دراسات قانونية
بحث قانوني هام حول الإثبات بالبينة وشهادة الشهود
مقدمة
عن بن عباس رضي الله عنهما أن النبي(صلى الله عليه وسلم ) قال لو يعطى الناس بدعواهم لأدعى ناس دماء رجال وأموالهم ولكن اليمين على المدعى عليه.
المبحث الأول : ماهية الإثبات بالبينة
في معناها العام، إقامة الدليل على الأمر المدعى به عكس الظاهر (أصلاً أو عرضاً أو فرضاً) ولذلك يقال “البينة على المدعى . أما في معناها الخاص فهي ترادف الشهادة لأن الشهادة هي إدلاء أو إخبار بما اتصل بعلم الشاهد بإحدى حواسه ولا يغير من الأمر مسألة الاستعانة بوسائل مساعدة كالمختبرات وعدسات رؤية الأشياء الدقيقة … الخ.
والبينة أو شهادة الشهود، كأداة للإثبات القضائي، لا تخرج عن ذلك، إلا في الشخص الذي تتم أمامه والقصد من الإدلاء بها، فهي كأداة إثبات تتم أمام القضاة بقصد ترجيح صدق أحد المتقاضين على الأخر. وعندئذ يمكن تعريفها بأنها “هي إخبار الشخص في مجلس القضاء بعلمه عن واقعة تثبت حقاً لغيره في مواجهة آخر”.
ففي ضوء ذلك يتبين أن الشاهد يخبر القاضي بوقائع تقرر حقاً لشخص والتزاماً على آخر، بمعنى أنه لا يدعى شيئاً لنفسه، لأنه لو ادعى مثل ذلك لا يعد شاهداً، إنما يعتبر مدعياً إذا كان يدعى حقاً له على آخر أو مقراً إذا صدر منه إقراراً بالتزامٍ عليه لآخر.
بيد أن البينة، باعتبارها خبراً، فهي تحتمل الصدق والكذب، ولما كان الأصل في الشخص أنه صادقاً إلى أن يثبت عكسه، فهذا الأصل يقوى احتمال الصدق على احتمال الكذب، ولاسيما أن الشاهد يؤكد ذلك بحلف اليمين على صدق ما يخبر به، فضلاً عن كون شـهادته بحق لغيره على غيره تعد قرينة على مجانبة الكذب، حيث أنه لا مصـلحة له في ذلك. والمفروض أن البينة تصدر عن شخص تتوافر فيه
العدالة على نحو تعد شهادته قرينة على صحة ما يشهد به، وإن كان احتمال العكس لا ينتفي بهذه القرينة انتفاءً تاماً، فهي قابلة لإثبات العكس.
تعد الشهادة هي الحد الفاصل بين الحق والباطل، ويعتبر الشاهد أعين العدالة؛ ولذلك تحض الشريعة الإسلامية الشاهد على أن يلبي دعوته إلى الإخبار بما وصل إلى علمه بحواسه عن حق لغيره على آخر، وأمرته بعدم كتمان الشهادة وجعلت الكتمان نوعاً من آثام القلوب ومن الظلم
ولا غرو أن تكون الشهادة هي أسبق طرق الإثبات في الوجود، بل كانت هي أول أداة إثبات عرفها الإنسان بعد أن كون مع أقرانه جماعة تتشابك فيها المصالح، لأن الإنسان الأول كان حاضر الذهن قوى الذاكرة نظراً لندرة المتغيرات والمشاهدات التي تدركها حواسه. غير أنها تزحزحت عن مكان الصدارة لتحتله الكتابة لثبات المسجل في السطور وتغير المحفوظ في الصدور بسبب كثرة الأحداث المتلاحقة التي تدركها الحواس البشرية، ولضعف وازع الضمير تبعاً لضعف العقيدة لدى بعض الناس مما يدفعهم إلى قول الزور ، ولاكتشاف التزوير أيسر من كشف الزور، لأن الأول مادي والثاني معنوي.
