دراسات قانونية
حماية الأقليات (بحث قانوني)
الحماية القانونية للأقليات في القانون الدولي
الأستاذ: خلواتي مصعب، جامعة أبي بكر بلقايد- تلمسان- الجزائر
ملخص
لقد سعى القانون الدولي من خلال النظريات الفقهية والاتفاقيات الدولية والممارسات القضائية أن يحمي الأقليات إلا أن هذه الحماية كانت تذوب مرة في نطاق حقوق الإنسان وتظهر مرة كحق خاص وأصيل للأقليات دون غيرها.
و لذا حاولنا من خلال هذه الدراسة أن نسلط الضوء على مفهوم الأقليات وكذا الاتفاقيات الدولية المختلفة التي تكفل حقوقها وترعى مركزها القانوني من خلال جملة من الآليات والمساعي التي إذا أردنا تقيمها وإسقاطها على الواقع لوجدنا أنها لا تكف اليد ولا ترد الضرر الذي يطال الأقليات المختلفة في شتى بقاع المعمورة، ومن ثم كان لزاما على كل الدول فرادى وجماعات أن تتحد وتتضافر من أجل أن توفير الرعاية اللازمة لهذه الفئة التي كثيرا ما تعاني التهميش والاستخفاف.
Summary :
International law through doctrines of jurisprudence, international conventions and judicial practices, has sought to protect minorities.
However, this protection has once again been within the scope of human rights and has once been shown as a special right. In this study, we tried to shed light on the concept of minorities and the international convention hich guarantees their rights. Through a number of mechanismes and endeavors that if we want to evaluate, we find that it does not respond to the damage affecting the various minorities in the world and to the fect necessary care for the marginlized group.
مقدمة
يعتبر مصلح الأقليات من المصطلحات التي ظهرت في أواخر القرن الثامن عشر ومطلع القرن التاسع عشر إلا أنه من حيث الواقع فقد استعمل بألفاظ مختلفة حيث استعمل المسلمون قديما مصلح أهل الذمة دلالة على الفئات غير المسلمة التي تعيش على أرض المسلمين وهي فئة لها حقوق خاصة بها داخل دولة الإسلام ([1]).
وقد استعمل مصلح الأقليات بمعناه الحديث في القانون الدولي أبان صراع الدولة العثمانية مع القوى الغربية حيث استعملته هذه الأخيرة بدعوى حماية الأقليات التي تعيش داخل الدولة العثمانية من أرمن ويهود من أجل تقسيمها وإثارة الاضطرابات داخلها([2])، كما قدمت روسيا احتجاجات متعددة إلى الدولة العثمانية بشأن اضطهاد الأقليات الدينية، وذلك تطبيقا لنص المادة 7 من اتفاقية 1774، وتدخلت دول أوروبا لنفس الغرض بشأن اليونان عام 1829؛ وحماية الأقليات المسيحية بالمشرق العربي في تواريخ متعددة([3]).
و تكمن أهمية الدراسة في الوقوف على تطور الأطر القانونية التي تهتم بالأقليات بالتوازي مع التطورات التي شهدها القانون الدولي خاصة في عصر التنظيمات الدولية والتي كان من أهم أهدافها التقارب بين الدول والتعايش السلمي بعيدا عن كل الخلافات؛ وقد تمت تهيئة ذلك من خلال محطات فقهية وقانونية، وكانت هنالك محاولات عديدة سواء على المستوى القضائي أو الرقابي بالنسبة لهيئة الأمم المتحدة من أجل إرساء بنية قانونية قوية تكفل حماية الأقليات إلا أنها ما زالت ضعيفة تشكوا عدم الردع وبطء العمل وتشتت الجهود ولعل مسألة الروهينجا أكبر دليل على ذلك ناهيك عن سابقاتها في روندا ويوغسلافيا.
هذا وانه بعد التأمل لما سبق سرده نجد أن الموضوع يطرح نفسه بقوه ويطرح في ذهن الدارس العديد من التساؤلات والتي يمكن أن نجملها في إشكالية مفادها إلى أي مدى تمت حماية الأقليات بشتى أشكالها في ظل القانون الدولي سواء في مواثيقه أو تطبيقاته القضائية أو آلياته الرقابية المختلفة، وإلى أي مدى انعكست هذه الحماية على واقع الأقليات.
المحور الأول: الأقليات في الفقه
كأي دراسة ينبغي معرفة محلها قبل الخوض فيها؛ سنتناول من خلال هذا المحور ما يتعلق بتعريف الأقليات كمجموعة أو كفئة؛ حيث سنتطرق لها عند علماء اللغة وفقهاء القانون على حد السواء وذلك فيما يأتي:
أولا- الأقليات في اللغة:
الأقلية خلاف الأكثرية والجمع أقليات والقلال خشب ترفع بها الكروم من الأرض والقليل يقال شيء قل ومن الرجال القصير الجثة ورجل قل فرد لا أحد له وهو قل بن قل لا يعرف هو ولا أبوه والقلة النهضة من علة أو فقر والقلة ضد الكثرة والجمع قلل ويقال أقلاء وقلل ويقال قوم قليل أيضا وقد يعبر بالقليل عن العدم فيقال رجل قليل الخير لا يكاد يفعله([4])، وَقوم قَلِيلُونَ، واقلاء، وقلل، وقللون، يكون ذَلِك فِي قلَّة الْعدَد ودقة الجثة([5]).
ثانيا- الأقليات عند فقهاء القانون
اختلف الفقه في تعريف الأقليات على مناحي مختلفة؛ وحسبنا أن نجمع الآراء على حسب المعايير التي أسسوا عليها تعاريفهم والتي سنتناولها تباعا كما يلي:
1- المعيار العددي: اعتبر بعض الفقه المعيار العددي هو الأساس المرجعي الذي يمكن أن نسند من خلاله إلى فئة تسمية الأقلية من عدمها فيما يخص تحديد وضع الجماعات المختلفة داخل اطار الدولة، حيث يجب أن يقل العدد عن 50 بالمئة من مجموع شعب الدولة ([6]).
وقد عرف البروفيسور فرانسيسكو كابوتورتي المقرر الخاص للجنة الفرعية لمنع التمييز وحماية الأقليات الأقلية بأنها: مجموعة من السكان أقل عددا من بقية سكان الدولة يتمتع أعضاؤها المواطنون في الدولة بصفات اثنية ولغوية معينة تختلف عن تلك التي يتمتع بها سائر السكان ويربطهم شعور بالتضامن للمحافظة على عاداتهم ودينهم ولغتهم([7]).
