دراسات قانونيةسلايد 1
علاقة السببية في جرائم الايذاء العمد وفقاً لأحكام القانون الجنائي (دراسة موجزة)
علاقة السببية في جرائم الإيذاء العمد هي الرابطة بين سلوك الجاني فعلاً أو امتناعاً والمساس الواقع بجسم المجني عليه، وأنها العنصر الثالث في الركن المادي. وللسببية هذه أهميتها، فهي التي تربط بين عنصري الركن المادي فتقيم بذلك وحدته وكيانه ومن ثم فمن دونها فلا قيام ولا تحقق له، مما يترتب عليه أنه لو ثبت انتفاء علاقة السببية بين السلوك الإجرامي والنتيجة الضارة فإن مرتكب السلوك لا يسأل إلا عن شروع في الجريمة إذا كانت الجريمة عمدية، أما إذا كانت غير عمدية فلا يسأل البتة لأنه لا شروع في الجرائم غير العمدية(1). بالنسبة إلى فكرة السببية في الفقه الإسلامي فلا جدال في أن الفقه الإسلامي قد سار على وفق دستور القرآن الكريم والسنة النبوية المطهّرة، إن ذلك الفقه الموغل في القدم والتطور والتجدد الدائم قد تطلب لمسائلة الجاني عن النتيجة الجرمية إسناداً مادياً يربط ما بين سلوك الفاعل والنتيجة الجرمية، فلا مسؤولية بغير إسناد مادي لأن الله سبحانه وتعالى لا يحاسب نفساً إلا على ما كسبت، فيقول سبحانه وتعالى: (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ)(2) أي معتقلة بعملها يوم القيامة(3).ولابد لقيام علاقة السببية من نسبة السلوك الإجرامي المتمثل في الاعتداء على حق الإنسان في التكامل الجسدي إلى جاني معين سواءً كان ذلك بالجرح أو الضرب أو العنف أو بإعطاء مادة ضارة أو بارتكاب أي فعل آخر مخالف للقانون.
الفرع الأول : معيار تحقق علاقة السببية
علاقة السببية هي الرابطة التي تصل بين السلوك الإجرامي والنتيجة الجرمية، فهي عنصر في الركن المادي تربط بين عنصريه الآخرين السلوك والنتيجة. تظهر أهمية وضع معيار لمعرفة تحقق قيام علاقة السببية عندما تساهم مع سلوك الجاني في إحداث النتيجة الجرمية وهي المساس الذي ينال حق المجني عليه في سلامة جسمه في جرائم الاعتداء على سلامة الجسم عوامل أخرى إذ يثور التساؤل عما إذا كان تدخل هذه العوامل ينفي علاقة السببية أو يتركها قائمة، ولغرض الإجابة عن هذا التساؤل ظهرت نظريات عديدة لتحديد معيار تحقق علاقة السببية، أبرزها نظرية تعادل الأسباب ونظرية السبب الملائم ونظرية السبب المباشر.
أولاً: نظرية تعادل الأسباب
إن نظرية تعادل الأسباب Theorie de L’equivalence de Condition تقرر المساواة بين العوامل جميعها التي تساهم في إحداث النتيجة الجرمية، وبمعنى آخر أن علاقة السببية تعد متوافرة ما بين الفعل والنتيجة الضارة متى ثبت أن السلوك الإجرامي كان أحد العوامل التي ساهمت في إحداثها ولو كان نصيبها في ذلك ضعيفاً وقليلاً، وهذه المساواة تسوغ عد سلوك الجاني سبباً للنتيجة(4) لاسيما وأن سلوك الجاني هو الذي جعل الأمور تنتهي إلى ما انتهت إليه بحدوث النتيجة ومن ثم فهو يسأل عنها بغض النظر عن العوامل المختلفة التي تداخلت بين سلوكه والنتيجة سواءً كانت هذه العوامل راجعة إلى فعل المجني عليه أو فعل شخص آخر أو فعل الطبيعة. فالجاني الذي يطلق رصاصة على المجني عليه بقصد قتله ويصيبه بجراح ثم توفي يكون مسؤولاً عن جريمة القتل العمد ولو ثبت أن الوفاة لم تكن لتحصل لولا ضعف صحة المجني عليه أو ثبت أن الوفاة حصلت بسبب إهمال المجني عليه معالجة جرحه أو بسبب خطأ الطبيب الذي تولى معالجته خطأ فاحشاً أو يسيراً أو بسبب إصابته بحروق في حريق حصل في المستشفى الذي نقل إليه أو بسبب اصطدام السيارة التي كانت تنقله إلى المستشفى ذلك لأن سلوك الجاني هو العامل الأول الذي جعل الأمور تجري في هذا المجرى وتنتهي إلى النتيجة التي حصلت وهي وفاة المجني عليه ولو لم يقع هذا السلوك لما كان لأي من العوامل المتداخلة وجود. غير أن نظرية تعادل الأسباب لا تعد الجاني مسؤولاً عن النتيجة إذا كانت كما حصلت واقعة حتماً بغض النظر عن سلوك الجاني(5). كما لو تشاجر مسافران في باخرة وطعن أحدهما الآخر بقصد قتله وأحدث في جسمه جرحاً ثم هبت عاصفة أغرقت الباخرة ومات المجني عليه غرقاً وثبت أن موته غرقاً كان مؤكداً ولو لم يكن مصاباً بالجرح الذي أحدثه الجاني فإن الأخير لا يكون مسؤولاً عن قتل المجني عليه وإنما تقتصر مسؤوليته عن مجرد الشروع في القتل لانعدام علاقة السببية بين سلوكه الإجرامي والنتيجة التي حصلت بوفاة المجني عليه.
ثانياً: نظرية السبب الملائم
نظرية السبب الملائم (الكافي) Theorie de Cause Adequte تتضمن بأن علاقة السببية مابين السلوك الإجرامي والنتيجة الجرمية تعد متوافرة متى ثبت أن مقدار مساهمة السلوك الإجرامي في إحداث النتيجة الجرمية يمثل بالنسبة للعوامل الأخرى التي ساهمت معه في إحداثها قدراً معيناً من الأهمية(6)، إلا أن هذه العلاقة تنقطع بين سلوك الجاني والنتيجة عند تدخل عوامل غير مألوفة شاذة بينهما، فتقف مسؤولية الجاني عند الحد الذي تدخل عنده العامل الشاذ ولا يسأل عن النتيجة التي تلت ذلك التدخل والتي تقع مسؤوليتها على العامل الشاذ المتدخل(7) كما لو طعن الجاني المجني عليه بقصد قتله وتركه جريحاً ثم جاء شخص آخر وأجهز عليه، أو أن المجني عليه بعد طعنه مباشرةً نقل إلى المستشفى ومات بسبب خطأ جسيم من الطبيب المعالج أو مات حرقاً خلال حريق حصل في المستشفى، فإن مسؤولية الشخص الذي طعن المجني عليه تقتصر على مجرد الشروع في القتل العمد في الحالات الثلاث، لتدخل عوامل غير مألوفة قطعت علاقة السببية بين سلوكه والنتيجة التي حصلت بوفاة المجني عليه والتي تقع مسؤوليتها على الشخص الذي أجهز على المصاب في الحالة الأولى وعلى الطبيب في الحالة الثانية وعلى من سبب الحريق في الحالة الثالثة. هذا في حين يكون الجاني الذي طعن المجني عليه بقصد قتله مسؤولاً عن جريمة القتل العمد لو مات المجني عليه بسبب خطأ يسير من الطبيب المعالج لأن مثل هذا الخطأ اليسير عامل مألوف. ومن أمثلة العوامل غير المألوفة التي تقطع علاقة السببية التعمد في تأخير إسعاف المجني عليه لتجسيم مسؤولية الجاني، أو تعمد المجني عليه تسوئ مركز المتهم برفض المداواة المعتادة المعروفة(8).
ثالثاً: نظرية السبب المباشر
نظرية السبب المباشر أو الأقوى Theorie de La Cause Direct Ouefficiente تتضمن عدم مساءلة الجاني عن النتيجة التي حصلت لسلوكه الإجرامي إلا إذا كانت متصلة اتصالاً مباشراً بسلوكه وكونه السبب الأساسي أو الأقوى في حدوث هذه النتيجة، إذ يمكن القول أنها حدثت من سلوك الجاني دون غيره. والسببية على هذا الوضع تتطلب نوعاً من الاتصال المادي بين السلوك الإجرامي والنتيجة الجرمية لأنها لا تعترف إلا بالارتباط المباشر المتحقق بينهما، وبهذا المعيار أخذ القضاء الفرنسي في أغلب قراراته(9). أما موقف التشريع من علاقة السببية فإنه قلما تعني التشريعات بوضع معيار لعلاقة السببية وإن حرصت بعضها على وضع هذا المعيار كقانون العقوبات العراقي الذي نصت المادة (29) منه على أنه:
(1. لا يسأل شخص عن جريمة لم تكن نتيجة لسلوكه الإجرامي لكنه يسأل عن الجريمة ولو كان قد ساهم مع سلوكه الإجرامي في إحداثها سبب آخر سابق أو معاصر أو لاحق ولو كان يجهله.
2. أما إذا كان ذلك السبب وحده كافياً لإحداث نتيجة الجريمة فلا يسأل الفاعل في هذه الحالة إلا عن الفعل الذي ارتكبه).
وبصيغة مشابهة جاءت كل من المادة (203) من قانون العقوبات السوري والمادة (204) من قانون العقوبات اللبناني والمادة (24) من مشروع قانون العقوبات المصري لسنة 1966 وجميع هذه النصوص مستقاة من المادة (41) ممن قانون العقوبات الإيطالي التي تنص بأن (تدخل عوامل سابقة أو معاصرة أو لاحقة ولو كانت مستقلة عن الفعل أو الامتناع الواقع من المتهم لا ينفي علاقة السببية بين هذا الفعل أو الامتناع وبين النتيجة، ولكن العوامل اللاحقة تقطع علاقة السببية بين هذا الفعل أو الامتناع وبين النتيجة إذا كانت كافية بمفردها لإحداث النتيجة، وفي هذه الحالة إذا كان الفعل أو الامتناع السابق وقوعه يكون بذاته جريمة تطبق العقوبة المقررة له).
ويبدو واضحاً من هذه النصوص أنها أخذت بمعيار علاقة السببية الذي انطوت عليه نظرية تعادل الأسباب(10)، فقد عبرت عن القاعدة العامة لهذا المعيار والتي مفادها عدم انتفاء علاقة السببية بين سلوك الجاني والنتيجة ولو كان قد ساهم مع سلوكه في إحداثها سبب آخر سابق أو معاصر أو لاحق، كذلك أقرت هذه النصوص الاستثناء الذي أوردته نظرية التعادل الأسباب على القاعدة العامة الذي يقضي بانتفاء علاقة السببية بين سلوك الجاني والنتيجة ومسؤوليته فقط عن السلوك الذي ارتكبه إذا كان السبب الآخر الذي أسهم مع سلوكه في إحداث النتيجة كافياً وحده لإحداثها. أما المشرع الأردني فلم يضع معياراً لعلاقة السببية تاركاً تحديده للفقه والقضاء إلا أنه أورد حكماً بهذا الشأن خص به جرائم القتل والإيذاء العمد في المادة (345) من قانون العقوبات بعنوان (القتل والإيذاء الناجمين عن تعدد الأسباب) جاء فيها (إذا كان الموت والإيذاء المرتكبان عن قصد نتيجة عدة أسباب متقدمة جهلها الفاعل وكانت مستقلة عن فعله أو لانضمام سبب منفصل عن فعله تماماً عوقب كما يأتي: بالأشغال الشاقة مدة لا تقل عن عشر سنوات إذا كان فعله يستلزم عقوبة الإعدام أو الأشغال الشاقة المؤبدة وبتخفيض أية عقوبة مؤقتة أخرى حتى نصفها إذا كان فعله يستلزم عقوبة غير الإعدام أو الأشغال الشاقة المؤبدة). فالمشرع الأردني بهذا النص أخذ بالقاعدة العامة لمعيار السببية طبقاً لنظرية تعادل الأسباب في جرائم القتل والإيذاء العمديين، وأغفل النص على الاستثناء الذي أوردته نظرية تعادل الأسباب الذي يتضمن عدم مسؤولية الفاعل عن نتيجة سلوكه الإجرامي إذا كان السبب الأخير وحده كافياً بذاته لإحداث النتيجة(11). بالنسبة إلى موقف القضاء من علاقة السببية في العراق قبل صدور قانون العقوبات الحالي ولخلو قانون العقوبات البغدادي من نص يحدد معيار علاقة السببية اتجه القضاء إلى إتباع نظرية السبب المباشر(12) تأثراً باتجاه الفقه والقضاء الفرنسي وبعض قرارات القضاء المصري(13). غير أن القضاء التزم بإتباع معيار علاقة السببية طبقاً لنظرية تعادل الأسباب كما هو منصوص عليه في المادة (29) من قانون العقوبات العراقي بعد صدوره. ومن قرارات محكمة التمييز في العراق التي أفصحت عن هذا الاتجاه قرارها الذي جاء فيه (أن محاولة الاختطاف فضلاً عن الضرب تعد جريمة بحد ذاتها وفعلاً مخالفاً للقانون سبب للمجني عليه انفعالاً شديداً إذ أنها كانت مصابة بأمراض قلبية فقد أفضى كل ذلك إلى وفاتها حيث أن القفرة الأولى من المادة (29) أوجبت مساءلة الجاني عن الجريمة ولو كان قد ساهم مع سلوكه الإجرامي سبب آخر سابق أو معاصر أو لاحق ولو كان يجهله وحيث أن الطبيب الخبير كان قد ذكر بأن الانفعال النفسي أو التهيج يجعل القلب المريض في وضع يعجز عن القيام بمهمته ويؤدي ذلك إلى تعجيل الموت، لذلك قرر تصديق قرار إدانة المتهمين والحكم عليهم عن تلك النتيجة)(14). وفي الأردن طبقت محكمة التمييز معيار نظرية تعادل الأسباب في جرائم القتل والإيذاء العمدين التزاماً بما قضت المادة (345) من قانون العقوبات التي سبق ذكرها، وفي مجال جرائم الخطأ اتجهت المحكمة إلى تطبيق نظرية السب الملائم(15). وبشأن موقف القضاء المصري من معيار علاقة السببية، اختلف الفقهاء المصريون في تحديد المعيار الذي اتخذه القضاء، فمنهم من يرى بأن القضاء أخذ بمعيار نظرية السبب الملائم(16)، ومنهم من يرى أن اتجاه القضاء أقرب إلى معيار نظرية تعادل الأسباب(17)، ومنهم من يرى بأن القضاء لم يسلم من التأثر في بعض الأحوال بمعيار نظرية السبب المباشر(18)، ومنهم من قال بأن القضاء قد استقر على اعتناق المذهب المختلط (الموضوعي والشخصي) في علاقة السببية(19). وانطلاقاً مما تقدم يتكون الركن المادي في الجرائم الماسة بسلامة الجسم من أي سلوك إجرامي (فعل أو امتناع) يفضي إلى الانتقاص من تكامل الجسد أو الإخلال بالسير الطبيعي لوظائف الأعضاء أو إحداث آلاماً لم يكن يشعر بها المجني عليه من قبل أو يزيد من الآلام(20).
الفرع الثاني : الشروع في جرائم الاعتداء على حق الإنسان في التكامل الجسدي
الشروع جريمة من جرائم الخطر بوجه عام لاسيما إذا لم تؤد إلى ضرر، فهي إما جريمة موقوفة وتسمى شروعاً ناقصاً إذ لا يترتب عليها ضرر وإما جريمة خائبة قد يترتب عليها ضرر غير الذي قصده الفاعل وهو ارتكاب الجريمة التامة، وتسمى هذه الحالة بالشروع التام وقد لا يترتب عليها ضرر. إن المادة (30) من قانون العقوبات العراقي والمادة (45) من قانون العقوبات المصري والمادة (68) من قانون العقوبات الأردني والمادة (59) من قانون العقوبات الليبي، تكاد تتفق هذه القوانين على إيراد تعريف واحد للشروع وهو (البدء بتنفيذ فعل بقصد ارتكاب جناية أو جنحة إذا أوقف أو خاب أثره لأسباب لا دخل لإرادة الفاعل فيها). وهناك قوانين عقابية أخرى كالقانون السوري في المادة (199) واللبناني في المادة (200) والجزائري في المادة (30) والبحريني في المادة (42/1) منه وإن كانت قد استعملت مصطلح (المحاولة) للتعبير عن الشروع إلا أنها جميعاً تتفق مع قوانين الطائفة الأولى في إيراد تعريف للشروع يقوم على مفهوم المذهب الشخصي لأنه لا يوجد من يشترط لوجود الشروع أن يبدأ الجاني بارتكاب فعل من الأفعال التي يقوم عليها الركن المادي للجريمة(21). وجرائم الاعتداء على الحق في التكامل الجسدي نص عليها قانون العقوبات العراقي ومن أمثلتها الجرائم المنصوص عليها في المواد (412 – 416) منه، إذ أنه تناول في المادة (412) منه جريمة الإيذاء الذي يفضي إلى عاهة مستديمة وقسمها على قسمين بالنظر إلى قصد الفاعل من ارتكابها وهما:
أولاً: الاعتداء بقصد إحداث عاهة مستديمة
من الواضح أن قصد الفاعل في هذه الجريمة يتميز بأنه عمدي ومحدد أيضاً(22)، الأمر الذي يمكن تصور أن يقع الشروع فيها ومثاله أن شخصاً فقأ عين آخر، وقد أبى شقيق المجني عليه إلا أن ينتقم لشقيقه فعزم على أن يفقأ عين الفاعل فظفر به فهم بفقء عينه إلا أن فعله خاب أو أوقف دون أن يتمكن من تحقيق ما أراد، وفي هذه الحالة يكون الفاعل مسؤولاً عن الشروع في إيذاء مفضي إلى عاهة مستديمة بموجب المادة (412/1) من قانون العقوبات العراقي وبدلالة المادتين (30 و31) منه(23). وتجدر الإشارة بأن المادة (412/1) من قانون العقوبات العراقي نصت على أشكال العاهة المستديمة والتي سوف ندرسها في الفصل الرابع من هذه الاطروحة.
ثانياً: الاعتداء الذي يفضي إلى إحداث عاهة مستديمة لم يقصدها الفاعل
ينصب القصد الجنائي للفاعل في هذه الجريمة على الإيذاء العمد إلا أنه ينشأ عن الفعل عاهة مستديمة لم يقصدها الفاعل، وبذلك فإن حكمها يكون حكم جريمة الضرب المفضي إلى موت في عدم تصور وقوع الشروع فيها ويستدل بالعلل والأسباب ذاتها التي سقناها بشأنها. ومما تجدر ملاحظته أن الفقه المصري ذهب إلى أنه لا شروع في جرائم الإيذاء البسيط وتبعه كثيرون في هذا الرأي كما لم نشهد أي تطبيق قضائي في العراق للشروع في جرائم الاعتداء على حق الإنسان في التكامل الجسدي المنصوص عليها في المادة (413/1) من قانون العقوبات العراقي، إذ أن سياق نص هذه المادة يستوجب حصول النتيجة الجرمية وهي المساس بالتكامل الجسدي للمجني عليه إذ أن المادة (413/1) من قانون العقوبات العراقي تنص بأن (من اعتدى عمداً على آخر.. فسبب له أذىً أو مرضاً…) الأمر الذي لا ينسجم مع قواعد ومنطق التفسير السليم للقانون لأن المادة (405) منه التي تنص على جريمة القتل وتستوجب إزهاق الروح للقول بتوافرها ولا يوجد من ذهب للقول بعدم تصور وقوع الشروع فيها إلا أن واقع الحال يؤكد هذا الاتجاه كان بتأثير الفقه المصري الذي استند في رأيه إلى نص المادة (47) من قانون العقوبات المصري نصت صراحة على استثناء الشروع في الجنح من العقاب ما لم يرد في القانون نص صريح يعاقب على الشروع في جنحة معينة ولم تكن جنحة الإيذاء منها وقد نحت هذا المنحى قوانين العقوبات السوري في المادة (201/2) منه واللبناني في المادة (202) منه(24).تم توجيه انتقادات إلى رأي الفقه المصري هذا الذي استند إلى نص القانون المصري على وجه ما تقدم بيانه وهو مسلك تشريعي(25). أما في العراق فلم نجد تطبيقات قضائية للشروع بالاعتداء على حق الإنسان في التكامل الجسدي وذلك جرياً مع هذا الرأي أيضاً في الوقت الذي لا يوجد ما يبرر ذلك خاصةً وأن المادة (30) من قانون العقوبات العراقي نصت صراحة على أن الشروع يقع في عموم الجنايات والجنح(26). ونجد أن القضاء العراقي يقوم بالتكييف القانوني للواقعة التي تتضمن الشروع في جرائم الإيذاء العمد إعطائها تكييفاً آخراً غير الشروع كالتهديد مثلاً(27). وعن موقف الشريعة الإسلامية بشأن تصور الشروع في جرائم الإيذاء العمد وتسمى في الفقه الإسلامي الجناية على ما دون النفس عمداً فيتمثل بعدم مؤاخذة الجاني إلا بما تنتهي إليه حالة المجني عليه(28). أما إذا لم تحدث نتيجة معينة تدخل الجريمة عندئذٍ في عداد التعازير ويفوض أمرها إلى القاضي الذي يحدد العقاب المناسب على وفق ما يراه من تحقيق الردع والعدالة ومصلحة الجماعة(29). مما تقدم يتبين لنا أنه في الشريعة الإسلامية ليس هناك شروع وإنما جرائم قائمة بذاتها، فالنصوص تتضمن مبدأ العين بالعين والسن بالسن فإذا وقعت هذه الجرائم طبقت العقوبة المحددة لها وإذا لم تقع كما هو الحال في عدم تحقيق النتيجة الجرمية في الجناية على ما دون النفس عمداً تظهر جريمة أخرى قائمة بذاتها تدخل في عداد التعازير.
_________________
1- الدكتور علي حسين الخلف والدكتور سلطان الشاوي، المبادئ العامة في قانون العقوبات، المصدر السابق، ص141.
2- سورة المدثر، الآية 38.
3- محمد الصابوني (اختصاراً وتحقيقاً)، مختصر تفسير ابن كثير، المجلد الثاني، دار القرآن الكريم في بيروت، طبعة بيروت، 1981، ص572.
4- الدكتور رؤوف عبيد، السببية في القانون الجنائي، الطبعة الثالثة، القاهرة، ص184، 1974، وقد سادت هذه النظرية في الفقه الألماني الحديث وأخذ بها القضاء الجنائي في ألمانيا؛ الدكتور محمود نجيب حسني، شرح قانون العقوبات، القسم العام، الطبعة الثالثة، القاهرة، 1973، ص298.
5- الدكتور السعيد مصطفى السعيد، المصدر السابق، ص436؛ والدكتور أكرم نشأت إبراهيم، القواعد العامة في قانون العقوبات المقارن، المصدر السابق، ص172؛ والدكتور محمود إبراهيم إسماعيل، المصدر السابق، ص418.
6- الدكتور أحمد فتحي سرور، الوسيط في قانون العقوبات، القسم العام، الجزء الأول، القاهرة، 1981، ص484.
7- الدكتور رؤوف عبيد، السببية في القانون الجنائي، المصدر السابق، ص184؛ والدكتور محمود إبراهيم إسماعيل، المصدر السابق، ص418.
8- نقض في 9/2/1976، مجموعة الأحكام، سنة 27، ص191؛ وأنظر الدكتور أكرم نشأت إبراهيم، القواعد العامة في قانون العقوبات، المصدر السابق، ص175.
9- الدكتور محمود محمود مصطفى، قانون العقوبات، القسم العام، الطبعة الثامنة، 1969، مصدر سابق، ص271.
10-الدكتور أكرم نشأت إبراهيم، القواعد العامة في قانون العقوبات، المصدر السابق، ص176؛ والدكتور فخري عبد الرزاق الحديثي، شرح قانون العقوبات، القسم العام، مصدر سابق، ص200.
11- الدكتور كامل السعيد، الأحكام العامة في قانون العقوبات الأردني، عمّان، 1981، ص171.
12- الدكتور فخري عبد الرزاق الحديثي، شرح قانون العقوبات، القسم العام، مصدر سابق، ص201؛ والدكتور حميد السعدي، شرح قانون العقوبات الجديد، الجزء الأول، الأحكام العامة، بغداد، 1970، ص171.
13- هذه القرارات أشار إليها الدكتور محمود محمود مصطفى، قانون العقوبات، القسم العام، الطبعة الثامنة، ص273.
14- تمييز رقم 89 في 19/4/1977، الأحكام العدلية، السنة الثامنة، العدد الثاني، ص232.
15- الدكتور كامل السعيد، الأحكام العامة في قانون العقوبات الأردني، مصدر سابق، ص171.
16- الدكتور رؤوف عبيد، السببية في القانون الجنائي، مصدر سابق، ص187؛ والدكتور محمود إبراهيم إسماعيل، مصدر سابق، ص420.
17- الدكتور محمود نجيب حسني، قانون العقوبات، القسم العام، الطبعة الثالثة، مصدر سابق، ص321.
18- الدكتور محمود محمود مصطفى، قانون العقوبات، القسم العام، الطبعة الثامنة، مصدر سابق، ص273.
19- الدكتور أحمد فتحي سرور، الوسيط في قانون العقوبات، القسم العام، الجزء الأول، مصدر سابق، ص487.
20- الدكتور جلال ثروت، نظرية القسم الخاص، الجزء الأول، جرائم الاعتداء على الأشخاص، 1979، ص42.
21- الدكتور ضاري خليل محمود، الشروع في الجريمة، المصدر السابق، ص17؛ الدكتور محمد أحمد المشهداني، الوسيط في شرح قانون العقوبات، الطبعة الأولى، عمان، الأردن، مؤسسة الوراق للنشر والتوزيع، 2003، ص145 – 152.
22- تنص المادة (412/1) من قانون العقوبات العراقي بأن (من اعتدى عمداً على آخر بالجرح أو بالضرب… قاصداً إحداث عاهة مستديمة يعاقب…)
23- الدكتور ضاري خليل محمود، الشروع في الجريمة، المصدر السابق، ص59.
24- الدكتور ضاري خليل محمود، الشروع في الجريمة، المصدر السابق، ص63.
25- الدكتور جلال ثروت، نظرية الجريمة المتعدية القصد في القانون المصري والمقارن، المصدر السابق، ص554.
26- الدكتور ضاري خليل محمود، الشروع في الجريمة، مصدر سابق، ص63 – 64.
27- الدكتور فخري الحديثي، شرح قانون العقوبات، القسم العام، مصدر سابق، ص219.
28- الشيخ عبد القادر عودة، التشريع الجنائي الإسلامي، الجزء الثاني، المصدر السابق، ص98 – 99.
29- الدكتور ألبير صالح، الشروع في الجريمة في التشريع المصري والمقارن، مطبعة النهضة في مصر، 1949، ص174.
ا لمؤلف : حسين عبد الصاحب عبدة الكريم الربيعي
الكتاب أو المصدر : جرائم الاعتداء على حق الانسان في التكامل الجسدي