دراسات قانونية
بحث قانوني عن حماية الأجير – القانون التونسي
حماية الاجير
الاستاذ معتصم ابو راس
مثلت حماية الأجير، دون شك عنوانا طموحا في ظل وجود الفلسفة الإشتراكية والتي تعتبر أكثر تفهما لمشاكل الأجير، وتكريسا لذلك الهدف البراق جاء إصدار مجلة الشغل كهدية للعمال في عيدهم[1] بعد أن كانت تخضع العلاقة بين الأجير والمؤجر إلى أحكام العرف الجاري وبعض النصوص الخاصة وأحكام مجلة الإلتزامات والعقود التي عاملت طرفي العلاقة على قدم المساواة بإعتبار أن لكليهما مطلق الحرية للتعاقد ضرورة أن أحكام مجلة الإلتزامات والعقود[2] وتلك النصوص الخاصة والمشتتة ما كانت لتحمي الأجير، سيما أن الحرية التعاقدية التي تعتبر أساس مجلة الإلتزامات والعقود غير موجودة واقعيا وهي من قبيل الوهم لتباين القوى بين الأطراف[3] .
تتطلب دراسة هذا الموضوع مجهودا هاما نظرا لتشتت المراجع العلمية في الموضوع من جهة ولسرعة تطور هذا القانون على مستوى التشريع وفقه القضاء من جهة أخرى وذلك يعود لإهتمام المشرع بالميدان الإقتصادي والسعي إلى تحقيق إصلاحات في مختلف جوانبه، ودعم التنمية المستدامة وضمانا للتطور الإجتماعي السليم خاصة بعد دخول تونس في إتفاقية الشراكة مع الإتحاد الأوروبي وانخراطها في المنظومة العالمية للتجارة.
بعد أن كان يستمد قانون الشغل أحكامه من القانون المدني ضرورة أن علاقة الشغل الفردية عبارة عن علاقة نجد فيها كافة شروط العقد المدني العادي، غير أنه من جهة أخرى فإن قانون الشغل له مميزاته حتمت تدخل المشرع بفرض نصوص على الأطراف المتعاقدة وعناصر معينة في العقد عند تكوينه وإنتهائه والآثار التي ترتب عنها وكان ذلك بإتجاه حماية الطرف الضعيف في العقد بل وإعتبر أن الكثير القواعد المنظمة لعقد الشغل لها مساس بالنظام العام الإجتماعي وهو ما يمثل حضورا قويا للدولة[4].
فتوالت العديد من الإصلاحات قصد إقرار حماية أفضل للأجير وتكرس ذلك مع الإستقلال حين نصت توطئة الدستور على الحق في العمل النقابي وضمن أحكام الفصل الثامن من الدستور وإيجاد التمثيل العمالي في المؤسسات، وصدرت مجلة الشغل التي إحتوت على عدة نصوص نظمت الحق في الصحة والحق في الأجر والحق في الراحة السنوية الخالصة الأجر والحق في الراحة الأسبوعية والحق في التفاوض.
غير أنه منذ بداية الثمانينات عرف قانون الشغل حركية غير معهودة نتيجة التوجهات العالمية لهذا التحول شملت الفلسفة التي ولد فيها بإعتبار أنه أصبح يواجه واقعا جديدا في إطار عولمة الإقتصاد وتحرير المبادلات، مما جعله في حالة أكيدة إلى مراجعة العديد من الأسس والمبادئ التي كان يقوم عليها، فشهد سوق الشغل تقلبات سريعة وعميقة ذلك من خلال تحرير الإقتصاد الذي شرع فيه منذ منتصف الثمانينات وأثر ذلك أثرا بليغا على الأجراء، ومن أبرز ملامح تلك التقلبات خوصصة المؤسسات العمومية وإدخال أكثر مبادئ السوق صرامة وفتح الحدود ورفع الحواجز الجمركية.
فقانون الشغل في قواعده الآمرة التي أصبحت تثقل كاهل المؤسسة وتحول دون تطورها خاصة وقت الأزمات ممّا يبرز التعارض بين الهدف الذي أنشأت من أجله مجلة الشغل وبين المعطى الإقتصادي، ضرورة أن الأخير يسعى إلى الترفيع في الإنتاج وتحقيق الربح ومواكبة التطور التكنولوجي في حين يرمي الأول إلى الحصول على حقوق ومنافع إجتماعية جديدة لفائدة العمال[5].
أمام هذا التعارض بين المصالح وعدم إنسجام الهدف، حاول المشرع أن يؤقلم القوانين وإعادة توزيع الأدوار بين الأطراف الاجتماعية فأصبح تشريع الشغل بقواعده الآمرة عبئا ثقيلا على كاهل المؤسسة لذا إختار المشرع الانضمام إلى التوجهات العالمية التي إرتأت إعتماد المرونة كحل أفضل لتجاوز هذا التناقض وذلك للتخفيف من الطابع الحمائي للقانون الشغل مع ضرورة إحترام الحدود التي لا يمكن النزول دونها أو مخالفتها.
لذلك عرفت هذه الحماية تراجعا وتحويرا، منذ بداية الثمانينات ضرورة أن ذلك يعود للتحولات الإقتصادية الهامة التي مر بها المجتمع فأصبحت الحماية تشمل كل من الأجير والمؤسسة فإنقاذ هذه الأخيرة أصبحت هدف وغاية تتخذ كل الجهود لتحقيقه وتوفير كل الإمكانيات والوسائل، وفي هذا الإطار[6]
أصبحت المؤسسة تعيش في محيط إقتصادي متغير ومتطور متميز بالإستجابة للمنافسة الشرسة فأصبحت المؤسسة مطالبة بالإستجابة لمتطلبات السوق وذلك بتحسين الإنتاج والجودة مع الضغط على التكلفة والحط من الأسعار، غير أن ذلك لم يكن هدفا في حد ذاته وإنما وسيلة لمحافظة على النسيج الإقتصادي والمحافظة على مواطن الشغل فتم تغليب مصلحة المؤسسة في أغلب الأحيان دون إغفال للمصالح الأخرى التي تقتضي الحماية وبذلك فقد تم السعي إلى إيجاد قدر أدنى من التوازن المرن والمتغير بين مصلحة المؤسسة ومصالح بقية الأطراف[7].
وبغية محاولة الموازنة بين تلك المصالح المتناقضة خفف المشرع من حمايته للأجير وحرمه من بعض الإمتيازات التي كانت تعود إليه بالنفع ومقابل ذلك منح إمتيازات جديدة خاصة بالمؤسسة ولا يعني ذلك بالضرورة إلغاء الروح الحمائية لقانون الشغل بقدر ما يهدف إلى إضفاء ليونة على عمل المؤسسة وإستمرارها فتخلى المشرع رويدا رويدا علن تنظيم العلاقة إلا في حدود ما يتعلق بالنظام العام والنظام العام الإجتماعي فهل يعني ذلك أن قانون الشغل بتراجعه عن دوره التقليدي تخلى عن الهدف الذي نشأ في ظله أم بقي محافظا على ذلك الهدف حيث وضع حدود لا يمكن التنازل عنها، فإلى أي مدى يمكن إعتبار قانون الشغل قانون يحمي الأجير؟ للإجابة على هذا التساؤل لا بد من التعرض إلى إقرار الحماية للأجير بوضع مجموعة من الوسائل لذلك ( الجزء الأول) وإلى كون تلك الحماية أصبحت محل تراجع ملحوظ نتيجة للتحولات الإقتصادية (الجزء الثاني).
القسم الأول: تكـــــــريس الحمـــــــاية
تثبت حماية الأجير كطرف ضعيف في العلاقة الشغلية وقصد حمايته تدخلت الدولة بسنها العديد من التقنيات عند تكوين تلك العلاقة (المبحث الأول) حين وضع المشرّع جملة من القواعد الشكلية ذات الصبغة الصارمة ما هي إلا قيود سعى من خلالها إلى الحد من إمكانية إنهاء العلاقة الشغلية (المبحث الثاني).
المبحث الأول:حماية عند تكوين العلاقة الشغلية:
مما لا شك فيه أن المشرع وتكريسا لهدفه بحماية الأجير وضع آليات وتقنيات في سبيل ذلك عند بداية تكوين العلاقة الشغلية (الفقرة الأولى) ونهايتها (الفقرة الثانية)
الفقرة الأولى: حماية عند بداية العلاقة الشغلية:
تبرز مظاهر تكريس حماية للأجير من خلال تدخل الدولة في التشجيع للانخراط في الشغل وذلك من خلال وضع تقنيات لذلك الهدف (أ) وما ترتب عن الحق في الشغل من أثار (ب).
تدخل الدولة لتوفير فرص عمل:
يعاني سوق الشغل اليوم من إرتفاع عدد العاطلين عن العمل وعدم وجود[8] توازن بين طلبات الشغل وعروضها ما جعل المشرع يسعى إلى إدراج تنظيم قانوني متكامل لسوق الشغل من شأنه أن يسهل عمليات التشغيل. فتدخلت الدولة لتسهيل الحلول أمام عزوف المؤسسات عن الإنتداب نظرا لإرتفاع التكلفة التي يتحملونها سيما في ظل هيمنة الإقتصاد الليبرالي الذي يقوم على الحق في المنافسة وعدم تدخل الدولة في سوق الشغل وفي هذا المجال تدخلت الدولة عبر توفير آليات والتبسيط من إجراءات الإنتداب كالإعلام عن العروض أو طلبات التشغيل عن طريق وسائل الإعلام[9].
وبغية التضييق من حرية المؤجر في الإنتداب أو إعتماده على وسيط وفي هذا الإطار جاءت إتفاقيات العمل الدولية عدد 96 لسنة 1949 المتعلقة بوكالات خدمات التو ضيف غير أن تونس لم تصادق على هذه الإتفاقية بل إلتجأت إلى إلغاء مكاتب التشغيل الخاصة سواء التي كانت بالأجر أو بدونه وتطبيقا للإتفاقية عدد 88 لسنة 1948 وعلى هذا الأساس أحدث الوكالة التونسية للتشغيل[10] التي أوكل لها تنشيط سوق الشغل عن طريق شبكة مكاتب التشغيل التي تسهر عمليات توظيف العمال[11]
وإحتكار الدولة لعملية التوظيف يتماشى في سياسة الشفافية والعدالة الإجتماعية كما يساهم في ضمان ظروف طيبة ومرضية تسهل الباحث عن عملية إيجاد الشغل المناسب كما تكفل له حماية حقه في العمل وبذلك يضع حدا لأصناف الإنتداب المهمّشة.
غير أن طالب التشغيل يفترض أن تتوفر فيه حد ادني من الكفاءة المهنية[12] وفي حال غيابها يقلل من فرصة التشغيل بالنسبة أليهم فكان من المشرع أن تدخل لتقنين أشكال عمل جديدة تضمن اكتساب هذا التكوين وهو ما تحقق فعلا بفضل صياغة عقود تربصات للتأهيل للحياة العملية ميزتها الأساسية أنها عقود استثنائية تخرج عن القانون العام لعقود الشغل وتميل إلى خرق القانون المعتاد بخصوص عقد الشغل. فهذه العقود تتخذ شكلان وهما عقود التشغيل والتكوين وعقود تربص للحياة المهنية في إطار احترام مبدأ المساواة بين المرشحين الذين لهم نفس المؤهلات المهنية.
كما أن المشرع سن نظاما خاصا لتشغيل العمال الأجانب والذي نص على انه لا يمكن انتداب عمال أجانب عند توفر كفاءات تونسية في الاختصاصات المعنية بالانتداب ” مما يعني أن باحثي عن العمل من الجنسية التونسية لهم الأولوية، غير أن الحق في العمل ما هو إلا وهم لاتصاله بحقيقة السوق.
ضمان الإستقرار في العمل:
لا يكفي أن يتمتع المواطن بحق العمل بل يجب أن يؤطر هذا العمل بشروط لائقة مثل الدخل الكافي، الحماية الإجتماعية، الظروف الصحية وفرص الترقية، الإجازات الدورية وتحديد ساعات العمل، وكل هذه الشروط تعبر عن حق البقاء في العمل في حدود ما هو ممكن والمشرع التونسي اقر تقنيات في هذا المجال منها عقود الشغل غير محددة المدة وهي توفر نوعا من الإستقرار في وضعيات العامل إذ تظل مستمرة ما لم يقرر أحد أطرفها إنهائها، إلى جانب هذا أقر تقنية الإحتفاظ في عقد الشغل في صورة تغيير حالة المؤجر القانونية وذلك عملا بأحكام الفصل 15 من مجلة الشغل.
ويتجسد التدخل التشريعي من خلال ما نص عليه الفصل 16 من مجلة الشغل الذي نص على أن إفلاس المؤجر لا يكون سببا في فسخ العقد، وفي نفس الإطار أقرا قانون 17-05-1995 المتعلق بإنقاذ المؤسسات التي تمر بصعوبات إقتصادية إن من أثار إحالة المؤسسة للغير وثبوت هذه الحالة من شأنها أن تضمن المحافظة على مواطن شغل.
وقد تطرأ على العلاقة الشغلية بعض الأحداث التي تهدد بقطعها نظرا لتعذر تواصل تنفيذ أحد طرفيها لإلتزاماته ضرورة أن التوجه الأساسي قائم على المحافظة على مواطن الشغل وضمان إستقرار الأجراء بالمؤسسة فإن تقنية التعليق تؤمن بقاء عقد الشغل المهدد بوجود إستحالة مؤقتة تحول دون تنفيذه، فالإستحالة المطلقة والمتواصلة تؤدي بداهة إلى قطعة العلاقة الشغلية خلافا للمانع الوقتي المتعلق بشخص الأجير أو بالمؤسسة ذاتها، فالمرأة الأجيرة خلال فترتي قبل وبعد الوضع يستحيل عليها تنفيذ العقد لأسباب صحية حسب منطوق الفصل 20 من م ش كما إن أداء العامل للخدمة العسكرية أو ممارسته لمهام تمثيلية من الأسباب التي لا توجب فسخ عقد شغله تطبيقا لأحكام الفصل 19 من م ش.
فحرية الإنتداب تعني في الناحية الإيجابية حرية المؤجر في الإنتداب أما من الناحية السلبية حرية الإمتناع على الإنتداب، وأساس هذه الحرية التعاقدية ضرورة أن عقد الشغل يقوم على الإعتبار الشخصي، غير أن هذه الحرية وردت عليها قيود في الإنتداب وهو ما نص عليه الفصل 258 م ش وكذلك ما ورد ضمن أحكام الفصل 53 من م ش المتعلق بالعمال الذين لم يبلغوا السن القانونية للتشغيل وقيود أخرى وردت على حرية الإمتناع عن الإنتداب والمتعلق بتشغيل المعاقين[13].
الفقرة الثانية :حماية عند تنفيذ العلاقة الشغلية
برز التوجه الحمائي لقانون الشغل منذ بدايته، وتكريسا لذلك المسار منح المؤجر جملة من الحقوق لا يمكن التنازل عنها فمنها المتعلقة بالأجر (أ) وحماية صحته وسلامته المهنية (ب) كما صادقت البلاد التونسية على الإتفاقية المتعلقة بحماية الحق النقابي (ج) والتي يستنتج منها الحق في الإضراب (د).
الحق في الأجر
يتميز الإطار القانوني للأجور بسيطرة الصبغة الآمرة على أحكامه لتعلقه بالنظام العام ويبرز أساسا كنظام عام حمائي يجد تبريره في الصبغة المعاشية للأجر وفي وضعية الأجير كطرف ضعيف في العقد[14].
وتتجلى حماية المشرع للأجير خاصة من خلال تحديد الأجر الأدنى المضمون[15] الذي يشكل الحد الأدنى الذي لا يمكن النزول تحته كتأجير عامل مكلف بانجاز إعمال لا تتطلب اختصاصا مهنيا فالأجر المضمون بهذا المعنى يحدد المستوى الأدنى[16] للأجرة الكافية لتسديد الحاجيات الأساسية للأجير مهما كان صنفه المهني.
وباعتبار أن الاتفاقية المشتركة تفرض أحكامها مبدئيا على عقد الشغل الفردي إذا تضمن هذا العقد بنودا أكثر نفعا للأجير فالأجر الذي يسند لهذا الأخير لا يمكن أن يقل عن الأجر الذي حددته الاتفاقية المشتركة والذي بدوره لا يمكن أن يقل عن الأجر الأدنى المضمون.
من الواضح أن هناك توزيعا للأدوار فالدولة تضبط الأجر الأدنى المضمون الذي ينطبق على الأجراء بقطع النظر عن أصنافهم المهنية والاتفاقيات المشتركة تحدد الأجور الأساسية وملحقاتها وفق التصنيف المهني للإجراء باعتبار إن الأجر يتكون حسبما تضبطه الاتفاقية المشتركة، من عنصرين الأجر الأساسي وملحقاته فالأجر الأساسي يحدد المستوى الأدنى من الأجر المقابل لصنف مهني معين.
أما ملحقات الأجر الأساسي فهي تحدد في شكل منح وامتيازات مختلفة منها ما يتعلق بمردودية الأجير في العمل مثل منحة الإنتاج ومنها ما يهدف إلى تشجيع الإجراء على المواظبة والاستمرارية في العمل مثل منحة الحضور ومنحة التنقل أو توفير محل سكنى للأجير أو وضع وسيلة نقل على ذمته ويمكن أن يتضمن عقد الشغل الفردي أجرا ارفع من الأجر الذي حددته الاتفاقية المشتركة[17].
ونظرا لإرادة المشرع قصد حماية الأجير فقد أقر أحكاما تهدف إلى ضمان دفع الأجور سواء عندما يكون العامل في موقع الدائن أو عندما يكون في موقع المدين.
وتتجلى هذه الحماية لفائدة الأجير كدائن بصفة خاصة في صورة عجز المؤجر عن الدفع وفي هذا الصدد اقر المشرع لفائدة الأجير امتيازا مدعما للأجر وخصوصا منذ تنقيح مجلة الشغل سنة 1996 حين أضافت فصلا جديدا 151-2 وتكمن أهم إضافة جاء بها الفصل المذكور في إعادة ترتيب الامتياز العادي للإجراء، حيث أصبح يسبق امتياز الخزينة العامة[18].
وتمتد كذلك الحماية إلى الحالات التي يكون فيها الأجير في موقع المدين، فتبرز هذه الحماية من خلال تنصيص المشرع على مبدأ هام يتمثل في منع المقاصة لفائدة المؤجر من بين مبلغ الأجور التي يكون مطالبا بدفعها والمبالغ التي تعود له مقابل أشياء مختلفة وذلك صلب الفصل 149 م ش كما وان قدم المؤجر تسبقه في غير الحالة المذكورة أخيرا في الفصل المذكور فليس له استرجاع تلك التسبقة إلا حسب اقسطا متوالية لا تتجاوز الجزء العاشر من الأجر المستحق[19].
وحرصا من المشرع على حماية الأجر يعاقب المؤجر الذي يتعمد دفع أجر غير كاف لعامله بخطية إدارية مالية وذلك بدفع مبلغ ثلاثة أضعاف الجزء المنقوص من الأجر لميزانية الدولة وهذه الحماية الجزائية للأجر تتمثل في سلطة المشرع الرامي إلى حماية الطرف الضعيف ويتجلى ذلك من خلال ما كرسه من نصوص جزائية تعاقب من خالف الأحكام الآمرة المتعلقة به فقد جاء بالفصل الثالث الذي نص على معاقبة المؤجر الذي يسدد أجور العملة دون الأجر الأدنى القانوني وذلك بتسليط خطية عليه حددها الفصل 234 جديد من مجلة الشغل. كما أن الغير الذي سيجري عقلة على أجرة العامل لا يمكنه إجرائها إلا وفق مقتضيات الفصل 353 وما يليه من م م م ت[20].
وقد ورد مبدأ هام جدا جاء به الفصل 151-2 من م ش متعلق بالأجر غير القابل للحجز مهما كان امتيازه[21] علاوة على هذا الحق الهام، حاول المشرع المحافظة على صحة الأجير وسلامته المهنية.
صحة الأجير وسلامته المهنية
يبرز التوجه الحمائي من خلال إقرار فصول تستوجب حماية صحة الأجير وسلامته المهنية[22] حين فرض المشرع على المؤجر واجبا عاما في رقابة الأجراء من المخاطر المهنية، ونص على جملة من الإجراءات التي يتعين على المؤجر اتخاذها قصد توفير شروط الصحة والسلامة المهنية[23]
وهذا ما يدل على إرادة واضحة لدى المشرع بغية حماية الأجير كانسان وفي المقابل يتعين على الأجير الامتثال للمقتضيات المتعلقة بالصحة والسلامة المهنية وعدم ارتكاب أي فعل أو تقصير من شانه عرقلة هذه المقتضيات فعلى المؤجر المحافظة على صحة الأجير ووقايته من الأخطار وذلك باتخاذ الوسائل الكفيلة بإبعاد كل خطر عنه سواء من حيث آلات العمل أو من حيث مكانه وبتوفير الضمانات اللازمة[24] له حتى يمكنه عند الاقتضاء درء الخطر عن نفسه بواسطة الأجهزة المتوفرة لديه وهذا يكون حسب نوع العمل الذي يمارسه الأجير وبحسب مكان العمل الذي يوجد به.
وأكثر من هذا منح المشرع متفقد الشغل صلاحيات هامة تتمثل بالسهر على تحقيق هذا العنصر بمكان العمل وذلك بتحرير المحاضر ضد المؤجرين الذين يتهاونون في حق عملتهم في هذا الجانب[25].
إضافة لما تقدم أوجب المشرع على كل مؤسسة تشغل أكثر من 500 عامل إحداث مصلحة لطب الشغل خاصة بها، أما المؤسسات التي تشغل أقل من 500 عامل فيمكن لها إما إحداث مصالح لطب الشغل خاصة بها أو الانخراط بمجمع لطب الشغل[26]، إضافة إلى ما سبق منحه حق التمثيل النقابي.
الحق النقابي
صادقت البلاد التونسية على الاتفاقية عدد87 حول الحريات النقابية وحماية الحق النقابي وعلى الاتفاقية عدد98 حول حق التنظيم والتفاوض المشترك والتي نصت على ضرورة حماية العمال ضد أي تميز من شانه أن يمس من الحرية النقابية في مجال التشغيل كما صادقت أخيرا على المعاهدة عدد 135 المتعلقة بممثلين الشغالين داخل المؤسسات[27].
هذا بالنسبة إلى المصادر الدولية.
أما فيما يتعلق بالمصادر الوطنية فقد نص الدستور ضمن أحكام الفصل الثامن على “إن الحق النقابي مضمون“ بالتالي يرتقي هذا الحق إلى مستوى الحقوق الدستورية وللحرية النقابية بعدين متلازمين منها ما هو سلبي ومنها ما هو إيجابي وتتمثل هذه الأخيرة في حرية الفرد في الانتماء للنقابة وفي اختيار المنظمة النقابية التي يريد الانتماء لها وفي جانبها السلبي تتمثل في حرية الفرد في عدم الانتماء للنقابة كما تعني حريته في الانسحاب من النقابة متى شاء غير إن تلك الإتفاقية هل يمكن أن يستشف منها أن المشرع كرس حق الإضراب؟
وان كان الدستور لا يكرس حق الإضراب[28] صراحة وهو خيار من خيارات المشرع التونسي غير أن بعض الشرّاح اقر بوجود مكانة دستورية لحق الإضراب انطلاقا من الفصل الثامن من الدستور الذي يضمن الحق النقابي باعتبار أن المشرع يكرس مفهوما عضويا للإضراب خصوصا انه يشترط مصادقة المنضمة النقابية لممارسته بصفة قانونية.
غير انه البعض يرى انه لا يجب الخلط بين الحق النقابي والإضراب معتبرا أن سكوت المشرع عن تكريس الإضراب يدل على غياب النية لدى السلطة التأسيسية في أعطائه مرتبة دستورية.
ومها يكن من أمر فقد كرسته مجلة الشغل وان لم تعرفه إلا أنها نظمت شروط ممارسته وأثاره في باب “تسوية نزاعات الشغل الجماعية”
وقد عرفت محكمة التعقيب بدوائرها المجتمعة حق الإضراب بالقرار الصادر عن الدوائر المجتمعة “أنه يستخلص من أحكام الفصول من 376 إلى 387 من م ش أن الإضراب يتمثل في توقف مجموعة من الأجراء معا عن العمل قصد تحقيق طلبات مهنية وهو يتم خلافا للعقد ويستمد شرعيته من القانون[29] ” .
توسع المشرع بحماية الأجير ليس فقط عند بداية تكوين العلاقة بل سعى جاهدا إلى التقييد فيها عند نهايتها.
المبحث الثاني: حماية موجودة عند إنهاء العلاقة
رغم ما تعرض له قانون الشغل من تغييرات نتيجة التحولات الإقتصادية غير أنه حاول دائما الإبقاء على إستمراية العلاقة الشغلية وذلك حين إشترط شكليات صارمة قبل إنهاء العلاقة (الفقرة الأولى) كما أنه أكثر من الهياكل التي تفترض المرور عبرها قبل إتخاذ قرار الطرد (الفقرة الثانية).
الفقرة الأولى: اشتراط شكليات صارمة
تدخل المشرع و أقر جملة من القواعد الشكلية ذات الصبغة الحمائية بالنسبة للأجير وهي قيود إجرائية تحد من حق إنهاء العلاقة المهنية من جانب المؤجر.والهدف من ذلك الحد من سلطات المؤجر الاقتصادية والتأديبية بغية ضمان استمرار العلاقة الشغلية.
فلا يكفي وجود سبب مبرّر لإنهاء العلاقة الشغلية إنما يتعين أيضا احترام الإجراءات القانونية التي نصت عليها مجلة الشغل أو الاتفاقيات المشتركة وغير ذلك يكون قطعا تعسفيا للعلاقة.بالتالي يمكن أن نميز بين نوعين من الإجراءات الإعلام المسبق من ناحية (أ)
والإجراءات الخاصة بالطرد(ب).
الإعلام المسبق:
ينتهي العقد المبرم لمدة غير محددة في أيّ وقت بالإرادة المنفردة لأحد الطرفين بعد التنبيه على الطرف الآخر[30] وهو ما أكده المشرع حتى قبل تنقيح سنة 1994. فكان الفصل 14 قديم يتضمن أن مدة الإعلام تختلف حسب صنف الأجير حين كانت هذه المدة محددة بشهر بالنسبة للأجراء الذين يتقاضون أجرتهم شهريا وثمانية أيام بالنسبة للعمال الآخرين.
غير أن التنقيح الجديد حذف هذا التميز بحيث صارت مدة الإعلام شهرا كاملا بالنسبة لجميع الإجراء وهذه المدة تعتبر كافية مقارنة مع سابقتها من ثمانية إلى عشرة أيام وهو أجل معتبر يتمكن الأجير خلاله من مناقشة مؤجره في جدية أسباب الطرد أو حتى إيجاد حل بديل غير ذلك.
وفضلا عن هذا فرض المشرع ثنائية[31] الإعلام المسبق بقطع النظر عن سبب الطرد سواء لسبب اقتصادي[32] أو فني فيجب عليه إعلام الأجير كما يجب عليه إعلام تفقدية الشغل المختصة ترابيا أو الإدارة العامة لتفقدية الشغل[33].
تتحقق حماية الأجير حين أراد المشرع[34] أن لا يفاجئ هذا الأخير بقطع العلاقة بأن إشترط منذ تنقيح 1994 وجوبية الإعلام الكتابي باعتبار أنه في السابق لم يكن يوضح شكل الإعلام وميزة هذا الإجراء انه يرفع كل لبس عند إثبات واقعة الطرد التعسفي ومعرفة الطرف المبادر بقطع العلاقة فأصبح المؤجر بمقتضى أحكام الفصل 14 مكرر ملزما بإعلام المعني بالأمر عن طريق رسالة مضمونة الوصول بل اشترط لها مضمونا معينا.
هذا الإعلام حدد له المشرع مضمونا دقيقا وذلك يتأكد من خلال ما جاء بالفصل 14 ثالثا حين نص أنه على المؤجر الذي يعتزم الطرد أن يبيّن أسباب الطرد في رسالة الإعلام كما يؤكد على ذلك من خلال أحكام الفصل 21 لما نص على أنه يجب أن يتضمن الإعلام البيانات التالية: “إسم المؤسسة وعنوانها الكامل وإسم المسؤول عنها وتاريخ بداية نشاطها وطبيعته، والأسباب التي أدت إلى طلب الطرد أو الإيقاف عن العمل، كما يجب أن يكون الإعلام مرفقا بالمؤيدات اللازمة لطلب الطرد أو الإيقاف عن العمل أو بقائمة كافة عملة المؤسسة مع بيان حالتهم المدنية وتاريخ إنتدابهم وإختصاصهم المهني وكذلك العمال المعنيين بالطرد أو بالإيقاف عن العمل”.
يفهم مما سبق عرضه أن إنهاء عقد الشغل يكون آليا بمجرد انتهاء أجل الإعلام سواء كان ذلك بمبادرة من المؤجر ويسمى طردا أو بمبادرة من الأجير وتسمى إستقالة غير أن ذلك ليس صحيحا لأن المشرع وهو ما تم بيانه سابقا قد تدخل إلى حد تضيق الإنتهاء فلا يمكن للعقد أن ينتهي دون أتباع الشروط والإجراءات التي يجب احترامها[35] .
علاوة على ما تم ذكره فإن المشرع وبقصد المحافظة على إستمرار العلاقة الشغلية وضع إجراءات خاصة بالطرد.
الإجراءات الخاصة بالطرد
يمكن تعريف الطرد بأنه فسخ عقد الشغل بإرادة المؤجر بصفة أحادية الجانب. و نظرا لخطورة الطرد على الأجير وعلى إثره يحرم من موطن عمل قد لا يعثر على بديل له نظرا لوضعية السوق، حيث يفوق عرض اليد العاملة بنسبة كبيرة الطلب ومن أجل ذلك تدخل المشرع بكثافة النصوص التي تنظم الطرد وذلك على أسس حمائية لفائدة الأجراء قصد تمكينهم من جملة الضمانات إزاء مخاطر الإقصاء المهني لأسباب خارجة عن إرادته.
فالمشرع يحد من حرية المؤجر في إنهاء العقد لان الواقع يثبت أن إنهاء العلاقة الشغلية غالبا ما يكون بمبادرة من المؤجر خصوصا أن مصلحة الأجير تكمن غالبا في المحافظة على مواطن شغله ومن هذا المنطلق صار حق الطرد يخضع إلى نظام قانوني مميز.
فمنذ تنقيح 1994 اشترط المشرع صراحة في كل الحالات أن يكون الطرد قائما على سبب حقيقي وجدي[36] يبرره وإلا اعتبر طردا تعسفيا[37] وهذا الشرط يقيد حق الطرد ويسمح للقاضي بمراقبة بأكثر سهولة[38] باعتباره أهم شكل يمس حق الأجير في الشغل. ومفهوم الطرد الصارم ضيق من حق قطع العلاقة الشغلية من جانب المؤجر خصوصا أن فقه القضاء اعتمد على نظرة نسبة للخطأ الفادح حسب الشخص العامل وموقعه المهني والظروف الموضوعية والذاتية لارتكاب الخطأ[39] .
وحسما لتباين مواقف محاكم الموضوع[40] وإنهاءا للنقاش الدائر وضع المشرع بمقتضى القانون عدد 25 لسنة 1994 المؤرخ في 21-02-1994 تعريفا للطرد التعسفي ضمن أحكام الفصل 14 ثالثا[41] .
فالمشرع بذلك التعريف قيّد من صلاحيات المؤجر المهنية والتأديبية[42] حين فرض عليه أن يبرر طرد الأجير العامل تحت إمرته بوجود سبب خطير من شأنه أن يحول دون تمكين الأجير من مواصلة عمله لديه[43].
وعلاوة على تلك الإجراءات الخاصة فقد تشعب المشرع بإستحداث جملة من الهياكل التي يجب المرور عبرها قبل إتخاذ قرار الطرد.
الفقرة الثانية: تعدد الهياكل
سـعى المشرع إلى حماية الأجير من خلال إيجاد هيئات مهنية داخل المؤسسة وخارجها تختص في النظر في مسألة الطرد مسبقا أي قبل إتخاذ القرار وهو ما ذهب ببعض الشرّاح إلى إعتبار أن تعدد هذه الهياكل يقصد به محاولة الإصلاح[44] كفرض رقابة سابقة لقرار الطرد (أ) تتلوها رقابة لاحقة للطرد (ب).
الرقابة السابقة للطرد:
تمارس هذه الرقابة حين أوجب المشرع بضرورة المرور على العديد من الهياكل قبل إتخاذ قرار الطرد كتفقدية الشغل(1) ولجنة مراقبة الطرد (2) والمجلس التأديبي (3).
تفقدية الشغل:
لا يمكن للمؤجر اللجوء مباشرة إلى لجنة مراقبة الطرد بل يجب عليه المرور أولا بتفقدية الشغل المختصة ترابيا أو الإدارة العام لتفقدية الشغل والمصالحة إذا تعلق طلب المؤجر بإيقاف أو طرد عمال ينتمون لفروع مؤسسة متواجدة بولايتين أو أكثر، وتقوم تفقدية الشغل أو الإدارة العامة لتفقدية الشغل حسب الحالة ببحث أولي بشأن طلب المؤجر ثم تقوم بمحاولة صلحية بين الطرفين المعنيين في أجل أقصاه 15 يوما من تاريخ تعهدها بالملف، أما إذا تعذر الصلح فعلى تفقدية الشغل أو الإدارة عرض ملف الطرد أو الإيقاف عن العمل على اللجنة الجهوية أو اللجنة المركزية لمراقبة الطرد حسب الحال وذلك خلال الثلاثة أيام الموالية لإنتهاء المحاولة الصلحية[45].
ونص الفصل 21- 3 من مجلة الشغل على تمتيع تفقدية الشغل بصلاحيات واسعة[46] تستطيع من خلالها الاطلاع على جميع الوثائق بحيث يمكنها هذا الفصل من إيجاد حلول أخرى غير الطرد وعرضها بشكل مقترحات بين طرفي العلاقة. وقصد تفعيل دور تفقدية الشغل سلط المشرع عقوبات مالية ضمن أحكام الفصل 240 من مجلة الشغل[47] على من يتعمد منع عون مكلف بتفقد الشغل من القيام بمهامه، بقطع النظر عن تطبيق أحكام المجلة الجنائية التي تعاقب على هضم حرمة موظف عمومي في حالة مباشرته لوظيفته وفي صورة العود تضاعف العقوبة.
لجنة مراقبة الطرد:
هناك تمثيل أخر يسمى “لجنة مراقبة الطرد” والذي أحدثت بمقتضى تنقيح القانون عدد 62 لسنة 1996 المؤرخ في 15 جويلية 1996 المتعلقة بلجنة مراقبة الطرد حيث شمل هذا التنقيح الشكل بوضع حد لتشتت الفصول المتعلقة بهذا الموضوع وذلك بتجميع الفصل 21 والفصول 391-394 و 395 في الفصل 21 جديد وما يليه والأصل خاصة بضبط آجال معينة للنظر في طلب المؤجر.
وقد أوجب الفصل 21 جديد من مجلة الشغل على كل مؤجر يعتزم طرد أو إيقاف عن العمل لأسباب إقتصادية أو فنية البعض من الإعلام المسبق لتفقدية الشغل المختصة ترابيا.
ويتضمن هذا الإعلام البيانات التالية: إسم المؤسسة وعنوانها الكامل وإسم المسؤول عنها وتاريخ بداية نشاطها وطبيعته. – الأسباب التي أدت إلى الطرد أو الإيقاف عن العمل، ويرفق هذا الإعلام بالمؤيدات اللازمة لطلب الطرد أو الإيقاف عن العمل وبقائمة كافة عملة المؤسسة مع بيان حالتهم المادية وتاريخ إنتدابهم وإختصاصهم المهني وكذلك العمال المعنيين بالطرد أو الإيقاف عن العمل، وإذا كان الإعلام بالطرد أو الإيقاف عن العمل يتعلق بعمال ينتمون لفروع مؤسسة متواجدة بولايتين أو أكثر يقع توجيه الإعلام إلى الإدارة العامة لتفقدية الشغل، وقانون 15 جويلية 1996 مكمل في جوهره للقانون عدد 34 لسنة 1995 المؤرخ في 17 أفريل 1995 المتعلق بإنقاذ المؤسسات التي تمر بصعوبات إقتصادية ففي كل من القانونين حاول المشرع تحقيق هدفين متكاملين: ضمان إستقرار المؤسسة وضمان إستقرار الأجراء في عملهم[48] فاقر المشرع ضرورة عرض ملف الطرد عليها وذلك حين تفشل تفقدية الشغل بمحاولتها الصلحية وهذه اللجنة تقوم باقتراح[49] حلول بديلة للطرد غايتها عادة إبقاء الأجير مستمرا في عمله وذلك بالتشجيع مثلا على تعديل عقد الشغل من خلال مراجعة شروط العمل بهدف المحافظة على مورد رزق العمال وهو ما ورد بأحكام الفصل 21-9 من مجلة الشغل ولقد إستعمل المشرع في هذا الفصل عبارة “تقترح” ولم يستعمل عبارة “تقرر” وبالتالي فإن تدخل لجنة مراقبة الطرد يقتصر على إبداء الرأي في مطلب المؤجر، وبالرجوع إلى الفصل 21-12 من مجلة الشغل نستنتج أن المشرع يسمح للمؤجر بمخالفة رأي اللجنة حيث لم يشترط إلا إستشارتها والحصول مسبقا على رأيها، فواجب المؤجر يقتصر إذن على القيام بالإجراءات المنصوص عليها بالفصل 21 جديد وما يليه من مجلة الشغل للحصول على رأي اللجنة[50].
المجلس التأديبي:
نص الفصل 37 من الإتفاقية المشتركة[51] على أن كل مؤجر يرغب في طرد الأجير لا بد من عرضه على المجلس المذكور وكلما إستدعي الأجير للحضور أمام مجلس التأديب يتعين إعلامه بذلك ثلاثة أيام قبل الحضور بواسطة رسالة مضمونة الوصول مع الإعلام بالبلوغ، وله الحق أن يتسلم حالا نسخة من ملفه والتقرير المقدم ضده.
ويتبين من هذا الفصل أنه يمثل محاولة للحد من سلطة المؤجر التأديبية وذلك لضمان إستمرار العلاقة الشغلية هذا من جهة، وتفويت الفرصة على المؤجر الذي يمكن أن يجمع بين صفة الخصم والحكم في نفس الوقت.
علاوة على أن المجلس المذكور يترجم مبدأ تناسب العقوبة مع الخطأ حين نص بفقرته الأولى إن فداحة الهفوة يقع تقديرها بالنظر للظروف التي وقع فيها إرتكابها ولنوع الوظيف الذي يشغله العامل المرتكب للخطأ مع النظر لفداحة ما له من نتائج، وأنه لزاما على المؤجر قبل إتخاذ الطرد أن يحيل العامل على الهيئة التأديبية لأخذ رأيها في الموضوع، ومخالفة هذا الإجراء من شأنه أن يجعل الطرد الذي تعرض له العامل يكتسي صبغة تعسفية ولو كان سببه شرعي [52].
الرقابة اللاحقة :
تتجلى الرقابة اللاحقة على إنهاء العلاقة الشغلية من خلال ضرورة المرور إلى جهاز القضائي.
القضاء الشغلي:
لقد نظم المشرع دائرة الشغل[53] ضمن مقتضيات الفصول من 186-197 من م ش[54] فمبدئيا بكل محكمة ابتدائية توجد دائرة شغلية وتنظر بفض نزاعات الشغل الفردية بين الأجير والمؤجر ونظرا لوضعية المؤجر كطرف ضعيف في العلاقة فقد بسط المشرع إجراءات التقاضي فتقبل[55] دعوى المؤجر المقدمة شفاهيا أو الكتابية مباشرة بدون محام أو عن طريق رسالة مضمونة الوصول ويتسلم مقابلها وصلا من كاتب الدائرة الشغلية.
كما أن اجل الاستدعاء مختصرا واقل من المادة المدنية رغم انه يعتبر من الإجراءات الأساسية فينبغي أن يبلغ الاستدعاء قبل تاريخ الجلسة بثمانية أيام على الأقل إلا انه يمكن لرئيس الدائرة استدعاء الإطراف للحضور لديه في اجل اقصر[56].
المظهر الأساسي لبساطة الإجراءات[57] يكمن في الفصل 201 جديد وما بعده من مجلة الشغل التي بينت في مجملها أن الدعوى يمكن أن تقدم بمجرد مطلب كتابي لكتابة دائرة الشغل ويسلم في مقابله وفي الحين إستدعاء، كما يمكن توجيه مطلب لكتابة الدائرة عن طريق رسالة مضمونة الوصول هذا في ما يخص المدعي[58].
أما بخصوص المطلب فيمكن أن يستدعى المطلوب لدى دائرة الشغل بمجرد مكتوب مضمون الوصول مع الإعلام بالبلوغ معفى من معاليم البريدية أو بالطريقة الإدارية.
وإمعانا في تكريس بساطة الإجراءات، يمكن لرئيس دائرة الشغل من تلقاء نفسه أو بطلب من المدعي أن يستدعي المطلوب للحضور بالجلسة بواسطة عدل تنفيذ، وكما يمكن دائما الحضور للأطراف من تلقاء أنفسهم لدى دائرة الشغل وذلك بهدف فرض رقابة الجهاز القضائي على إنهاء العلاقة ضرورة أن القاضي يلعب دورا حمائيا في إنهاء العلاقة الشغلية الآخذة بالتراجع.
القسم الثاني: تراجع الحماية
نظرا لهيمنة الفكر الليبرالي السائد ومواكبة النظام الإقتصادي الحالي تراجع المشرع عن دوره التقليدي بحماية المؤجر وذلك من خلال التخلي عن حماية الأجير (المبحث الأول) وفي مقابل ذلك منح المؤسسة إمتيازات هامة على حساب الطرف الضعيف في العلاقة
( المبحث الثاني).
المبحث الأول: تقليص حماية الأجراء
تراجع الحماية جاء على مستوى التشريع (الفقرة الأولى) وعلى مستوى فقه القضاء (الفقرة الثانية).
الفقرة الأولى: تقليص الحماية التشريعية
لقد تراجع المشرع في درجة حماية الأجير وكان تراجعه بعد تنقيح 1994 و تنقيح جويلية 1996 على مستوى مجلة الشغل (1) إضافة إلى ذلك على بعض النصوص الخاصة (2)
على مستوى مجلة الشغل:
بعد أن كان المشرع التونسي يمنح القاضي حرية مطلقة في تقدير غرامات الطرد وترتب عن ذلك القضاء بغرامات مالية هامة لفائدة الأجير وهو ما شكل عبئا على كاهل المؤسسة مما جعله يسقف الغرامات (أ) كما أنه ربط الأجر بالإنتاجية (ب).
تسقيف الغرامات
إن تقدير غرامة الطرد التعسفي[59] كان متروكا للقاضي وخاضعا لاجتهاده المطلق بالتالي يخول له سلطة واسعة في تحديد غرامة الطرد التعسفي وذلك بناءا على العرف وعلى صنف الأجير وأقدميته وعلى ظروف الأمر الواقع.
لكن تدخل المشرع حين نقح مجلة الشغل ووضع طرق جديدة لتقدير التعويض عن الضرر الحاصل للأجير جراء طرده من العمل بصفة نهائية.
هذا التنقيح حصر دور القاضي[60] في القيام بعمليات حسابية لمعرفة مقدار الغرامة حسب وقائع كل قضية ونوع كل عقد شغل ومن شان هذا التقيد أن يقلص من الحماية القضائية التي طالما تمتع بها الأجير ومكنته من ضمان استقرار أطول في شغله خصوصا لغياب تعويض عيني[61] فكان فقه القضاء مستقرا على الحكم بغرامات مشطه لفائدة الأجراء[62] .
فكان المؤجر يتجنب الطرد خشية من تحمل هذا العبء الثقيل فالفارق بين مقدار الغرامات المحكوم بها سابقا كانت توفر حماية للإجراء خصوصا في المحاولة الصلحية حين كانت تفقدية الشغل ترتكز عند قيامها بالمحاولة الصلحية على شطط التعويضات لتحمل رب العمل على التراجع على قرار الطرد أو في الطور القضائي[63].
ربط الأجر بالإنتاجية:
وهو ما يمكن تعريفه انه من أشكال الأجور التي تتغير فيها الأجور تبعا لنتائج العمل الذي يقدمه شخص أو مجموعة أشخاص خلال وقت معين وطبق نموذج يستجيب للقواعد الخاصة المستوجبة[64].
نص الفصل 134-3 من م ش جديد على إمكانية تحديد جزء من الأجر على أساس الإنتاجية وهذا فيه تراجع عما كان عليه سابقا لما كان الأجر يرتبط بمقاييس عامة مثل الزمن والسن و الأقدمية والصنف المهني[65].
هذا التنقيح يقلص من حماية الأجير[66] خصوصا أن هذا الأخير لا يستطيع الإنتاج بدون خطا من جانبه كتقادم الآلات أو من الأساليب البالية والتقليدية لتسير المؤسسة فيعاقب بالتنقيص في أجره في حين أن الإنتاجية عملية مشتركة بين الأجير والمؤجر.
على مستوى النصوص الخاصة:
ويتجلى مظهر هذا التراجع على مستوى بعض النصوص الخاصة مثل قانون إعادة هيكلة المؤسسات(أ) وقانون الفضاءات الأنشطة الإقتصادية (ب).
قانون إعادة هيكلة المؤسسات
حاول برنامج الإصلاح الهيكلي لسنة 1986 الجمع بين معادلتين الأولى المحافظة على حقوق الأجير من جهة وذلك من خلال أن قرار هيكلية المؤسسة يتم تحت إشراف الدولة[67]
ومن جهة أخرى ضمان النجاعة الاقتصادية للمؤسسة لكنه فشل في هذا المسعى لان الموازنة بين المعادلتين لا يمكن أن يمر إلا بتقليص الحماية المفترضة للأجير خصوصا أن قرار إعادة الهيكلة الاجتماعية يؤثر بشكل سلبي على الإجراء وذلك انه يقدم الاعتبارات الاقتصادية على الاعتبارات الاجتماعية باعتبارها عبئا على المؤسسة فقد تلجا كل مؤسسة حسب مصالحها إلى الحد من المنافع المكتسبة للإجراء أو اعتماد العقود المحددة المدة وإعطاء المنح حسب الإنتاجية فبرنامج الإصلاح الهيكلي لسنة 1986 اقر ضرورة التقليص من تدخل الدولة ورفع يدها عنها مما يدفعها للتخلي والحد من اليد العاملة لديها.
وتتجلى تقليص حماية الأجير بإقرار قانون إعادة هيكلة المؤسسات العمومية أن ملف إعادة الهيكلة تعده المؤسسة المعنية بمساعدة وزارة الإشراف ثم تحيله على لجنة تطهير وإعادة هيكلية المنشات ذات المساهمات العمومية.
كل تلك المراحل تمر دون إحاطة الأجير بها رغم انه المعني ويتحمل النتائج فلا قانون فيفري 1989 ولا النصوص المتممة له تفرض شكلية إعلام أو حتى استشارة الهياكل التمثيلية داخل المؤسسة.
ومن مظاهر تقليص حماية الأجير ضمن قانون إعادة هيكلية المؤسسات عدم وجود نص قانوني يعاقب أصحاب المؤسسات عند الإخلال بالضمانات التي اقرها للأجير وان كانت نظرية ثم غياب تنظيم قانوني للمرحلة اللاحقة لعملية الهيكلة.
هذا السكوت التشريعي يمكن تفسيره على انه احترام لسلطة التسيير التي يتمتع بها المؤجر والتي تتسع أو تضيق حسب المعطيات الخاصة لكل مؤسسة بالتالي سيغلب مصلحة مؤسسة على حساب مصلحة الإجراء.
قانون فضاءات الأنشطة الاقتصادية[68]:
إن التوجهات العامة التي تقوم على تشجيع المبادرة وهو الخيار الليبرالي الذي دفع المشرع للارتكاز عليه في المناطق الاقتصادية الحرة حين أخذ بمبدأ الرضائية في العقود ومبدأ لا يمكن بأي حال أن يتماشى مع خصوصية عقد الشغل نظرا لعدم المساواة بين طرفيه وبذلك قلص المشرع من حماية الأجير باعتباره طرفا ضعيفا في العلاقة عندما اعتبر أن العقود تبرم بحرية التراضي.
وتتجلى مظاهر تقليص حماية الأجير ضمن أحكام الفصل 23 من قانون عدد 81 لسنة 1992 المؤرخ في 3 أوت 1992 والمتعلق بقانون المناطق الاقتصادية الحرة والذي يستشف منه بقرينة غير قابلة للدحض تفيد أن كل عقود العمل التي تبرم في تلك المناطق تعتبر عقود مبرمة لأجل معين وذلك بغض النظر عن مدتها، ومعنى ذلك أن المشرع يقرّ باستحالة اعتبار هذه العقود غير معينة الأجل حتى ولو وقع تجديدها عدة مرات وهو ما أقام قطيعة مع اتجاه المحاكم التونسية التي استقرت على توفير حماية قضائية للأجير استنادا لأحكام الفصل 17 من مجلة الشغل وذلك بتكيف تمادى الأجير على تقديم خدماته عند إنتهاء الأجل بدون معارضة المؤجر ينقلب العقد إلى عقد غير محدد المدة.
كما أن القانون المذكور أعلاه يفتقر إلى تدخل تشريعي لضبط كيفية إبرام هذه النوعية من العقود وبيان شروطها مما يمكن تفسيره أن المشرع أراد أن يمنح المؤسسة مرونة كبيرة تخدم مصلحتها حسب حاجتها تحدد مدة العقد مما يجعل العلاقة الشغلية خاضعة لقاعدة العرض والطلب.
إن تنظيم المشرع لهذه العقود وبهذه الطريقة داخل المناطق الاقتصادية الحرة قد قلص حماية الأجير وغلب مصلحة المؤسسة ويتأكد ذلك من خلال إقرار العمل بالعقود الفردية التي يضطر الأجير لقبولها خاصة في اختلال التوازن بين العرض والطلب على مستوى سوق الشغل.
فضلا على أن الفصل 23 من القانون المذكور يقصي الأجير من النظام الجماعي للعلاقات الشغلية مثل حق التفاوض الجماعي وإبرام الاتفاقيات المشتركة وحق الإضراب وإشكال التمثيل النقابي وبذلك من شانه تقليص كبير من حماية الأجير.
لكن مهما كانت سلبيات الفصل 23 فان خطورة السكوت التشريعي كانت اكبر على وضعية الأجير فقانون المناطق الاقتصادية سكت عن أمكانية تطبيق مجلة الشغل على العلاقات الشغلية داخل المناطق الاقتصادية الحرة، هذا القانون يطرح العديد من الإشكاليات التي تتطلب بالضرورة تدخل تشريعي لوضع حد لعديد من التساؤلات فهل العلاقة الشغلية تبقى خاضعة لمبدأ سلطان الإرادة؟ أم يعتبر الأجير التونسي داخل تلك المناطق باعتبارها أجنبية اقتصاديا وقمركيا وماليا – مهاجرا وبالتالي لا تنطبق عليه مجلة الشغل التونسية؟
من ذلك الفصل 23 متى يمكن اعتباره إنهاءه تعسفيا ؟وأي قانون ينطبق علي هذه العلاقة ؟اهو قانون الإرادة؟ وأي نص ينطبق مجلة الشغل باعتبارها القانون العام ؟ أم قانون 1992[69] باعتباره نصا خاصا ؟ وهل سوف يتم تقديم النص الخاص على العام بما فيه تقليص من حماية للأجير؟
الفقرة الثانية : تقليص الحماية القضائية:
ترتب عن غياب أي قاعدة ضمن أحكام مجلة الشغل تتعلق بإثبات[70] انتهاء العلاقة الشغلية إثارة العديد من الصعوبات التطبيقية بإعتبار أنه في مرحلة أولى كان الاتجاه بتحميل عبء إثبات الإنهاء التعسفي محمولا على القائم به عملا بأحكام القاعدة القائلة إثبات التزام على القائم به الفصل 420 من م ا ع .
غير أن هذا الموقف أثار العديد من الصعوبات في إثبات دعوى الطرد خصوصا أن الأجير مطالب بإثبات أمر سلبي من الصعب عليه إثباته لذا دأب فقه القضاء الشغلي على تفسير النص المدني لمصلحة العامل وذلك بتحميل المؤجر عبء إثبات الطرد قولا في أن الأصل استمرار العلاقة الشغلية باعتبارها عقدا مستمرا فان الأصل بقاء ما كان على ما كان وعلى من ادعى تغيره الإثبات عملا بأحكام الفصل 562 م ا ع [71].
إلا أنه في الوقت الحالي أصبح هناك تحول واضح في موقف فقه القضاء في مسالة عبء الإثبات خصوصا بعد ما أضيف بمقتضى تنقيح 1994 حين وضع حدا للاتجاه السابق فأصبح الأجير يعامل مع المؤجر على قدم المساواة أمام القضاء فكل طرف يحاول أثبات ما يدعيه وان يبدو هذا الموقف اسلم من ما سبقه باعتباره يتماشى مع الأحكام العامة التي تبقى قابلة للتطبيق في النزاعات الشغلية طالما لا يوجد نص مخالف[72].
لكن باعتبار أن الأجير المبادر عادة بإثارة الدعوى فهو ملزم بإثبات واقعة الطرد أو عدم اقترافه لأي عمل يمكن اعتباره من قبيل الخطأ الفادح أو عدم جدية الأسباب الاقتصادية أو الفنية المحتج بها.
مثل هذا الإثبات يصعب على الأجير القيام به لتعلقه بأمر سلبي من جهة والمؤجر لا يطالب بإثبات عدم تعسفية الطرد.وسب ذلك إن تنقيح 1994 لم يتضمن أحكاما تراعي خصوصية الواقع الشغلي لذا فالقاضي حين يطبق القواعد العامة الواردة في مجلة الإلتزامات والعقود يقلص من الحماية القانونية للأجير خصوصا أن وحدة قواعد الإثبات بين قانون الشغل والقانون المدني من المؤكد أنها تضر بالأجير باعتباره طرفا ضعيفا
إن تمشي المشرع في تفعيل دور قاضي الشغل عند البت في النزاعات الشغلية مرده تراجع النزعة الحمائية للأجير وإقراره توازنات بين طرفي عقد الشغل وذلك تحت إطار المحافظة على العدالة الإجتماعية وحماية مصلحة المؤسسة[73] ككل بإعتبارها مصدر رزق حين أقر مبدأ التوازن بين جميع الأطراف الإجتماعية من مؤجرين وأجراء والقضاء على فكرة إعتبار الأجير كطرف ضعيف يجب حمايته [74].
المبحث الثاني: منح امتيازات للمؤسسة
من أهما مظاهر تراجع الصبغة الحماية هو تمكين المؤجر من صلاحيات واسعة وخطيرة (الفقرة الأولى) ومنح المؤسسة إمتيازات عديدة حين ضغط على تكلفتها (الفقرة الثانية)
الفقرة الأولى: منح سلطات للمؤجر
بغية كسب رهان المنافسة خصوصا بعد الانخراط بالمنظمة العالمية للتجارة وإمضاء اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأروبي منح المشرع المؤسسة أي المؤجر مرونة كبيرة وواسعة (1) قد تