دراسات قانونية
قراءة قانونية هامة في الحماية الجنائية للسر المهني البنكي
جامعة الحسن الثاني- المحمدية- الدار البيضاء
كلية العلوم القانونية والاقتصادية
والاجتماعية -المحمدية –
ماستر قانون الأعمال
بحث لنيل دبلوم الماسترفي القانون الخاص
في موضوع
الحماية الجنائية للسر المهني البنكي
إعداد الطالبة:
هجرصوليح
تحت إشراف الدكتور:
فريد السموني
لجنة المناقشة
د.فريد السموني :أستاذ التعليم العالـيب كلية الحقوق المحمدية………………رئيسا
د. عبد الواحد شعير:أستاذ التعليم العالي بكلية الحقوق المحمدية………………عضوا
د.خديجة فرحي:أستاذة التعليم العالـي بكلية الحقوق المحمدية…………….عضوا
2012
تقرير حول الموضوع
الحماية الجنائية للسر المهني البنكي
مقدمة
لقد أصبح الإقبال متزايدا لفئات عريضة من المجتمع للاستفادة من الخدمات البنكية، ذلك أن اللجوء إلى هذه المؤسسات أصبح من الضروريات للعديد من الأشخاص المعنويين و الذاتيين اللذين يجدون في المؤسسات البنكية منبعا و حلا لمجموعة من المشاكل التي تواجههم في حياتهم من حيث الاستفادة من الخدمات و التسهيلات الائتمانية التي تمنحها لهم، و أمام هذا الإقبال و في ظل العولمة الاقتصادية و الانفتاح بادرت كل الدول إلى بذل جهودها في توظيف كافة الإمكانيات المادية و التقنية و التي سخرتها لإرضاء زبناءها وإرضاء حاجاتهم. لذلك ركزت هذه المؤسسات على نوع الخدمات البنكية المقدمة لزبناءها، بحيث شمل نشاطها بالإضافة إلى تقديم العمليات البنكية التقليدية المتعلقة بتوزيع الائتمان والقيام بالخدمات المتعلقة بالودائع و الشيكات ثم عمليات التحويل و فتح الاعتماد و تنظيم حسابات الزبناء، فضلا عن تقديم المعلومات و الاستشارات البنكية التي تساعد الزبناء على اتخاذ قراراتهم الهامة المتعلقة بالتجارة و الاستثمار.
و كل هذه الخدمات المقدمة تهدف بالأساس إلى جلب رؤوس الأموال من المدخرين و وضعها رهن إشارة الاستثمارات الداخلية و الخارجية، الشيء الذي دفع بالمشرع إلى إحاطة هذه الخدمات بعناية خاصة من خلال تنظيم آليات عملها، و وضع قواعد قانونية ورقابية وزجرية، و ذلك لتوفير جو من الثقة و الاطمئنان بين هذه المؤسسات و الزبناء، هذه الثقة التي لا يمكن تعزيزها إلا في إطار من السرية و التي قد تكون أحد أهم الأسباب التي تشجع الأشخاص على اللجوء لمؤسسات الائتمان أكثر من رغبتهم في طلب أي خدمات أو تسهيلات أخرى.
الشيء الذي يجعلنا نقول أن السرية البنكية تعتبر ثروة وطنية ثمينة و مهمة للاقتصاد الوطني، ذلك أن توفير جو ملائم من الثقة لأصحاب رؤوس الأموال من خلال حفظ أعمالهم البنكية و كافة المعلومات ذات الصلة بثرواتهم يجعل ذلك حافزا قانونيا و يوفر بيئة تشريعية مناسبة للاستثمار داخل البلاد و تشجيع الادخارات الوطنية بدلا من تهريبها لبلد آخر أكثر ثقة و أكثر سرية في هذا المجال، لذلك فالسرية البنكية هي مورد حقيقي لجلب الأموال الشيء الذي ينعكس على الاقتصاد الوطني إيجابا.
و للوصول لهذه الأهداف العامة لابد من توفير حماية قانونية للسر المهني البنكي وخاصة الحماية الجنائية التي ترتبط بالمصلحة العامة.
