود يدمر الجماعة والمجتمع ، لذلك لم يتسامح الإسلام أبدا في مسألة عدم الوفاء بالعقود والعهود ونقض الأيمان فهددهم بالمساءلة واعتبرهم من الفاسقين على غرار وقياس من سبق من الأمم وتحذيرا من الوقوع فيما وقعوا فيه من نقض للعهود فقال : [ وما وجدنا لأكثرهم من عهد وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين ] ( سورة الأعراف آية 102 ) .