دراسات قانونية
مرفق التوثيق العدلي (بحث قانوني)
إطلالة على مرفق التوثيق العدلي بالمغرب
جابر التامري
باحث بماستر القانون المدني
كلية الحقوق
جامعة ابن زهر
أكادير
تم إعادة النشر بواسطة محاماه نت
مقدمة:
تتجاذب مرفق التوثيق بالمغرب ثلاثة أقطاب مختلفة, و بناء على ذلك نجد التوثيق “العصري” و الذي ينهض به الموثقون في إطار القانون 32.09, إلى جانب التوثيق العدلي الذي يسهر عليه العدول في إطار أحكام القانون المنظم لمهنتهم 16.03, و كذا التوثيق العرفي الذي يروم المشرع المغربي تنظيمه في إطار قانون وكلاء الأعمال.
ولا يمكن بأي وجه كان تصنيف التوثيق في المغرب ضمن خانة القوانين المستجدة أو المواضيع المحدثة قريبا, و إنما هو في حقيقة الأمر من المؤسسات المتجذرة العمق في التاريخ, و التي تعود أصولها إلى بوادر ظهور الإسلام في المغرب, و مذاك الحين مر التوثيق بمجموعة من المحطات, كانت لكل واحدة سمة أضفتها عليه, سواء بتضييق الخناق أو بتوسيع دائرة التعامل في إطار هذا العلم الجليل.
و عموما يلعب التوثيق دورا هاما و بارزا في حماية الحقوق و استقرار المعاملات و جلب الاستثمار, إلى جانب دوره المحوري في تحضير وسائل الإثبات.
و قد عرف الدكتور “أحمد الغازي الحسيني” التوثيق بأنه علم يرسم خطوط المعاملات و يؤطر سيرها و مدى نشاطها طبقا لنصوص التشريع, و قواعد العرف, و آراء الفقهاء و ما جرى عليه عمل القضاء.
و يقتصر الموضوع على دراسة جانب من جوانب مشهد التوثيق في المغرب, و هو التوثيق العدلي, محاولا التركيز على سياقه التاريخي و إطاره القانوني و كذا مختلف الفاعلين المباشرين في إنتاج الوثيقة العدلية باعتبارها وثيقة رسمية معدة للإثبات.
و لتحقيق كل ما سبق, و كذا جعل الموضوع منسجما من حيث القلب و القالب, فقد ارتأينا تقسيمه إلى مطلبين, نتناول في الأول منهما مجموعة من المقتضيات التي تهم مختلف المراحل التي مر منها التوثيق العدلي, إلى جانب دراسة منظومة القوانين المؤطرة له, و كذا الأهداف التي يروم تحقيقها, على أساس أن نكرس مقتضيات المطلب الثاني للإحاطة بمؤسسات قضاء التوثيق و العدول و النساخة, باعتبارها المؤسسات الثلاث المحركة لدواليب هذا المرفق.
و بهذا يكون موضوعنا مقسما وفقا للنسق الآتي:
المطلب الأول: الإطار التاريخي و القانوني للتوثيق العدلي و أهدافه
المطلب الثاني: الفاعلون في مشهد التوثيق العدل
المطلب الأول: الإطار التاريخي و القانوني للتوثيق العدلي و أهدافه
يدور الحديث في هذا المطلب أساسا حول مجموعة من المقتضيات, نستهلها بسرد مختلف المراحل التاريخية التي مر منها التوثيق العدلي (فقرة أولى), مرورا بإطاره القانوني بالمغرب (فقرة ثانية), على أساس أن نختم الحديث بأهميته و مختلف الأهداف التي يروم تحقيقها(فقرة ثالثة).
الفقرة الاولى: السياق التاريخي للتوثيق العدلي
اعتبر التوثيق منذ القدم من أجل العلوم و أعظمها, لذلك أولاه الأمراء و السلاطين عناية شديدة واهتماما خاصا, و تعتبر آية المداينة أو الدين[1], أساس نظام التوثيق في الإسلام, الذي تطور بتطور الظروف و مستجدات العصر, كما أن السنة النبوية بينت ما للتوثيق و كتابة العهود من أهمية, و بعد ذلك انتشرت الكتابة لدى الشعوب و أصبحت القوانين و التشريعات تنص عليها[2].
و عرفت الكتابة في حضارة اليونان, و كذا روما القديمة, و من أبرز المنظرين للكتابة آنذاك الفقيه الروماني ” بومانوار “, كما في إيطاليا و بالتحديد مع قانون ” بولون” الذي اعترف بأهمية كتابة الاتفاقات.
و في فرنسا عرف قانونها إصلاحا في القرن السادس عشر في عهد شارل التاسع و ذلك بصدور قانون ” مولان ” الذي نص على ضرورة كتابة التصرفات التي تزيد عن مائة ليرة.