إلا أنه يمكننا القول أن الاستناد إلى العدد لا يمكن اعتباره بأي حال من الأحوال سندا في تحديد الأقلية وذلك لعدة أسباب نجملها في النقاط التالية:
يعتبر العدد عملية متغيرة قابلة لزيادة والنقصان وإذا حددنا الأقلية بالفئة التي تكون في حدود 49 بالمئة فانه لا يفصلها عن الأغلبية إلا 1 بالمئة وهو عبارة عن فارق بسيط يمكن تداركه في لغة الإعداد ببساطة.
قد تكون في بعض الأحيان الفئة الحاكمة هي الأقلية فهل نقول أنه يجب أن تفرض الحماية للأقليات الحاكمة كما كان الشأن بالنسبة “لسادة في الإمبراطورية الرومانية، حيث كانوا هم الأقلية الرومانية، وكانت الأغلبية في الإمبراطورية برابرة أرقاء، أو في حكم الأرقاء والذين كانت لهم ثورات عديدة في تلك الحضارات من أشهرها ثورة اسبارتاكوس7371ق م” ([8])، وكما كان الشأن بالنسبة للأقلية البيضاء في جنوب افريقيا والتي كانت تعتلي سدة الحكم، وكما هو الشأن بالنسبة للأقلية السنية في البحرين.
قد تكون في الدولة الواحدة طوائف كثيرة بأعداد متفاوتة نسبيا فما هو المعيار الذي يبوأ لفئة الحماية كأقلية دون أخرى، كما هو الشأن بالنسبة للبنان مثلا.
2- المعيار الموضوعي:
يرى أصحاب هذا الاتجاه أن الأقليات هي جماعة من الناس يوحد بينهم الدين أو العرق أو ثقافة معينة تختلف عن بقية أفراد شعب الدولة التي تقطن فيها([9])،و يعرفها البعض بأنهم مجموعة من الناس قل عددهم أو كثر من سكان الدولة يتحدون في لغة أو دين أو جنس([10]).
فحسب هذا المعيار الأقلية هي مجموعة من الأفراد التي تتميز عن بقية المجتمع الموجود في الدولة من حيث الجنس أو الدين أو اللغة أو العادات والتقاليد على أن لا تكون هذه الفئة هي المسيطرة في الدولة.
و قبل أن نطرح المشكل الذي يمكن أن يثيره هذا التعريف أتوقف عند الأشكال التي بنى عليها أصحاب هذا الاتجاه توجههم:
الجنس أو العرق: حسب بيتر ويد في كتابه العرق والطبيعة والثقافة فإن مفهوم العرق غير واضح وأن الكثير من نظريات الدراسة للعرقية لا تملك الأساس الواضح حيث تم استبدال البعد لبيولوجي للعرق بأبعاد ثقافية واجتماعية تخلق التمايز بين البشر وسلوكهم وتجاهلت الجانب البيولوجي والجيني في تحديد العرق([11]).
إلا أنه وفي بعض المجتمعات التي تنغلق على نفسها فإنه يمكن الحديث عن عرق بيولوجي لجماعة معينة حسب كلود ليفي([12]).
الدين: إنه لمن الصعوبة بمكان وضع تعريف لدين وذلك لأن له أوجها متعددة والكثير من الأوجه قد لا تبدوا دينية بحد ذاتها والغريب في الامر كما يرى البرفسور جيمس داو في مقاله تعريف الدين أن الشخص العادي يمكنه أن يقول متى ينخرط الآخرون في سلوك ديني في حين أن الكثير من العلماء والباحثين يجدون مشاكل في تحديد ذلك فالدين هو أشبه بالثقافة لأنه من السهل استخدامها في حديث عادي ولكن من الصعب تحديدها بدقة([13])، وقد وردت العديد من التعاريف للدين ولكن المشهور عند علماء الأديان: “أنه وضع إلهي يرشد إلى الحق في الاعتقاد وإلى الخير في السلوك والمعاملات، أما فقهاء المسلمين فيعرفونه بأنه وضع إلاهي سائق لذي العقول السليمة باختيارهم إلى الصلاح في الحال والفلاح في المآل”([14]).
اللغة: حسب ابن خلدون في كتابه المقدمة فاللغة إيجاد إنساني لعبارات متكلم بها تفيد مقصودا يوصله عضو فاعل وهو اللسان وهو في كل أمة بحسب اصطلاحاتهم ([15])،أما ابن جني في كتابه الخصائص فقد عرفها بإنها “أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم”([16]).
أما اللهجة فهي “عادات كلامية لمجموعة قليلة من مجموعة أكبر من الناس تتكلم لغة واحدة”([17]).
العادات والتقاليد: هي مجموع السلوكيات الثقافية التي تخص مجتمعا معيناو تميزه عن بقية المجتمعات، ويتوارثها الاجيال عن بعضهم البعض([18])، ويعبر عنها البعض بأنها ممارسات جماعية تلازم الحياة الاجتماعية اليومية وتقوم على أساس مجموعة من السلوكات التي يتبناها الأفراد في مختلف المناسبات حيث تشكل هذه السلوكات أنماطا معيارية ذات رمزية أخلاقية تؤدي إلى الاستقرار وتبعث بالخوف في نفس كل من يحاول الخروج عنها([19]).
من خلال تبيان الأسس التي بنى عليها أصحاب المعيار الموضوعي توجههم نجد أن هذه الأسس في حد ذاتها تحتاج إلى معايير لترتكز عليها؛ كما نجد أن ما يتعلق بالعرق أو الجنس والدين واللغة والعادات والتقاليد لا يمكن أن يعتبر لوحده ضابطا من أجل تحديد معنى الأقلية وأساس ذلك أنه ووفق هذا المعنى يمكن أن نكثر من الأقليات ففي الجزائر مثلا توجد عادات وتقاليد خاصة بكل منطقة فهل كل نسق سلوكي يشكل عادات وتقاليد يعتبر أصحابه أقلية، وقد نجد بالنسبة للدين ظهور نحل جديدة وطوائف ذات طبيعة غير مؤسسة لا تتماشى ونسق الدين فهل كل مجموعة من الأشخاص يدينون بدين معين جديد ومستحدث حسب اعتقادهم داخل منطقة معينة يعتبرون أقلية، واذا تحدثنا عن العرق فتبقى مسألة العرق كما أشرنا سابقا مسألة معقدة في حد ذاتها اللهم الا ما تعلق ببعض المجتمعات المنغلقة على نفسها كالأكراد مثلا والتي حافظت إلى حد ما على بنيتها البيولوجية.
