دراسات قانونية
بحث ودراسة قانونية حول النطاق الزمني لتنفيذ الحكم بعدم الدستورية
النطاق الزمني لتنفيذ الحكم بعدم الدستورية في قضاء المحكمة الدستورية العليا في مصر :
يثار التساؤل حول التاريخ الذي يبدأ منه إعمال أثر الحكم الصادر من المحكمة الدستورية العليا بعدم دستورية قانون أو لائحة . وقد مر تحديد هذا التاريخ بمرحلتين نبسطهما على الوجه التالي:
الفرع الأول: النطاق الزمني لتنفيذ الحكم بعدم الدستورية في ضوء المادة (49) من قانون المحكمة الدستورية العليا قبل تعديلها .
تنص المادة (178) من الدستور المصري النافذ الصادر سنة 1971 على ان “تنشر في الجريدة الرسمية الأحكام الصادرة من المحكمة الدستورية العليا في الدعاوى الدستورية ، والقرارات الصادرة بتفسير النصوص التشريعية ، وينظم القانون ما يترتب على الحكم بعدم دستورية نص تشريعي من اثار “. وبهذا النص يكون المشرع الدستوري المصري قد فوض المشرع العادي في تحديد الآثار التي تترتب على الحكم بعدم دستورية نص تشريعي. وإعمالاً لهذا التفويض ، نصت المادة (49) من قانون المحكمة الدستورية العليا رقم 48 لسنة 1979 على ما يترتب على الحكم بعدم دستورية نص تشريعي من آثار، إذ قضت الفقرتان الثالثة والرابعة من المادة (49) من قانون المحكمة على أن”.. ويترتب على الحكم بعدم دستورية نص في قانون او لائحة عدم جواز تطبيقه من اليوم التالي لنشر الحكم . فإذا كان الحكم بعدم الدستورية متعلقا بنص جنائي تعتبر الاحكام بالإدانة استناداً إلى ذلك النص كأن لم تكن . ويقوم رئيس هيئة المفوضين بتبليغ النائب العام بالحكم فور النطق به لاجراء مقتضاه”. ظاهر النص يعني أن الحكم الصادر بعدم الدستورية في غير المجال الجنائي لا يسري سوى باثر مباشر أي ان النص المقضي بعدم دستوريته يظل صحيحاً ومنتجاً لآثاره كافة من تاريخ صدوره وحتى اليوم التالي لنشر الحكم بعدم دستوريته ، ومما قد يوحي بصدق هذا المعنى أن المشرع وبعد أن أقر وفقاً للظاهر مبدأ الأثر المباشر عاد واستثنى الأحكام المتعلقة بنصوص جنائية وجعلها تنطبق صراحة بأثر رجعي (1). وهذا المعنى هو ما أيده تقرير اللجنة التشريعية لمشروع قانون المحكمة الدستورية العليا حيث ذهب تعليقاً على هذا النص “ومقتضى ذلك أن بطلان النص المخالف للدستور يتم من هذا التاريخ – التاريخ اللاحق للحكم- وليس في ذلك أية مخالفة أو تعارض مع نص الدستور حيث ترك المشرع الدستوري أمر تحديد آثار الحكم بعدم الدستورية للمشرع العادي دون تقييده بقاعدة ما في هذا الصدد.. ومع ذلك فانه استثناء من القاعدة العامة التي أخذ بها المشرع بشأن الأثر المباشر للحكم بعدم الدستورية قرر بالنسبة للنصوص الجنائية أن يبطل العمل بالنص الجنائي – سواء كان عقابياً أو متعلقاً بالاجراءات – من التاريخ آنف الذكر على ان تعتبر الأحكام الصادرة بالإدانة استناداً إلى النص الباطل دستورياً كأن لم تكن” (2). في حين جاءت المذكرة الايضاحية بعبارات تؤكد عكس هذا المعنى إذ ذهبت في إيضاحها لهذا النص إلى أنه “وتناول القانون الحكم بعدم دستورية نص في قانون أو لائحة فنص على عدم جواز تطبيقه من اليوم التالي لنشر الحكم وهو نص ورد في بعض القوانين المقارنة واستقر الفقه والقضاء على أن مؤداه هو عدم تطبيق النص ليس في المستقبل فحسب وإنما بالنسبة إلى الوقائع أو العلاقات السابقة على صدور الحكم بعدم دستورية النص على أن تستثنى من هذا الأثر الرجعي الحقوق والمراكز التي تكون قد استقرت عند صدوره بحكم حاز قوة الأمر المقضي أو بانقضاء مدة التقادم . اما إذا كان الحكم بعدم الدستورية متعلقاً بنص جنائي فإن جميع الأحكام التي صدرت بالإدانة استناداً إلى ذلك النص تعتبر كأن لم تكن حتى ولو كانت باتة ” (3). ويتضح من عبارات المذكرة الايضاحية انها تقرر الأثر الرجعي للحكم الصادر بعدم الدستورية ، بينما يوحي نص الفقرة الثالثة من المادة (49) من قانون المحكمة الدستورية العليا بأن للحكم الصادر بعدم الدستورية أثراً فورياً يقتصر على المستقبل فحسب . وإزاء هذا التعارض الواضح بين ما ورد بنص القانون وما ورد بالمذكرة الايضاحية ، فقد أثير التساؤل عما إذا كان الحكم الصادر بعدم الدستورية له طبيعة كاشفة وبالتالي يطبق بأثر رجعي ؟ أم ان له طبيعة منشئة وبالتالي يسري بأثر فوري وينفذ بالنسبة للمستقبل فقط ؟ والإجابة على هذا التساؤل المهم يقتضي عرض موقف الفقه الدستوري في مصر ، وموقف المحكمة الدستورية العليا في هذا الشأن على التفصيل الآتي:-
أولاً: موقف الفقه الدستوري في مصر .
انقسم الفقه الدستوري في مصر في شأن تحديد النطاق الزمني لتنفيذ الحكم الصادر من المحكمة الدستورية العليا بعدم دستورية قانون أو لائحة إلى فريقين نادى أولهما بالأثر المباشر للحكم بعدم الدستورية ، بينما تمسك ثانيهما بالأثر الرجعي للحكم بعدم الدستورية. وذلك على النحو الآتي:
الاتجاه الأول: الأثر الفوري المباشر للحكم الصادر بعدم الدستورية .