و تجدر الإشارة إلى أن كتمان السر عموما ليس حديث العهد بل عرف هذا الواجب الأخلاقي منذ القدم، حيث كان يحرم على رجال الدين البوح بالأسرار التي يطلعون عليها من الناس بحكم مركزهم ثم امتد تدريجيا لأصحاب المهن الحرة، أما السر المهني البنكي فقد عرف هو الآخر عدة تطورات و مراحل اقترنت بتطور النشاط البنكي الذي لم يكن يتعلق في البداية بالبنوك بالمعنى الحقيقي للكلمة و لكن بمؤسسات مالية كانت مقراتها المعابد، وقد كان يجيرها الكهنة و رجال الدين و رجال الدولة المختصين.
و بذلك اعتبر النشاط البنكي في هذه المرحلة-قبل الميلاد- نشاطا مقدسا يحيطه الكتمان و الغموض، لأنه كان يتم باسم الرب و لمصلحته حيث أن كل ما يتصل بالآلهة كان متسما بالسرية و التي لا يجوز الإفصاح عنها و إلا أصيب الشخص المفشى بلعنة الآلهة و هذا ما ميز فترة العصور القديمة.
و قد كان من الطبيعي أن يقوم الكهنة بهذا الدور ذلك أنهم جمعوا بين السلطات الدينية و الدنيوية التي تقام في المعابد. و قد كان معبد أورك السوميري الذي يرجع تاريخ نشأته إلى الألف الرابعة قبل الميلاد يتمتع بهيمنة سياسية و دينية و تجارية، تمكن الكهنة من تمويل التجار و الزراع من خلال الودائع التي جمعوها من المواطنين السومريين، واستطاعوا بذلك تمويل كل من النشاط التجاري و الزراعي. و كل هذه العمليات كانت محاطة بالكتمان و ذلك للعلاقة الرابطة بين هذه العمليات و الرب، ثم ظهرت الحضارة البابلية في بلاد الرافدين، حيث اعتبر حمورابي أول سند تشريعي للبنوك حيث تضمن تنظيما لبعض أعمال البنوك كالقرض بالفائدة و الوديعة، كل هذه الأعمال كانت هي الأخرى تباشر باسم الرب “إله الشمس” الذي يمثله الكهنة في المعابد الذين كانوا محل ثقة من طرف المواطنين، هذه الثقة و طبيعة العمليات التي تمس الحياة الخاصة للفرد كانت تفرض وجود التزام بكتمان السر. أما في عصر الفينيقيين فلم يكن النشاط البنكي قاصرا على المعابد بل مارسه بعض صغار التجار إلى جانب الكهنة، و هذه المرحلة أثرت على مفهوم السرية لدى النشاط البنكي الذي بدأ في التخلص من تلك الصبغة الدينية التي طبعته ولقرون عديدة[1].
و في عهد الرومان انتعش النشاط البنكي و اتسعت رقعة المهنة و التي مهدت لنشأة بنوك كبرى. و الرومان لم يعرفوا النشاط البنكي إلا في أواخر عهد الجمهورية، عندما انتقلت الثروات إلى روما و ظهرت التجارة. هذا و قد كان البنكيون الأوائل يسمون “الأرجنتاريوسles argentarius” نسبة إلى تجارة الفضة و النقود، بحيث أبدعوا من خلال تنظيمهم للحسابات هذا التنظيم الذي يقترب من نظام مسك المحاسبة الحالي، و هذه الحسابات كانت تتطلب توخي الحذر و الحيطة اللازمة لحفظ الدفاتر المستعملة فيها مما جعل الرومان يعرفون السرية التامة في عملياتهم البنكية.
و أخيرا فإن مفهوم السر في هذا العصر القديم –قبل الإسلام- شق طريقه في أخلاقيات التعامل مما ساهم في الميل أكثر نحو احترام قواعد المهنة، بحيث أصبحت بذلك السرية و التنظيم المهني وجهان لعملة واحدة[2].
و بعد ظهور الإسلام عند العرب تم تنظيم المعاملات المالية على أساس الصدق والأمانة بين التجار امتثالا لقوله تعالى “و لا تلبسوا الحق بالباطل و تكتموا الحق و أنتم تعلمون[3]”.
و من جملة ما فصلت فيه التعاليم الإسلامية هو حفظ الأسرار و كتمانها، و قد وردت بذلك عدة أحاديث للرسول (ص) و عن الصحابة. و نورد هنا ما روي عن علي ابن أبي طالب كرم الله وجهه حيث قال “سرك أسيرك، فإذا تكلمت به صرت أسيره، و اعلم أن أمناء الاسرار أقل وجودا من أمناء الأموال، فحفظ الأموال أيسر من كتمان الاسرار”.