أما في المغرب فإن كتابة الاتفاقات ظهرت في وقت مبكر عن طريق التوثيق الإسلامي, و قد اهتم الفقهاء المسلمون بشكل كبير بهذا المجال, و في هذا الباب يقول الفقيه ” عبد السلام بن محمد الهواري ” >> إن علم الوثائق من أجل العلوم قدرا و أعظمها خطرا, إذ به تنضبط أمور الناس على القوانين الشرعية, و تحفظ دماءهم و أموالهم على الضوابط المرعية, و هو أقطع شئ تنبذ به دواعي الفجور و ترمى, و تطمس مسالكها الذميمة و تعمى <<
و عموما يقسم الموثقون و العلماء مراحل التوثيق الإسلامي إلى خمس مراحل[3]:
المرحلة الأولى: تبتدئ من فجر الإسلام إلى أواسط القرن الثالث للهجرة, وكانت الوثائق آنذاك جد واضحة و موجزة و خالية من الحشو و دائما ما تفتتح بالبسملة, و في ذلك وثيقة للرسول صلى الله عليه و سلم[4], و أخرى لعمر بن الخطاب تعتبر من أقدم الوثائق وتعلقت بالصدقة.
المرحلة الثانية: تبتدئ من أواسط القرن الثالث إلى القرن الثامن للهجرة, و هي مرحلة ربط التوثيق بفقه القضاء, و ظهرت عدة مؤلفات تهتم بهذا العلم منها كتاب ” محمد بن سعيد القرطبي ” المعروف بابن الملون, و كذا كتاب ” المقنع في الوثائق ” لصاحبه ” أحمد بن محمد بن مغيث ” إلى جانب الموثق الجليل ” علي بن عبد الله بن إبراهيم الأنصاري المتيطي ” الذي ألف كتاب ” النهاية و التمام في معرفة الوثائق و الأحكام “.
المرحلة الثالثة: تبتدئ من القرن الثامن إلى القرن العاشر الهجري, و هي مرحلة تدوين التوثيق مختلطا بالأحكام, و ظهر في هذه المرحلة موثقون مغاربة من بينهم قاضي فاس ” محمد بن أحمد بن عبد الله الفشتالي ” و ” أبو جعفر أحمد بن محمد إبراهيم الأوسي المكناسي ” صاحب كتاب ” شرح على وثائق الجزيري ” و ظهر كذلك في الأندلس مشاهير بهذا العلم نذكر منهم القاضي ” أبو القاسم سلمون ” و الموثق الكبير ” أحمد بن يحيى بن محمد بن عبد الواحد بن علي الونشريسي[5] “.
المرحلة الرابعة: و فيها جردت الوثائق من الأحكام و الشروح و اقتصرت على موضوع الشهادة, و من أبرز مؤلفي علم التوثيق في هذه المرحلة نجد الإمام ” أحمد بن الحسن بن عرضون ” و ألف كتاب ” اللائق لعلم الوثائق ” و في القرن الحادي عشر ظهر الشيخ ” عبد القادر بن علي الفاسي الفهري ” و ظهر بعده ” على بن عبد السلام التسولي” و صاحب الوثائق الفرعونية التي يعتمدها عدول المغرب ” محمد بن أحمد بناني ” الملقب بفرعون.
المرحلة الخامسة: و هي مرحلة القوانين المدرجة في التوثيق, و في هذه المرحلة ظهرت قوانين متعددة تنظم التوثيق, و أول ظهير منها هو ظهير 7 يوليوز 1914 الذي نظم القضاء الشرعي و نقل الملكية العقارية في المملكة, و قد نظم في مجموعة من فصوله التوثيق الإسلامي ككفاءة العدول و تصنيفهم إلى صنفين, مجموعة لها صلاحية تلقي و كتابة جميع أنواع الشهادات و الاتفاقات و فئة تتلقى أنواعا منها فقط, كما صدر ظهير 23 يونيو 1938 كقانون أساسي للعدول.
الفقرة الثانية: الإطار القانوني للتوثيق العدلي بالمغرب
كان “التوثيق العدلي” أو ” خطة العدالة ” أو ” العدالة ” منظما بدء بالضوابط الفقهية, ثم بعد ذلك بدء المزج بين هذه القواعد الفقهية و القوانين الوضعية للتوثيق, و حدث ذلك مع ظهير 7 يوليوز 1914 و الذي تطرق في بعض فصوله إلى تنظيم خطة التوثيق العدلي, ثم صدر في نفس الموضوع ظهير ثان متمم لسابقه و ذلك بتاريخ 23 يونيو 1938.
ثم توالت بعد ذلك التعديلات ليصدر بتاريخ 7 فبراير 1944 الظهير الذي نظم المحاكم الشرعية و قد تضمن في فصول منه مقتضيات تخص خطة العدالة, و في 6 ماي 1982 صدر القانون رقم 11.81 الذي اعتبر القانون المنظم لخطة العدالة بشكل ملائم و مدقق إلى جانب المرسوم التطبيقي له[6].
و ظلت مهنة التوثيق العدلي على ذلك الحال إلى غاية 2 مارس 2006 و صدور القانون رقم 16.03 المنظم لخطة العدالة[7].و لا يجب إغفال رزمة القرارات الوزارية لوزارة العدل و الحريات التي نظمت بدورها هذا المجال, و نركز على الصادرة منها بتاريخ 8 أبريل 2009 المنظمة لمهنة العدول, نذكر منها القرار 09.977 المحدد لشكل اللوحة التي تعلق بالبناية التي يوجد بها مقر العدل, و القرار 09.978 المحدد لشكل مذكرة الحفظ, إلى جانب القرار رقم 09.979 المحدد لشكل سجلات التضمين …
و نشير إلى أن كل القوانين المذكورة أعلاه تشكل الإطار القانوني الخاص للتوثيق العدلي, ونعتبر أن المقتضيات التشريعية الأخرى المنظمة في مجموعة من القوانين تشكل إطارا عاما للتوثيق, منها مقتضيات قانون الالتزامات و العقود و مقتضيات مدونة الأسرة, إلى جانب مدونة التسجيل و التنبر و كذا مدونة تحصيل الضرائب و الديون العمومية.