يذهب أنصار هذا الاتجاه (4) إلى أن الحكم بعدم الدستورية يعد منشئاً لحالة عدم الدستورية وليس كاشفاً عنها ، ومن ثم ، فان هذا الحكم يسري بأثر مباشر وفوري من اليوم التالي لنشره، ولا يسري بأثر رجعي ، أي لا ينطبق على الوقائع والعلاقات السابقة على صدوره إلا اذا كان الحكم بعدم الدستورية متعلقاً بنص جنائي . ويستدل انصار هذا الاتجاه على صحة ما ذهبوا إليه بعدة حجج (5) هي كالآتي:-
1-صريح نص الفقرة الثالثة من المادة (49) من قانون المحكمة الدستورية العليا ، فالقاعدة الأصولية في التفسير تقول إنه لا اجتهاد مع النص، فوضوح النص في عباراته ودلالة ألفاظه يغني عن الرجوع إلى المذكرة الايضاحية. ونص المادة (49) واضح وهو يفرق في الحكم بين النصوص الجنائية من ناحية حيث يجعل للحكم فيها أثراً رجعياً ، والنصوص غير الجنائية حيث يجعل للحكم فيها أثراً مباشراً ، وإذا كان المشرع يريد إقرار الأثر الرجعي للحكم في غير المواد الجنائية لاكتفى بعبارة يترتب على الحكم بعدم دستورية نص في قانون أو لائحة عدم جواز تطبيقه من دون أن يحدد لترتيب هذا الأثر تاريخا معينا هو تاريخ النشر.
2-من المسلمات والبديهيات أن يكون المرجع في فهم نصوص القانون ليس المذكرة الإيضاحية الأولى التي صاحبت المشروع وهو يأتي من الحكومة ، وإنما تقرير اللجنة التشريعية التي ضمنت التصور النهائي لمشروع القانون كما رأته اللجنة التشريعية والمجلس التشريعي الذي أقر هذا المشروع ، وتقرير اللجنة التشريعية كان واضحاً وصريحاً حيث ذهب في تحديد المقصود من هذه المادة صراحة الى أن ” مقتضى ذلك أن بطلان النص المخالف للدستور يتم من هذا التاريخ اللاحق للحكم وليس في ذلك أية مخالفة أو تعارض مع نص الدستور حيث ترك المشرع الدستوري أمر تحديد آثار الحكم بعدم الدستورية للمشرع العادي دون تقييده بقاعدة ما في هذا الصدد ” ، وما دام المشرع الدستوري جعلها للقانون وما دام القانون قد حسمها بنص صريح لا غموض فيه فإنه لا يجدي البحث بعد ذلك عما إذا كان أثر الحكم كاشفاً أم منشئاً فمجال ذلك البحث يكون عندما يسكت المشرع الدستوري ويترك الأمر لمحض تقدير المحكمة ورأيها الخاص بها.
3- إن تطبيق الأثر الرجعي للحكم بعدم الدستورية يهدد الاستقرار القانوني ويعصف بالمراكز القانونية المستقرة منذ وقت طويل.
الاتجاه الثاني : الأثر الرجعي للحكم الصادر بعدم الدستورية .
يذهب الاتجاه الغالب في الفقه الدستوري المصري (6) إلى أن الأصل في الأحكام القضائية انها كاشفة وليست منشئة ، وأن الحكم الصادر بعدم الدستورية – ككل الأحكام القضائية – يعد ذا طبيعة كاشفة ، فهو يكشف عن العوار الدستوري الذي يلازم النص التشريعي منذ صدوره ولا ينشئه ، الأمر الذي يستتبع أن يكون للحكم بعدم الدستورية أثر رجعي كنتيجة حتمية لطبيعته الكاشفة، ومن ثم ، فإن الحكم بعدم الدستورية لا يقتصر إعماله على المستقبل فحسب ، وإنما ينسحب بأثر رجعي ، ليعمل حكم الدستور في شأن الوقائع التي نشأت في ظل التشريع المحكوم بعدم دستوريته، وترتبت بمقتضاه آثار قانونية بالنسبة لها.
ويستدل أنصار هذا الاتجاه على صحة ما ذهبوا اليه بعدة حجج (7) هي كالأتي:-
1-إن عبارات المذكرة الإيضاحية لقانون المحكمة الدستورية العليا قد جاءت صريحة وواضحة في شأن سريان الأحكام القضائية بعدم الدستورية بأثر رجعي . إذ جاء فيها أن القانون ” تناول أثر الحكم بعدم دستورية نص في قانون أو لائحة ، فنص على عدم جواز تطبيقه من اليوم التالي لنشر الحكم، وهو نص ورد في بعض القوانين المقارنة واستقر الفقه والقضاء على أن مؤداه هو عدم تطبيق النص ليس في المستقبل فحسب وإنما بالنسبة إلى الوقائع او العلاقات السابقة على صدور الحكم بعدم دستورية النص”.
2-إن نص المادة (49) من قانون المحكمة الدستورية العليا – على خلاف تقدير أنصار الأثر الفوري للحكم بعدم الدستورية – يفضي إلى تأكيد الأثر الرجعي لهذا الحكم. وتفسير ذلك أن ما ورد بتلك المادة من “عدم جواز تطبيق النص المقضي بعدم دستوريته من اليوم التالي لنشر الحكم بعدم الدستورية” لا يعني أن لهذا الحكم أثراً فورياً مباشراً ، وإنما هو خطاب تشريعي موجه لجميع سلطات الدولة وللكافة للعمل بمقتضاه، ولما كان قاضي الموضوع من بين المخاطبين بهذا النص التشريعي ، فإنه يكون متعيناً عليه عملاً بهذا النص إلا ينزل حكم القانون المقضي بعدم دستوريته على المنازعات المطروحة عليه من قبل ، وهذا يؤكد قصد المشرع في تقرير الأثر الرجعي للحكم بعدم الدستورية، ويؤكد انسحابه على ما سبق من علاقات وأوضاع نشأت في ظل القانون الذي قضي بعدم دستوريته. وقد أعملت المادة (49) من قانون المحكمة الدستورية العليا هذه الرجعية على إطلاقها بالنسبة للنصوص الجنائية.
3-ان الأثر الرجعي للحكم بعدم الدستورية أمر يفرضه المنطق القانوني. فالمشرع حين أجاز في المادة (49) من قانون المحكمة إثارة المسالة الدستورية اثناء نظر إحدى الدعاوى امام أي من جهات القضاء من تلقاء نفسها أو بطريقة الدفع من أحد الخصوم وأوجب على الجهة القضائية – عند الشك في عدم الدستورية – وقف الدعوى أو تأجيلها وانتظار الحكم الصادر من المحكمة الدستورية العليا بالفصل في المسألة المثارة ، إنما كان يبغي بذلك تحقيق فائدة للخصم في المنازعات الموضوعية التي أثير فيها الدفع الدستوري فيما لو قضى بعدم الدستورية ، وهي منازعات تدور كلها – بطبيعة الحال – حول علاقات وأوضاع سابقة بالضرورة على الحكم بعدم الدستورية، فإذا لم يكن لهذا الحكم أثر رجعي لأصبح لزاماً على قاضي الموضوع الذي أرجأ تطبيق القانون حين ساوره الشك في عدم دستوريته ، أن يطبق ذات القانون بعد القضاء بعدم دستوريته مما يأباه المنطق القانوني السليم ويتنافى مع الغرض المرتجى من الدفع بعدم الدستورية ، ولا يحقق لمبدي الدفع أية فائدة عملية.