و من تم يمكننا القول أن الأسس المعتمدة بالنسبة لهذا الاتجاه تبقى ناقصة تحتاج إلى تعضيد وتقوية حتى نتمكن من اصلاح الأقلية اصطلاحا صحيحا توفر لها الحماية القانونية.
3- المعيار الذاتي: وينبني هذا المعيار على أساس داخلي ينبع من رغبة مجموع من الناس أن يتقاربوا من أجل أن يمتلكوا خصائص خاصة بهم تميزهم عن البقية وتفردهم عنهم.
وحسب هذا الاتجاه فان الأقلية كيان بشري يشعر أفراده بوحدة الانتماء لاشتراكهم الاجتماعي في امتلاك خصائص نوعية لا تشترك معهم فيها الجماعات الأخرى،
والأغلبية في المجتمع ويعضدون المعيار الذاتي أو الشخصي عن طريق قاعدة الزواج والاندماج بحيث تفرض هذه الفئة أو تفرض عليها الأغلبية الزواج فيما بينها كما كان الشأن بالنسبة لحكم الأقلية البيضاء في جنوب افريقيا حيث كانت تفرض على الأغلبية السوداء عدم الزواج بالبيض([20]).
ونجد أن هذا المعيار قد أسند الأقلية لفكرة متوهمة لا يمكن ملامستها ولا اثباتها فالمشاعر التي تجمع قد تفرق اذا كان هنالك ما يدعو إلى الفرقة، وقد أثبت التاريخ منذ سيدنا آدم أن المصالح يمكن أن تهدم العلاقات حتى بين الاخوة كما هو الشأن بالنسبة لقابيل وهابيل فما بالك بالنسبة لمجموعة شعرت بالرغبة في تكوين جماعة متفردة.
و بناء على ما سبق، يمكن أن نعرف الأقلية تعريفا مجملا يجمع العناصر القوية في كل معيار فنقول أن الأقلية: هي مجموعة من الأفراد التي تتميز عن بقية أفراد الدولة تميزا لافتا بسبب العرق أو الدين أو اللغة ويكون بين أفرادها رابط أو روابط مشتركة وموحدة تجعلهم يشعرون بالتفرد ويحتاجون إلى الحماية.
فقد أجملنا من خلال هذا التعريف مجموعة من العناصر:
ان يكونوا من أفراد الدولة بحيث يتنسبون إليها بالجنسية الاصلية لا المكتسبة ولا عن طريق الإقامة حتى نخرج من التعريف المقيمين الذين لهم ضوابط خاصة تحميهم والمتجنسين بجنسية مكتسبة بحيث نحمي الدولة التي منحتهم الجنسية من تقسيم اقليمها على أنه من شروط اكتساب الجنسية الاندماج مع المجتمع الأصلي.
و تجدر الإشارة أنه يمكن للأقليات أن تمتلك جنسية دول مختلفة متشكلة في أجزاء من عدة دول وتحدها حدود خاصة تدعوها للمطالبة بالانفصال كما هو الحال بالنسبة للأكراد.
أن يكون التميز لافتا بسبب العرق أو الدين أو اللغة حيث يجب أن يكون التميز لهذه الفئة متميزا من حيث عدده وموضوعه ونظرة المجتمع اليه.
أن يكون الموضوع الذي يربط بين الأفراد مُوحدا لهم، فلا يشتركون في الدين مثلا ويختلفون في الطائفة فدين الإسلام واحد ولكن ما يفرق بين السنة والشيعة أكبر مما يفرق بين المسلمين والمسيحيين.
أن تكون هنالك حاجة للحماية فلا تكون الاقلية صاحبة السيادة في الدولة كما هو الشأن بالنسبة للأمثلة التي أوردنها سابقا، ولا تكون هي المسيطر على الأوضاع، كما لا تكون من النوع الذي ينعت بإرهاب الأقلية والذي يفترض ضحده لا حمايته حيث تقوم مجموعة تمثل أقلية بأعمال إرهابية من أجل الحصول على استقلالها أو تحقيق مطالبها أو إقامة كيانها المستقل ويمارسة نشاطها ضد مؤسسات الدولة والأفراد، كإرهاب الأقلية المسيحية في تيمور الشرقية بإندونيسيا([21])([22]).
ثالثا:الأقليات والمصطلحات المشابهة
قد تكون الأقليات دينية إذا وجد دين سائد وقد تكون عرقية إذ وجد عرق سائد([23])، كما قد تكون الأقلية لغوية اذا اختلفت في الدولة الواحدة الالسن لغة لا لهجة عن اللغة الام، كما قد تكون الأقلية قومية تجمعها أفكار ومذاهب وثقافات وعادات ومصالح مشتركة متميز عن ما هو سائد في الدولة([24]).
ويجب التفريق بين الأقلية واللاجئين حيث يعرف اللاجئ حسب المادة الأولى من اتفاقية اللاجئين سنة 1951 “بأنه كل شخص يوجد بنتيجة أحداث وقعت قبل 1يناير 1951 ،وبسبب خوف له ما يبرره من التعرض للاضطهاد بسبب عرقه أو دينه أو جنسيته أو انتمائه إلى فئة اجتماعية معينة أو آرائه السياسية، خارج بلد جنسيته، ولا يستطيع، أو لا يريد بسبب ذلك الخوف، أن يستظل بحماية ذلك البلد، أو كل شخص لايملك جنسية ويوجد خارج بلد إقامته المعتادة السابق بنتيجة مثل تلك الأحداث ولا يستطيع، أو لا يريد بسبب ذلك الخوف، أن يعود إلى ذلك البلد”([25]).
يلاحظ على التعريف ركاكة الترجمة ولكن يستشف من خلاله أن الفرق بين اللاجئين والأقلية يكمن في عنصر الخوف وعدم الاستطاعة أو الرغبة في العودة إلى البلد الأم بسبب الخوف، وهذا على عكس الأقلية التي لم تجمعها بالدولة علاقة الجنسية والولاء لا الخوف والهروب.
ونلمس أيضا الفرق بين الأقليات والمهاجرين حيث، نجد الكثير من القرارات التي تتحدث عن المهاجرين بصفة عامة كقرار مجلس حقوق الإنسان في جلسته 22 في 24 سبتمبر 2008 ([26])و الذي بيّن حقوق المهاجرين دون الإشارة إلى تعريف يشملهم واذا ما بحثنا في الاتفاقيات الدولية لا نجد ما يتعلق بالمهاجرين إلا اتفاقية حقوق جميع العمال المهاجرين وأفراد أسرهم لسنة 1990([27])و التي أشارت إلى أشكال الحماية فقط ورغم أنه لا يوجد تعريف متفق عليه قانونًا، تعرف الأمم المتحدة المهاجر على أنه شخص أقام في دولة أجنبية لأكثر من سنة بغض النظر عن الأسباب سواء كانت طوعية أو غير طوعية، وبغض النظر عن الوسيلة المستخدمة للهجرة سواء كانت نظامية أو غير نظامية([28]).