المبحث الثاني خصائص الإثبات بالبينة
عرفنا أن البينة هي إخبار الشخص بمعلوم لديه في ساحة القضاء يثبت حقاً لغيره على آخر. وبناء على ذلك فإن شهادة الشهود، باعتبارها من طرق الإثبات، تختص بالخصائص التالية:
1 – البينة دليل إقناع:
تعد الشهادة حجة مقنعة، أي أن القاضي لا يلتزم الحكم بمقتضاها، حتى لو لم توجد أدلة أخرى تعارضها في الدعوى، إلا إذا اقتنع بدلالتها على الواقعة محل الإثبات، بمعنى أن للقاضي السلطة الكاملة في تقدير قيمتها في الإثبات، وفي منأى عن رقابة محكمة النقض. وبذلك تختلف شهادة الشهود اختلافاً جوهرياً عن الكتابة، فالدليل الكتابي يعتبر حجة بذاته يلزم القاضي بالحكم بمقتضاه طالما أن دلالته لم تدحض بالوسائل القانونية ، كالطعن بالتزوير في المحرر الرسمي والإنكار أو الجهالة في المحرر العرفي.
2- البينة دليل غير قاطع :
يقبل الإثبات بالشهادة إقامة الدليل على العكس بمثلها أو بأحد طرق الإثبات الأخرى، لأنها إخبار يرجح فيه احتمال الصدق على الكذب وإن كان لا ينفيه. بمعنى أن ما ثبت بالبينة يظل صحيحاً إلى أن يثبت خلافه، شريطة أن يكون ذلك قبل صدور حكم بناء عليها. لأن السماح لأحد المتقاضين بإثبات الواقعة بشهادة الشهود يقتضى –دائماً– أن يكون للمتقاضي الآخر الحق في دحضها بهذا الطريق (البينة)
3- البينة حجة متعدية
تعد البينة حجة على الكافة، أي أن ما يتم إثباته بشاهدة الشهود يعد ثابتاً في مواجهة الكافة، لصدورها من شخص ليس له مصلحة في إثبات أو نفي الواقعة محل الإثبات، بل يخبر بما يعلمه عن هذه الواقعة التي ترتب حقاً لغيره قبل آخر. فضلاً عن أن للقاضي سلطة مطلقة في تقدير قيمتها بما يعينه على تكون قناعته.
4- البينة دليل مقيد :
وضع المشرع نصاباً للإثبات بالشهادة، حيث لا يجوز إثبات التصرفات القانونية المدنية إلا إذا كانت قيمة الالتزام مائتي دينار فأقل، ما لا يوجد اتفاق أو نص يقضى بغير ذلك إثبات ويكون للكتابة أفضلية عليها متى وجدت، أي إذا كانت الواقعة المتنازع فيها مثبتة في دليل كتابي وفي نفس الوقت تتوفر في شأنها الشهادة، فتفضل الكتابة على الشهادة.
المبحث الثالث شروط الشهادة والشاهد
يجب أن يتوفر في الشهادة، باعتبارها أحد طرق الإثبات، شروط معينة، وكذلك الشاهد الذي يدلى بها؛ لأنه يترتب عليها أمر في غاية الأهمية وهو إثبات أو نفي الواقعة محل الإثبات.
ونتناول فيما هو آتٍ من مطالب بيان الشروط الواجب توفرها في الشهادة والشاهد.
المطلب الأول – الشهادة (الشروط والإجراءات).
المطلب الثاني – شروط الشاهد.
المطلب الأول : الشهادة الشروط و الإجراءات
يجب أن يتوفر في الشهادة، لكي تكون حجة على الواقعة المراد إثباتها، شروطها وأن تتبع إجراءاتها.