و كل هذه المبادئ جاءت عامة، فشكلت بذلك الإطار العام و المرجعية التي تحكم التعامل بين كل ممارس للنشاط البنكي في إطار من السرية المبنية على أساس من الدين والأخلاق.
و في الدول الأوروبية بالعصر الوسيط انفصل النشاط البنكي عن المعابد و بالرغم من ذلك ظلت الأخلاق تحكم الأعمال في هذا العصر الشيء الذي مرر قاعدة السرية في النشاط البنكي من الالتزام الديني إلى الالتزام الأخلاقي ثم الالتزام المهني
.
و الأخلاق التي سادت هذا العصر ألزمت التجار البنكيين بالتحلي بمجموعة من القواعد كالحيطة و الحذر و السرية مما جعلهم حريصين على التكتم في أعمالهم[4]. مما يجعلنا نقول أن هذه المرحلة هي أهم خطوة انتقالية لمفهوم السر البنكي الذي تخلص من الطابع الديني الذي طغى عليه ليصبح التزاما أخلاقيا مهد لتقنينه خلال العصر الحديث، حيث أصبح مفهوم السرية البنكية يفرض نفسه كالتزام يجد أساسه في اتفاق ضمني بين البنك و زبونهعلى احترام الأسرار المهنية.
و مع مطلع القرن 17 ميلادي تضافرت الجهود لتطوير نظرية السر المهني لدى البنوك، و بذلك فأول نص تطرق لأهمية السرية في المجال البنكي كان في القانون الفرنسي القديم، حيث صدر قرار رقم 1639 الذي ألغى بورصة باريس و ذلك لاستحالة الحفاظ على سرية العمليات فيها[5]، ثم تلت هذا القرار قواعد أخرى تطرقت بدورها للسر البنكي[6].
كل النصوص الصادرة تؤكد ما وصلت إليه فكرة السرية في الميدان البنكي، فبالرغم من أنها لم تعالج المسألة في صميمها إلا أنها كانت محطة هامة لبزوغ فجر نظرية متكاملة في القانون المتعلق بالسر المهني البنكي.
و بعد التطور التاريخي للسر البنكي يمكن أن نميز بينه و بين سر المهنة عموما، لكن لابد أن نشير هنا أن وضع مقارنة بين السر المهني البنكي و السر المهني لا يتجسد إلا بالنسبة للدول التي وضعت تنظيما خاصا للسر البنكي و الذي أخرجته بذلك عن القواعد العامة للقانون الجنائي، الشيء الذي أفرز عدة اختلافات سواء من حيث مصدر الالتزام بحيث أصبح لسر المهنة البنكية مصدر خاص به يستمد منه قواعده القانونية، و لا من حيث الأهداف ذلك أن السر المهني إذا كان يهدف لحماية المصالح الخاصة و دعم الثقة بين البنوك و الزبناء ففي السر البنكي يتصل بالمصالح العليا لهذه الدول ، و يظهر الاختلاف أيضا من حيث مدى إمكانية الاحتجاج بالسر في مواجهة السلطات العامة الشرعية، ذلك أن سر المهنة هو التزام نسبي لا يمكن التذرع به في العديد من الحالات التي تعتبر أجدر من حفظ السر، في حين أن السر البنكي يكون شبه مطلق بحيث يمكن الاحتجاج به، إلا في حالات خاصة و حصرية و أيضا يظهر هذا الاختلاف على مستوى العقوبات و التي تعتبر أشد بالنسبة للسر المهني البنكي مقارنة مع تلك العقوبات المقررة في القانون الجنائي الخاصة بالسر المهني عموما.
و إذا كانت هذه المقاربة مشروعة بالنسبة للدول المتبنية لنظام خاص بالسر المهني البنكي ، فلا مجال للحديث عنها في ظل التشريع المغربي و الذي لم يضع أي تنظيم خاص بسر المهنة البنكية بل أحال فقط على ما ورد في الفصل 446 من القانون الجنائي الذي عاقب على جريمة إفشاء الأسرار المهنية.
و أهمية دراسة الموضوع نابعة من أهمية الإلتزام بكتمان السر البنكي الذي يلعب دورا مهما في الحياة الاقتصادية و الاجتماعية و التي أصبحت حاليا تعتمد على المجال البنكي، و تزداد هذه الاهمية في الوقت الحالي و بالذات بالمغرب نظرا لإقرار العديد من الأنظمة الحديثة لتنظيمات خاصة بالسر المهني البنكي.
و قد اخترنا في هذا الإطار تسليط الضوء على جانب الحماية الجنائية للسر المهني البنكي، و ذلك للزيادة في الوعي و الثقافة القانونية على مختلف المستويات سواء لأصحاب المهنة أو الأفراد بشكل عام من خلال تقريبهم من النظم القانونية التي تناولت هذه الحماية. و من الدوافع التي جعلتنا نختار موضوع الحماية الجنائية للسر البنكي هو قلة الدراسات المغربية على الخصوص في هذا المجال و التي اقتصرت على بعض الأبحاث فقط و دون تركيزها على الجانب الجنائي للموضوع.
و لابد من الإشارة هنا إلى الصعوبة التي واجهتنا في تناول الموضوع و المتمثلة في قلة المراجع خاصة المغربية، إلا أننا سنحاول الإحاطة بالموضوع من خلال الإعتماد على تحليل النصوص و مقارنتها بالتشريعات الأخرى، و ذلك بعد انطلاقنا من الإشكالية المحورية للموضوع و المتمثلة في هل بإحالة المشرع المغربي لجنحة إفشاء السر البنكي على القواعد العامة المضمنة بالقانون الجنائي المتمثلة في الفصل 446 استطاع تحقيق الحماية الجنائية؟ أم أن هذه الإحالة كانت فقط للتخلص من تهمة “الفراغ التشريعي” في هذا الجانب؟ و التهرب بذلك من وضع قواعد جنائية خاصة بهذه الجنحة و ذلك وعيا منه بالآثار التي قد تنجم عن هذا التشدد في الحماية و التي قد تتعارض مع عدة مصالح أخرى.
و محاولة منا للوصول إلى جواب على هذه الإشكالية اقتضى منا الأمر الجواب أولا على عدة تساؤلات فرعية تتمثل في تحديد مفهوم السر المهني و مدى اعتباره جزءا من أسرار المهنة. هذا المفهوم الذي تباين باختلاف النظم التي تحكم السر المهني البنكي لنتساءل عن ما هي هذه الأنظمة ثم ما هو موقف المشرع المغربي منها؟ أي هل كان متشددا في تبنيه للسرية البنكية المطلقة أم أنه أورد عليه بعض الاستثناءات التي قيدت هاته السرية؟ كما أن الحماية الجنائية للسر البنكي تستدعي تحديد و رسم نطاق هذه الحماية سواء من حيث الأشخاص الملزمين بالكتمان و لا بالنسبة للمستفيدين؟ و إذا كان من الطبيعي اعتبار الزبون المتعامل مع البنك هو المستفيد الأول من واجب الكتمان فيحق لنا التساؤل عن مفهوم هذا الزبون خاصة مع وجود فراغ تشريعي و فقهي بل و حتى قضائي لتحديد هذا المفهوم في إطار السر البنكي، و عدم الحسم هذا يفتح الباب للتساؤل عن مدى إمكانية اعتبار الفرع أو الوكالة كزبون للمؤسسة البنكية الأم و يمكنها أن تستفيد بذلك من السر البنكي في مواجهة هذه الأخيرة؟ثم ما المضمون المشمول بالحماية ومدة هذه الأخيرة من حيث الزمن؟ بمعنى هل تنقضي بمجرد انقضاء العلاقة الرابطة بين الزبون بالبنك أم أنها حماية مطلقة؟
و إذا كان المشرع المغربي قد تطرق للمسؤولية الجنائية عن إفشاء السر البنكي والعقوبات المقررة له في الفصل 446 من القانون الجنائي المحال عليه بموجب المادة 79 من قانون مؤسسات الائتمان و الهيات المعتبرة في حكمها، فإلى أي حد يمكن إسقاط هذه المسؤولية الجنائية على المؤسسة البنكية كشخص ذاتي إذا ثبتت مسؤوليتها عن الإفشاء؟ ثم ما هي أركان هذه الجنحة و هل لها من خصوصيات تجعلها تنفرد و تخرج عن القواعد العامة للقانون الجنائي، بمعنى هل وضع المشرع المغربي منطق تجريم و عقاب وإجراءات خاصة بهذه الجنحة لارتباطها بجانب الاقتصاد و الأعمال و اعتبارها كجنحة اقتصادية أم أنه ساوى بينها و بين باقي الأسرار المنصوص عليها في الفصل 446 من ق.ج.م.؟ و لما كان الالتزام بالسر البنكي واجبا قانونيا تفرضه التشريعات الحديثة، فهل هو التزام مطلق يمكن الاحتجاج به حتي في مواجهة بعض السلطات العامة، أم أن له أسباب تبرر البوح به و إفشاءه و ذلك إذا ما تعلق الأمر بمصلحة عليا أجدر بحماية القانون لها؟
