دراسات قانونية

تباين موقف محكمة النقض والمحكمة الدرستورية العليا (قاعدة القانون الأصلح للمتهم)

قاعدة القانون الأصلح للمتهم بين حكمة محكمة النقض واجتهاد المحكمة الدستورية العليا

كان القضاء المصرى قد شهد فى الآونة الأخيرة تناقضاً بين قضاء المحكمة الدستورية العليا وقضاء محكمة النقض بشأن ما إذا كان القانون رقم 4 لسنة 1996 يعتبر قانوناً أصلح للمتهم من عدمه بشأن جريمة تقاضي مقدم إيجار زائد عن المقرر قانوناً .

فقد قالت المحكمة الدستورية العليا بمناسبة نظر قضية (1) إن القانون رقم 4 لسنة 1996 هو القانون الأصلح للمتهم بشأن جريمة تقاضى مقدم إيجار زائد عن المقرر قانوناً ، على أساس أن هذه الجريمة المنصوص عليها فى قانون الإيجار القديم الصادر سنة 1977 والمعدل سنة 1981 ،

ألغيت بالقانون رقم 4 لسنة 1996 بحكم أنه قانون أصلح للمتهم يعمل به بأثر رجعى ثم رتبت المحكمة على ذلك انتفاء مصلحة المدعى الدستورى لأن محكمة الموضوع ستطبق عليه القانون الجديد باعتباره قانونا أصلح للمتهم وتقضى ببراءته ، وقررت المحكمة أن قضاءها باعتبار القانون رقم 4 لسنة 1996 أصلح للمتهم قد انبنى على التطبيق المباشر للقواعد الدستورية ،

وأن حكمها باعتبار هذا القانون كذلك يكون متمتعا بالحجية المطلقة التى أسبغها المشرع على أحكامها الصادرة فى المسائل الدستورية وملزما بالتالى لكل سلطة فى الدولة إلا أن الهيئة العامة للمواد الجنائية بمحكمة النقض(2) انتهت الى عدم الأخذ بما جاء فى حكم الدستورية العليا بشأن القانون الأصلح للمتهم ورات أن القانون لا ينعطف بأثره على الوقائع السابقة على صدوره بما مؤداه عدم اعتبار هذا القانون أصلح للمتهم وقررت أن حجية أحكام الدستورية العليا لا تنصرف الا الى الأحكام الصادرة بدستورية او عدم دستورية النص التشريعى باعتبار أن ذلك هو الذى يدخل فى ولايتها واختصاصها بحسب القانون الذى يحكمها لابحسب ماتراه هى ومن ثم ينصرف اليه الإلزام ولا كذلك ينصرف الإلزام المطلق لأى تقرير واقعى أو قانونى لم يكن موضوع الدعوى الدستورية المراد استظهار مدى اختلافه أو اتفاقه مع الدستور .

وقد انقسم الفقه ما بين مؤيد لقضاء المحكمة الدستورية ومؤيد لموقف محكمة النقض .

أولاً : الاتجاه المؤيد لقضاء المحكمة الدستورية العليا
ذهب اتجاه فقهى إلى تأييد حكم المحكمة الدستورية وانتقد محكمة النقض لرفضها الالتزام به وذلك لأن المحكمة الدستورية العليا – فى قضائها – قد فصلت فى مسائل دستورية تضمنتها أسباب حكمها المرتبطة بالمنطوق القاضى بعدم القبول ارتباطا وثيقا لا يقبل التجزئة مما يسبغ على حكمها القاضى باعتبار القانون رقم 4 لسنة 1996 أصلح للمتهم الحجية العينية المطلقة والملزم لكافة سلطات الدولة .

فثمة رأى قائل (3) إن الهيئة العامة للمواد الجنائية أوردت فى حيثيات حكمها أن الحجية المطلقة قبل الكافّة للأحكام الصادرة فى الدعاوى الدستورية والتى تلتزم بها جميع سلطات الدولة هى – فحسب – للأحكام التى
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــ
(1) حكم الدستورية العليا في القضية رقم 48 لسنة 17 قضائية “دستورية” بتاريخ 22 فبراير 1997 والمنشورة بالجريدة الرسمية العدد 10 في 6/3/1997 .

(2) حكم الهيئة العامة للمواد الجنائية بمحكمة النقض في الطعن المقيد بجدول المحكمة برقم 11838 لسنة 60 قضائية بتاريخ 13/4/1997
(3) د . عبد العزيز محمد سالمان ، مؤلفه ، الآثار القانونية لأحكام المحكمة الدستورية العليا والمشكلات العملية التي تثيرها – ص 222.

المستشار/ عزت حنورة نائب رئيس محكمة النقض الأسبق – مقال بعنوان : تعليق على حكمي المحكمة الدستورية العليا والحكم الصادر من الهيئة العامة للمواد الجنائية – مجلة القضاة ، السنة 29 – العدد الأول 1997 .

انتهت الى عدم دستورية النص التشريعى المطعون عليه أو الى دستوريته ورفض الدعوى على هذا الأساس. وهذا القول مردود بأن نصّ المادة 49 من قانون المحكمة الدستورية العليا قد جرى على أن ” احكام المحكمة فى الدعاوى الدستورية وقراراتها بالتفسير ملزمة لجميع سلطات الدولة وللكافة …” فهذا النص ورد عاماً بالنسبة لجميع الأحكام ولم يخصص أحكاما بعينها ومن ثم فلا محل لتخصيصه من جانب المحكمة ،

فالقوة الملزمـة والحجية المطلقة تشمل جميع الأحكام الصادرة من المحكمة وتكون قطعية موضوعية شريطة أن تكون صادرة فى دعوى دستورية فالمشرع أورد شرطا وحيدا ثم أطلق وعمّم ومن ثم فإن الهيئة قد خالفت – دون سند – قضاء محكمة النقض المستقر والمتواتر الذى يقضى بأنه لا محل لتخصيص النص العام بغير مخصص كما أن نص المادة ( 49 ) سالف الذكر قد ورد عاما أيضا فى إسباغ الحجية على الحكم منطوقا وأسبابا ولم يقصرها على المنطوق فخالفت الهيئة فى ذلك أيضا قضاء النقض المستقر والمتواتر على ثبوت الحجية لأسباب الحكم المرتبطة بمنطوقه ارتباطا وثيقا لا يقبل التجزئة .

ويذهب رأى آخر(1) إلى أن الهيئة العامة للمواد الجنائية نظرت الى منطوق حكم المحكمة الدستورية العليا وهو عدم قبول الدعوى لانتفاء المصلحة وقالت إن عدم قبول الدعوى هو حكم إجرائى وبالتالى تكون له حجية بين أطراف الخصومة وحدهم لكن الحكم الذى له حجية مطلقة هو الحكم الذى يمسّ القاعدة القانونية وهو مالا يكون إلا فى الحكم بالدستورية أو بعدم الدستورية ويضيف هذا الرأى الفقهى أن المسألة ليست كذلك على إطلاقها فمقطع النزاع هو فى تحديد ما تضمنه حكم الدستورية العليا من أحكام فاصلة فى مسائل دستورية لهذا جاءت المحكمة الدستورية فى حكمها فى منازعة التنفيذ (2) وعنيت بإيضاح أن أحكامها بعدم القبول لها حجية مطلقة إذا فصلت فى مسألة دستورية .

ويضيف هذا الرأى أنه قد صدر من المحكمة الدستورية العليا فى ثنايا أسباب حكمها أحكام فاصلة فى مسائل دستورية بغض النظر عن وجود هذه الأحكام فى أسباب منطوق نهائى بعدم القبول ذلك أنه من المقرر قانونا أن الأسباب قد تحتوى بذاتها على منطوق بأحكام فليس هناك مكان محدد فى مدونات الحكم للمنطوق .

ثانياً : الاتجاه المؤيد لموقف محكمة النقض
ذهب هذا الإتجاه الفقهى إلى أن هناك فرقاً أساسياً بين الحكم الصادر فى دعوى موضوعية والحكم بعدم الدستورية ، فالحكم الصادر فى دعوى موضوعية لا يحوز حجية الأمر المقضى إلا فيما فصل فيه من مسائل الواقع فهو لايكون حجة فيما فصل فيه من مسائل القانون ، لأن نظامنا القضائى لا يقوم على السوابق القضائية الملزمة ، أما الحكم بعدم الدستورية فهو لا يفصل إلا فى مسائل قانونية فليس للمحكمة الدستورية العليا أية سلطة فى أن تفصل فى النزاع الموضوعى القائم بين الخصوم .