ونتناول فيما هو آتٍ من نقاط دراسة هذا الموضوع:
أولاً – شروط الشهادة:
يشترط في الشهادة الشروط الآتية:
الشرط الأول : الإخبار بمعلوم:
يلزم في الشهادة أن تكون إخبار بما هو معلوم لدى الشاهد، أي الإدلاء بكل ما يعرفه عن الواقعة محل الإثبات مما أدركه بحواسه المجردة أو بوسائل مساعدة ، فإن كانت واقعة ترى بالعين كحادث سيارة، شهد بما رآه، وإن كانت
تسمع بالأذن كسماعه تبادل التعبير عن الإرادة بين طرفي عقد، شهد بما سمعه. أما ما يطلق عليه بشهادة السماع، أي التي يخبر الشخص عما سمعه من غيره عن واقعة الإثبات، وكذلك شهادة التسامع، وهو ما يجري على ألسنة الناس؛ فهذا لا تدخل في مفهوم الشهادة بالمعنى القانوني، ولا تعطى حجية البينة في الإثبات، وإن كان يجوز للمحكمة أن تستنير بها باعتبارها من القرائن، في الأحوال التي يجوز الإثبات فيها بذلك
ويشترط أن يكون إخبار الشاهد بما هو معلوم لديه في صورة وصف مجرد للواقعة محل الشهادة دون تعليق منه أو تحليل أو تأويل. لأن قيامه بمثل ذلك يخرجه من دائرة الشهادة ويدخله في نطاق أعمال الخبرة
ويلزم أن تكون الواقعة محل الشهادة متنازع فيها ومنتجة في الدعوى ومتعلقة بها وجائزة القبول، ألا تنطوي على مخالفة للنظام العام والآداب. وأن تكون مما يجوز إثباتها بشهادة الشهود. وأن ترى محكمة الموضوع أن الدعوى تحتاج إلى الإثبات بالبينة.
الشرط الثاني : الإخبار في مجلس القضاء:
يجب في الشهادة، فوق كونها إخبار بمعلوم، أن يكون هذا الإخبار في ساحة القضاء وطبقاً للأوضاع المقررة قانوناً لذلك، فلا عبرة بالشهادة التي تم
الإدلاء بها في خارج هذه الساحة أي ليس أمام القاضي، ولو كان الإدلاء بها أمام موظف عام مهما كان وضعه الوظيفي، طالما أنه ليس له ولاية القضاء
الشرط الثالث : الإخبار وفق الأوضاع القانونية:
لا يكفي للاعتداد بالشهادة، كونها إخبار بمعلوم في مجلس القضاء، بل يجب فوق ذلك أن يكون هذا الإخبار قد تم وفق الأوضاع القانونية المقررة في هذا الشأن ، وفي مقدمتها صدور حكم بالإحالة إلى التحقيق متضمناً بيان الوقائع المراد إثباتها بالبينة ، على أن يحلف
الشاهد يميناً على صدق ما يخبر به عن الواقعة محل الإثبات
ويشترط أن تكون الواقعة محل الشهادة مما يجوز إثباتها بالبينة، لأن المشرع لم يجيز الإثبات بها متى كان يجب الإثبات بالكتابة.
ثانياً- إجراءات الشهادة:
يتم الإثبات بالشهادة وفقاً للإجراءات الآتية:
1- طلب الإثبات بالشهادة:
تبدأ إجراءات الإثبات بالشهادة بأحد أمرين:
أ – طلب الخصم: يتقدم الخصم بطلب إلى المحكمة يتضمن بيان الوقائع المطلوب إثباتها بالشهادة وأسماء الشهود ومحال إقامتهم. وللمحكمة سلطة تقديرية واسعة في قبول أو رفض هذا الطلب في ظروف الدعوى المنظورة أمامها.
ب– أمر المحكمة: للمحكمة ولو لم يطلب منها أن تأمر بالإثبات بالشهادة في الأحوال التي يجوز فيها ذلك
2- إحضار الشاهد:
متى قبلت المحكمة الإثبات بالبينة أو أمرت به، فإن عبء إحضار الشاهد يقع على عاتق الخصم الذي يستشهد به؛ فعليه إحضاره في الزمان والمكان المحددين لعقد جلسة التحقيق وسماع الشهادة أو تكليفه بالحضور بموجب إعلانه بذلك قبل ميعاد الجلسة. فإذا لم يقم الخصم بإحضار الشاهد أو لم يكلفه بالحضور إلى الجلسة المحددة للاستماع إليه، قررت المحكمة إحضاره أو تكليفه بالحضور لجلسة أخرى، ما لم تكن المدة التي حددت لإجراء التحقيق قد انقضت .