كل هذه الاسئلة تبقى مشروعة أمام وجود ضعف تشريعي عاجز عن تحديد كل الجوانب المحيطة بمؤسسة السر البنكي، هذا فضلا عن غياب الاجتهادات القضائية بهذا الخصوص و أيضا الفقه المغربي، لذلك حاولنا الإجابة عن هذه الأسئلة و تحليلها معتمدين في ذلك على التقسيم الثنائي. حيث خصصنا الفصل الأول للحديث عن مبررات و أسس السر البنكي، ثم نطاق الحماية الجنائية. و انتقلنا في الفصل الثاني للحديث عن المسؤولية الجنائية عن إفشاءالسر المهني البنكي ثم أسباب تبريره و إباحته.
استنتاجات و توصيات
بعد نهايتنا من هذا البحث حاولنا الخروج بعدة استنتاجات و كانت أغلبها عبارة عن نواقص دفعتنا إلى وضع توصيات خاصة بالموضوع.
فأول ما توصلنا إليه هو وجود تباين تشريعي حول تبني نظام السرية البنكية من طرف التشريعات و التي تناولت إطاره القانوني فانقسمت بذلك إلى طائفتين:
الأولى تبنت نظام السرية المطلقة و كان هدفها توفير حماية خاصة للزبون بالأولوية عن كل مصلحة أخرى، و تعتبر سويسرا هي الحاملة لمشعل السرية المطلقة،
أما الثانية فتضمنتها أغلب التشريعات حيث تبنت نظام السرية المقيدة الذي أوردت عليه عدة استثناءات مرتبطة بالمصلحة العامة. و يعتبر المغرب من بين تلك الدول التي قيدت سريتها البنكية.
و ما لاحظناه على مستوى نطاق التجريم في السر البنكي أن المشرع المغربي لم يحدد بدقة الأشخاص الملزمين بكتمانه، و التعداد الوارد في نص المادة 79 من قانون 03/34 كان على سبيل المثال لا الحصر -عكس ما ذهبت إليه العديد من التشريعات- و إذا كانت هذه النقطة تحتسب كحسنة للمشرع المغربي و ذلك لما لهذا التعداد من تأثير في توسيع قائمة المسؤولين عن هذه الجنحة، إلا أنه في نفس الوقت يؤاخذ عليه أنه لم يحدد الطرف المستفيد من الحماية القانونية، و حتى لو سلمنا أن الزبون هو المستفيد الأول من كتمان السر البنكي فإنه يطرح لنا التساؤل حول من هو هذا الزبون بمفهوم السر البنكي؟ وإذا ما أخذناه بالمفهوم الواسع المتمثل في كل شخص له علاقة أعمال مع المؤسسة البنكية سواء كانت عرضية أو دائمة، سواء تعلق الأمر بشخص ذاتي أو معنوي نجد أنفسنا أمام إشكالية مدى إمكانية اعتبار الوكالة أو الفرع كزبون للمؤسسة البنكية الأم و تستفيد بذلك من السر البنكي؟ هذه الإشكاليات ظلت فارغة دون تحديد و فتحت الباب أمام عدة اشكاليات أخرى.
كما ساد الغموض أيضا النطاق الموضوعي للسر المهني البنكي بحيث لم يحدد المشرع بدقة محل الالتزام بالسرية مما جعل اللبس واردا أيضا في هذه المسألة.
كما لاحظنا تقصير المشرع من خلال عدم تنصيصه على عدة مقتضيات أخرى خاصة بالمسؤولية الجنائية لهذه الجنحة، سواء من حيث إسناد المسؤولية و أيضا أركانها ولا حتى العقوبات التي اقتصر فيها على ما ورد في الفصل 446 من القانون الجنائي. وفي هذا الإطار لم يحدد طبيعة الركن المعنوي الواجب توفره لقيام المسؤولية عن الإفشاء-كما فعلت العديد من التشريعات-أي هل يتطلب فيها القصد الجنائي أو الخطأ العمدي أم يمكن قيام الركن المعنوي لها بمجرد وقوع الخطأ غير العمدي.