(1) د . أحمد فتحي سرور ” محاضرة بعنوان الرقابة الدستورية على القوانين . نشرت بمجلة هيئة قضايا الدولة العدد الأول سنة 1999 ومؤلفه الحماية الدستورية للحقوق والحريات بند 106 حول الخلاف بين المحكمة الدستورية العليا والهيئة العامة للمواد الجنائية . الناشر دار الشروق 1999 .

(2) القضية المقيدة بجدول المحكمة الدستورية العليا برقم 1 لسنة 19 قضائية “منازعة تنفيذ دستورية” ، نشر الحكم بالجريدة الرسمية – العدد 42 فــي 15/10/1998 .

وبناء على ما تقدم يتعين ألا تتطرق المحكمة الدستورية العليا عند نظرها للدعوى الدستورية المطعون فيها بعدم دستورية نص تشريعى إلى الفصل فى أى نزاع موضوعى . هذا بالإضافة إلى أن قضاء المحكمة الدستورية ليس له أن يحدد لمحاكم الموضوع القاعدة الواجبة التطبيق على النزاع الموضوعى ، لأن فى ذلك اعتداء على اختصاص محاكم الموضوع . وهذا هو شأن هذا القضاء للمحكمة الدستورية العليا ، الذى تصر فيه على الحجية المطلقة لتكييفها للقانون ( 4 ) لسنة 1996 باعتباره القانون الأصلح للمتهم ، الذى نسخ بأثر رجعى القانون ( 49 ) لسنة 1977 ، والقانون ( 136 ) لسنة 1981 .

وأضاف هذا الاتجاه الفقهى ، أنه إذا كان للمحكمة الدستورية أن تحدد بتقريرات قانونية حقيقة مضمون القاعدة القانونية محل الطعن فى الخصومة الدستورية ، توطئة للحكم بعدم دستوريتها ، أو برفض الدعوى الدستورية ، إلا أن هذه التقريرات يتعين ألا تتجاوز موضوع الدعوى الدستورية .*

وهذه الأحكام القضائية والآراء الفقهية تطرح العديد من التساؤلات وصولا الى الحل القانونى الصحيح لهذا الخلاف بين المحكمتين .

التساؤل الأول : متى تثبت القوة الملزمة المنصوص عليها فى المادة (49) لأحكام المحكمة الدستورية العليا
ومن البدهى أن الأحكام الإجرائية التى لا تمس القاعدة القانونية مثل الحكم بعدم الاختصاص او الحكم بعدم القبول هذه الأحكام ليس لها أيّة حجية مطلقة أو قوة ملزمة أما الأحكام الموضوعية التى تمس القاعدة القانونية فهنا يجب التفرقة بين معنيين قانونيين مختلفين نكاد نلحظ خلطا فى الفقه والقضاء بينهما هما ” الحجية المطلقة ” Absolute Authorityو ” القوة الملزمة “Obliging Force وبناء على ذلك فإننا لا نكتفى بأن نقرر صحة ماذهبت اليه محكمة النقض بل نذهب الى أبعد مما ذهبت اليه فنقول إن الأحكام التى يثبت لها الحجية المطلقة والقوة الملزمة هى فقط الأحكام الصادرة بعدم دستورية نص تشريعى أما الأحكام الصادرة بدستورية نص تشريعى فلها حجية مطلقة ولكن ليس لها قوة ملزمة والقول بأن هذا تخصيص للنص العام بغير مخصص مردود بأنه استقصاء للأرادة الحقيقية للمشرع دون الوقوف عند حرفية الألفاظ .

فالحكم بدستورية نص تشريعى له حجية مطلقة بحيث يمتنع على آيةمحكمة بعد ذلك التطرق إلى بحث أمر

دستوريته من جديد ولكن لا يتصور أن يكون له قوة ملزمة فبدهى أنه ليس ثمة عمل قانونى ( إيجابى أو سلبي)

دستوريته من جديد ولكن لا يتصور أن يكون له قوة ملزمة فبدهى أنه ليس ثمة عمل قانونى ( إيجابى أو سلبى) يلتزم قاضى الموضوع أو أية سلطة فى الدولة بالقيام به فكيف يسوغ القول أن يكون ثمة التزام دون أن يكون ثمة محل يرد عليه هذا الالتزام ؟! ولاينال من هذا النظر القول إن قاضى الموضوع يلتزم بتطبيق النص – الذى ساوره الشك فى دستوريته – على الوقائع المعروضة عليه بعد أن تأكدت شرعيته الدستورية من المحكمة الدستورية العليا لأن القاضى لا يقوم بهذا نزولا على حكم المحكمة ولكن نفاذا لإرادة المشرع ، تلك الإرادة التى نشأت منذ صدور النص التشريعى وقبل نشوء الدعوى الدستورية ذاتها .

واستمر نفاذ النص – أثناء فترة وقف الدعوى الموضوعية أو تأجيلها – على المخاطبين بأحكامه وإنزال حكمه على الوقائع المعروضة على قاضى الموضوع فى دعوى موضوعية اخرى . المسألة الدستورية فلن يرتب أى أثر قانونى لأنه إن لم يفعل وأحال مسألة دستورية النص ذاته مرة أخرى الى المحكمة الدستورية العليا فكل ماسيترتب على هذا الإجراء هو قضاء المحكمة الدستورية العليا مرة أخرى بتأكيد الشرعية الدستورية للنص التشريعى ومن ثم فلن تتغير المراكز القانونية للخصوم فى المنازعة الموضوعية بعد صدور الحكم بدستورية النص عنها قبل صدور هذا الحكم .

وبعبارة أخرى ، فإن التزام قاضي الموضوع – بعد الحكم بعدم دستورية نص تشريعي – بعدم جواز تطبيقه على النزاع المعروض عليه هو التزام بنص المادة (49) من قانون المحكمة الدستورية العليا ، أما التزام قاضي الموضوع – بعد الحكم بدستورية نص تشريعي – بالامتناع عن بحث أمر دستوريته مرة أخرى هو التزام بنص المادة (116) (*) من قانون المرافعات .

ولا يقدح في ذلك القول بعمومية نص المادة (178) من الدستور التي تقضي بنشر الأحكام الصادرة من المحكمة الدستورية العليا في الدعاوى الدستورية ، لأن الأحكام الصادرة بعدم دستورية نص تشريعي تنشر لكي تكتسب من خلال واقعة النشر قوتها الملزمة في مواجهة كافة المخاطبين بها ، أما الأحكام الصادرة بدستورية نص تشريعي فتكتسب الحجية المطلقة عند صدورها وقبل نشرها بالجريدة الرسمية .

على أن نشر الأحكام الصادرة بدستورية نص تشريعي ورفض الدعوى على هذا الأساس ، الغرض منه هو إحاطة الكافة بهذه الأحكام ، حتى يتمكن أطراف المنازعة الموضوعية من تبصير قاضي الموضوع بها حتى لا يتأخر الفصل في الدعوى الموضوعية دون مبرر وحتى لا تزدحم ساحة المحكمة الدستورية العليا بالعديد من الدعاوى الدستورية التي ترتد مرة أخرى الى محاكم الموضوع بعد القضاء بعدم قبولها لسبق الفصل فيها ودون الخوض في موضوعها .

ولا ينال من هذا النظر القول إن امتناع قاضي الموضوع عن إثارة نفس المسألة الدستورية التي سبق أن صدر فيها حكم من المحكمة الدستورية العليا ، مرده الى مبدأ الحجية المطلقة وهو من الأمور المتعلقة بالنظام العام ، ومن ثم فكان يمكن الاكتفاء بتوزيع كتب دورية على القضاة بهذه الأحكام بدلاً من نشرها بالجريدة الرسمية فمثل هذا القول مردود بأن ثمة فارقاً بين التزام قاضي الموضوع بالقضاء بما قد يظهر له عرضاً من الأمور المتعلقة بالنظام العام وبين أن ينقب هو بنفسه باحثاً عنها .