4-ينبغي تفسير نص المادة (49) من قانون المحكمة الدستورية العليا في إطار مصدرها التاريخي وهو حسبما يتبين من الأعمال التحضيرية للقانون – نص المادة (30) من قانون المحكمة الدستورية الايطالية رقم 87 لسنة 1953 – . ولقد انتهى الفقه والقضاء الإيطاليان على ضوء تفسيرهما لأحكام الدستور وقانون المحكمة الدستورية الإيطالية إلى أن النص الذي يقضى بعدم دستوريته لا يطبق من اليوم التالي لنشر الحكم ، لا بالنسبة للمستقبل فحسب ، وإنما بالنسبة للوقائع والعلاقات السابقة فلا يطبق عليها ايضاً .
5-اما القول بأن تطبيق الأثر الرجعي للحكم بعدم الدستورية يهدد الاستقرار القانوني ويعصف بالمراكز القانونية المستقرة منذ وقت طويل ، فهو قول مردود ذلك لان المادة (49) من قانون المحكمة قد أخرجت الحقوق المكتسبة والمراكز القانونية التي استقرت بأحكام قضائية نهائية أو بالتقادم من نطاق الأثر الرجعي للحكم بعدم الدستورية وهو ما استقر عليه القضاء والفقه.
ونحن من جانبنا نؤيد هذا الاتجاه الفقهي الذي يتمسك بالأثر الرجعي للأحكام الصادرة من المحكمة الدستورية العليا بعدم الدستورية في ضوء المادة (49) من قانون المحكمة قبل تعديلها، وذلك لمنطقيته ومتانة الحجج التي يستند إليها ، والتي يمكن دعمها بحجتين إضافيتين:
أولهما: الطبيعة العينية للدعوى الدستورية ، إذ توجه الخصومة فيها إلى النصوص التشريعية المطعون عليها ، وبالتالي ، فإذا ما قضت المحكمة الدستورية العليا بعدم دستورية نص تشريعي ، فمعنى ذلك أن هذا النص قد ولد مخالفاً للدستور منذ صدوره وليس من لحظة صدور الحكم ، وهذا الأمر يستتبع تطبيق الحكم بأثر رجعي ، إذ لا يتصور أن يكون النص التشريعي دستورياً في الفترة السابقة على صدور الحكم وغير دستوري من لحظة صدوره ، فتلك نتيجة شاذة تجعل من الرقابة الدستورية لغواً وعبثاً، إذ من شأن مسايرة القول بالأثر الفوري تحصين التطبيقات السابقة على حكم المحكمة الدستورية العليا وبقائها محكومة بقانون غير دستوري ، وذلك يناقض الطبيعة العينية للدعوى الدستورية لأن النص التشريعي المطعون عليه إما أن يكون دستورياً ، وإما الا يكون كذلك بالنسبة للماضي والمستقبل على السواء (8).
وثانيهما: ان الأثر الرجعي للحكم بعدم الدستورية أمر يفرضه مبدأ المساواة بين المواطنين امام القانون، إذ لا يجوز التمييز بين من تتساوى مراكزهم القانونية، وإذا كان المشرع يخاطب الكافة من خلال ما يسنه من تشريعات تحكم علاقاتهم وتنظم معاملاتهم وذلك لعمومية القاعدة القانونية ، فيجب أن يتساوى المواطنون كافة في شأن تطبيق أثر الحكم بعدم الدستورية ، فلا يكون أثره مقصوراً على المستقبل فحسب ، بل يمتد إلى الماضي ، أي إلى تاريخ العمل بذلك التشريع غير الدستوري ، والقول بغير ذلك مؤداه أن يفيد بعض المواطنين من الحكم بعدم الدستورية دون سواهم ، الأمر الذي ينطوي على تمييز بين المواطنين لا يستند إلى مبررات عملية (9).
– ضوابط إعمال الأثر الرجعي للحكم الصادر بعدم الدستورية في ضوء المادة (49) من قانون المحكمة الدستورية العليا.
إذا كان مبدأ رجعية الأحكام الصادرة بعدم الدستورية يتفق وطبيعة الأحكام باعتبارها كاشفة وليست منشئة للعوار الدستوري الذي يصيب النص التشريعي منذ صدوره، إلا أن هذا المبدأ لا يعمل به على إطلاقه ، وإنما للأثر الرجعي عدة ضوابط يجب مراعاتها، وهذه الضوابط تختلف بحسب ما إذا كان الحكم الصادر بصدد نص جنائي عنها في النص غير الجنائي، على النحو الآتي:-
أ. بالنسبة للنصوص الجنائية .
إذا صدر حكم من المحكمة الدستورية العليا بعدم دستورية نص جنائي فان مبدأ الرجعية يطبق في هذه الحالة على إطلاقه من دون أية ضوابط أو قيود ، فقد ورد في نص المادة 49 على أنه ” فاذا كان الحكم بعدم الدستورية متعلقاً بنص جنائي، تعتبر الأحكام التي صدرت بالإدانة استناداً إلى ذلك كأن لم تكن ، حتى ولو كانت أحكاماً باتة “. فالأثر الرجعي هنا يطبق بصورة مطلقة ، حتى ولو كانت الأحكام الصادرة بالإدانة أحكاما باتة ، وذلك لان الأحكام الجنائية تمس الحرية الشخصية للفرد ، فإذا ما اتضح ان النص الذي طبق عليه كان غير دستوري ، فالعدالة تقتضي أن تغلب جانب الحرية على جانب حجية الأحكام الجنائية (10).
ب. بالنسبة لغير المواد الجنائية .
أوردت المذكرة الإيضاحية لقانون المحكمة في تعليقها على المادة (49) ضوابط معينة على الأثر الرجعي للحكم بعدم دستورية نص غير جنائي ، تتمثل في الحقوق والمراكز التي استقرت عند صدروه بحكم حاز قوة الأمر المقضي او بانقضاء مدة التقادم حماية للحقوق المكتسبة وتجنباً لإهدارها ، إذ ورد بها : “ويستثنى من هذا الأثر الرجعي الحقوق والمراكز التي تكون قد استقرت عند صدوره بحكم حاز قوة الأمر المقضي او بانقضاء مدة التقادم”.
تتمثل هذه القيود والضوابط في:-
1-أن يكون الحكم الصادر قبل صدور الحكم بعدم الدستورية قد حاز قوة الأمر المقضي ، فإذا ما صدر حكم بعدم الدستورية ، فإنه لا يجوز أن يمس بحجية الأحكام الباتة ، ومن هنا فان الرجعية تنحسر عن الامتداد إلى هذا المجال ، ويطبق الحكم بعدم الدستورية بأثر مباشر وليس بأثر رجعي ، اما إذا كان الحكم لم يستنفذ طرق الطعن ، فان الحكم الدستوري يطبق بأثر رجعي ، ومن ثم يجوز للخصوم ان يستندوا امام المحكمة المطعون امامها إلى الحكم الصادر من المحكمة الدستورية بعدم دستورية القانون او اللائحة المراد تطبيقه على النزاع.
2-المراكز القانونية التي تكون قد استقرت بانقضاء مدة التقادم . ففي هذه الحالة يجب الحد من فكرة الرجعية احتراماً للحقوق المكتسبة والمستقرة بمضي المدة (11).
– الوقت الذي يبدأ منه إعمال رجعية الحكم بعدم الدستورية .
أن تحديد الوقت الذي يبدأ إعمال الرجعية لا يثير صعوبة إذا ورد في الحكم الصادر بعدم الدستورية ، أما إذا أغفل الحكم هذا التحديد ، فإنه بمراعاة الحقوق والمراكز التي تكون قد استقرت عند صدوره بحكم حاز قوة الأمر المقضي او بانقضاء مدة التقادم ، فإن الرجعية ترتد إلى تاريخ صدور التشريع المقضي بعدم دستوريته إذا كان مخالفاً لأحكام الدستور الذي صدر في ظله، وكذلك اذا كان مخالفاً لها ولأحكام الدستور القائم في الوقت نفسه لكون عيب عدم الدستورية في تلك الحالات يعد عيباً أصلياً ، في حين لا يبدأ سريان الرجعية إذا كان التشريع المقضي بعدم دستوريته قد أصبح متعارضاً مع دستور جديد أو تعديل دستوري إلا من تاريخ نفاذ هذا الدستور الجديد ، أو التعديل الدستوري المستحدث ، باعتبار عيب عدم الدستورية في هذا الفرض يعد عيباً طارئاَ (12).
ثانياً: موقف المحكمة الدستورية العليا في مصر .
استقرت أحكام المحكمة الدستورية العليا على تقرير الأثر الرجعي للحكم الصادر بعدم الدستورية استناداً لطبيعته الكاشفة ، مع استثناء المراكز والحقوق التي استقرت عند صدور هذا الحكم بحكم حاز قوة الأمر المقضي أو بانقضاء مدة التقادم من هذا الأثر الرجعي ، على أن يسري الأثر الرجعي للحكم بعدم الدستورية على الأحكام الصادرة بالإدانة استناداً إلى نص جنائي غير دستوري ، بحيث تعتبر هذه الأحكام كأن لم تكن ، حتى ولو كانت أحكاماً باتة . من ذلك حكمها الصادر في 30 نوفمبر 1996 ، الذي جاء بحيثياته : “وحيث أن ما نصت عليه المادة 49 من قانون هذه المحكمة من أن النصوص القانونية المحكوم بعدم دستوريتها ، لا يجوز تطبيقها اعتباراً من نشر الأحكام الصادرة بشأنها في الجريدة الرسمية ، لايعني أن لهذه الأحكام أثراً مباشراً لا تتعداه ، وأنها بذلك لا ترتد إلى الأوضاع والعلائق السابقة عليها ، ذلك أن كل ما قصد إليه هذا القانون بنص المادة 49 المشار اليها ، لا يعدو تجريد النصوص القانونية التي قضي بعدم دستوريتها من قوة نفاذها التي صاحبتها عند إقرارها أو إصدارها ، لتفقد بالتالي خاصية الإلزام التي تتسم بها القواعد القانونية جميعها ، فلا يقوم من بعد ثمة مجال لتطبيقها. يؤيد ذلك أن الآثار التي ترتبها الأحكام الصادرة في المسائل الدستورية ، لا يمكن فصلها عن الأوضاع والعلائق السابقة عليها بعد أن مسها النص المطعون فيه مؤثراً في بنيانها . ومن ثم كان تصويبها من خلال الدعوى الدستورية لازماً لرد الاضرار التي لحقتها أو التي تتهددها ، ويقتضي ذلك بالضرورة أن يكون قضاء المحكمة الدستورية العليا بإبطال النص المطعون فيه ، منسحباً اليها ، ليعيدها إلى الحالة التي كانت عليها قبل سريان النص الباطل في شأنها. ولا مجافاة في ذلك لقواعد الرقابة القضائية على الشرعية الدستورية ولا لمقاصد الدستور، ذلك أن مباشرة هذه المحكمة لتلك الرقابة ، غايتها تقرير اتفاق النصوص القانونية المطعون عليها مع الدستور أو مجاوزتها للضوابط التي فرضها ، وتقييمها لهذه النصوص لا ينفصل عما يكون قد اعتراها من عوار عند إقراراها أو إصدارها ، فلا تكون عيوبها أمرا طارئاً عليها ، بل كامناً فيها، ولصيقاً بها منذ ميلادها ، ولا أن تكون من خلقها أو تصورها ، ولا أن تقحمها على نصوص قانونية خلت منها ، بل هي تجليها ، محددة من خلال حكمها – وعلى ضوء أحكام الدستور – القاعدة القانونية التي يجب تطبيقها في النزاع الموضوعي ، وهي بعد قاعدة ينبغي إعمالها بافتراض أن النص الباطل منعدم ابتداء لا انتهاءً ، فلا يكون قابلاً للتطبيق أصلا منذ أن نشأ معيباً.