و قد جعلت الأمم المتحدة شرط الهجرة أن يقيم الشخص لمدة سنة دون الاخذ بعين الاعتبار الوسيلة في ذلك ولا الدافع اليها ويعتبر التشريع الدولي الخاص بالمهاجرين تشريعا هشا يحتاج إلى عناية قانونية، الا انه وبأية حال فإن الفرق بين المهاجر والأقلية فرق شاسع على أن الهجرة قد يفترض فيها العودة إلى الوطن الام على عكس اللاجئ كما أنها تكون عادة بغرض العمل أو الدراسة.
أما الفرق بين الأقليات والأجانب فالأجنبي هو كل من لا يملك جنسية الدولة، وهو على عكس الأقليات التي تملك جنسية الدولة.
المحور الثاني: الأقليات في المواثيق الدولية
لقد اهتم المجتمع الدولي بحماية الأقليات مع مطلع اهتمامه بحقوق الإنسان وكانت أول خطوة في هذا المجال ما تضمنته الوثيقة الختامية لمؤتمر فينا سنة 1815، وما جاء في معاهدة باريس 1856، وما تم فرضه في مؤتمر برلين 1878([29])، وسنحاول تسليط الضوء على حماية الأقليات في عصر التنظيمات الدولية بعد سنة 1920 وذلك كالآتي:
أولا: الأقليات في عهد عصبة الأمم المتحدة
لقد كانت الولادة الحقيقية لنظام حماية الأقليات في ظل عصبة الأمم حيث يجد أساسه في نص المادتين 86 و93 من معاهدة فارساي سنة 1919 بين الحلفاء من جهة والدول الجديدة التي تغيرت حدودها من جهة أخرى كتشيكوسلوفاكيا وبولونيا؛ وذلك من خلال النص على وجوب إدماج أحكام تراها الدول ضرورية لحماية مصالح السكان ذات الطبيعة العرقية أو اللغوية أو الدينية([30]) ، بينما نجد أساسه الشكلي في مضامين بعض الاتفاقيات الخاصة والتي قبلتها الدول التي بها أقليات وضمنتها عصبة الأمم عن طريق مجلس العصبة حيث يحق لأي عضو من أعضاء مجلس العصبة ابلاغ المجلس بأي انتهاك للالتزامات الواردة في تلك المعاهدات لينظر المجلس في الحل المناسب لذلك، كما يحق للأشخاص المنتمين إلى الأقليات حق تقديم العرائض المتعلقة بتطبيق نصوص مختلف المعاهدات التي تخص وضعهم، وقد تم انشاء لجنة الأقليات والتي تتولى مهمة فحص العرائض قبل عرضها على مجلس العصبة وابداء الرأي فيما اذا كان الانتهاك يستحق التدخل أم لا([31]).
كما أصدرت الجمعية العامة لعصبة الأمم سنة 1933 قرارا تأمل من خلاله في الدول غير الموقعة على نظام حماية الأقليات؛ مراعاة قواعد العدل في معاملتها لأقليات الخاضعة لسيادتها([32]).
ثانيا: الأقليات في عهد الأمم المتحدة
لقد شكلت حماية الأقليات ذريعة للكثير من الدول من أجل التدخل سواء بصورة مباشرة أو غير مباشرة عن طريق المنظمات الدولية، ما أدى إلى خلق جو من التوتر والقلق وتهديد السلام في كثير من الأحيان، ولقد تبنت هيئة الأمم المتحدة نظاما جديدا فيما يخص الأقليات مخالفا لما ساد في ظل عصبة الأمم من حيث أن الحماية لا تقرر للأقلية بوصفها مجموعة متميزة وانما للأفراد المنتمين لها بوصفهم أفرادا أي أن حماية الأقليات تتم من خلال حماية أعم وأشمل لحقوق الإنسان([33])، وتجدر الإشارة إلى ان ميثاق هيئة الأمم المتحدة([34])لم ينص على مواد خاصة بحماية الأقليات وسبب ذلك حسب ما يفسره البعض يعود إلى بروز سيادة الدولة بقوة واسعة، بحيث يمكن أن يعتبر ذكر الأقليات أو حمايتها تدخلا في الشؤون الداخلية ومدعاة لزعزعة استقرار الدولة([35]).
و قد جاء الإعلان العالمي لحقوق الإنسان سنة 1948([36])و الذي يعتبر المهد الأول لكافة الحقوق خاليا من أي إشارة للأقليات مذيبا إياها في حقوق الإنسان عامة حيث يستفيد منها كل إنسان بما فيهم الأقليات فجاءت المادة 2 من الإعلان مبينة ذلك بقولها: “لكل إنسان حق التمتع بكافة الحقوق والحريات الواردة في هذا الإعلان، دون أي تمييز، كالتمييز بسبب العنصر أو اللون أو الجنس أو اللغة أو الدين أو الرأي السياسي أو أي رأي آخر، أو الأصل الوطني أو الاجتماعي أو الثروة أو الميلاد أو أي وضع آخر، دون أية تفرقة بين الرجال والنساء، وفضلا عما تقدم فلن يكون هناك أي تمييز أساسه الوضع السياسي أو القانوني أو الدولي لبلد أو البقعة التي ينتمي إليها الفرد سواء كان هذا البلد أو تلك البقعة مستقلا أو تحت الوصاية أو غير متمتع بالحكم الذاتي أو كانت سيادته خاضعة لأي قيد من القيود”.
و يستفاد من نص المادة 2 أن الحماية تطال الجميع وأن الحقوق للإنسانية جمعاء دون تفرقة سواء كان الأفراد مواطنين أو مهاجرين أو أجانب أو أقليات في بلد مستقل أو مستعمر أو مقيد السيادة بأي قيد، وتعتبر هذه المادة هي المادة المرجعية العامة بالنسبة لأي حق تتم حمايته لاتساع ألفاظها وإمكانية احتوائها لطوائف مختلفة.
و قد جاءت اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية سنة 1948([37])قبل يوم واحد من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لتؤمن الحماية الجنائية للأقليات دون أن تشير إلى لفظ الأقليات إلا أن ألفاظ المادة 2 لا تدع مجالا لريبة على أن يفهم النص بأنه تأمين للأقليات وما شابهها من جماعات حيث جاء فيها: ” في هذه الاتفاقية، تعني الإبادة الجماعية أيا من الأفعال التالية، المرتكبة علي قصد التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة قومية أو اثنية أو عنصرية أو دينية، بصفتها هذه:
(أ) قتل أعضاء من الجماعة.
(ب) إلحاق أذى جسدي أو روحي خطير بأعضاء من الجماعة.
(ج) إخضاع الجماعة، عمدا، لظروف معيشية يراد بها تدميرها المادي كليا أو جزئيا.
(د) فرض تدابير تستهدف الحؤول دون إنجاب الأطفال داخل الجماعة.
(هـ) نقل أطفال من الجماعة، عنوة، إلي جماعة أخرى”.
فهذا النص أشار إلى الحماية الكلية والجزئية للأقليات ذات الطبيعة القومية والاثنية والدينية والعنصرية ولم يشر إلى الأقليات ذات الطبيعة اللغوية إلا أنه يمكن أن ندرجها في اطار الجماعة العنصرية، وشمل الحماية في حماية النفس والجسد والتكاثر وأخذ الأطفال من أجل طمس هويتهم؛ ولم تتوقف الحماية عند هذا الحد بل شملت حتى الحماية المعنوية وذلك من خلال منع الحاق أي ضرر روحي.
و قد جاءت المادة 3 من نفس الاتفاقية لتمنع كل أبواب الاشتراك في جريمة الإبادة الجماعية وحتى الشروع فيها.
إلا أنه يؤخذ على هذه الاتفاقية ضعف آلياتها وعدم تحديدها للعقوبات حيث اكتفت في نص المادة 4 بالقول يعاقب مرتكبو الإبادة الجماعية دونما إشارة إلى نوع العقاب فقد يكون العقاب غرامة مالية كما قد يكون العقاب الإعدام وبين الحدين ترك النص أجوفا فارغا.
و في وقت لاحق قد تم تدارك الفراغ الذي مس الأقليات من حيث التعريف من خلال اللجنة الفرعية لمنع التمييز وحماية الأقليات حيث حاولت أن تضع تعريفا لمصطلح الأقليات خلال دوراتها المتعاقبة سنة 1950 و1951 و1952 مؤكدة على ضرورة تبني لجنة حقوق الإنسان هذا الموضوع وقد تضمن القرار- ف- الصادر عن اللجنة الفرعية لحقوق الإنسان جملة من العناصر التي يجب أن توضع بعين الاعتبار عند تعريف الأقليات([38]):
أن الأقليات تشمل الجماعات غير المهيمنة ضمن مجموع السكان ولها مميزات خاصة بها تميزها عن بقية السكان.
يجب أن يكون هنالك عدد تجمعي نسبي من أجل أن تحافظ هذه الجماعات على خصائصها.
و على هذا النحو عرفت اللجنة الفرعية لمنع التمييز العنصري وحماية الأقليات بأن الأقليات: “هي جماعة تابعة داخل شعب ما، تتمتع بتقاليد وخصائص اثنية أو دينية أو لغوية تختلف بشكل واضح عن تلك الموجودة لدى بقية السكان فترغب في دوام المحافظة عليها”([39]).
و يعتبر هذا التعريف قاصرا من حيث المعنى لم يشر إلى العدد أو القلة المعتبرة التي تعطي للمجموعة داخل الشعب لفظ الأقلية واكتفى بالمعيار الموضوعي والذاتي والذي يكمن في الرغبة في المحافظة على نفسها، والملاحظ لتعريف يجد أنه أراد أن يجمع كل شيء ولم يجمع أي شيء.
و تجدر الإشارة أن تعريف الأقليات في الاتفاقيات أمر ضروري جدا شأنه شأن أي مركز قانوني تراد حمايته ذلك لأنه لا يمكن أن نؤمن الحماية لشيء دون أن نعرف حدوده وصفاته، ومن تم لا يجب أن نهمل الخطوة التي قامت بها اللجنة الفرعية لحقوق الإنسان رغم حاجتها إلى توضيح أفضل وأشمل.
أما اتفاقية القضاء على مختلف اشكال الميز العنصري سنة 1963 ([40])فقد أشارت إلى الأقليات العرقية دون سواها كافلة لها الحماية النماء وحاثة على مساواتها بغيرها من فئات المجتمع المختلفة وهو ما لمسناه من خلال المادة 2 في فقرتها الثانية والتي جاء فيها:
“تقوم الدول الأطراف، عند اقتضاء الظروف ذلك، باتخاذ التدابير الخاصة والملموسة اللازمة، في الميدان الاجتماعي والميدان الاقتصادي والميدان الثقافي والميادين الأخرى، لتأمين النماء الكافي والحماية الكافية لبعض الجماعات العرقية أو للأفراد المنتمين إليها، علي قصد ضمان تمتعها وتمتعهم التام المتساوي بحقوق الإنسان والحريات الأساسية، ولا يجوز في أية حال أن يترتب علي هذه التدابير، كنتيجة لذلك، إدامة أية حقوق متفاوتة أو مستقلة تختلف باختلاف الجماعات العرقية بعد بلوغ الأهداف التي اتخذت من أجلها”.
إلا أنه يؤخذ على المادة قولها عند اقتضاء الظروف ذلك حيث جعلت الحماية للأقلية العرقية ظرفية غير دائمة، كما يؤخذ عليها عدم تعميم نص المادة على بقية الأقليات الأخرى.
و قد جاء بعد ذلك العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية سنة 1966([41]) ليستدك ويجمع كل ما فات؛ من خلال المادة 27 والتي تعتبر المادة المركزية في مجال حماية الأقليات حيث جاء فيها التصريح بلفظ الأقليات وهو ما لم يسبق في الاتفاقيات السابقة في عهد الأمم المتحدة كما أنها كفلت لهذه الفئة جملة من الحقوق الدنيا ونصت على أنه: ” لا يجوز، في الدول التي توجد فيها أقليات اثنية أو دينية أو لغوية، أن يحرم الأشخاص المنتسبون إلى الأقليات المذكورة من حق التمتع بثقافتهم الخاصة أو المجاهرة بدينهم وإقامة شعائره أو استخدام لغتهم، بالاشتراك مع الأعضاء الآخرين في جماعته”
أما إذا أردنا أن نتحدث عن الحماية الخاصة للأقليات في جوانب محددة فإننا نلمسها في العديد من الاتفاقيات ويكفي أن نشير إلى اثنين منها:
الاتفاقية الدولية للقضاء على التمييز في مجال التعليم([42]) والتي اعتمدتها منظمة اليونسكو سنة 1960 والتي جاء في المادة 5 الفقرة 1 البند (ج) منها على أنه ” من الضروري الاعتراف بحق أعضاء الأقليات الوطنية في ممارسة أنشطتهم التعليمية الخاصة، بما في ذلك إقامة المدارس وإدارتها، فضلا عن استخدام أو تعليم لغتهم الخاصة، رهنا بالسياسة التعليمية لكل دولة وبالشروط التالية:
– ألا يمارس هذا الحق بطريقة تمنع أعضاء هذه الأقليات من فهم ثقافة ولغة المجتمع ككل، أو من المشاركة في أنشطته، أو بطريقة تمس السيادة الوطنية.
-ألا يكون مستوي التعليم أدني من المستوي العام الذي تقرره السلطات المختصة.
-أن يكون الالتحاق بتلك المدارس اختياريا.”
حيث كانت هذه المادة قوية من حيث الصياغة وذلك حسب رأيي لأنها المادة الوحيدة على خلاف ما سبقها؛ التي تشير إلى حقوق الأقليات والواجبات الملقاة على عاتقهم؛ ذلك أن الحماية لا بد أن تكون قرينة الامتثال للواجبات.
اتفاقية حقوق الطفل سنة 1989([43])و التي نصت من خلال لمادة 30 على أنه: “في الدول التي توجد فيها أقليات إثنية أو دينية أو لغوية أو أشخاص من السكان الأصليين، لا يجوز حرمان الطفل المنتمي لتلك الأقليات أو لأولئك السكان من الحق في أن يتمتع، مع بقية أفراد المجموعة، بثقافته، أو الاجهار بدينه وممارسة شعائره، أو استعمال لغته”.
و قد أشرنا إلى هذه المادة لأن حماية الطفل تعادل حماية المستقبل بالنسبة لما يمكن أن تحمله الأقليات من ميراث الهوية جيلا بعد جيل، و بعد ما يقارب خمسين سنة من تأسيس هيئة الأمم المتحدة تم استصدار أول قرار خاص بالأقليات من خلال الجمعية العامة تحت رقم 47/135 في 18 ديسمبر 1992 ([44])و قد جاءت هذه الوثيقة مؤلفة من تسعة مواد؛ مستلهمة حسب ديباجتها من نص المادة 27 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية وقد نصت من خلال الاتفاقية على مصطلح المحافظة على هوية الأقليات وهو ما لم يسبق في الاتفاقيات السابقة؛ وكذا حقهم في المشاركة في الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافيةو العامة والتواصل الإقليمي خارج الحدود تمتينا لروابط حتى لا تكون الحدود عائقا أمام وحدة الأقلية المتفرقة على عدة دول دون المساس بالتشريع الوطني لكل دولة، كما تم التأكيد على مختلف الحقوق الخاص بالأقليات وممارستها في أريحية دون تضييق.
إلا أن الاتفاقية لم تتناول المشاركة السياسية للأقليات واعتبرتها فئة ضعيفة في الدول لا تشارك في السياسة العامة ولا تؤثر فيها على أنه وفي جميع الحالات لا بد أن يتعامل مع الأقليات في اطار المحافظة على سيادة الدولة ووحدتها الإقليمية دون التسبب في تفككها أو اختراق مبدأ عدم التدخل، وهو ما تأكده المادة 8 في فقرتها 4 من اعلان حقوق الأشخاص المنتمين إلى أقليات قومية أو اثنية وإلى أقليات دينية ولغوية([45]) حيث جاء فيها: ” لا يجوز بأي حال تفسير أي جزء من هذا الإعلان على أنه يسمح بأي نشاط يتعارض ومقاصد الأمم المتحدة ومبادئها بما في ذلك المساواة بين سيادة الدول وسلامتها الإقليمية واستقلالها السياسي”.
و تعتبر هذه الوثيقة الوحيدة على الصعيد الدولي من هذا النوع حيث تتضمن عددا من الحقوق التي يجب أن تتمتع بها الأقليات وكذا الإجراءات التي يجب على الدول القيام بها بغية حماية وتعزيز تلك الحقوق.
أما على الصعيد الإقليمي فنجد الاتفاقية الاطارية لحماية الأقليات القومية والتي تبناها مجلس أوروبا في1 نوفمبر 1995([46]) والتي دخلت حيز النفاذ في 1 فبراير 1998 وقد جاء التنويه فيها بشكل خاص المساواة في التعليم وانشاء المدارس وحق الاقليات في تعليم لغتهم حسب المادة 12 و13 و14، وكذا الاتفاقية الاوربية للغات الإقليمية أو لغات الأقليات، وكذا الاتفاقية الامريكية لحقوق الإنسان والميثاق الافريقي لحقوق الإنسان والشعوب والبرتوكول الملحق به.
المحور الثالث: الآليات القانونية لحماية الأقليات وآثارها
تعتبر الآليات القانونية سواء الرقابية أو القضائية حامية الحقوق في القانون الدولي اذا تم تفعيلها بالشكل الحسن؛ وسنتناول من خلال هذا المحور كل ما يتعلق بهذه الآليات ومدى فاعليتها مع أخذ نماذج حية على ذلك.
أولا: الآليات الرقابية
لقد تحدث الاعلان الخاص بحماية الأقليات عن الأطر التي تتم فيها الحماية إلا أنه لم يبين الآليات التي تحقق ذلك، فجاءت صحيفة وقائع حقوق الإنسان رقم 18 تحت عنوان حقوق الأقليات([47])من أجل تبيان الآليات التي يتم من خلالها رصد التضييق على الأقليات وذلك من خلال ما يلي([48]):
تقديم التقارير: وذلك من أجل رصد التقدم الذي تحرزه الدول الأطراف في الوفاء بالتزاماتها تجاه حقوق الإنسان.
المفوض السامي لحقوق الإنسان: وهي وظيفة أنشأتها الأمم المتحدة سنة 1993 والذي يقوم بشكل أخص بتعزيز وتنفيذ المبادئ الواردة في الإعلان الخاص بحقوق الأشخاص المنتمين إلى الأقليات عن طريق خطة وبرامج تشمل التعاون مع أجهزة الأمم المتحدة واجراء الحوار مع الحكومات المعنية وكذا القيام بالمساعدة التقنية والاستشارية.