فمن البدهي أن أطراف المنازعة الموضوعية هم أكثر حرصاً من قاضي الموضوع على مصالحهم ومن ثم يجب عليهم هم أولاً إبداء الدفوع التي تحقق مصالحهم ، سواء كانت متعلقة بالنظام العام أم غير متعلقة بالنظام العام .

وفضلا عما تقدم فقد نصت المادة (178) من الدستور فى فقرتها الثانية على : ” وينظم القانون ما يترتب على الحكم بعدم دستورية نص تشريعى من آثار ” .

فهذا النص واضح الدلالة على أن القوة الملزمة تثبت فقط للأحكام الصادرة بعدم دستورية النص التشريعى دون الأحكام الصادرة بدستورية النص أو أي أحكام أخرى .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــ
* تنص المادة (116) على أن ” الدفع بعدم جواز نظر الدعوى لسبق الفصل فيها تقضي به المحكمة من تلقاء نفسها ” ونقصد بالدعوى هنا المسألة الدستورية المثارة كدعوى فرعية .

التساؤل الثانى : هل القوة الملزمة تثبت للمنطوق فقط أم تثبت أيضا للأسباب المرتبطة بالمنطوق

يذهب الرأى الغالب فى الفقه الى أن الحجية المطلقة والقوة الملزمة تثبت للمنطوق وأيضا للأسباب المرتبطة بالمنطوق ارتباطا وثيقا لايقبل التجزئة وأن الأسباب قد تحتوى بذاتها على منطوق بأحكام .

ونحن نرى أن هذا الرأى محل نظر وترديد غير مقبول لقواعد قانون المرافعات ونقل لهذه القواعد من حقل المنازعات القانونية العادية ومحاولة غرسها فى حقل القضاء الدستورى رغم اختلاف طبيعة المنازعات القانونية العادية عن المنازعات الدستورية .

فمن المقرر أن حجية الأمر المقضى تكون أثرا للمنطوق دون غيره من العناصر وعلة هذا واضحة فهذا الجزء وحده هو الذى يتضمن قرار القاضى بمنح الحماية القضائية (1) ولكن المقصود بالمنطوق لا يتضح إلا بالرجوع

إلى الأسباب ، وعندئذ تكون الحجية للمنطوق بالتحديد الذى يتضح من الأسباب وكذلك الأمر بالنسبة للوقائع فهذه الوقائع لاحجية لها ولكن هذه الوقائع تحتوى على تحديد عناصر الدعوى فتعتبر حجية الأمر المقضى أثرا للمنطوق على النحوالذى بينته الوقائع .

أما بالنسبة للمنازعات الدستورية فالدعوى عينية قوامها مقابلة النصوص التشريعية المدعى مخالفتها للدستور بالقيود التى فرضها لضمان النزول اليها والكشف عن مدى دستورية النصوص التشريعية ومن ثم لا يتصور ألا يتسع المنطوق لتحديد نطاق الحكم المكتسب لقوة ملزمة وحجية مطلقة معاً أي الحكم بعدم دستورية نص تشريعي.

وقد أثيرت مسألة تمتع أسباب الحكم الدستوري بالحجية لأول مرة إبان صدور حكم المحكمة الدستورية العليا الشهير بتاريخ 19 / 5 / 1990 والقاضي بعدم دستورية نص تشريعي منظم لانتخابات مجلس الشعب . وذهب الرأي الغالب (2) في الفقه الى القول بأن أسباب الحكم التي تشير الى بطلان تشكيل مجلس الشعب المستند الى ذلك النص ، هي أسباب تثبت لها الحجية لارتباطها بالمنطوق ارتباطاً وثيقاً ، ذلك لأن بطلان تشكيل المجلس هو نتيجة حتمية لبطلان النص الذي تم تكوينه على أساسه .

والحقيقة أن الفقه لم يتنبه الى عبارة أوردتها المحكمة في حكمها المشار اليه ولها دلالتها حيث قالت المحكمة ” وحيث أنه عما أشار اليه المدعي من أن بطلان تكوين مجلس الشعب لقيامه على انتخابات مخالفة للدستور يترتب عليه عدم دستورية كل ما أقره المجلس من قوانين وقرارات مما يهدد البلاد بانهيار دستوري كامل فإن على المحكمة – بحكم رسالتها التي حملت أمانتها – ……….

أن تقول كلمتها في هذا الموضوع تجلية لوجه الحق فيه ” لم يتنبه الفقه بالقدر الكافي الى العبارة السابقة وما تحمله من معنى ، فالمحكمة أرادت أن تقول إنه كان يمكنها أن تقف بأسباب حكمها عند الحد الذي وصلت اليه لتنطق بعد ذلك بمنطوق حكمها ولكنها رأت أن ثمة التزاماً أدبياً وليس التزاماً قانونياً Moral Commitment not Legal Obligation يقع على عاتقها فرأت أن توضح بعض النقاط قبل أن تنهي أسباب حكمها وهذا يعني أن المحكمة حين ذهبت في ختام حكمها الى
__________________________________________________ _________________
(1) د . فتحي والي ـ مؤلفه ( الوسيط في قانون القضاء المدني ) .
(2) د. محمود عاطف البنا – مقال بعنوان ” مفاهيم أساسية حول الحكم ببطلان تشكبل مجلس الشعب ” . مجلة القضاة العدد الأول سنة 1990 .
د. عبد العزيز سالمان – مرجع سابق .
د. عبد الحميد حسن – رسالة دكتوراه بعنوان ” دور المحكمة الدستورية العليا في مجال حماية الحقوق والحريات .
ويلاحظ أن الفقه استعمل لفظة ” الحجية ” وهو يقصد ” القوة الملزمة ” وهوناتج كما قلنا آنفاً عن خلط في الفقه والقضاء بين المعنيين .

” أن مؤدى هذا الحكم ولازمه أن تكوين مجلس الشعب يكون باطلاً منذ انتخابه ” فهذا يعني أن ما ذهبت اليه المحكمة لم يكن إلا تزيداً منها ، فلا تثبت له قوة ملزمة أو حجية مطلقة .

خلاصة القول إن القوة الملزمة – المنصوص عليها فى المادة (49) من قانون المحكمة الدستورية العليا – لا تثبت إلا لأحكام المحكمة التى تنتهى بمنطوق حكم بعدم دستورية نص تشريعى .

التساؤل الثالث : هل تطبيق قاعدة القانون الأصلح للمتهم مسألة دستورية أم مسألة قانونية بحتة
والحقيقة أن هذا التساؤل هو مقطع النزاع بين المحكمة الدستورية العليا ومحكمة النقض .

ونحن من جانبنا نرى أن تطبيق قاعدة القانون الأصلح للمتهم هى مسألة قانونية بحتة ينحصر عنها الاختصاص الولائى للمحكمة الدستورية العليا وما ذهب إليه الرأى الغالب فى الفقه من أنها مسألة دستورية .

5

مردود ( أولاً ) : أنه طبقا لقانون المحكمة الدستورية العليا ، إذا رأت محكمة الموضوع أثناء نظر

مردود ( أولاabic”‘>ألة الدستورية الى المحكمة الدستورية العليا وأن تتربص قضاءها فيها باعتبارها المحكمة التى ناط بها الدستور دون غيرها ولاية الفصل فى المنازعات الدستورية . أما بالنسبة لتطبيق قاعدة القانون الأصلح للمتهم فإن محكمة الموضوع تستطيع من تلقاء نفسها أن تطرح النص القديم جانبا وتطبق النص الجديد لأنه أصلح للمتهم دون حاجة بها الى إحالة المسألة الى المحكمة الدستورية العليا ، وبعبارة أخرى فإنه لكى يمكن القول إننا بصدد منازعة دستورية إنما يعنى أن أيّاً من أطراف المنازعة الموضوعية لن يتمكن من الحصول على الحماية القضائية التى يبتغيها دون المثول أمام المحكمة الدستورية العليا فإذا تمكن من اقتضاء الحق الذى ينشده بواسطة محكمة الموضوع وحدها فلا نكون إلا بصدد منازعة قانونية بحتة .