الفقرة الثالثة: أهمية التوثيق العدلي و أهدافه
إن أهمية التوثيق تبدوا جلية بالنظر إلى الغايات التي يرمي بلوغها, و تفاديا للتكرار و ضروبه, فإننا سنقتصر على سرد أهم أهداف التوثيق العدلي محيلين بخصوص أهميته على مقدمة الموضوع.
و أول ما نستهل به الكلام في هذا الباب هو حفظ أموال الناس و ذلك لما ثبت في الشريعة الإسلامية ان الله عز و جل في علاه أمر بالحفاظ على نعمة المال و نهى عن تبذيرها و إضاعتها و جعل المبذرين إخوانا للشياطين, و لذلك فإن أبرز سبيل للحفاظ على المال هو الإشهاد عليه و كتابته في وثيقة تامة, و إلى جانب حفظ الأموال نجد إثبات الحقوق, و هو أبرز أهداف التوثيق العدلي كونه يثبت حقوق الناس و ديونهم و سائر معاملاتهم و تصرفاتهم[8].
كما أن وثائق خطة العدالة تعتبر مرجعا فقهيا و قضائيا, بل و أبعد من ذلك مرجعا تاريخيا, فالوثائق العدلية سند لإصدار الأحكام و الفتاوى و ترجيح الآراء الفقهية و الاجتهادية, ضف إلى ذلك تزويدها المؤرخين بمعلومات حقيقية و غاية في التحديد و الدقة و مفيدة في المواضيع ذات الصلة بالتاريخ و علومه.
و لا يمكن الوقوف و بأي وجه كان عند هذا الحد من الأهداف التي تجعل التوثيق العدلي غاية في الأهمية بل يشكل التوثيق إلى جانب هذا و ذاك رافعة و أداة مساهمة بشكل واضح في التنمية العقارية و الاجتماعية و الاقتصادية, هذه التنمية التي طالما سعت وراءها الدول و الأمم لعقود من الزمن, و بذلك نجد التوثيق ينشط الحركة الاقتصادية و الاجتماعية و ينمي مداخيل الدولة, كما أنه يحرك الميدان العقاري عن طريق إنعاش مجال إقامة الملكيات العقارية[9].
المطلب الثاني: الفاعلون في مشهد التوثيق العدلي
لا يخفى على أحد ان مشهد التوثيق العدلي في المغرب تتقاسم مهمامه و تنتج وثائقه ثلاث جهات مختلفة, فقاضي التوثيق (فقرة أولى) إلى جانب العدل (فقرة ثانية) في انسجامهم مع النساخ (فقرة ثالثة) يشكلون الآلة المحركة لمرفق التوثيق العدلي, و هذا ما سنحاول سبر أغواره من خلال هذا المطلب.
الفقرة الأولى: مؤسسة قضاء التوثيق
تنظم هذه الفقرة مجموعة من المسائل المتعلقة بقاضي التوثيق, من تعريف و تعيين, و مدلولات خطابه و أدواره, و كذا نطاق مسؤوليته.
أولا: قضاء التوثيق؛التعريف و التعيين
قضاء التوثيق جهة قضائية تتمثل مسؤوليتها الأساس في التثبت من استيفاء الوثيقة العدلية لأركانها و شروطها و مراحلها تحملا و أداء و مدى تقيد كل من العدول و النساخ بالضوابط التوثيقية الشرعية و القانونية. و بدء لم يكن التمييز بين قضاء التوثيق و قضاء الحكم قائما, لكن الضرورة العملية فرضت هذا التمييز[10].
و يعين قاضي التوثيق من بين قضاة المحكمة الابتدائية بمقتضى قرار لوزير العدل و الحريات, و قد يكون هذا القرار محدد المدة شريطة ألا تتجاوز 3 سنوات, أو يبقى القرار على إطلاقه غير محدد المدة, و يبقى قاضي التوثيق المعين تابعا للمحكمة الابتدائية التي يعمل داخل دائرة نفوذها, كما يبقى أيضا تابعا لإشراف و مراقبة رئيس هذه المحكمة و ذلك كلما تعلق الأمر بأعمال التوثيق[11].
ثانيا: خطاب قاضي التوثيق
تطور مفهوم الخطاب فقها ليصل إلى ما وصل إليه من معنى اليوم, فأصبح يطلق على ما يكتبه القاضي بخط يده أسفل الرسم العدلي للإعلام بثبوته عنده و عدل شهوده.
و يعتبر هذا الخطاب تأكيدا من قاضي التوثيق بأن مضمون الرسم العدلي هو إعادة للشهادة الشفوية التي تمت أمامه من طرف العدول, و خلافا لما كان عليه الأمر في السابق, حيث كان القاضي لا يحكم بالرسم المخاطب عليه إلا إذا تعرف على خط القاضي المخاطب, فإنه حاليا أصبحت الوثيقة التي تم الخطاب عليها وثيقة مستقلة عن القاضي المخاطب و يعمل بها أمام أي قاضي و لو لم يعرف خط المخاطب[12].
ومن صيغ الخطاب نذكر:
الحمد لله وحده أديا فثبت و يعلم به
الحمد لله وحده أديا فقبلا
الحمد لله وحده يعلم بثبوته
و كانت الصيغة الثانية هي الأكثر استعمالا, لكن الصيغة المطابقة للوضع الجديد و المستعملة إلى الآن هي ” الحمد لله أعلم بثبوته”.
و بالرجوع إلى المادة 35 من قانون خطة العدالة الجديد و خصوصا في فقرتها الثالثة و الأخيرة التي نصت على مايلي: ” و لا تكون الوثيقة تامة إلا إذا كانت مذيلة بالخطاب و تعتبر حينه و ثيقة رسمية”, إذن و من خلال النص أعلاه تتضح مسألة إلزامية خطاب قاضي التوثيق على الرسم العدلي كي يكتسب حجيته الرسمية و يكون بذلك وسيلة إثبات فعالة و ناجحة في الحفاظ على الحق و حسم النزاع.
ثالثا: مسؤولية قاضي التوثيق
كما أشرنا أعلاه فإن خطاب قاضي التوثيق هو الذي يضفي على المحرر العدلي حجيته والرسمية, و لذلك تنشأ مسؤولية قاضي التوثيق بخصوص أي تقصير أو إخلال في أداء التزامه المتمثل في الخطاب,و في هذا أشارت وزارة العدل و الحريات من خلال المنشور عدد 14714 و خصوصا في الفقرة 23 من فصله 9 و التي نصت على الآتي: ” يجب على القاضي عند إرادة الخطاب على الرسوم أن يتأكد من كونها مدرجة بكناش الجيب, و أن يتأكد أيضا من كونها صحيحة مبنى و معنى, وأنها مؤسسة على جميع المستندات الواجبة, و أنها مطابقة للشرع و القانون, و لا يسوغ له الخطاب على أي رسم ناقص أو فاسد أو غير مستوف للشروط المطلوبة…”.
و جاءت الفقرة 24 من الفصل 8 من المنشور أعلاه لتنص بشكل صريح على مسؤولية قضاة التوثيق و ذلك بتنصيصها على مايلي: ” إن القضاة هم المكلفون بالسهر على التوثيق من الوجهة الفنية, فكل خلل أو نقص أو مخالفة تقع في الوثائق هم المسؤولون عنها و هي في عهدتهم”.
كما أن القانون الجديد رقم 16.03 المنظم لخطة العدالة قد أشار إلى هذه المسؤولية من خلال المادة 35 منه[13].
من خلال ما سبق يتضح بلا ريب حجم المسؤولية الملقاة على عاتق قاضي التوثيق, و ذلك لما تتطلبه المهمة من إلمام واسع لقواعد التوثيق و أحكام الفقه, إضافة إلى الجهد الكبير و الوقت الطويل من أجل دراسة الوثائق العدلية.
لكن الواقع العملي لم يثبت في أي مناسبة مساءلة قاض من قضاة التوثيق بخصوص خطابه, بل تبقى هذه المساءلة مقتصرة على شخص العدل, نظرا لاعتبار مراقبة قاضي التوثيق للوثيقة العدلية مجرد مراقبة شكلية و لا تنطلق إلى موضوع الوثيقة, و من هذا المنطلق فإن نطاق المسؤولية عمليا يقتصر على العدول دون القضاة.
الفقرة الثانية: مؤسسة العدول
تتضمن هذه الفقرة مجموعة من المقتضيات التي تهم شخص العدل من حيث طريقة تعيينه, و اختصاصاته, إلى جانب التعريج على منظومة الحقوق التي يتمتع بها العدل و الالتزامات الملقاة على عاتقه, كما ستكون لنا وقفة مع أحكام تأديب العدول و مراقبتهم حالة الاخلال بمقتضيات القانون المؤطر لمهنتهم. كل هذه النقاط سنحاول التفصيل فيها مرتكزين على أهم النصوص القانونية المنظمة لها و الكتابات التي جاءت في صلب موضوعها.
أولا: تعيين العدل
قبل الحديث عن تعيين العدل, ارتأينا الاستهلال بإلقاء الضوء على تطور نظام العدول, و عموما فالعدل هو الشخص المؤهل قانونا لتحرير الرسوم العدلية بطريقة محكمة البناء و في قالب قانوني رصين يمكنه من الحجية في الإثبات, و كان العدل في البدء يعتمد النظام الفردي أو ما اصطلح عليه ” بنظام العدل الكاتب” أو ” الكاتب بالعدل ” الذي يقوم بعملية كتابة العقود و المعاملات بين الأطراف دون أن يكون شاهدا عليهم بما فيها, ليتطور فيما بعد ليصبح ” نظام العدلين الكاتبين الشاهدين” و بالتالي أصبح معه العدلين يجمعان بين الشهادة و الكتابة في آن واحد, أي أن الشهادة و الكتابة تتحدان فيه و لا تنفصلان[14].
بخصوص تعيين العدل فالقاعدة العامة هي تعيينه بقرار لوزير العدل و الحريات بعد اجتيازه للمباراة والتمرين و الامتحان المهني, شريطة حصوله على الإجازة في القانون أو الشريعة أو اللغة العربية أوأصول الدين أو الدراسات الإسلامية, و تخرج عن قاعدة المراحل الثلاث للتعيين من مباراة و تمرين وامتحان مجموعة من الفئات, نسرد لها كالآتي:
الفئات المعفية من المباراة و التمرين و الامتحان المهني (قدماء القضاة ,العدول وفق شروطهم)
الفئات المعفية من المباراة و الامتحان المهني مع ضرورة قضاء فترة التمرين كحاملي شهادة العالمية من جامعة القرويين أو الحاملين لشهادة الدكتوراه من مؤسسات محددة[15].
الفئات المعفاة من المباراة مع اجتياز الامتحان و قضاء مدة التمرين و تخص المنتدبين القضائيين الممارسين لمدة أكثر من 10 سنوات.
و اشترط المشرع المغربي مجموعة من الشروط لابد من ضرورة توافرها في شخص العدل وذلك بموجب نص المادة 4 من قانون التوثيق العدلي[16].
ثانيا: اختصاص العدل
ينقسم اختصاص العدل الى اختصاصين أساسين, الأول متعلق بالمكان, و الثاني مرتبط بموضوع أعمال العدل.
1/ الاختصاص المكاني: على خلاف ما كان معمولا به في ظل القانون القديم حيث كان اختصاص العدل لا يتجاوز نفوذ المحكمة الابتدائية المعين بدائرتها, فإن اختصاصه اتسع إلى حدود الدائرة الاستئنافية المعين داخلها, و هذا ما أكده المشرع من خلال المادة 14 من القانون رقم 16.03 فقد جاء في فقرتها الرابعة مايلي: ” يتقيد العدل في ممارسة الخطة بحدود دائرة محكمة الاستئناف المنتصب فيها, ماعدا الإشهاد بالزواج و الطلاق فيتم وفق المادتين 87-65 على التوالي من مدونة الأسرة “.
و رغم توسيع القانون الجديد لنطاق اشتغال العدول بنقله من الدائرة الابتدائية إلى الدائرة الاستئنافية, فإن المطالبة بنقله ليشمل جميع ربوع التراب الوطني لازالت قائمة من طرف العدول, وجعل التبعية للمحكمة الاستئنافية مقتصرة على التعيين فقط دون العمل.
2/ الاختصاص النوعي: بقراءة لكل مواد القانون المنظم لخطة العدالة, ليس هنالك مقتضى يدل على تحديد الاختصاص الموضوعي للعدل, و بالتالي يبقى هذا الاختصاص مفتوحا بشكل كبير, و ذلك في كل ما تعلق بتلقي الشهادة و تحريرها وفق الشكل المعتبر قانونا, إلا ما استثني بنص خاص[17], كما أن المشرع المغربي أضاف مسألة تجعل هذا الاختصاص مشروطا بما يجوز التعامل فيه, و هو ما نصت عليه المادة 32 من قانون التوثيق العدلي[18] التي جاء نصها كالآتي: ” يمنع تلقي الشهادة التي يكون موضوعها خارجا عن دائرة التعامل”.
و نمثل لهذه الاختصاصات في شمولها بالشهادة على عقود الزواج و الطلاق بأنواعه, و على اعتناق الإسلام و إثبات الوراثة و إحصاء التركات, إلى جانب الشواهد المتعلقة بالعقارات بنوعيه و الذي في طور التحفيظ و مختلف أنواع البيوع[19].
ثالثا: حقوق العدل وواجباته
إن العدل و بمناسبة قيامه بمهامه, يتمتع بحقوق تجعله يؤدي عمله في مناخ جد ملائم, و إذا كان التمتع بالحقوق يوازيه تحمل الالتزامات, فإن العدل يتحمل بهذه الأخيرة التي غالبا ما تكون حقوقا للمتعاملين معه في إطار الوثيقة العدلية.
1/ الحقوق: كما أشرنا سالفا فخطة العدالة مهنة حرة منظمة ( المادة 1 من القانون 16.03), و العدل حين يقوم بعمله التوثيقي فهو يستحق أتعابا محددة توازي العمل الذي قام به, و بهذا يمكن اعتبار الأتعاب تتربع على رأس الحقوق الخاصة بالعدول, كما أن قانون التوثيق العدلي الجديد نص على حق آخر يعتبر مكسبا للعدول تمثل في توفير حماية للعدل أثناء مزاولة مهامه, و بالتالي شدد العقوبة على إهانة العدل سواء أثناء مزاولته لمهامه أو بسبب القيام بها و جعلها بين 1 شهر و 5 سنوات طبقا لمقتضيات الفصلين 263 و 267 من مجموعة القانون الجنائي, و هذا ما نصت عليه المادة 26 من قانون العدالة.
أضف إلى ما سبق, حق العدل في التوقف المؤقت عن ممارسة المهنة لمدة لا تفوق سنتين بإذن من وزير العدل و الحريات لأسباب علمية أو دينية أو صحية, و هذا ما أكدته الفقرة الثانية من المادة 18 من القانون أعلاه, و عن نفس القانون و في مادته 16 فمن حق العدل أن يعلق لوحة بالبناية التي يوجد بها مقره تحمل بياناته الشخصية و صفته المهنية, كما أن المادة 20 من نفس القانون نصت على حق العدل في تقديم استقالته شريطة ألا يتوقف عن أداء عمله إلا بعد قبول الاستقالة, و إلى جانب هذا و ذاك نجد هذا القانون متع العدول بحقوق أخرى كالانتقال و التغيب عن العمل لمدة لا تتجاوز شهرين.
و من منظورنا المتواضع فإن منح المشرع المغربي للعدول مجموعة من الحقوق, كان القصد من ورائه توفير مناخ ملائم للعدل للقيام بمهامه, شعورا من المشرع بأهمية المجال و مساهمته في الإقلاع التنموي الذي تنخرط فيه جميع مؤسسات الدولة, إلى جانب اعتبار العدول كمهنة شبه قضائية مندرجة في المشاريع الاستراتيجية التي تسعى الدولة النهوض بها من أجل بناء دولة المؤسسات بسيادة القانون وعدالة القضاء.
2/ الواجبات: إن أول واجب يقع على عاتق العدل هو ضرورة تقديم النصح و الإرشاد للأطراف المتعاقدة أو الملتزمة, و هذا واجب اخلاقي متعلق بنبل و شرف المهنة, و بالرجوع إلى المادة 2 من قانون العدالة نجدها أكدت على تحلي العدل بالأمانة الوقار و الحفاظ على شرف المهنة و أسرار المتعاقدين.
كما نصت المادة الموالية لها على ضرورة انتظام العدول في إطار هيئة وطنية, و مجالس جهوية على صعيد دوائرهم الاستئنافية, و أردف القانون إلى هذه الالتزامات التزامات أخرى, كالمنصوص عليها في المادة 14 بشأن إحداث العدل مقرا لمكتبه في مكان تعيينه, إلى جانب الإدلاء بشهادة طبية خلال ثلاثة أشهر الأولى من كل سنة متى تجاوز العدل سبعين عاما, و هذا ما أكده روح المادة 11 من قانون التوثيق العدلي.
إذن كانت هذه بعضا من الواجبات الملقاة على عاتق العدل, منها ما يرتبط بشرف المهنة و منها ما هو مفروض بقوة القانون, و مادامت العدالة فنا جليلا مارسها الرسل و الصحابة و علماء الأمة وكبارها, فإن قيمتها الأدبية تفرض على العدل الالتزام بكل صغيرة و كبيرة تفرضها كرامة الإنسان وعزة المهنة, و في ميداننا يفرضها مبدأ حسن النية و التعامل بتفان و إتقان و ابتعادا عن الخطأ, و درء لقيام المسؤولية بأنواعها.
رابعا: تأديب و مراقبة العدول
جاء القانون رقم 16.03 بمجموعة من المقتضيات المتعلقة بالتأديب, و ما يمكن تسجيله في هذا الباب هو أن مراقبة العدل تتم عن طريق مجموعة من الجهات, بدء بمراقبة وزير العدل و الحريات و مراقبة القاضي المكلف بالتوثيق إلى جانب مراقبة النيابة العامة, و في هذا نصت الفقرة 1 من المادة 40 من القانون أعلاه على الآتي نصه: ” يخضع العدل في مزاولة عمله لمراقبة وزير العدل و القاضي المكلف بالتوثيق ” أضف إلى ذلك ما نصت عليه المادة 48 من نفس القانون, حيث متعت الوكيل العام للملك بصلاحية إيقاف العدل مؤقتا عن عمله بإذن من وزير العدل, و ذلك كلما كان بصدد متابعة تأديبية أو جنحية أو جنائية, كما أن العدل يخضع لمراقبة من وزير المالية و الاقتصاد كلما تعلق الأمر باستخلاص واجبات التسجيل, و تطبق هذه المراقبة على العدل المعين و ليس المتمرن[20].
و تأديب العدل يختلف باختلاف ما إذا كان العدل متدربا أو ممارسا, فبخصوص الأول فالعقوبات التي يمكن تقريرها في حقه هي المنصوص عليها في المادة 39 من قانون خطة العدالة, و هي الإنذار أو التوبيخ أو وضع حد للتمرين, و ذلك كلما أخل المتدرب بواجباته التدريبية أو ارتكب فعلا مخلا بشرف المهنة, أما بخصوص الثاني فعقوباته جاءت محصورة في نص المادة 43 من القانون أعلاه و التي نصت على مايلي: ” تحدد العقوبات التأديبية فيما يلي:
الإنذار
التوبيخ
الإقصاء المؤقت عن العمل لمدة لا تتجاوز سنة
العزل.”
كانت هذه مجموعة من المقتضيات التي خصت مؤسسة العدول, و سنحاول في الفقرة الموالية إلقاء الضوء على مؤسسة أخرى فاعلة في المشهد التوثيقي العدلي, هي مؤسسة النساخة.
الفقرة الثالثة: مؤسسة النساخة
إن تقسيم هذه الفقرة شبيه تمام التشابه لما كان عليه الأمر بخصوص التقسيم المعتمد بشأن الحديث عن العدول أعلاه, نظرا للتقارب الكبير بين التبويب المعتمد في القانون 16.03 المنظم لمهنة العدالة, و القانون 49.00 المنظم لمنة النساخة[21], و لذلك سنعالج في هذه الفقرة مسائلا تهم تعيين الناسخ واختصاصاته, و أخرى متعلقة بحقوقه و واجباته, على أساس قفل باب الحديث بالتطرق إلى مراقبة الناسخ و تأديبه.
أولا: تعيين الناسخ
بمجيء القانون 49.00 المنظم لمهنة النساخة, أصبحت هذه الأخيرة منظمة بشكل يضمن استقرارها و يحدد شروط الانخراط فيها, إلى جانب مجموعة من المقتضيات الأخرى التي تهم النساخ, و قد نصت المادة 8 من القانون أعلاه على أن النساخ يعين بعد نجاحه في المباراة بقرار لوزير العدل والحريات, و بعد التعيين يؤدي اليمين وفق صيغتها القانونية ” أقسم بالله العظيم أن أؤدي عملي بكل أمانة و إخلاص, و أن أحافظ على سر المهنة “, و يمارس النساخ مهامه داخل نفوذ المحكمة الابتدائية المعين بدائرتها.
ثانيا: اختصاص الناسخ
يقوم الناسخ أساسا باختصاصين اثنين و هما تضمين الشهادات العدلية و استخراج نسخ منها, هذين الاختصاصين نظمهما المشرع في الباب الثالث من القانون 49.00, حيث جاء في المادة 11 من القانون المذكور مايلي ” يعهد إلى الناسخ تحت مسؤوليته مايلي:
أن يضمن بخط يده وبمداد أسود غير قابل للمحو الشهادة بأكملها طبق أصلها المحرر من طرف العدلين بتتابع الشهادات حسب أرقام وتواريخ تضمينها دون انقطاع أو بياض أو إصلاح أو إلحاق أو تشطيب إلا ما اعتذر عنه، أما البثر فيمنع مطلقا ؛
تضمن الشهادات حسب نوعها خلال ثمانية أيام من تاريخ تسليمها إلى الناسخ – ما لم ينص على خلاف ذلك – بعد مراقبتها من طرف القاضي، في أحد السجلات المنصوص عليها في الفصل 25 من المرسوم رقم 2.82.415 الصادر في 4 رجب 1403 (18 أبريل 1983) بشأن تعيين العدول ومراقبة خطة العدالة و حفظ الشهادات و تحريرها و تحديد الأجور كما وقع تغييره و تتميمه.
أن يستخرج من السجلات المذكورة نسخ الشهادات المضمنة و المخاطب عليها.”.
و يكون الناسخ قد قام بالتضمين كلما نسخ مضمون الرسم العدلي بأحد سجلات التضمين[22] بعد إذن قاضي التوثيق, كما يقوم الناسخ و انطلاقا من نص المادة أعلاه باستخراج نسخ من الرسوم العدلية, و يحفظ الناسخ سجلات التضمين و يقدمها للعدول للتوقيع عليها و لقاضي التوثيق من أجل المراقبة و الخطاب عليها[23].
ثالثا: حقوق و واجبات الناسخ
يرتكز الحديث في هذه النقطة بالأساس على حقوق النساخ في مقابل التزاماته.
1/ الحقوق: إن الحديث عن حقوق النساخ يدفعنا للرجوع إلى ما كتب بخصوص حقوق العدل, مع اختلافات بسيطة في القانونين المنظمين لكل مهنة منهما.
و بتحليل نص المادة 15 من قانون النساخة نجدها أكدت على أن النساخ يتقاضى أجرة عن كل عملية تضمين و استخراج باستثناء الشواهد المجانية المنصوص عليها في المادة 16 من نفس القانون وتهم شواهد اعتناق الإسلام و مراقبة الأهلة و شواهد زواج المعسرين, نفس المقتضى نصت عليه المادة 13 من قانون خطة العدالة بشأن الرسوم العدلية المجانية, و للناسخ الحق أيضا في الانتقال بواسطة قرار لوزير العدل و الحريات (المادة 19 من القانون 49.00), و جاء نص المادة 20 متضمنا لحق آخر وهو حق الإعفاء حيث نصت المادة على مايلي: ” يعفى كل ناسخ عجز عن القيام بعمله بقرار لوزير العدل, و يمكن إرجاعه بناء على طلبه عند زوال سبب الإعفاء, بنفس الطريقة “.
2/ الواجبات: جاءت المادة 17 بالتزام أساسي واقع على عاتق الناسخ تمثل في ضرورة محافظته على سجلات التضمين بسبب استعمالها و بذلك نصت على مايلي: ” يحافظ الناسخ تحت مسؤوليته على سجلات التضمين أثناء استعماله لها “, لتليها المادة 18 مؤكدة على ضرورة تقيد النساخ بأوقات العمل الإدارية و عدم جواز تغيبه عن العمل إلا بعد أخذ الإذن من قاضي التوثيق, كما أن قيام الناسخ بمهامه داخل المقر المعين فيه بدائرة المحكمة الابتدائية يدخل ضمن خانة الواجبات الواقعة عليه.
رابعا: مراقبة و تأديب الناسخ
نظمت مسائل المراقبة و التأديب في البابين الخامس و السادس تواليا من القانون المنظم لمهنة النساخة الصادر في 22 يونيو 2001.
و يراقب النساخ عن طريق القاضي المكلف بالتوثيق (المادة 22 من القانون 49.00) و يمتد نطاق هذه المراقبة إلى
كيفية تضمين الناسخ للشهادات في السجلات.
كيفية استخراجه نسخ الشهادات.
تصرفاته أثناء قيامه بعمله.