الفريق المعني بالأقليات: وقد تم إنشاءه في سنة 1995 ويتألف من 15 عضوا لفترة أولية قدرها ثلاثة سنوات ويعمل على تعزيز الحقوق المبينة في الإعلان ودراسة المشاكل والحلول المتصلة بالأقليات وكذا تقديم التوصيات الضرورية والمؤمنة لحماية الأشخاص المنتمين للأقليات.
التحقيقات والمساعدات التقنية والخدمة الاستشارية: وذلك عن طريق الخبراء المستقلون الذين تعينهم الأمم المتحدة للتحقيق عند وجود انتهاك لحقوق اشخاص ينتمون إلى الأقليات.
الدراسات: حيث تسعى الدراسات إلى تحديد تعريف للأقليات؛ وتبيين نسبة تواجدها في كل منطقة وسبل حمايتها.
اجراء الشكاوى والبلاغات: حيث يحق لكل فرد أو دولة أو مجموعة من دول أن تقوم بلفت انتباه الأمم المتحدة للانتهاكات التي يمكن أن تطال حقوق الإنسان بما في ذلك الحقوق الخاصة بالأقليات حسب الاجراء 1503 السري أو بموجب المادة 41 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية والتي تعطي لدولة تقديم شكوى ضد دولة أخرى في مجال حقوق الإنسان بما في ذلك الواردة في نص المادة 27 من نفس العهد، أو بموجب المادة البرتوكول الاختياري الملحق بالعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية الذي يتيح للأفراد تقديم بلاغات إلى اللجنة المعنية بحقوق الإنسان وقد أكدت اتفاقية القضاء على الميز العنصري في المادة 11 على إمكانية تقديم البلاغات من قبل الأفراد والشكاوى من قبل الدول في مجال حقوق الإنسان بما في ذلك حماية الأقليات.
الإنذار المبكر: حيث يقوم المفوض السامي أو لجنة القضاء على التمييز العنصري بتحريك آلية الإنذار المبكر والذي هو اجراء وقائي هدفه الحد من تصاعد الصراع وتحوله إلى نزاع داخلي.
ثانيا: الآليات القضائية
في عهد القضاء الدولي كله لم يتم الحديث عن حماية الأقليات بصفة مباشرة إلا ما تعلق بالتفسير الذي أوردته محكمة العدل الدولية الدائمة تفسيرا لمصطلح الأقليات في رأيها الاستشاري الصادر في 31 جويلية 1930 ردا على تساؤل مجلس العصبة في 16 يناير 1930 حول تفسير ماهية الجماعات المتيسر لها الهجرة المتبادلة بين بلغاريا واليونان والواردة في المادة 6 و7 من الاتفاقية المبرمة بين البلدين وقد عرفت المحكمة على إثر ذلك مصطلح الأقليات كمرادف للجماعات المتيسر لها الهجرة على أنهم: ” مجموعة من الأشخاص الذي يقيمون في أقاليم أو منطقة معينة ولهم أصل عرقي أو ديانة أو لغة أو عادات وتقاليد خاصة بهم ولديهم شعور وإحساس بالتضامن والترابط من أجل حماية صفاتهم الخاصة والرغبة في المحافظة على تقاليدهم وعقيدتهم وضمان تعليم أطفالهم وتربيتهم طبقا لتقاليدهم وأصلهم العرقي، والعمل بينهم من أجل مساندة بعضهم البعض([49]).
و قد حاولت أن أقف على التطبيقات القضائية الخاصة بالأقليات فلم أجد في كل الاحكام والأوامر والفتاوى التي بين يدي والصادرة عن محكمة العدل الدولية من سنة 1945 إلى 2012([50]) ما يشير إلى حماية الأقليات بشكل مباشر وسبب ذلك يعود إلى أمرين:
أنه لم يظهر للأقليات نصوص كاملة تنظم وضعيتها الا بعد سنة 1992.
أن حماية الأقليات هي حماية وصائية في مختلف الاتفاقيات الامر الذي لا يمكن أن يُعكس على القضاء إلا استئناسا.
إلا أنه يمكن أن نجد من خلال التطبيقات القضائية ما يشير إلى حماية الأقليات بطريقة غير مباشرة خاصة فيما يتعلق بجريمة الإبادة الجماعية، حيث يجب أن نقف على أمر مفاده أن هنالك تلازما كبيرا من حيث التكييف بين جريمة الإبادة الجماعية والأقلية؛ إذ أن الأقليات كثيرا ما تكون محلا لجريمة الإبادة الجماعية والتصفية العرقية ولا نجد أبلغ من قضيتي يوغسلافيا سنة 1991 وروندا سنة 1994 واللتان تتعلقان بتصفية اثنية للمسلمين في كلتا الدولتين.
ثالثا: مدى فاعلية الآليات القانونية لحماية الأقليات
لم تنجح الآليات القضائية سواء عن طريق المحكمة الجنائية الدولية ولا عن طرق المحاكم الخاصة في الحد من الجرائم التي تطال الأقليات فنجدها في يوغسلافيا وروندا متثاقلة في الإجراءات إلى حد لم يوفر الحماية للكثير من الأشخاص الذين كان يفترض بقاؤهم أحياء أو سلامين من كل أذى.
ففي يوغسلافيا مثلا لم تتمكن هيئة الأمم المتحدة أن تسيطر على التدخل الذي طالها والتصفية العرقية التي لحقت المسلمين فيها منذ سنة 1991 وقد كان تدخل الأمم المتحدة فيها محلا للنقد خاصة القرار 770 الذي أجاز لحلف الشمال الأطلسي التدخل في يوغسلافيا دون أن يفرض رقابة الأمم المتحدة على هذا التدخل، كما تم انتقاد القرار 713 من مجلس الامن والذي فرض حظر عام وكامل على مبيعات الأسلحة والمعدات الحربية في يوغسلافيا مع علم الأمم المتحدة أن مسلمي البوسنة غير مسلحين الأمر الذي سهل عملية تطهيرهم؛ وبدل أن تُؤمّن الهيئة لهذه الفئة الحماية أمنت عن طريق قرارتها سبل الإبادة وطرق التطهير؛ وهذا ما أكده تقرير لجنة حقوق الإنسان الذي أشار إلى عدم التوازن الواضح في الأسلحة بين الصرب والمسلمين في البوسنة، وقد أدت قرارات الأمم المتحدة المتمثلة في القرار 135/47 سنة 1992، وقرار الجمعية العامة 51/55 1996 إلى تفكيك يوغسلافيا وتحويلها إلى مجموعة من الدول وهو ما يتناقض مع الوثائق الدولية خاصة اعلان حقوق الأقليات([51])، أما قضائيا فيكفي أن نقول أن آخر حكم قضائي على آخر مجرمي الإبادة الجماعية في يوغسلافيا القائد العسكري السابق لصرب البوسنة الجنرال راتكو ملاديتش والذي تمت ادانته بجرائم إبادة جماعية في حق مسلمي البوسنة في تسعينيات القرن الماضي بحكم المؤبد قد كان في 22 نوفمبر 2017،
فاستصدار حكم بعد ما يزيد عن 20 سنة يدل كل الدلالة على ضعف الجهاز القضائي الدولي ناهيك على عدم وجود الرادع في العقوبة، فالذي لم يستبق حياة المئات أيستحق البقاء؟.