وعلى عكس ذلك قد يضطر أحد أطراف المنازعة الموضوعية الى المثول أمام المحكمة الدستورية العليا وهو في سبيله للحصول على الترضية القضائية التى يبتغيها ومع هذا نظل بصدد منازعة قانونية بحتة ، مثال ذلك أن يضطر أحد أطراف المنازعة الموضوعية الى تقديم طلب الى المحكمة الدستورية العليا للفصل فى تنازع الاختصاص بين جهة القضاء العادى وجهة القضاء الإدارى .

ومردود ( ثانياً ) : أن صدور نص تشريعى مطابقاً للدستور الذى نشأ فى ظله شكلاً وموضوعاً يجعله بمنأى عن الرقابة الدستورية إذا تغيرت بعض النصوص الدستورية بعد ذلك

ومثال ذلك ما تواترت عليه أحكام الدستورية العليا من أن الرقابة على الشرعية الدستورية التى تباشرها هذه المحكمة فى مجال تطبيقها للمادة الثانية من الدستور لاتمتد للنصوص القانونية الصادرة قبل تعديل الدستور فى 22 مايو سنة 1980 . وإن خالفت الشريعة الإسلامية فى أصولها الكلية ومبادئها الثابتة ، فكيف يسوغ القول إن صدور تشريع مطابقاً للدستور الذى نشأ فى ظله شكلاً وموضوعاً يخضعه للرقابة الدستورية لمجرد صدور تشريع جديد ينظم نفس المسألة التى ينظمها التشريع القديم ؟

وبعبارة أخرى كيف يتصور أن ينأى القانون عن الرقابة الدستورية إذا غايرت نصوصه الفلسفة الجديدة للمشرع الدستورى فى حين يخضع القانون لتلك الرقابة إذا غايرت نصوصه الفلسفة الجديدة للمشرع العادى ؟ ألا يعنى هذا إعلاء لقدر القاعدة الأدنى على القاعدة الأعلى الأمر الذى يأباه المنطق القانونى السليم ؟!!

ومردود ( ثالثاً ) : أنه لايتصور أن تختص المحكمة الدستورية العليا ولائياً بتطبيق قاعدة القانون الأصلح للمتهم دون أن تملك الوسيلة القضائية لتعيين نطاق تطبيق القانون الجديد ودون حتى أن تطبق في حكمها النص الإجرائي الذي يمكّنها من تعديل نطاق الدعوى الدستورية ، ففى المنازعة الدستورية ـ محل التعليق ـ

ذهب رأى فقهى (*) الى القول إن المحكمة الدستورية العليا فى ثنايا حكمها مسّت القاعدة القانونية وفصلت في مسألة

دستورية ولكن كيف مسّت المحكمة القاعدة القانونية ؟ يقول هذا الرأى الفقهى إن المحكمة بحثت فى دستورية القانون القديم ورأت أ

دستورية ولكن كيف مس:“Simplified Arabic”‘>إطلاق فى دستورية القانون الجديد ، لأن هذا البحث يستلزم تعديل نطاق الدعوى الدستورية الذى حددته محكمة الموضوع وهو مايستلزم تطبيق المادة (27) من قانون المحكمة وهو ما لم يتحقق لأن المحكمة لم يساورها الشك على الاطلاق فى دستورية القانون الجديد والأصل فى التشريعات أنها تحمل على قرينة الدستورية .

ويؤكد هذا النظر ويعززه أنه لم يثبت بمدونات حكم الدستورية العليا أن المحكمة أحالت الدعوى الى هيئة المفوضين لتحضيرها وكتابة تقرير تكميلى حول صحة دستورية القانون رقم (4) لسنة 1996. وهو إجراء
استقر الرأى – فقهاً وقضاءً – على أنه إجراء وجوبى ، سواء انتهت المحكمة بعد ذلك الى تقرير دستورية القانون الجديد أو عدم دستوريته لاتحاد علة هذا الإجراء فى الحالتين .

ويقطع فى دلالة ذلك أنه منذ صدور القانون رقم (4) لسنة 1996 ، لم يذهب أحد فى الفقه الى إثارة الشكوك حول صحة دستورية أى من نصوص هذا القانون .

فإذا كانت المحكمة لم تطبق المادة (27) من قانونها فى المنازعة ـ محل التعليق ـ فأى نص آخر فى قانونها يخولها سلطة تعديل نطاق الدعوى الدستورية لتبحث فى دستورية القانون الجديد ، ثم أى نص في قانون المحكمة الدستورية العليا يخولها تعديل نطاق الدعوى مرة أخرى لتبحث فى نطاق تطبيق القانون الجديد ؟ أي تعديل نطاق الدعوى المعدلة .

وبوجه عام فإن تعديل المحكمة نطاق الدعوى الدستورية الذى حددته محكمة الموضوع لايجوز إلا بإجراء جوهرى وجوبى هو إحالة الدعوى مرة أخرى الى هيئة المفوضين .

ويؤكد هذا النظر ويعززه أن الإخلال بهذا الإجراء هو إخلال بحق دستورى هو حق الدفاع الذى كفله الدستور فى المادة (69) منه والذى لا يمكن فصله أو عزله عن حق التقاضى ، ولذلك لايجوز للمحكمة أن تفصل فى مسألة دستورية جديدة غير تلك التى حددها قاضى الموضوع إلا بعد أن تتولى هيئة المفوضين تحضيرها لتمحص بنفسها أوراقها وأدلتها وتكافىء بين أطرافها فى مجال فرص الدفاع عن حقوقهم وسواء انتهت المحكمة بعد ذلك الى تقرير دستورية النص التشريعى أو عدم دستوريته ، وسواء عبرت عن قضائها بإرادة صريحة أو ضمنية ، طالما أن الفصل فى المسألة الدستورية الجديدة سيؤثر على النتيجة النهائية للخصومة الدستورية الأصلية .

ويقطع فى دلالة ذلك ماجرى عليه العمل فى قضاء مجلس الدولة – الذى يأخذ بنفس نظام هيئة المفوضين – من وجوب التزام المحكمة بهذا الإجراء قبل الفصل فى طلبات جديدة للخصوم لم يكن موضوعها مثاراً أمام هيئة المفوضين ولم يشمله تقريرها بالرغم من عدم وجود نص فى قانون مجلس الدولة يقضى بذلك .

ومرة أخرى نقول إنه لم يثبت بمدونات حكم الدستورية العليا ـ محل التعليق ـ أن المحكمة أحالت الدعوىإلى هيئة المفوّضين مرة أخرى .

ومرة أخرى نقول أي نص في قانون المحكمة الدستورية العليا يخولها البحث في نطاق تطبيق القانون الجديد؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــ
(*) د . أحمد فتحي سرور المرجعان السابقان .

ومردود ( رابعاً ) : أنه لا يتصور أن تختص المحكمة الدستورية العليا ولائياً بتطبيق قاعدة القانون الأصلح للمتهم دون أن يملك المدعى الدستورى الوسيلة القضائية التى تمكنه من النفاذ الى المحكمة الدستورية العليا طلباً للحماية القضائية .

فمن ناحية ، لو افترضنا أن القانون الجديد قد صدر فى ميعاد سابق على الميعاد الذى دفع فيه المتهم أمام محكمة الموضوع بعدم دستورية القانون القديم وأراد المتهم النفاذ الى المحكمة الدستورية العليا طلباً للحماية القضائية فإنه سوف يدفع بعدم دستورية القانون القديم فإن صرحت له برفع دعواه الدستورية للطعن على القانون القديم بعدم الدستورية ، أف

فمن ناحيةd Arabic”‘>إذا جاء حكم الدستورية العليا بعد ذلك متضمناً قضاءً بأن القانون الجديد ألغى القانون القديم بقوة الأثر الرجعي للقانون الأصلح للمتهم أفلا يعد هذا تناقضاً بين حكم الدستورية العليا وحكم محكمة الموضوع الذى اتصلت المحكمة الدستورية العليا من خلاله بالدعوى الدستورية ؟ الأمر الذى يترتب عليه بطلان حكم الدستورية العليا .