3- سماع الشهود:
تستمع المحكمة أو القاضي المنتدب لشهادة الشاهد القادر على الكلام، فإذا لم يكن قادراً على ذلك يقبل منه أن يبين مراده بالكتابة أو بالإشارة في حضور الخصوم؛ وعلى الشاهد أن يذكر اسمه ولقبه ومهنته وسنه وموطنه ودرجة قرابته (بالنسب أو المصاهرة) لأحد الخصوم
، وأن يحلف يميناً –وفقاً لديانته- على أنه يقول كل الحق ولا شيء غيره ؛ ثم يؤدي كل شاهد شهادته على إنفراد بعيداً عن الباقين ، وتوجه الأسئلة من المحكمة أو القاضي المنتدب ويجيب أولاً عن أسئلة الخصم الذي يستشهد به ثم الخصم الأخر
دون أن يقاطعه أحد من الخصوم ، ويتم إثبات الإجابة في محضر يوقع عليه الشاهد بعد أن تتلى عليه أقواله
ثالثاً- الدعوى الأصلية بالشهادة:
الأصل أن طلب سماع شاهد يكون في صورة طلب عارض خلال نظر موضوع الدعوى؛ إلا أن المشرع أجاز للشخص، الذي يخشى فوات فرصة الاستماع للشاهد في موضوع لم يعرض على القضاء ويحتمل عرضه فيما بعد، أن يطلب في مواجهة ذوي الشأن سماع هذا الشاهد من خلال دعوى أصلية.
ويقدم طلب سماع الشاهد بالطرق المعتادة لرفع الدعاوى إلى قاضي الأمور المستعجلة، ويتحمل الطالب كافة المصروفات؛ وإذا توفرت الضرورة يحكم القاضي بسماع الشاهد متى كانت الواقعة محل الشهادة مما يجوز إثباتها بالبينة.
رابعاً- سلطة القاضي في تقدير الشهادة:
أن للقاضي سلطة واسعة في تقدير قيمة البينة كأداة للإثبات، فهو ينظر أولاً فيما إذا كان الإثبات بشهادة الشهود أمراً مقبولاً أم لا؟، ثم ينظر بعد ذلك فيما إذا كانت الواقعة محل الإثبات متعلقة بالحق المدعى به ومنتجة في الدعوى أم لا؟ إثبات ، كما أنه يقدر الشهادة التي سمعها ما إذا كانت مقنعة في الإثبات أم لا؟. وفي جميع الأحوال لا يتقيد القاضي بعدد الشهود ولا بصفاتهم الشخصية فتقدير أقوال الشهود يدخل في سلطة قاضي الموضوع المطلقة، والمرجع في مدى اطمئنانه إلى أقوالهم هو وجدانه. ولذلك لا يلتزم القاضي ببيان سبب ترجيحه شهادة شاهد على أخرى ومن حقه أن يطرح ما لا يطمئن إليه من هذه الأقوال
المطلب الثاني شروط الشاهد
لا شك في أن الشاهد يدلى بشهادته في الواقعة محل الإثبات، مما قد يترتب عليها إثبات أو نفي حق لغيره على آخر، ولذلك يجب أن تتوفر فيه الشروط التالية:
الشرط الأول – أهلية الشهادة:
عرفنا أن الشهادة إخبار بما هو معلوم في ساحة القضاء وأنه يترتب على الأخذ بها إثبات حق للغير قبل آخر. ولذلك يجب أن تتوفر أهلية الشهادة في الشخص الذي يدلى بها، وهذه الأهلية تختلف عن الأهلية اللازمة لمباشرة التصرفات القانونية، لأنها لا تعد كذلك، ومن ثم فإن القانون لم يشترط في الشاهد بلوغ سن الرشد المدني بل اشترط فيه بلوغ سن (15) سنة من عمره؛ أما الصبي الذي لم يبلغ هذا السن فيمكن للمحكمة أن تسمع أقواله بدون يمين، ليس على أساس أنها بينة، إنما على أساس الاسترشاد بها لتعزيز دليل آخر مقدم إليها . والعبرة بسن الشاهد في وقت الإدلاء بشهادته لا بوقت حصول الواقعة محل الإثبات بالبينة ، شريطة أن يكون مميزاً، على الأقل، في وقت حصول هذه الواقعة.
ويشترط أن لا يكون الشاهد فاقداً للتمييز، ولو بسبب آخر غير الصغر، كالهرم أو المرض أو حداثة السن (أقل من سبع سنوات)مدني ففاقد التمييز لا يستمع لأقواله لا على سبيل البينة ولا على سبيل الاسترشاد (الاستدلال)
الشرط الثاني – أن يكون الشاهد أجنبياً:
يجب أن يكون الشاهد أجنبياً، أي أنه ليس هو المدعي (المشهود له) ولا المدعى عليه (المشهود عليه)، وليس له حقاً أو مصلحة في الواقعة المشهود بها التي محل أخباره، لأنه شاهداً وليس مدعياً بحق له عند آخر ولا مقراً بحق لغيره عليه.
يستخدم بعض الفقهاء مصطلح “الغير” بأن يشترط أن يكون الشاهد من الغير؛ غير أن هذا الاستعمال غير موفق؛ لأن هذا المصطلح يوحي بأن للشاهد مصلحة في الواقعة المشهود بها، في حين أنه لا يجب أن يكون له مثل ذلك، أي أن يكون منبت الصلة به بالكلية؛ وبناء على ذلك آثرنا أن نستعمل مصطلح “الأجنبي” لأنه أكثر دلالة المراد من مصطلح الغير.
الشرط الثالث – ألا يكون الشاهد خاضعاً لتنفيذ عقوبة جناية:
يلزم، فوق توفر أهلية الشهادة، أن لا يكون الشاهد محكوماً عليه بعقوبة جناية، لأن القانون الجنائي ينص على حرمـان المحكوم عليه من الشهادة أمام المحاكم خلال فترة تنفيذ هذه العقوبة إلا على سبيل الاستدلال
الشرط الرابع – انعدام المانع القانوني من الشهادة:
لا يكفي أن يكون الشخص أهلاً للشهادة غير محكوم عليه بعقوبة جناية لاعتباره شاهداً، بل يجب أن ينعدم المانع القانوني من الشهادة. حيث إن القانون قرر عدم جواز قيام بعض الفئات بالشهادة بما وصل لعلمهم بسبب العمل أو المهنة أو الزوجية.
1- الوظيفة العامة وما في حكمها :
لا يجوز للموظف العام أو من يقوم مقامه، ولو بعد تركه العمل، الإدلاء بما وصل لعلمه من معلومات تمت بصلة لعمله؛ إلا إذا كانت هذه المعلومات قد تم نشرها بالطريق القانوني أو أذنت السلطة المختصة في إذاعتها
والحكمة من تقرير هذا المانع هو تأكيداً على واجب عدم إفشاء أسرار العمل، ولاسيما لو كانت متعلقة بمرفق عام، وذلك للمحافظة على المصلحة العامة. وإذا كانت الشهادة تحقق مصلحة خاصة من خلال إثبات حق مالي؛ إلا أن القاعدة تقضي بتقديم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة.
2- المهن الحرة وما في حكمهما:
لا يجوز للمحامين أو الوكلاء أو الأطباء أو غيرهم الإدلاء بما وصل لعلمهم بسبب المهنة أو الصنعة، ولو بعد انتهاء العلاقة القانونية بينهم، ما لم يكن متعلق بجناية أو جنحة. ومع ذلك يجوز لهؤلاء أداء الشهادة بالمعلومات التي حصل عليها بسبب مهنته متى طلب منه الشخص الذي تخصه هذه المعلومات. وإذا تعدد الأشخاص الذين أسروا بالمعلومات يجب الحصول على موافقتهم جميعاً حتى يجوز للشخص الذي اطلع على هذه المعلومات الإدلاء بها .