و على مستوى إثارة الدعوى العمومية لم يوضح المشرع هل تقديم هذه الدعوى قائم على وجود شكاية من المتضرر باعتباره صاحب الشأن في هذه الجنحة أم يمكن متابعتها تلقائيا من طرف النيابة العامة لارتباطها بالمصلحة العامة و النظام العام.
أما على مستوى العقوبات، فقد نص على عقوبتي الحبس و الغرامة، والملاحظ أن المشرع تشدد من خلال جمعه بين العقوبتين و لم يترك للقاضي حق تفريد العقاب، نقول أن هذا التشدد ظاهري و صوري فقط و ذلك من خلال إمكانية اعتماد مساطر جنائية تحول دون تطبيق هذه العقوبات كمسطرة وقف التنفيذ و التقادم الذي قلص من مدته في التعديلات الأخيرة، كما أخرج المشرع جنحة إفشاء الأسرار من ضمن الجرائم الخاضعة لحالة العود و كأنه استهان بخطورة هذه الجنحة و التي لا شك أن لها تأثير على المجال الاقتصادي فهي من معايير الائتمان في المؤسسات البنكية.
كل هذه الاستنتاجات و غيرها التي توصلنا لها من خلال هذا البحث تقودنا إلى خلاصة واحدة ألا و هي إهمال المشرع لمؤسسة لها طابع و أهمية اقتصادية كبرى، و بذلك فكل من الفصل 446 من القانون الجنائي و المادتين 79 و 80 من قانون 03/34 تبقى نصوص فارغة وغير كافية خاصة أمام الظروف الاقتصادية الراهنة التي تقوم على سياسة الانفتاح و المنافسة لاستقطاب رؤوس الأموال و كبار المستثمرين الشيء الذي لا يمكن تحقيقه إلا إذا توافرت له الظروف المناسبة و لعل أبرزها توفير حماية كافية للسر البنكي.
كل هذا جعلنا نقدم عدة توصيات تتمثل أساسا في ضرورة وضع قانون مستقل ومتكامل يعنى بتنظيم السرية البنكية و أحكامها و كافة الضوابط القانونية المرتبطة بها. و أن يجيب بذلك عن كل الأسئلة العالقة في هذا الباب على غرار ما فعلت باقي الدول التي تضمنت قوانين خاصة بالسر المهني البنكي و أفرزت له خصائص أخرجته بذلك عن باقي المهن المشمولة بالسرية و التي نصت عليها قواعد القانون الجنائي.
و على مستوى العقوبات نطالب المشرع بالتشديد في العقوبات المقررة لجنحة إفشاء السر البنكي و رفعها بالمقارنة مع تلك الواردة في الفصل 446 من القانون الجنائي لأجل ضمان حماية جنائية أكبر من تلك التي يوفرها القانون الجنائي في قواعده العامة.
و يجب أيضا التدقيق والحذر في عمليات الاطلاع الممنوحة لبعض الإدارات العمومية كإدارة الضرائب و القضاء و أيضا فيما يتعلق بواجب التصريح لمحاربة غسل الأموال لاسيما أن هذه الجريمة قد وسع المشرع من نطاقها على حساب السر البنكي دون أن يحاول وضع نوع من التوازن بين الجريمتين، بحيث مكن من تقديم التصريح بالاشتباه حتى بمجرد الشك و دون وجود أي دليل على ذلك، الشيء الذي قد يؤثر على السر البنكي في حالة عدم صحة المعلومات، مع الأخذ بعين الاعتبار صعوبة إثبات سوء النية، و قد يستعمل بذلك كذريعة للإفشاء و التشهير و وضع الشخص و أمواله تحت المراقبة.
و يجب أيضا أن تلزم المؤسسات البنكية بكامل الحيطة و الحذر ووضع أجهزة رقابية مختصة في مجال المعلوميات خاصة وأنه في الوقت الحاضر كثر اعتماد المعاملات البنكية الإلكترونية بين الدول الأمر الذي تزامن معه تفشي ظاهرة الولوج إلى الأنظمة الخاصة بالمؤسسات البنكية و الاطلاع عليها، بل و حتى القيام بتحويلات لفائدة مخترقي هذه الأنظمة. و من هذه الأمثلة عديد و لعل أشهرها ما وقع مع مدرب المنتخب المغربي “غيريتس” الذي تم إشهار جدول حساباته الخاصة التي يضعها رهن إشارة بنك المغرب ، بحيث تم الدخول لها و إشهارها في العديد من المواقع الإلكترونية، ففي هذه الحالات لا يجب الاكتفاء بالدفع بعدم مسؤولية المؤسسة البنكية عن إفشاء السر بحجة أن الأمر يتعلق بجريمة إلكترونية، لكن يمكن مساءلتها في حالة عدم حرصها و تقصيرها في وضع أخصائيين في المعلوميات لمحاربة الجرائم الإلكترونية والتي قد تشكل عائقا أمام هذه المؤسسات، الشيء الذي قد يؤثر على مصداقيتها الائتمانية الأمر الذي قد ينتج معه تحويل رؤوس الأموال و الحسابات إلى بنوك أخرى أكثر أمانا.
الهوامش
[1]RAYMAND.Farhat”Le secret Bncaire, étude de droit comparée,France,Suisse,Liban” Libr. Générale de droit et de jurisprudence.1968.p16
[2]نوفا الريحاني” السر المهني البنكي و مسؤولية البنوك “دراسة مقارنة. رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا في القانون الخاص. جامعة القاضي عياض. مراكش 1999. ص 22
[3]سورة البقرة “الآية 41” الحزب الأول.
[4]RAYMAND. Farhat “Le secret bancaire, étude de droit comparée”: op cit. p19
[5]Ibid. p 20
[6]في أكتوبر 1706 صدرت لائحة تتضمن قواعد يلتزم السماسرة الصيارفة باتباعها و التي نصت على ضرورة وجود السر في أعمال البنوك و الصرف و التجارة و المالية من خلال مادتها 8.
و في سنة 1724 صدر قرار آخر لمجلس الدولة أسست بموجبه بورصة باريس حيث تم التنصيص من خلال فصله 36 على ضرورة حرص رجال الصرف على المحافظة على أسرار بزبنائهم بكتمان أسمائهم و أعمالهم و ذلك احتراما للثقة التي وضعها هؤلاء الزبناء فيهم.
الفهرس
الفصلالأول:الإطارالعاملحمايةالسرالبنكي. 10
الفرعالأول: مفهومالسرالمهنيالبنكيومبرراتتقريره 12
المبحثالأول: مفهومالسرالمهنيالبنكي. 12
المطلبالأول: التعريف.. 12
الفقرةالأولى: تعريفالسر. 12
الفقرةالثانية: السرالبنكيومقوماته. 15
أولا: ارتباطالواقعةالسريةبالمهنةالبنكية. 16
ثانيا: تحديدوصفالسرية. 17
ثالثا: عدمشيوعالواقعةالسريةللكافة. 18
المطلبالثاني: تباينالأنظمةالتيتحكمالسرالبنكيوموقفالمشرعالمغربي. 18
الفقرةالأولى: الأنظمةالتيتبنتالسرالبنكي. 19
أولا: نظامالسريةالمطلقة. 19
ثانيا: نظامالسريةالمقيدة 21
الفقرةالثانية: موقفالمشرعالمغربي. 24
المبحثالثاني: أسسومبرراتمنطقالتجريم 27
المطلبالأول: المبرراتالتييقومعليهاالسرالمهنيالبنكي. 28
الفقرةالأولى: حمايةالمصلحةالخاصة. 28
أولا: حمايةالمصلحةالخاصةللزبون. 28
ثانيا: حمايةمصلحةالبنك. 30
الفقرةالثانية: حمايةالمصلحةالعامة. 31
المطلبالثاني: أساسالمسؤوليةعنإفشاءالسرالبنكي. 32
الفقرةالأولى: العقدكأساسللمسؤولية. 33
الفقرةالثانية: الالتزامالقانونيكأساسللمسؤولية. 36
الفرعالثاني: نطاقالحمايةالجنائيةللسرالبنكي. 40
المبحثالأول: النطاقالشخصي. 40
المطلبالأول: الملزمونبكتمانالسرالبنكي. 41
الفقرةالأولى: مؤسسةالائتمان “البنك”. 41
الفقرةالثانية: باقيالمتدخلينفيالمهنةالبنكية. 48
المطلبالثانيالمستفيدونمنالسرالبنكي. 53
الفقرةالأولى:الزبون. 54
الفقرةالثانية: حالةالفرعأوالوكالةالبنكية. 59
المبحثالثاني: النطاقالموضوعيوالزمني. 63
المطلبالأول: النطاقالموضوعي. 63
الفقرةالأولى: المعلوماتالمشمولةبالسرية. 64
الفقرةالثانية: الصناديقالحديديةثمالحساباتوالصناديقالمرقمة. 69
أولا: كراءالصناديقالحديدية. 69
ثانيا: الحساباتوالصناديقالمرقمةLes comptes et les coffres numérotés. 71
المطلبالثاني: النطاقالزمني. 75
الفقرةالاولى :قبلانتهاءعلاقاتالاعمال. 75
الفقرةالثانية: بعدانتهاءعلاقاتالاعمال. 76
ثانيا: وفاةالزبون. 78
الفصلالثاني: المسؤوليةالجنائيةعنإفشاءالسرالبنكيوأسبابتبريرها 80
الفرعالأول: المسؤوليةالجنائيةعنإفشاءالسرالمهنيالبنكي. 83
المبحثالأول: تقنياتالتجريم 84
المطلبالاول: منحيثإسنادالمسؤولية. 84
الفقرةالأولى: صفةالفاعلالذاتي. 84
الفقرةالثانية: مسؤوليةالبنككشخصمعنوي. 87
أولا: الموقفالفقهي. 88
ثانيا: موقفالمشرعالمغربيمنإسنادالمسؤوليةالجنائيةللبنك. 90
المطلبالثاني: أركانالجريمة. 94
الفقرةالأولى: الركنالمادي. 94
أولا: عنصرالسر. 95
ثانيا: عنصرالإفشاء. 96
الفقرةالثانية: الركنالمعنوي. 99
أولا: الخطأالعمدي. 100
ثانيا: الخطأغيرالعمد 102
المبحثالثاني: التقنياتالإجرائيةوالعقابية. 106
المطلبالأول: التقنياتالإجرائية. 106
الفقرةالأولى: إثارةالدعوىالعمومية. 107
الفقرةالثانية: انقضاءالمتابعةوأسبابسقوطها 110
أولا: بالنسبةلحالةالوفاة 110
ثانيا: التقادم 111
المطلبالثاني : التقنياتالعقابية. 112
الفقرةالأولى: العقوباتالمقررةفيالفصل 446 منقج. 113
أولا: الحبس.. 113
ثانيا: الغرامة. 115
الفقرةالثانية: الأسبابالمؤثرةفيتحديدوتنفيذالعقوبة. 118
أولا: الأسبابالمؤثرةفيتحديدالعقوبة. 118
ثانيا: الأسبابالمؤثرةفيتنفيذالعقوبة. 122
الفرعالثاني: أسبابتبريروإباحةإفشاءالسرالمهنيالبنكي. 125
المبحثالاول: الإفشاءبناءاعلىأمرالقانون. 126
المطلبالأول: الرقابةالبنكية. 126
الفقرةالأولى: بنكالمغرب. 127
الفقرةالثانية: مراقبيالحسابات. 129
المطلبالثاني: التصريحبالاشتباهفيجريمةغسلالأموال. 131
الفقرةالأولى: فيالتشريعاتالمقارنة. 132
أولا: بالنسبةللدولالمتبنيةلنظامالسرالبنكيالمقيد 132
ثانيا: الدولالمتبنيةلنظامالسريةالمطلقة. 134
الفقرةالثانية: فيالتشريعالمغربي. 136
المبحثالثاني: الإفشاءبناءاعلىأوامرالسلطةالشرعية. 138
المطلبالأول: أوامرالسلطاتالقضائية. 139
الفقرةالاولى: أمرالإطلاعوالشهادةفيإطارمسطرةجنائية. 139
الفقرةالثانية: الأمرالقضائيبمسطرةالحجزلدىالغير. 143
المطلبالثاني: إطلاعإدارةالضرائب. 146
الفقرةالاولى: فيالتشريعاتالمقارنة. 146
الفقرةالثانية: فيالتشريعالمغربي. 149
خاتمة: 154
قائمةالمراجع. 158
المراجعالأجنبية: 164
الفهرس.. 166