ومن ناحية أخرى لو افترضنا أن القانون الجديد قد صدر فى ميعاد لاحق للدعوى الدستورية ( التى كانت ستنتهى حتماً بتأكيد دستورية القانون القديم ورفض الدعوى على هذا الاساس ) فلو أراد مدع دستورى آخر ( متهم آخر ) أن ينفذ الى المحكمة الدستورية العليا طلبا للحماية القضائية فإنه سوف يدفع أمام محكمة الموضوع بعدم دستورية القانون القديم وبدهى أن المحكمة لن تصرح له برفع الدعوى الدستورية لأن ثمة حكماً صدر بالفعل من المحكمة الدستورية العليا عن نفس المسألة الدستورية وهو حكم اكتسب الحجية العينية المطلقة التى تمنع إثارة نفس المسألة الدستورية مرة أخرى من أيّة محكمة موضوع .

ومردود ( خامساً ) : أن المحكمة الدستورية العليا قررت أن جريمة تقاضى المؤجر مبالغ خارج نطاق عقد الإيجار قد أسقطتها فلسفة جديدة تبنتها الجماعة فى مرحلة من أطوار تقدمها قوامها حرية التعاقد والتى جسدها المشرع بإقراره القانون رقم 4 لسنة 1996 ، فلا يكون الجزاء الجنائى الذى صاحب تلك القيود التى فرضتها قوانين الإيجار الاستثنائية على حرية التعاقد إلا منهدما بعد العمل بالقانون الجديد – الذى أطلق حرية التعاقد – بحسبانه قانوناً أصلح للمتهم .

وعلى نقيض ذلك : قررت المحكمة فى حكم لاحق لها (*) : ” أن جريمة تخلف المؤجر – دون مقتض – عن تسليم المستأجر الوحدة المؤجرة فى الموعد المتفق عليه : تعتبر صورة من صور التدليس تنطوى على مسلك إجرامى يضر بالقيم والمصالح الاجتماعية ويهدر الثقة المشروعة فى المعاملات ، وهو ما استوجب تدخل المشرع بعقاب فاعله بالعقوبة المقررة لجريمة النصب ولم تطبق القانون رقم 4 لسنة 1996 كقانون أصلح للمتهم ،

مع أن التأصيل العلمى لقاعدة القانون الأصلح للمتهم – على النحو الذى حددته المحكمة – قوامه عدم جواز تجريم الفعل الواحد وإباحته فى ذات الوقت باعتبار أن التجريم والإباحة متناقضان لايجتمعان على محل واحد وليس قوام تلك القاعدة ما إذا كان ذلك الفعل يشكل صورة من صور التدليس أم ينطوى على مسلك إجرامى من عدمه ،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــ
(*) حكم الدستورية العليا في الدعوى رقم 52 لسنة 20 قضائية ” دستورية ” نشر في الجريدة الرسمية في 22 / 7 / 2000 .
وقد قالت المحكمة ” وليس مفهوما أن يكون للفعل الواحد معنيان مختلفان ولا أن تحتفظ

الجريمة التى أنشأها القانون القديم بذاتيتها وبوطأة عقوبتها بعد أن جرد القانون الجديد الفعل الذى يكونها من الآثام التى احتضنتها ” .

وهذا التناقض بين حكمى المحكمة إنما يعنى أن المحكمة لم تكن ترد أحكامها الى أ

الجريمة التى “‘>صلح للمتهم مسألة قانونية بحتة .
ومردود ( سادساً ) : أن ما قررته المحكمة الدستورية العليا فى المنازعة محل التعليق “

بأن سريان القانون اللاحق فى شأن الأفعال التى أثّمها قانون سابق وإن اتخذت من نص المادة (5) من قانون العقوبات موطئاً وسنداً إلا أن صون الحرية الشخصية التى كفلها الدستور بنص المادة (41) منه : هى التى تقيم هذه القاعدة وترسيها بما يحول بين المشرع وتعديلها أو العدول عنها .

وهذا القول إنما يعنى أن صدور قانون جديد يعدل من نص المادة (5) من قانون العقوبات أو يلغيه هو وحده الذى يخضع للرقابة الدستورية ، أما تطبيق نص المادة (5) عقوبات فيظل داخل نطاق الاختصاص الولائى للقضاء الجنائي يباشره تحت رقابة محكمة النقض .

ومردود ( سابعاً ) : بما قررته محكمة النقض بأنه لا ارتباط بين القول بأن قانوناً ما أصلح للمتهم من قانون سابق عليه وبين القول بعدم دستورية القانون السابق لأن المناط فى اعتبار القانون أصلح قد يتحقق رغم دستورية أو عدم دستورية أى من القانونين السابق أو اللاحق أو كليهما ولو فى غير مساس بحرية المتهم الشخصية .

التساؤل الرابع : هل بني حكم الدستورية العليا على تطبيق مباشر للقواعد الدستورية وما هو الأثر القانوني لذلك :

لا يتصور بعد كل هذا العرض الذى قدمناه إلا أن نقول إن حكم المحكمة الدستورية العليا قد بني على تطبيق غير مباشر للقواعد الدستورية فقد طبقت المحكمة المادة (66) من الدستور على التشريع الجديد واعتبرته قانوناً أصلح للمتهم ، ولكن هذا التطبيق وقع بالمخالفة للعديد من النصوص الدستورية ، فقد نازعت المحكمة القضاء الجنائي في اختصاصه الأصيل المحجوز له دستورياً باعتباره قاضيه الطبيعي ، وأخلت بحق الدفاع حين عدلت نطاق الدعوى الدستورية دون أن تعيد الدعوى مرة أخرى الى هيئة المفوضين ،

وأخلت بالقانون الإجرائي الذي يحكمها حين عدلت نطاق الدعوى الدستورية للمرة الثانية لتحدد نطاق تطبيق القانون الجديدمن حيث الزمان دون وجود نص إجرائي في قانونها يسمح لها بذلك . أي أن قضاء المحكمة جاء مخالفاً لأحكام المواد (68) ، (69) ، ( 175) من الدستور .

ومن ثم جاز لمحكمة النقض أن تتحرر من الالتزام به بل إننا نذهب الى أبعد بكثير مما ذهبت إليه محكمة النقض فنقول إن قضاء المحكمة الدستورية العليا بعدم دستورية نص تشريعى ، وسواء جاء فى حيثيات حكمها المرتبطة بالمنطوق أو حتى نص عليه منطوق الحكم صراحة ليس له قوة إلزامية فى مواجهة أيّة محكمة ولو كانت فى أدنى درجات السلم القضائى إلا إذا بني الحكم على تطبيق مباشر للقواعد الدستورية ، وقد يرى البعض فى هذا القول غلواً أو شططاً ، لكننا لا نرى فيه إلا الإجابة المنطقية على تساؤل طرح فى الحقل القانونى فى الماضى القريب حين صدر حكم الدستورية العليا الشهير عام 1990 والذى قضى بأن انتخابات مجلس الشعب قد أجريت بناءً على نص تشريعى ثبت عدم دستوريته بما مؤداه أن تكوين المجلس

يكون باطلاً منذ انتخابه وترتب على ذلك صدور القرار الجمهورى بدعوة الناخبين للاستفتاء على حل مجلس الشعب حين تساءل جانب من الفقه فى تعجب ماذا يعنى لو جاءت نتيجة الاستفتاء بالسلب لا بالإيجاب ؟!

أى ما هو المعنى القانونى لأن يقول الشعب لا لحل مجلس الشعب بالرغم من صدور حكم الدستورية العليا المشار إليه ؟ والجواب – عندنا – هو أن هذا الحكم جاء تطبيقاً غير مباشر للقواعد الدستورية ، ومن ثم فهو تفسير للقواعد الدستورية تتناقض فيه الآراء أو تتوافق ، وتتعارض أو تتلاقى ومن ثم جاز للسلطة التأسيسية صاحبة السيادة عملاً بالمادة الثالثة من الدستور أن تقول كلمتها بأن المحكمة جاوزت ـ أثناء مقابلتها النصوص التشريعية بالنصوص الدستورية ـ فى تفسيرها للنصوص الدستورية حدود الإرادة الحقيقية للسلطة التأسيسية .

وهكذا أيضاً يجوز للسلطة القضائية أن تتحرر من الالتزام بحكم المحكمة الدستورية العليا إن رأت مجاوزته حدود الإرادة الحقيقية للسلطة التأسيسية تاركة الكلمة بعد ذلك للسلطة التشريعية ، تماماً كما تمتنع عن تطبيق نص تشريعي ساورها الشك في دستوريته تاركة الكلمة للمحكمة الدستورية العليا ، فتتأكد بذلك الرقابة المتبادلة بين السلطة التشريعية والمحكمة الدستورية العليا إعمالاً لمبدأ الفصل النسبي بين السلطات .