والحكمة من تقرير هذا المانع هو تأكيداً على واجب عدم إفشاء أسرار المهنة؛ وفي ذلك تحقيقاً لمصلحة خاصة راجحة على مصلحة مرجوحة، فالالتزام بعدم الإفشاء أولى بالرعاية من الالتزام بالإدلاء بالشهادة، لأن الأولى فيها محافظة على الخصوصية، أما الأخرى ففيها صيانة لحق مالي.
3- العلاقة الزوجية ولو بعد فصمها:
لا يجوز لأحد الزوجين أن يفشى بغير رضاء الزوج الآخر ما أبلغه إليه أثناء علاقة الزوجية ولو بعد انفصامها، إلا في حالة رفع أحدهما دعوى على الآخر، سواء أكانت دعوى عادية أم كانت جنائية وقعت عليه من الأخر . أما إذا كانت الواقعة التي أسّر بها الزوج لزوجه لا تمت بصلة بالدعوى التي رفعها أحدهما على الآخر فلا يجوز الإدلاء بها مطلقاً لا خلال قيام العلاقة الزوجية ولا بعد انقضائها.
والحكمة من تقرير هذا المانع هو المحافظة على الأسرار التي تصل إلى علم أحد الزوجين عن زوجه، حتى ولو بعد انفصام العلاقة بينهما؛ لأن الحياة الزوجية تسمح بأن يأتمن أحدهما على سر الآخر؛ فإذا تعارض التزامان، الالتزام بالمحافظة على الأسرار مع التزامه بالإدلاء بما وصل لعلمه لإثبات حق مالي، التزم بالأول الذي يحمي مصلحة راجحة وأعفيا من الثاني الذي يحقق مصلحة مرجوحة.
القرابة ليست سبباً لرد الشاهد:
نعلم أن شهادة الشهود حجة مقنعة للقاضي وليست ملزمة له، حيث إن القانون أعطاه سلطة واسعة في تقديرها فله قبولها متى اطمئن إليها وله – كذلك – رفضها إذا لم يقتنع بها. ولذلك لم ير المشرع مبرراً لحرمان الشخص من الإدلاء بشهادة استناداً إلى رابطة القرابة أو المصاهرة التي تربط الشاهد بأحد الخصوم، طالما أن البينة تخضع أولاً وأخيراً لتقدير القاضي. وبناء على ذلك فإنه يجوز للشخص الذي تربطه بأحد الخصوم رابطة قرابة، أياً كانت درجتها، أو مصاهرة، الإدلاء بشهادته، متى كان تتوافر فيه شروط الشاهد الأهلية وعدم الحكم عليه بعقوبة جناية وانعدام المانع.
المبحث الرابع نطاق الإثبات بالبينة
لا غرو أن يكون للكتابة، كأداة إثبات، مكان الصدارة بالنسبة لسائر طرق الإثبات الأخرى، لما لها من خصائص تؤهلها لاعتلاء هذه المكانة. ولذلك استلزم المشرع الإثبات بالكتابة متى كانت طبيعة الواقعة تسمح بتقديم دليل كتابي لإثباتها وانعدم المانع من الحصول عليه أما إذا كانت طبيعتها لا تخول ذلك أو وجد مثل هذا المانع فإنه يمكن الإثبات بأحد طرق الإثبات الأخرى بما فيها البينة.
ويتحدد نطاق الإثبات بالبينة في الحالات الآتية:
– الوقائع المادية.
– التصرفات القانونية التجارية.
أولاً – الوقائع المادية:
عرفنا أن الوقائع القانونية تتغاير تبعاً لما يعتد به المشرع في إنشاء الالتزام، فإذا اعتد بدور للإرادة في ذلك كان مصدر الالتزام هو التصرف القانوني (العقد والإرادة المنفردة)، أما إذا لم يعتد لها بهذا الدور كان مصدر الالتزام هو الواقعة المادية (الفعل الضار والفعل النافع ووضع اليد … الخ).