وقد يقول البعض أن هيئة الأمم المتحدة قد نجحت رغم الخسائر والتثاقل في الحد من وتيرة أعمال الإبادة الجماعية في يوغسلافيا ورواندا وقد تمت معاقبة الفاعلين؛ فما هو رد هؤلاء على ما يحدث لحد الساعة لروهينجا في ميانمار، هذه القضية الشائعة إعلاميا والغائبة قانونيا وقضائيا رغم قدمها؛ حيث تعود جذورها إلى سنة 1948 وتصاعدت وتيرتها بحدة منذ جوان 2012 عندما تم قتل العشرات من الدعاة المسلمين على يد مجموعات بوذية متطرفة بعد عودتهم من أداء مناسك العمرة بدعوى وقوفهم وراء مقتل فتاة بوذية بعد اغتصابها؛ الامر الذي أدى إلى اندلاع حرب شاملة على الروهنجيين في إقليم أراكان راخين سابقا من قبل المجموعات البوذية وتحت رعاية سامية من قبل الرهبان البوذيين الراديكاليين والمنضوين تحت منظمة 969 التي باتت مفزع المسلمين الذين يشكلون 15 بالمئة من سكان ميانمار؛ وسبب هروبهم إلى الدول المجاورة؛ هذا وتجدر الإشارة إلى أنه ورغم وجود 135 عرق في ميانمار الا أن دعوة التطهير تستهدف المسلمين فقط([52]).
و في الجانب الدولي فقد تم تناول القضية في الدورة 22 لمجلس حقوق الإنسان من 25 فبراير إلى 22 مارس 2013 وجاء التأكيد فيه على ضرورة قيام ميانمار بخطوات علمية لاحتواء أزمة مسلمي الروهينجا عبر آليات القانون الدولي والمعاهدات ذات الصلة، حيث قال مقرر الأمم المتحدة الخاص توماس أوخيا كوينتانا أن أوضاع مسلمي الروهينجا وغيرهم من الأقليات الدينية والعرقية لم تتحسن إلى الآن مع استمرار الازمة العميقة في ولايتي كاشين وراخين كما طالب المقرر الأممي إلى تقديم المساعدات لهذه الأقلية لتفادي وقوع كارثة وحث حكومة ميانمار على اتخاذ كل الآليات لوضع حد لانتهاكات حقوق الإنسان وتأمين الطريق لوصول المساعدات الإنسانية([53]).
و نتيجة للأحداث المتعاقبة ترأس الأمين العام السابق كوفي عنان عام 2016 لجنة استشارية من أجل تقصي الحقائق بتعيين من قبل مستشارة دولة ميانمار؛ وسلم كوفي عنان تقريره إلى حكومة ميانمار سنة 2017 واعتبرت المنظمات الحقوقية بأن التقرير أجوف لا يعكس حجم الانتهاكات ولم يشر التقرير إلى التطهير العرقي كما دعت هذه المنظمات إلى تحقيق دولي لا لجنة استشارية تعينها الحكومة الضالعة في أعمال الإبادة، وقد وافق مجلس حقوق الإنسان التابع لهيئة الأمم المتحدة على ارسال بعثة لتقصي الحقائق سنة 2017 وتأكيد المزاعم المتمثلة في هروب 270 الف شخص إلى بنغلادش و600 الف هارب الى دول أخرى وآلاف القتلى بطرق وحشية تعكسها الصور اليومية، ولم تجد مستشارة ميانمار أونغ سان تشي والحائزة على جائزة نوبل لسلام أمام الضغط الكبير على حكومتها الا ادانة كل الانتهاكات في الإقليم الشمالي لأراكان([54]).
وأمام الصمت الدولي حينا والتواطئ حينا آخر؛ لا تزال أقلية المسلمين في ميانمار المعروفة ببورما أركان تشكوا التهجير قسرا والقتل عمدا بأشنع الطرق والإبادة في أعلى تجلياتها.
و مما سبق تتبين لنا حقيقة مفادها أن الآليات الدولية لحماية الأقليات لاتزال ضعيفة جدا ينبغي أن تحاط بسياج الردع وسرعة الاجراء والرقابة وأن تهيئ لها كل الظروف التي تكفل حفظ السلم والأمن الدوليين.
الخاتمة
إن المتصفح لصفحات الكتب ومواقع الأنترنت يدرك جيدا أن هيئة الأمم المتحدة لم تعد تحتاج إلى شاك يشكو إليها أو مبلغ يبلغها أو منذر يلفت نظرها حول ما يطال الأقليات من تهجير قسري وإبادة جماعية وجرائم حرب، ولقد بات اليومجليا للعيان الانتهاكات اليومية التي تطال حقوق الإنسان خاصة الأقليات في إفريقيا وجنوب شرق آسيا على وجه الخصوص؛ الا أن كل الآليات سواء القضائية أو غير القضائية لم تستطع الحد من وتيرة هذا الميز الذي يهدد بشكل محدق السلم والأمن الدوليين.
لقد بات تحت مسؤولية الأمم مجتمعة أن تنص في تشريعاتها الداخلية على قوانين ملزمة من أجل بث أسس التعايش السلمي بين الأفراد المتواجدين في إقليمها ونبذ كل النعارات والتمايزات التي تبث الكراهية بين الناس وتؤدي إلى أضرار معنوية تولد العنف والإرهاب وتمزق أوصال الدولة والمساس بسيادتها الترابية.
أما على المستوى الدولي فقد صار من الواجب على الأمم المتحدة أن تفعل آلياتها وتقرنها بعقوبات رادعة بعيدا عن كل ميل أو انحياز إلى طرف دون طرف آخر ذلك لأن المساس بحقوق الأقليات العامة والخاصة هو مساس بالسلم والأمن الدوليين الذي هو من أسمى أهداف هيئة الأمم المتحدة.
(محاماه نت)