التساؤل الخامس: هل حكم المحكمة الدستورية العليا الصادر في منازعة التنفيذ الدستورية له حجية مطلقة وقوة ملزمة

يرى الدكتور فتحي سرور أن حكم محكمة النقض الأخير (1) ناقش حكم المحكمة الدستورية العليا الصادر في منازعة التنفيذ (2) رغم حجيته المطلقة وقوته الإلزامية المنصوص عليها في المادة (49/1) من قانون المحكمة الدستورية العليا .

ونحن من جانبنا نرى أنه ما كان يجب على حكم محكمة النقض أن يناقش حكم الدستورية العليا المشار اليه ولكن ليس لأنه حكم له حجية مطلقة وقوة ملزمة ولكن لسبب آخر .

فالفقه لم يتنبه بالقدر الكافي الى العبارات التي وصفت بها محكمة النقض هذا الحكم ، حيث قالت ” فيما أسمته منازعة التنفيذ رقم 1 لسنة 19 ق ” وعادت لتقول مرة أخرى ” ولو تضمنها منطوق ما أسمي بالمنازعة التنفيذية ” ولو أن الفقه اقترب من كلمتي ” فيما أسمته ” و ” ما أسمي ” لاستخلص المعنى الخفي الكامن فيهما ،

لأن محكمة النقض استشعرت جرحاً في كبريائها وهو ما عبرت عنه صراحة بقولها ” لذا لم يكن لمحكمة من بعد أن تترخص في قبول دعوى بطلب إلزام الهيئة العامة للمواد الجنائية بأن تقضي على وجه معين مغفلة أن الهيئة في قمة المدارج في سلم القضاء الجنائي ” والحقيقة أنه ليس ثمة منازعة تسمى منازعة تنفيذ في المسائل الدستورية لأن الأحكام الصادرة في الدعاوى الدستورية ليس لها قوة تنفيذية executive force ولا تصلح لأن تكون محلاً لسند تنفيذي مشمول بصيغة تنفيذية ،

ولكن هذه الأحكام لها قوة ملزمة Obliging Force لأن الحكم الدستوري هو في مضمونه تشريع ولذا فهذه الأحكام لا تصلح لأن تكون محلاً لمنازعة تنفيذ ولا تندرج في عداد منازعات التنفيذ التي عنتها المادة ( 50 ) من قانون المحكمة الدستورية العليا ، فالأحكام التي عنتها المادة ( 50 ) هي فقط الأحكام الصادرة في المنازعات القانونية البحتة التي تختص بها المحكمة وتصدر فيها أحكاماً لها قوة تنفيذية يعبر عنها سند تنفيذي ، ومن ناحية ثانية فإن ما قضت به الفقرة الثالثة من المادة (50 ) من أن للمحكمة أن تأمر بوقف التنفيذ حتى الفصل في المنازعة ما يؤكد استبعاد الأحكام الدستورية من منازعات التنفيذ التي عنتها المادة (50 ) لأن هذه الأحكام لا يتصور أن تكون محلاً لقضاء بوقف تنفيذها .

__________________________________________________ ________________
(1) حكم محكمة النقض ( الدائرة الجنائية ) في الطعن المقيد بجدول المحكمة برقم 6826 لسنة 41 قضائية .

(2) القضية المقيدة بجدول المحكمة الدستورية العليا برقم 1 لسنة 19 قضائية ” منازعة تنفيذ دستورية ” والمشار اليها سابقاً .

وبعبارة أخرى ، إذا كانت المحكمة الدستورية العليا تختص بالقضاء بالاستمرار في تنفيذ الحكم الدستوري فإن من المفترض أن تختص أيضاً – وبنفس القدر – بوقف تنفيذ الحكم الدستوري وهو أمر يأباه المنطق القانوني السليم ويؤدي الى نتيجة في غاية الغرابة وهي أن تظل القاعدة القانونية تهتز تارة في اتجاه دستوريتها وتارة أخرى في اتجاه عدم دستوريتها .

فإذا قضت المحكمة بوقف تنفيذ حكم قضى بعدم دستورية نص تشريعي فمعنى هذا القضاء أن يستمر نفاذ النص ويلتزم قاضي الموضوع بتطبيقه على الوقائع المعروضة أمامه بالرغم من أن الشك في دستوريته لا يزال قائماً . وهو أمر يأباه المنطق القانوني السليم . إذ كيف يوجب المشرع على قاضي الموضوع الامتناع عن تطبيق النص التشريعي إذا ساوره الشك في دستوريته ثم يوجب على قاضي الموضوع تطبيق ذات النص بعد أن شاركه القاضي الدستوري الشك في دستوريته ؟!

ومن ناحية ثالثة ، فإنه بدراسة التطور التاريخي للرقابة الدستورية على القوانين ، نجد أنه قبل الأخذ بنظام المركزية في الرقابة على دستورية القوانين ، فإن السلطة القضائية كانت هي التي تمارس الرقابة على دستورية القوانين وذلك في صورة امتناع المحاكم على اختلاف أنواعها ودرجاتها عن تطبيق القانون الذي تراه مخالفاً للدستور ، ثم تم الأخذ بنظام المركزية فأنشئت المحكمة العليا ومن بعدها المحكمة الدستورية العليا وذلك من أجل توحيد أحكام الدستور ومنع تضارب الأحكام . ومن خلال تحقيق هذا الهدف وحده يجب فهم دور المحكمة الدستورية العليا وحدود اختصاصها الضيق في الرقابة الدستورية ، هذا الاختصاص الذي ينحصر في كلمتين لا ثالثة لهما ، دستورية النص أو عدم دستوريته .

وبعبارة أخرى فإن المحكمة الدستورية العليا جاءت لتحل محل السلطة القضائية في القيام بدور محدد لا لتراقب السلطة القضائية من خلال ما وصفته بمنازعة تنفيذ دستورية .

ومن ناحية رابعة فقد استمرت المحكمة في هذا النهج غير الصحيح وأصدرت حكماً حديثاً في الدعوى رقم ( 5 ) لسنة 22 قضائية ” منازعة تنفيذ “بجلسة 4 أغسطس 2001 وباستعراض أسباب الحكم نجد أن المحكمة فصلت في مسألة قانونية بحتة قاضيها الطبيعي هو قاضي الموضوع .

فقد حكمت المحكمة بعدم دستورية نص فيما تضمنه من إسناد الفصل في طلبات إلغاء القرارات الإدارية المتعلقة بشئون أعضاء هيئة قضايا الدولة وطلبات التعويض المترتبة عليها للجنة التأديب والتظلمات .*

وبعد ذلك قرر المشرع نفس النص مرة أخرى بعد أن أفرغه في شكل آخر فرفع المدعي منازعة تنفيذ دستورية .

وهنا يلاحظ أن ما فصلت فيه المحكمة مسألة قانونية بحتة لأن قاضي الموضوع يمكنه الامتناع عن تطبيق النص الجديد لأن العبرة بمضمون النص القانوني بصرف النظر عن القالب الذي أفرغ فيه ، وهو أمر تقديره متروك لقاضي الموضوع ، فإذا وجد تطابقاً كاملاً بين النص القديم والنص الجديد من حيث المضمون فله أن يمتنع عن تطبيق النص الجديد من تلقاء نفسه دون أن يحيل الأمر الى المحكمة الدستورية العليا ، أما إذا رأى عدم وجود تطابق بين النصين وساوره الشك في دستورية النص الجديد أيضاً فإنه يكون لزاماً عليه أن يحيل الأمر الى القاضي الدستوري .

ويلاحظ أيضاً أن المحكمة في منازعة التنفيذ المذكورة لكي تصل الى قضائها بمنح الحماية القضائية للمدعي اضطرت الى أن تطبق حالة التصدي ( المادة 27 من قانون المحكمة ) وذلك في غير حالات تطبيقها الواردة في قانون المحكمة على سبيل الحصر وهي الحالات المنصوص عليها في المادة ( 25 ) من قانونها ( أولاً – ثانياً – ثالثاً ) وهذه الحالات أوضحت إجراءاتها المواد (29) ( 31 ) ، ( 32 ) على التوالي أي أن المحكمة لا تملك تطبيق المادة ( 27 ) وهي بصدد الحكم في منازعات التنفيذ ( المادة 50 ) بما يؤكد أنه ليس ثمة ما يسمى منازعة تنفيذ في الأحكام الدستورية .