فإذا كانت الواقعة محل الإثبات تعد من قبيل الوقائع المادية، فإنه يجوز إقامة الدليل عليها بكافة طرق الإثبات بما في ذلك البينة والقرائن. فليس من الضروري إثبات مثل هذه الوقائع بالكتابة، لأن طبيعتها لا تتفق مع إمكانية إعداد الدليل مقدماً لإثبات ما ينشأ عنها من حقوق. فمثلاً المضرور الذي يطالب بالتعويض عن الضرر الذي لحقه بسبب الفعل الضار، فمسئولية فاعل الضرر أو من يسأل عنه تعد من قبيل الوقائع المادية التي يجوز إثبات أركانها بكافة طرق الإثبات بما فيها الشهادة. وكذلك الأمر بالنسبة للشخص الذي قام بفعل نافع لآخر، فإنه يستطيع إثبات ذلك بالبينة، لأن هذا الفعل يعد من قبيل الوقائع المادية التي لا يمكن مطالبة المدعى بدليل كتابي على ما قام به من فعل نافع لغيره .
ويعد من قبيل الوقائع المادية، التي يجوز إثباتها بكافة طرق الإثبات بما فيها البينة، الحوادث الناجمة عن الطبيعة، كالفيضان والزلازل، والميلاد والوفاة ، ووضع اليد على الشيء بقصد تملكه بالتقادم.
بيد أنه يجب ملاحظـة أن العبرة، في تحديد طريقة الإثبات، بالواقعة محل الإثبات لا بمصدر الحق المطلوب في الدعوى، فقد يكون إثبات المصدر يجب أن يكون بالكتابة، بينما يجوز أن إثبات الواقعة بكافة طرق الإثبات بما فيها البينة والقرائن، فمثلاً العقد، باعتباره تصرفاً قانونياً، لا يجوز إثباته إلا بالكتابة متى كانت القيمة تجاوز بمائتي دينار، في حين أنه يجوز إثبات الإخلال بأحد التزاماته بكافة طرق الإثبات. وكذلك يجوز إثبات الإجازة الضمنية، للعقد القابل للإبطال، بالبينة.
وإن كان لا يجوز لأطراف التصرف القانوني إثباته إلا بالكتابة متى توافرت شروطه، إلا أنه في ذات الوقت يجوز للغير، الذي ليس طرفاً فيه، إثبات هذا التصرف بكل الطرق بما فيها البينة والقرائن، لأنه وإن كان يعد تصرفاً قانونياً بين أطرافه فهو بالنسبة للغير يعد واقعة مادية.
ثانياً – التصرفات التجارية:
– تعد المعاملات التجارية من قبيل التصرفات القانونية لما للإرادة من دور في إنشائها، كالشراء بقصد البيع أو التأجير وعمليات الصرف والمقاولة والسمسرة وأعمال البنوك … الخ تجاري ، ومع ذلك فإن يجوز إثباتها بالبينة أيا كانت قيمة العمل التجاري. والسبب في عدم استلزام الدليل الكتابي لإثبات العمليات التجارية هو ما تقتضيه طبيعة هذه العمليات من السرعة، وما تتطلبه من التيسير والبساطة، كما أن المحافظة على السمعة التجارية تدفع التاجر إلى عدم إنكار الحق، ولذلك كله لم يتطلب المشرع فيها الدليل الكتابي للإثبات –كقاعدة عامة- بل اقتصر على الإثبات بشهادة الشهود، إلا إذا تطلب القانون صراحة تتطلب الكتابة كالتصرف في المحل التجاري والأوراق التجارية وعقود الشركات … إلخ.
والجدير بالذكر أن عدم تطلب الدليل الكتابي لا يعني عدم حجيته إذا وجد، بل يقصد به أن القانون لا يلزم التاجر بتقديمه لإثبات عملياته التجارية إنما يقبل منه الإثبات بالبينة.