إذن فنطاق المراقبة أعلاه لا يتجاوز حدود الاختصاصين الأساسين للناسخ المتمثلين في التضمين و الاستخراج, و إخلال النساخ بالتزاماته المهنية أو إقدامه على سلوك مناف للأخلاقيات و الشرف, يحتم المتابعة التأديبية, و هذه الأخيرة يقوم بها وكيل الملك بالمحكمة الابتدائية التابع لها مقر النساخ و ذلك بعد إحالة قاضي التوثيق الشكايات و التقارير بخصوص إخلالات الناسخ. هذا بخصوص المراقبة و متابعة الإخلال, أما العقوبات في حالة الإدانة فهي متدرجة حسب المادة 31 من قانون مهنة النساخة, بدء بالإنذار مرورا بالتوبيخ وصولا للمنع المؤقت من العمل لمدة لا تتجاوز سنة و انتهاء بالعزل كأقصى قرار تأديبي, و بمقارنتنا لنص هذه المادة نجده مطابقا تمام المطابقة لنص المادة 43 من قانون خطة العدالة المنظم لعقوبات العدول الممارسين.
خاتمة:
إن عراقة التوثيق العدلي و امتداده في التاريخ و تشعب إطاره القانوني و كذا تداخل مجموعة من الفاعلين في إطاره, كلها مقتضيات تجعل الإحاطة بكل تفاصيله و جزئياته أمرا شاق الغدارك, إن لم يكن مستحيل التحقق على مستوى مقالة من بضعة صفحات.
لذلك فاختيارنا لمصطلح “إطلالة” و توظيفه في عنوان الموضوع كان خير دليل على قضدنا من وراء المتن, فقد كان الموضوع عبارة عن وضع لرؤوس الأقلام على مجموعة من المقتضيات و الأحكام التي تهم موضوع التوثيق العدلي, استهلينا الحديث فيه بإلقاء الضوء على سياقه التاريخي و إطاره القانوني و بعض من الأهداف التي يبغي تحقيقها, محاولين الحديث بإيجاز شديد يكون معه المعنى واضحا و التعبير سليما و القصد مبلوغا, راجين ألا يكون الاختصار قد بلغ حدود الخلل.
و اختتمنا الموضوع بإلقاء الضوء على مؤسسات قضاء التوثيق و العدول و النساخة, محاولين كشف اللبس عن كل ما تعلق بخصوصها بمسائل التعيين و الاختصاص و الحقوق و الواجبات و كذا المراقبة و التأديب, مرتكزين في ذلك على خلفية النص القانوني و ما تتيحه من هامش للتحليل و مجال لبلوغ المرام.
و كأي دارس لموضوع من المواضيع القانونية, لابد أن تستوقفك مواطن للملاحظة و التساؤل, و بهذا فقد سجلنا مجموعة من الملاحظات, لعل أبرزها ما يلي:
أن مرفق التوثيق العدلي هو الأسبق وجودا و حضورا في ساحة التوثيق بالمغرب, نظرا لارتباطه الشديد بظهور فجر الإسلام بالمغرب, عكس التوثيق العصري الذي ظهر بوجود سلطات الحماية بالمملكة المغربية.
حسنا فعل المشرع المغربي – و وعيا منه بأهمية هذا المرفق- حيث جمع شتات مختلف الظهائر و المراسيم و الدوريات المؤطرة لهذا المرفق في قانون الخطة, حتى يسهل الرجوع إليه عند الحاجة, و يحكم التأطير و التنظيم لمختلف مقتضياته.
نتساءل عن الغاية من وراء بقاء العدول تحت مراقبة قضاة التوثيق, و إعفاء الموثقين من هذه الرقابة, خصوصا إذا استحضرنا أن تكوين العدل أضحى يقترب بشكل كبير من تكوين الموثق أساسا فيما يتعلق بشروط الترشيح و الصلاحيات التوثيقية الممنوحة لكلاهما.
إذا كانت الغاية من جعل العدل خاضعا لمراقبة قاضي التوثيق هي تحقيق سلامة الوثيقة العدلية و ضمان حقوق المتعاملين في إطارها, فمن الأجدى جعل الموثق أيضا خاضعا لهذع الرقابة.
رقابة قضاة التوثيق أصبحت مجرد رقابة شكلية, خصوصا إذا استحضرنا الضغط الذي يقع على قاضي التوثيق لاعتباره قاضيا داخل المحكمة الابتدائية قد يكلف بقضايا أخرى, بحيث أن تعيينه كقاض للتوثيق لا يجعله بالضرورة متفرغا لهذه المهمة وحدها فقط, بل يبقى شأنه شأن باقي القضاة ينظر في القضايا الأخرى, و هذا لا محالة يجعل قضاة التوثيق غير قادرين عمليا على تحقيق مراقبة فعالة لشكل و موضوع الوثيقة العدلية.
إذا كان خطاب قاضي التوثيق يرمي في شق منه إلى العريف بالعدلين, و في شق آخر يحقق مراقبة الوثيقة, التي قلنا انها لا تعدوا أن تكون مجرد مراقبة شكلية فقط و لا تنصرف إلأى موضوع الوثيقة, ففي ظل القانون الجديد الذي أوكل لوزير العدل و الحريات مسألة تعيين العدل بقرار منه, نتساءل هل مازال هنالك من موجب لهذا الخطاب.
(محاماه نت)