التساؤل السادس : هل القانون رقم 4 لسنة 1996 يعتبر بالفعل قانوناً أصلح للمتهم من قوانين إيجار الأماكن السابقة عليه من منظورالقانون الجنائي ؟

أجاب رأي فقهي(*) على هذا التساؤل ، وبحث الموضوع من منظور قانوني وليس من منظور دستوري From a legal perspective not a constitutional perspective وانتهى الى القول بما يأتي :

أولاً : لا يوجد أدنى شك في أن القانونين رقمي 49 لسنة 1977 و 136 لسنة 1981 ، وإن كانا يعتبران من القوانين الاستثنائية التي دعت الى إصدارهما ظروف اقتصادية واجتماعية معينة ، إلا أنهما لا يعتبران من القوانين ” المؤقتة بفترة محددة ” التي يعنيها المشرع في الفقرة ( 3 ) من المادة ( 5 ) عقوبات ،

وسندنا فيما نقول به أن المشرع لا ينص في أي من القانونين المذكورين سلفاً على فترة معينة لسريانه ، هذا فضلاً عن أنه من الصعوبة بمكان التكهن مقدماً بالتاريخ الذي تزول فيه الظروف الاستثنائية التي استدعت إصدارهما . وينبني على ما تقدم أن القانون رقم ( 4 ) لسنة 1996 هو الذي يطبق في هذه الحالة وبأثر رجعي إعمالاً للفقرة ( 1 ) من المادة ( 5 ) عقوبات .

ثانياً : الواضح أن القانون رقم ( 4 ) لسنة 1996 قد أخرج عقود تأجير الأماكن واستغلالها والتصرف فيها من نطاق تطبيق أحكام قوانين إيجار الأماكن السابقة عليه ، وترك تنظيم هذه العلاقات الإيجارية للقانون المدني . ولما كانت أحكام القانون المدني في هذا الشأن قد خلت من أي نص يعاقب على اقتضاء أية مبالغ إضافية خارج نطاق عقد الإيجار ، فإنه بذلك يكون ناسخاً للجرائم التي قررتها قوانين الإيجار السابقة .

ثالثاً : إنه باستقراء نصوص القانون رقم ( 4 ) لسنة 1996 ، يبين لنا أنه نص في المادة الثالثة منه على إلغاء كل نص أو أي قانون آخر يتعارض مع أحكامه . أوليس مؤدى هذا النص إطراح النصوص المخالفة له حتى تلك التي تضمنها كل من القانونين رقمي 49 لسنة 1977 ، 136 لسنة 1981 على اعتبار أن الأفعال التي أثمها هذان القانونان هي ذاتها التي أطلق القانون الجديد الحق فيها ؟

وما ذهب اليه هذا الرأي الفقهي في ( أولاً ) مردود عليه : بأن ما تضمنته المادة ( 5 ) عقوبات هو خطاب تشريعي موجه للقاضي الجنائي بالبحث في الإرادة الضمنية للمشرع لتطبيق ما يعد قانوناً أصلح للمتهم على وقائع الدعوى ، الأمر الذي يستلزم من القاضي الجنائي – بداءة – البحث في الإرادة الصريحة للمشرع .

فإذا قرر المشرع بإرادة صريحة تطبيق قانون ما على وقائع الدعوى فكيف يسوغ القول أن ثمة إرادة ضمنية تخالف الإرادة الصريحة المعلنة ؟! ومن ثم فإن مقطع النزاع في اعتبار القانون ( 4 ) لسنة 1996 قانوناً أصلح للمتهم من عدمه ليس في كون القانونين رقمي 49 لسنة 1977 و 136 لسنة 1981 من القوانين الاستثنائية أو من القوانين ” المؤقتة بفترة محددة ” ولكن مقطع النزاع في وجود إرادة صريحة للمشرع تقرر تطبيق هذين القانونين أو غياب تلك الإرادة .

(*)دكتور حسن ربيع أستاذ القانون الجنائي جامعة القاهرة – بحث بعنوان رجعية القانون الأصلح للمتهم وموقف محكمتي النقض والدستورية العليا من القانون رقم ( 4 ) لسنة 1996 . منشور بكتيب سنة 1998 تم طبعه لدى المؤسسة الفنية للطباعة والنشر .

وما ذهب اليه في ( ثانياً ) مردود عليه : بما قررته محكمة النقض : بأن نص المادة الأولى والثانية من القانون رقم ( 4 ) لسنة 1996 تدلان – في صريح لفظهما وواضح دلالتهما – على أن المشرع حدد نطاق تطبيق القانون رقم ( 4 ) لسنة 1996 ، وقصر استبعاد سريان القانونين رقمي 49 لسنة 1977 ، 136 لسنة 1981 على الأماكن التي لم يسبق تأجيرها والأماكن التي انتهت عقود إيجارها قبل العمل بهذا القانون أو تنتهي بعده ، بما مفاده أنه استثنى الأماكن الخالية من المستأجر وقت نفاذه أو التي تخلو بعد نفاذه من تطبيق أحكام قانوني إيجار الأماكن المشار إليهما .

وأخضع العلاقات الإيجارية الجديدة وعقود الاستغلال التي تتم بشأنها بعد نفاذه لأحكام القانون المدني .

ولازم ذلك أن أحكام القانونين رقمي 49 لسنة 1977 و 136 لسنة 1981 تظل سارية بجميع نصوصها المدنية والجنائية على العلاقات الإيجارية القائمة والتي أبرمت في ظل هذين القانونين قبل العمل بأحكام القانون رقم ( 4 ) لسنة 1996 . ومن بينها النصوص التي أثمت تقاضي مقدم إيجار يزيد على المقرر قانوناً .

وما ذهب اليه في ( ثالثاً ) : مردود أيضاً بما قررته محكمة النقض : بأن ما نصت عليه المادة الثالثة من القانون رقم ( 4 ) لسنة 1996 بإلغاء كل نص في أي قانون آخر يتعارض مع أحكامه ، إذ أن أحكامه لا تنطبق إلا على عقود إيجار الأماكن الخالية أو التي تخلو بعد نفاذه . وهي التي أخضعها دون غيرها لأحكام القانون المدني وحده فألغى تطبيق أي قانون آخر في شأنها .
ونحن نزيد على ما قررته محكمة النقض في هذا الصدد فنقول : إن المشرع حدد في المادة الأولى من القانون رقم ( 4 ) لسنة 1996 – وذلك بمفهوم المخالفة – نطاقاً لتطبيق القانونين 49 لسنة 1977 و136 لسنة 1981 على العلائق الإيجارية .

فلو اتجه قصد المشرع بعد ذلك في المادة الثالثة الى عمومية النص وانسحاب حكمه على كافة العلائق الإيجارية دون استثناء لكان ذلك تناقضاً بين إرادة المشرع في المادة الأولى وإرادته في المادة الثالثة من نفس القانون ، الأمر الذي ينبغي تنزيه المشرع عن التردي فيه .

ويختتم صاحب هذا الرأي الفقهي بحثه قائلاً : والواقع – على حد تعبير الهيئة العامة للمواد الجنائية بمحكمة النقض – أن اختصاص المحكمة الدستورية العليا بتفسير النصوص التشريعية لا يصادر حق جهات القضاء الأخرى في تفسير القوانين وإنزال تفسيرها على الواقعة المعروضة عليها ما دام لم يصدر بشأن النص المطروح أمامها تفسير ملزم من المحكمة الدستورية صدر طبقاً للأوضاع المقررة في قانونها بشأن طلبات التفسير .

وبالتالي يكون الاختصاص للهيئة العامة للمواد الجنائية بمحكمة النقض في تفسير هذه النصوص وتطبيقها على الوجه الصحيح .