ولقد كان الشريعة الإسلامية لها فضل السبق في استثناء الأعمال التجارية من شرط استلزام الكتابة للإثبات، نظراً لحاجة هذا النوع من النشاط الإنساني للتيسير في ذلك .
بيد أنه يجب ملاحظة أن صفة التجارية للتصرف هي وحدها الفيصل في تحديد قاعدة الإثبات التي تنطبق عليه، سواء أكان الذي أجراه تاجراً أم كان غير تاجر، المهم أن يتصف هذا التصرف بالعمل التجاري أي أن يكون القيام به بقصد المضاربة. أما إذا لم ينعت التصرف بالعمل التجاري أي أنه لا يدخل في مفهوم المواد التجارية، فإنه يخضع للقواعد العام للإثبات.
غير أنه قد تختلف طرق الإثبات إذا كان التصرف يعد بالنسبة لأحد طرفيه عملاً تجارياً وبالنسبة للطرف الآخر عملاً مدنياً، فإذا كان التاجر أو من في حكمه مدعياً فلا يستطيع إثبات دعواه في مواجهة غير التاجر إلا طبقاً للقواعد العامة للإثبات في المسائل المدنية، بمعنى أنه إذا كان الحق المدعى به على غير التاجر تزيد قيمته على بمائتي دينار، فلا يجوز للتاجر إثباته إلا بالكتابة، أما إذا كان المدعي ليس تاجراً فإنه يستطيع أن يثبت دعواه في مواجهة التاجر أو من في حكمه به بكافة طرق الإثبات بما فيها البينة .
لما كانت المسائل التجارية لا تخضع – كقاعدة عامة – لقاعدة وجوب الإثبات بالكتابة، إنما يجوز فيها الإثبات بالبينة بصفة مطلقة، فإن البينة، سواء أكانت في مجال إثبات المسائل المدنية أم كانت في نطاق إثبات المعاملات التجارية، تخضع في تقدير قيمتها لسلطة قاضي الموضوع وهو في منأى عن رقابة محكمة النقض، حيث يجوز له رفض طلب الإثبات بالشهادة متى وجد في الدعوى ما يكفي لتكوين قناعته. ويضيف الفقه إلى ذلك مسألة التصرفات كبيرة القيمة أو التي جرت عادة التجار على إثباتها بالكتابة، ففي مثل ذلك يجوز للمحكمة أن ترفض الإثبات بالبينة وأن كان يكتفي في أغلب الأحوال بمبدأ الثبوت بالكتابة .
قد يستلزم القانون التجاري الكتابة للإثبات في بعض التصرفات التجارية، كالأوراق التجارية التي لا يجوز إثباتها إلا بالكتابة؛ وقد يستلزمها كركن شكلياً لانعقادها، كعقد الشركة التجارية ، وبيع ورهن السفينة وتأجيرها، ففي مثل ذلك يبطل نعت التصرف بهذه الصفة، إلا إذا أمكن إعمال نظرية تحول العقد بأن يعطى هذا التصرف وصفاً قانونياً آخر غير الوصف الذي بطل بسبب تخلف الكتابة باعتبارها ركناَ شكلياً.
وقاعدة جواز الإثبات بالبينة في المواد التجارية ليست متعلقة بالنظام العام، ولذلك يجوز للأطراف الاتفاق على ضرورة الإثبات بالكتابة فيما كان يجوز إثباته بالبينة.
خاتمة
القاعدة البينة على من ادعى واليمين على من أنكر مأخوذ من هذا الحديث وغيره
-لو ترك الأمر هكذا لقال من لايراقب الله ولا يخشى عقابه لى حق عند فلان وهو برئ فيأخذ ماله وربما تكون القضية في دماء فتهدر دماء بريئة لذا شرع النبي للمدعى أن يأتي بالبينة على صدق دعواه فإن لم يستطع فعلى المدعى عليه أن يحلف.
-البينة هي (شهادة شهود – قرائن الأحوال – وصف دقيق).
-ليحذر الحالف فتلك إن كان كاذبا يمين غموس فتغمس صاحبها في النار.