ذلك أن إبطال هذه المحكمة للنصوص القانونية المخالفة للدستور ، يعتبر تقريراً لزوالها نافياً وجودها منذ ميلادها ، وقضاؤها بصحتها ، يؤكد استمرار نفاذها لخلوها من كل عوار يدينها. وليس مفهوماً أن تكون واقعة نشر الأحكام الصادرة بعدم دستورية بعض النصوص القانونية – في ذاتها – حداً زمنياً فاصلاً بين صحتها وبطلانها ، فلا يكون النص الباطل منعدماً إلا اعتباراً من اليوم التالي لهذا النشر . والقول بذلك مؤداه أن يكون التقاضي جهداً ضائعاً وعملاً عبثياً ، وأن للنص القانوني الواحد مجالين زمنيين ، يكون صحيحاً في أحدهما ، وباطلاً في ثانيهما ، حال أن بطلان النصوص القانونية لا يتجزأ ، ويستحيل أن ينقلب العدم وجوداً ، ولا أن يكون مداه متفاوتاً أو متدرجاً ، فالساقط لا يعود ابداً . وحيث إن قانون المحكمة الدستورية العليا – ضماناً لصون الحرية الشخصية التي كفلها الدستور واعتبارها من الحقوق الطبيعية التي لا يجوز الإخلال بها عدواناً – قد نص في المادة 49 منه ، على أنه إذا كان الحكم بعدم الدستورية متعلقاً بنص جنائي ، فان أحكام الإدانة الصادرة استناداً إليه ، تعتبر كأن لم تكن ، وهو ما يعني سقوطها بكل آثارها ، ولو صار الطعن فيها ممتنعاً، لتفارقها قوة الأمر المقضي التي قارنتها. وتلك هي الرجعية الكاملة التي أثبتها قانون المحكمة الدستورية العليا لأحكامها الصادرة بإبطال النصوص العقابية ، وهي بعد رجعية لا قيد عليها ولا عاصم منها ، بل يكون أثرها جارفاً لكل عائق على خلافها ولو كان حكماً باتاً ، فإذا كان قضاؤها مبطلاً لنص غير جنائي ، فان أثره الرجعي يظل جارياً ، ومنسحباً إلى الأوضاع والعلائق التي اتصل بها مؤثراً فيها ، حتى ما كان منها سابقاً على نشره في الجريدة الرسمية ، ما لم تكن الحقوق والمراكز التي ترتبط بها قد استقر أمرها بناء على حكم قضائي توافر فيه شرطان : أولهما: أن يكون باتاً وذلك باستنفاذه لطرق الطعن جميعها ، ثانيهما: أن يكون صادراً قبل قضاء المحكمة الدستورية العليا ، ومحمولاً على النصوص القانونية عينها التي قضي ببطلانها ” (13). ويلاحظ على الفقرة الاخيرة من هذا الحكم المتعلقة بضوابط إعمال الأثر الرجعي للحكم بعدم الدستورية ، ان المحكمة الدستورية العليا بعد ان ظلت لمدة طويلة تأخذ في أحكامها بالقيود التي وضعتها المذكرة الايضاحية لقانون المحكمة ، كما هي واردة في المذكرة بالضبط . إلا انها ابتداءً من عام 1996 بدأت تتطلب صراحة لأعمال القيد الخاص بالحقوق والمراكز المستقرة بقوة الأمر المقضي ، ان يكون الحكم باتاً وذلك باستنفاده لطرق الطعن جميعاً العادية منها وغير العادية ، مخالفة بذلك ما ورد بالمذكرة الإيضاحية وما استقرت على الأخذ به في أحكامها منذ البداية في تحديدها للحكم المقيد للأثر الرجعي (14). ومسلك المحكمة الدستورية العليا في هذا الصدد تكمن دواعيه في الحفاظ على الأمن القانوني للمجتمع (15). ولا شك في ان مسلك المحكمة الدستورية العليا بشأن تقرير الأثر الرجعي لأحكامها الصادرة بعدم الدستورية بالضوابط التي أرستها ، جدير بالتأييد لانه يكفل فعالية الرقابة واحترام الشرعية الدستورية من خلال حمله السلطتين التشريعية والتنفيذية على التزام أحكام الدستور خشية إلغاء اعمالها التشريعية المعيبة بأثر رجعي من ناحية ، ولأنه يكفل التوازن بين مبدأ الشرعية الدستورية وإستقرار المراكز القانونية من ناحية اخرى. وبسياسة المحكمة الدستورية العليا استقر الوضع الفقهي والقضائي على رجعية الأحكام الصادرة بعدم الدستورية ، إلا أن كثرة المنازعات الضريبية المعروضة على المحكمة الدستورية العليا والخشية من أن تبطل النص الخاص بالضريبة بأثر رجعي وما يؤديه ذلك من أن ترد حصيلتها التي أنفقتها الحكومة في مجال تغطية نفقاتها إلى الذين دفعوها من قبل ، دفعت رئيس الدولة إلى إصدار القرار بقانون رقم 168 لسنة 1998 ليعدل به الفقرة الثالثة من المادة 49 من قانون المحكمة الدستورية العليا (16).
الفرع الثاني: النطاق الزمني لتنفيذ الحكم بعدم الدستورية في ضوء المادة (49) من قانون المحكمة الدستورية العليا بعد تعديلها .
أصدر رئيس الجمهورية في 10 يوليو 1998 القرار بقانون رقم 168 لسنة 1998 بتعديل الفقرة الثالثة من المادة (49) من قانون المحكمة الدستورية العليا ، ونص في مادته الأولى على أن يستبدل بنص الفقرة الثالثة من المادة (49) من قانون المحكمة الدستورية العليا الصادر بالقانون رقم 48 لسنة 1979، النص الاتي : ” ويترتب على الحكم بعدم دستورية نص في قانون او لائحة عدم جواز تطبيقه من اليوم التالي لنشر الحكم ما لم يحدد لذلك تاريخاً اخر ، على أن الحكم بعدم دستورية نص ضريبي لا يكون له في جميع الاحوال إلا أثر مباشر ، وذلك دون إخلال باستفادة المدعي من الحكم الصادر بعدم دستورية هذا النص” (17). وقد جاء بالمذكرة الايضاحية لقرار رئيس الجمهورية بالقانون رقم 168 لسنة 1998 “… وقد ادى الإطلاق في تطبيق قاعدة الأثر الرجعي لأحكام المحكمة في غير المسائل الجنائية – إلى صعوبات متعددة في مجال التطبيق يندرج تحتها الإخلال بمراكز قانونية امتد زمن استقرارها ، وتحميل الدولة بأعباء مالية تنوء بها خزانتها بما يضعفها في مجال تحقيق مهامها التنموية والنهوض بالخدمات والمرافق العامة التي تمس مصالح المواطنين في مجموعهم. وعلاجاً لمشكلات الإطلاق في تطبيق قاعدة الأثر الرجعي في مثل هذه الحالات التي تكشف عنها التجربة ، وتحقيقاً للموازنة بين متطلبات الشرعية الدستورية واعتبارات استقرار المراكز القانونية في المجتمع ، والحفاظ على أمنه اجتماعياً واقتصادياً وهي أمور يرتبط كل منها بالآخر برابطة وثقى ، فقد رؤي تعديل الفقرة الثالثة من المادة 49 من قانون المحكمة الدستورية الصادر بالقانون رقم 48 لسنة 1979 بما يكفل تحقيق الأغراض الآتية:
أولاً: تخويل المحكمة سلطة تقرير أثر غير رجعي لحكمها على ضوء الظروف الخاصة التي تتصل ببعض الدعاوى الدستورية التي تنظرها بمراعاة العناصر المحيطة بها، وقدر الخطورة التي تلازمها.
ثانياً: تقرير أثر مباشر للحكم بنص القانون إذا كان متعلقاً بعدم دستورية نص ضريبي ، ذلك أن إبطال المحكمة لضريبة بأثر رجعي مؤاده أن ترد الدولة حصيلتها التي أنفقتها في مجال تغطية أعبائها إلى الذين دفعوها من قبل ، بما يعجزها عن مواصلة تنفيذ خططها في مجال التنمية ، ويعوقها عن تطوير أوضاع مجتمعها ، ويحملها على فرض ضرائب جديدة لسد العجز في موازنتها ، وتلك جميعها آثار خطيرة تهدم من خلال حدتها الأوضاع القائمة ، وتضطرب بها موازنة الدولة فلا تستقر مواردها على حال.
ثالثاً: وحسماً لأي خلاف في شأن ما إذا كان الأثر المباشر للأحكام الصادرة ببطلان نص ضريبي ينسحب إلى ذي المصلحة في الخصومة الدستورية ، عن طريق الدفع ، أو عن طريق الاحالة او التصدي ، فإن الفائدة العملية للخصومة الدستورية يتعين أن يجنيها كل ذي شأن فيها من أطرافها ، ضماناً لفاعلية حق التقاضي ، ولأن الترضية القضائية هي الغاية النهائية لكل خصومة قضائية على ما جرى به قضاء هذه المحكمة …” (18). وبناءاً على ما سبق فان التعديل الذي اتى به القرار بقانون رقم 168 لسنة 1998 اقتصر على الفقرة الثالثة من المادة (49) من قانون المحكمة الدستورية العليا فلم يمس التعديل حكم الفقرة الرابعة من نفس المادة والمتعلقة بتحديد أثر الحكم بعدم دستورية نص جنائي ، ومن ثم لا يوجد أي خلاف في سريان هذه الأحكام بأثر رجعي على التفصيل السابق بيانه . أما في خارج المجال الجنائي فان التساؤل يثور حول ما إذا كان القرار بقانون قد عدل ما كانت قد استقرت عليه المحكمة الدستورية العليا في تفسيرها للفقرة الثالثة من المادة (49) من قانون المحكمة بحيث أصبحت الأحكام الصادرة بعدم الدستورية لا تسري كأصل عام سوى بأثر مباشر أي من اليوم التالي لنشر الحكم ؟
وللاجابة على هذا التساؤل يلزم التمييز بين الحكم الصادر بعدم دستورية نص غير ضريبي ، والحكم الصادر بعدم دستورية نص ضريبي ، وذلك على النحو الآتي:
أولاً: الحكم الصادر بعدم دستورية نص غير ضريبي .
استقرت أحكام المحكمة الدستورية العليا كما ذكرنا من قبل ، وأيدها في ذلك غالبية الفقه الدستوري في مصر في ظل صياغة الفقرة الثالثة من المادة (49) قبل تعديلها ، على سريان أحكامها الصادرة بعدم الدستورية بأثر رجعي بما مؤداه عدم تطبيق النص المقضي بعدم دستوريته ليس في المستقبل فحسب وانما ايضاً بالنسبة إلى الوقائع والعلاقات السابقة على صدور الحكم ولم تستثني من هذا الأثر الرجعي سوى المراكز والحقوق التي تكون قد أستقرت بحكم حاز قوة الأمر المقضي او بانقضاء مدة التقادم . إلا أن تعديل الفقرة الثالثة من المادة (49) بموجب القرار بقانون رقم 168 لسنة 1998 و بالرغم من احتفاظه بالصياغة الأصلية للنص التي تقضي بأنه “يترتب على الحكم بعدم دستورية نص في قانون أو لائحة عدم جواز تطبيقه من اليوم التالي لنشر الحكم ” إلا أنه أضاف إليها عبارة “مالم يحدد الحكم تاريخاً اخر” وقد اختلف الفقه بشأن هذه الاضافة وما اذا كانت تعني تعديل ما كانت قد استقرت عليه المحكمة الدستورية العليا من ان أحكامها الصادرة بعدم الدستورية يمتد أثرها إلى الماضي ام ان الأمر لا يعدو سوى مجرد التوسع في اختصاصات المحكمة. وعلى ذلك سنعرض لموقف الفقه الدستوري في مصر من هذه المسألة ، ثم نعقبه ببحث موقف المحكمة الدستورية العليا منها :
أ. موقف الفقه الدستوري في مصر .
أختلف الفقه بشأن الإضافة التي أدخلها القرار بقانون على نص الفقرة الثالثة من المادة (49): فبعضهم (19) رأى فيها أن المشرع بذلك يكون قد انتصر للاتجاه الذي كان يرى أن نص الفقرة الثالثة في صياغتها الأصلية لا يرتب على الحكم بعدم الدستورية سوى أثر مباشر، بحيث أصبح الأصل بعد التعديل بالنسبة لهؤلاء هو الأثر المباشر لحكم عدم الدستورية والاستثناء هو الأثر الرجعي الذي يجوز للمحكمة أن تقرره في حكمها طبقاً للنص بعد تعديله ، فالتعديل بالنسبة لهذا الجانب ألغى أو منع الأثر الرجعي والذي كانت قد استقرت المحكمة الدستورية العليا في تفسيرها للفقرة الثالثة من المادة (49) ، على سريانه بقوة القانون من اليوم التالي لنشر حكمها الصادر بعدم الدستورية.
ودليلهم في ذلك هو عبارة النص القائلة “ويترتب على الحكم بعدم دستورية نص في قانون او لائحة عدم جواز تطبيقه من اليوم التالي لنشر الحكم” ، حيث تفيد هذه العبارة تقرير قاعدة الأثر المباشر للحكم الصادر بعدم الدستورية ، كما أن عبارة “ما لم يحدد الحكم لذلك تاريخاً اخر” ، تمثل في نظرهم استثناء من هذه القاعدة ، فالتاريخ الاخر الذي تملك المحكمة الدستورية العليا تحديده لا يكون الا سابقاً على تاريخ نشر الحكم بعدم الدستورية ، وبالتالي فان هذا الاستثناء يؤكد القاعدة وهي الأثر المباشر للحكم الصادر بعدم الدستورية في المواد غير الضريبية (20). في حين ذهب البعض الاخر(21). الى انه حتى بعد التعديل فان ما استقرت عليه المحكمة الدستورية العليا من سريان احكامها الصادرة بعدم الدستورية بأثر رجعي ما زال هو الأصل والاستثناء هو ما يحدده الحكم من تاريخ اخر لسريان أثره . فالتعديل – كما يقولون – من ناحية لم يمس الصياغة الأصلية التي استقرت المحكمة الدستورية العليا على تفسيرها بما يعطي لأحكامها اثراً رجعياً بالقيود التي أوردتها المذكرة الإيضاحية للنص قبل التعديل ، فكل ما فعله التعديل في الحقيقة لا يعدو سوى انه أضاف للمحكمة اختصاصاً جديداً ، أو بمعنى اخر وسع من اختصاصاتها حيث منحها صلاحية تحديد تاريخاً اخر لبدء اعمال أثر حكمها (22). ومن ناحية أخرى فان المذكرة الايضاحية للقرار بقانون تؤكد صحة هذا الاتجاه ذلك انها وبعد ان سلمت صراحة بان الاصل على ما جرت عليه المحكمة الدستورية العليا في تفسيرها للفقرة الثالثة أن الحكم الذي تصدره بعدم دستورية نص في قانون أو لائحة له أثر يمتد إلى الماضي برجعية تحكم الروابط السابقة على صدور الحكم كنتيجة حتمية لطبيعته الكاشفة ، أوضحت ان الإطلاق في تطبيق قاعدة الأثر الرجعي قد أدى إلى صعوبات ومشكلات متعددة في مجال التطبيق ، وعلاجاً لذلك “رؤي تعديل حكم الفقرة الثالثة من المادة 49 من قانون المحكمة الدستورية العليا بما يكفل…
أولاً: تخويل المحكمة سلطة تقرير أثر غير رجعي لحكمها على ضوء الظروف الخاصة التي تتصل ببعض الدعاوى الدستورية التي تنظرها بمراعاة العناصر المحيطة بها وقدر الخطورة التي تلازمها”. فالمذكرة الإيضاحية كما هو واضح تؤكد على ان الأصل ما زال هو الأثر الرجعي للحكم بعدم الدستورية وأن تخويل المحكمة رخصة تقرير تاريخ اخر لسريان أثر حكمها لا يعدو سوى ان يكون استثناء من هذا الأصل بحيث إذا لم تلجأ اليه المحكمة سرى حكمها بأثر رجعي إعمالاً للأصل العام في هذا الخصوص ، بالقيود نفسها التي سبق وان أستقرت عليها (23). ونحن بدورنا نؤيد الاتجاه الثاني من الفقه في تمسكه بقاعدة الأثر الرجعي للحكم الصادر بعدم الدستورية حتى بعد صدور القرار بقانون رقم 168 لسنة 1998 وتعديل الفقرة الثالثة من المادة (49) ، إذ ان تقرير الأثر الرجعي كأصل عام للأحكام بعدم الدستورية هو ما يتفق مع الشرعية الدستورية والطبيعة العينية للدعوى الدستورية ومع فكرة الأثر الكاشف للأحكام القضائية.
كما اننا نتفق مع الدكتور محمد عبد الواحد الجميلي في رأي خاص له بصدد السلطة الجديدة التي منحها المشرع للمحكمة الدستورية العليا في تحديد تاريخ اخر لسريان أثر حكمها – كاستثناء على مبدأ رجعية الحكم الصادر بعدم الدستورية – تسمح لها في تقديرنا بالإضافة إلى جعل حكمها لا يسري سوى بأثر مباشر أي فقط من اليوم التالي لنشره او بأثر مستقبلي بمعنى ان تحدد مهلة يسري بعدها حكمها ، أن تجعل لحكمها أثراً رجعياً محدوداً بمعنى جعل أثره لا يرتد إلى الماضي سوى إلى تاريخ معين خلاف التاريخ الذي يفرضه الأصل العام الذي يحكم سريان آثار أحكامها، فالأمر متروك لمحض ترخص المحكمة تجريه في ضوء – كما تذهب المذكرة الايضاحية للقرار بقانون رقم 168 لسنة 1998 – تقديرها للظروف والعناصر المحيطة بالدعوى التي تنظرها وقدر الخطورة التي تلازمها ، وإن كان ما تشير اليه المذكرة الايضاحية لا يقدم في الواقع ضابطاً موضوعياً محدداً (24).
ب. موقف المحكمة الدستورية العليا.
اما بالنسبة للمحكمة الدستورية العليا وبصدد تحديد سياستها بين هذين الاتجاهين الفقهيين ، فيما يتعلق بتعديل الفقرة الثالثة من المادة (49) من قانون المحكمة الدستورية العليا بالقرار بقانون رقم 168 لسنة 1998 ، فانها لم توضح صراحة موقفها من مضمون هذا التعديل ، وحقيقة تفسيرها له ومدى تمسكها بقاعدة الأثر الرجعي للحكم الصادر بعدم الدستورية أو تحولها عنها إلى قاعدة الأثر المباشر لهذا الحكم.
ومع ذلك فانه يمكننا أن نستشف من أحكام المحكمة الدستورية العليا الصادرة بعد هذا التعديل استمرار هذه المحكمة في تبني تفسيرها السابق للمادة (49) قبل تعديلها على انها تقرر الأثر الرجعي للحكم الصادر بعدم الدستورية ، كنتيجة حتمية لطبيعته الكاشفة (25). ففي حكمها الصادر في 8 يوليو 2000 والذي انتهت فيه إلى عدم دستورية نص الفقرة الثانية من المادة 24 من القانون رقم 72 لسنة 1956 بتنظيم مباشرة الحقوق السياسية فيما تضمنه من جواز تعيين رؤساء اللجان الفرعية من غير أعضاء الهيئات القضائية ، نجدها تقرر صراحة في حيثيات حكمها ” الأصل – على ما جرى به قضاء هذه المحكمة أن إجراء انتخابات مجلس الشعب بناء على نص تشريعي قضي بعدم دستوريته ، يؤدي إلى بطلان تكوينه منذ انتخابه” (26). ومن ذلك ايضاً حكمها الصادر في 5 فبراير 2000 حيث ذهبت إلى انه “وحيث أن إبطال النصين المطعون فيهما والذين حجبا عن الطالب حقوق الانتفاع بالخدمات الصحية والاجتماعية بما في ذلك المبلغ الشهري الإضافي يعني انعدام وجودهما منذ مولدهما ، مما يستتبع أحقية الطالب في دعواه الموضوعية” (27).
ثانياً: الحكم الصادر بعدم دستورية نص ضريبي .
أ. الأصل سريان الحكم بعدم الدستورية بأثر مباشر .
بعد أن أكد القرار بقانون رقم 168 لسنة 1998 من خلال مذكرته الإيضاحية على أن الأصل في الأحكام بعدم الدستورية هو سريانها بأثر رجعي وبعد ان استحدث للمحكمة الدستورية سلطة جديدة لم تكن تتمتع بها من قبل وهي سلطة تحديد تاريخ اخر لسريان أثر حكمها ، نجده يعود ليخرج من إطار الأثر الرجعي ومن السلطة الجديدة الممنوحة للمحكمة الأحكام الصادرة بعدم دستورية نص ضريبي حيث قرر صراحة بأن الحكم في هذه الحالة ” لا يكون له في جميع الأحوال إلا أثر مباشر” بمعنى أن النص المقضي بعدم دستوريته لا يعد نافذاً سوى اعتباراً من اليوم التالي لنشر الحكم حتى ولو لم ينص في الحكم على ذلك ، مما يعني عدم جواز المساس بما رتبه من آثار قبل نشر الحكم ، وعلى ذلك فإذا كانت الدولة قد قامت بتحصيل ضرائب بناء على نص ، ثم حكم بعدم دستورية هذا النص ، فلا ترد الدولة ما تكون قد حصلته قبل نشر الحكم ، إلا للمدعي ذاته ، على التفصيل الذي سنراه بعد قليل ، كما يكون من حق الدولة تحصيل الضريبة التي لم تسدد ، حتى تاريخ نشر الحكم (28). وقد بررت المذكرة الإيضاحية للقرار بقانون الأخذ بالأثر المباشر في هذا المجال بقولها : ” أن إبطال المحكمة لضريبة بأثر رجعي مؤداه ان ترد حصيلتها التي أنفقتها في مجال تغطية أعبائها إلى الذين دفعوها من قبل – بما يعجزها عن مواصلة تنفيذ خططها في مجال التنمية ويعوقها عن تطوير أوضاع مجتمعها ، ويحملها على فرض ضرائب جديدة لسد العجز في موازنتها ، وتلك جميعها آثار خطيرة تهدم من خلال حدتها الأوضاع القائمة ، وتضطرب بها موازنة الدولة فلا تستقر مواردها على حال”. وعلى الرغم من هذا التبرير الذي قدمته المذكرة الإيضاحية الا اننا نؤيد رأي غالبية الفقه المصري الذي يذهب إلى أن تقرير الأثر المباشر للأحكام الصادرة ببطلان نص ضريبي سوف يغري الدولة بفرض ضرائب على الافراد من دون اهتمام ببحث مدى اتفاقها مع الدستور ، فإذا صدر قانون ضريبي مخالف للدستور ، وتم بمقتضاه الحصول على بعض أموال الأفراد من دون وجه حق ، ثم طعن في هذا القانون بعد ذلك ، فلا محل لمطالبة الدولة باسترداد الأموال التي حصلتها من المواطنين قبل الحكم بعدم الدستورية ، وهذا يمثل اعتداء على الملكية الخاصة للأفراد بما يخالف المادة (34) من الدستور ، والتي تنص على أن الملكية الخاصة مصونة (29).
ب. الاستثناء: سريان الحكم بعدم الدستورية بأثر رجعي بالنسبة للمدعي في الدعوى الدستورية.
إذا كان التعديل الذي أدخله القرار بقانون رقم 168 لسنة 1998 على الفقرة الثالثة من المادة (49) من قانون المحكمة قد استثنى – من الأثر الرجعي وما تتمتع به المحكمة الدستورية العليا من سلطة – ، الحكم الصادر بعدم دستورية نص ضريبي حيث قرر عدم سريانه في جميع الأحوال إلا بأثر مباشر ، إلا انه عاد بعد ذلك واستثنى من هذا الاستثناء المدعي في الدعوى الدستورية حيث قرر استفادته بأثر رجعي من الحكم الصادر بعدم دستورية النص الضريبي ، وهو ما يعني حقه وحده دون غيره من الممولين دافعي ذات الضريبة في استرداد المبالغ التي سبق له دفعها كضرائب قبل الحكم بعدم دستورية النص الضريبي ، مع مراعاة أن سريان الحكم بعدم دستورية نص ضريبي على المدعي في الدعوى الدستورية ، بأثر رجعي ، يتقيد بالقيود الواردة على قاعدة الأثر الرجعي ، أي بالحقوق والمراكز التي تكون قد استقرت عند صدور الحكم بعدم الدستورية ، اما بحكم حاز قوة الأمر المقضي أو بانقضاء مدة التقادم (30). والحقيقة أن قصر الاستفادة من الأثر الرجعي للحكم الصادر بعدم دستورية نص ضريبي على المدعي في الدعوى الدستورية دون غيره من الممولين دافعي ذات الضريبة ، بحكم التعديل الذي أدخل على الفقرة الثالثة من المادة (49) ، يعد أخلالاً بمبدأ المساواة في المراكز القانونية المنصوص عليه في المادة (40) من الدستور ، وتعارضاً صريحاً مع مبدأ تكافؤ الفرص المنصوص عليه في المادة (8) من ذات الدستور (31).
– أثر التعديل على حجية الأحكام الصادرة بعدم الدستورية.
أحدث القرار بقانون رقم 168 لسنة 1998 تغييراً في حجية الأحكام الصادرة بعدم الدستورية ، فلم تعد جميع أحكام المحكمة الدستورية العليا تتمتع بحجية مطلقة تسري على جميع سلطات الدولة والكافة من تاريخ واحد ، بل أصبح الحكم الواحد يتمتع بحجية مطلقة بالنسبة لبعضهم وبحجية نسبية بالنسبة لبعضهم الاخر ، وتفصيل ذلك كالآتي:-
1-الأحكام التي تصدر بأثر رجعي مطلق تثبت لها الحجية المطلقة من تاريخ صدور النص المقضي بعدم دستوريته.
2-الأحكام التي تحدد لها المحكمة تاريخاً اخر لسريانها تثبت لها حجية مزدوجة:-
– حجية مطلقة بالنسبة للغير – أي لغير المدعي – إعتباراً من التاريخ الذي تحدده المحكمة .
– حجية نسبية بالنسبة للمدعي من تاريخ صدور النص الضريبي المقضي بعدم دستوريته .
3-الأحكام التي تصدر في المسائل الضريبية يكون لها حجية مزدوجة:-
– حجية مطلقة بالنسبة للغير – أي لغير المدعي – من اليوم التالي لتاريخ نشرها في الجريدة الرسمية .
– وحجية نسبية بالنسبة للمدعي من تاريخ صدور النص الضريبي المقضي بعدم دستوريته (32). ونحن نتفق مع الدكتور شعبان أحمد رمضان في أن هذا الوضع يفرغ الحكم الصادر بعدم الدستورية من قيمته ويفقد الثقة في المحكمة وقراراتها لعدم وجود معايير منضبطة تحكم على أساسها بالأثر الرجعي في حالة دون أخرى ، فضلاً عن الإخلال بمبدأ المساواة بين من يخاطبهم النص المحكوم بعدم دستوريته بحسب ما إذا كان القانون قد طبق عليهم قبل أو بعد التاريخ الذي تحدده المحكمة لسريان حكمها بعدم الدستورية . وبعدما كانت أحكام المحكمة الدستورية العليا تحظى بحجية واحدة هي الحجية المطلقة إزاء السلطات العامة والكافة ، أضحت – في ظل التعديل الشاذ ، وهو ما يناقض الطبيعة العينية للدعوى الدستورية والهدف منها (33).