إلا أننا نعود ونتساءل عن التفسير الذي ستقول به المحكمة الدستورية العليا إذا ما طلب منها – طبقاً للأوضاع المقررة في قانونها – تفسيراً عما إذا كان القانون رقم ( 4 ) لسنة 1996 هو الواجب التطبيق حتى على الوقائع السابقة على صدوره باعتباره القانون الأصلح للمتهم ؟ ونحن نترك الإجابة على هذا التساؤل لأعضاء الهيئة العامة للمواد الجنائية بمحكمة النقض .

وليسمح لنا صاحب هذا الرأي أن نتطوع نحن بالإجابة على هذا التساؤل ، لأن الإجابة عليه أبسط بكثير مما يتصور ، ولكنها أيضاً على غير ما يتصور .

فالمحكمة الدستورية العليا إذا ما قدم اليها هذا الطلب ، فإنها سوف تقرر عدم اختصاصها بنظر طلب التفسير. وآية ذلك أنه إذا كان تفسير نصوص القانون رقم ( 4 ) لسنة 1996 تفسيراً ملزماً هو أمر يختص به القاضي الدستوري وفقاً لشروط معينة ، إلا أن القول بأنه القانون الواجب التطبيق حتى على الوقائع السابقة على صدوره أمر لا يختص به القاضي الدستوري وإنما يختص به القاضي الجنائي وحده باعتباره القاضي الطبيعي لتطبيق المادة ( 5 ) عقوبات .

وبعبارة أخرى فإن القاضي الدستوري لا يختص بتفسير نص تشريعي تفسيراً ملزماً إلا حين يفسر النص في المطلق والمجرد ، أما إذا اختلط التفسير بالتطبيق فإن الاختصاص بالتفسير ينعقد للقاضي العادي باعتباره قاضيه الطبيعي .

ويلاحظ أن المحكمة الدستورية استمرت فى هذا النهج غير الصحيح فى أحكامها الحديثة فأصدرت حكمين فى شأن اللجان المشكلة طبقاً للمادة ( 71 ) من قانون العمل رقم ( 12 ) لسنة 2003 وذلك فيما يتعلق بالطبيعة الإدارية لهذه اللجان ، فقضت فى الحكمين بعدم قبول الدعوى تأسيساً على أنها لم تتصل بالدعوى طبقاً للأوضاع المقررة قانوناً ( 1 )

وقررت المحكمة الدستورية ” أن اللجنة المشكلة طبقاً لنص المادة ( 71 ) من القانون رقم ( 12 ) لسنة 2003 يغلب على تشكيلها العنصر الإدارى ، كما تصدر قراراتها طبقاً لنص المادة ( 12 ) من هذا القانون بأغلبية الآراء ، ومن ثم لاتعدو تلك اللجنة أن تكون لجنة إدارية ولا تعتبر قراراتها أعمالاً قضائية . وبالتالى تخرج من عداد جهات القضاء أو الهييئات ذات الاختصاص القضائي فى مفهوم نص المادة ( 29 ) من قانون المحكمة الدستورية العليا وعلى ذلك فإن الدعوى المائلة لا تكون قد اتصلت بهذه المحكمة طبقاً للأوضاع المقررة قانوناً مما يتعين معه الحكم بعدم قبولها .” .

وواضح مما تقدم أن المحكمة الدستورية وإن كانت لم تصرح بأن هذا القضاء يعد فاصلاً فى مسألة دستورية .

إلا أن ذلك هو ما يستفاد ضمناً من هذا الحكم . ويؤيد ذلك ما صرح به رأى فقهى بأن هذا القضاء بعدم القبول يعد فاصلاً فى مسألة دستورية .( 2 )

ونحن من جانبنا نرى أن القضاء الصحيح – هنا – هو أن تقضى المحكمة فى منطوق حكمها صراحة بعدم دستورية نص المادة ( 71 ) من القانون رقم ( 12 ) لسنة 2003 ولا تقضى بعدم قبول الدعوى ، لأن القول باتصال المحكمة الدستورية بالدعوى اتصالاً صحيحاً من عدمه ينظر إليه من خلال نقطة زمنية محددة هذه النقطة هى لحظة صدور قرار محكمة الموضوع بالتصريح للمدعى الدستورى برفع دعواه الدستورية أو بإحالة المسألة الدستورية إلى المحكمة الدستورية ،

ولا شك أنه فى هذه اللحظة كان نص المادة ( 71 ) من القانون رقم ( 12 ) لسنة 2003 لا يزال سارياً ومكتسباً لشرعيته الدستورية .

فالنقطة الزمنية التى يتجرد فيها النص التشريعى من شرعيته الدستورية ويقف نفاذه هى اليوم التالي لتاريخ نشر الحكم بعدم دستوريته طبقاً للمادة ( 49/3 ) من قانون المحكمة الدستورية إلا إذا حددت المحكمة تاريخاً أخر .

لذا فقد كان لزاماً على المحكمة الدستورية أن تقضى صراحة بعدم دستورية نص المادة ( 71 ) من القانون رقم ( 12 ) لسنة 2003 .

ومما يؤكد عدم صحة هذا القضاء ، أى عدم صحة القول بأنه يحوز حجية لأنه يعد فاصلاً فى مسألة دستورية أنه حتى لو سلمنا جدلاً بأن المحكمة الدستورية لم تتصل بالدعوى اتصالاً صحيحاً طبقاً للأوضاع المقررة فى قانونها ، فمعنى هذا أن المحكمة الدستورية بصدد دعوى دستورية أصلية ومن ثم ، فإن القضاء الصحيح – فى هذه الحالة – هو أن تقضى المحكمة الدستورية بعدم الاختصاص الولائى بنظر الدعوى ، لا أن تقضى بعدم قبول الدعوى .

فقبول الدعوى أمر يتعلق بشكل الدعوى أما الاختصاص فأمر يتعلق بولاية جهة القضاء والبحث فى مسألة الولاية أمر سابق بالضرورة على البحث فى شكل الدعوى .

ويبقى التساؤل : لماذا وقع الخلاف بين المحكمة الدستورية العليا ومحكمة النقض ؟

والحقيقة أن المحكمة الدستورية العليا محكمة قانون وسياسة * ( قضاء وتشريع ) فاستلهمت روح النصوص وبحثت في الإرادة الضمنية للمشرع مغفلة أن ثمة إرادة صريحة معلنة .

أمـا محكمة النقـض فمحكمة قانـون ( قضاء دون تشريع ) فبحثت في الإرادة الصريحة والتزمت حرفية النصوص ، ولم يكن الخلاف بين المحكمتين حول إلغاء القاعدة القانونية ولكن الخلاف فقط كان حول المختص دستورياً بهذا الإلغاء .

__________________________________________________ __________________
ظهر هذا المعنى بوضوح في حكم المحكمة الخاص بمدى دستورية نصوص القانون رقم 82 لسنة 2002 بتعديل بعض أحكام قانون تنظيم الجامعات ، وحيث جاء الحكم كحل سياسي لفض الاشتباك بين الأساتذة المتفرغين بالجامعات والحكومة ( حكم الدستورية العليا في الدعوى رقم 131 لسنة 22 قضائية ” دستورية ” بتاريخ 7 يوليو سنة 2002 والمنشور بالجريدة الرسمية في 18 يوليو سنة 2002 ) .

*المستشار د. محمد ماهر أبو العينين – مؤلفه : موسوعة الدفوع فى نطاق القانون العام – الكتاب الرابع – ص 277 وما بعدها
د. عصام أنور سليم – مؤلفه : موقع القضاء الدستورى من مصادر القانون – طبعة سنة 2000 – ص 119 ومابعدها
د. محمود أحمد زكى – مؤلفه : الحكم الصادر فى الدعوى الدستورية . آثاره وحجيته – دار النهضة العربية – الطبعة الأولى 2003- ص683 وما بعدها

* حكم الدستورية العليا في القضية رقم 193 لسنة 19 قضائية ” دستورية ” بتاريخ 6 مايو سنة 2000 .

( 1 ) دستورية عليا بجلسة 14/1/2007 فى القضية رقم 125 لسنة 26 ق والقضية رقم 119 لسنة 26 ق دستورية
( 2 ) المستشار د. حمدان فهمى – بحث بعنوان : حجية أحكام المحكمة الدستورية العليا بعدم قبول الدعوى – مجلة الدستورية – العدد السادس عشر – أكتوبر 2009

بواسطة محاماة نت
إغلاق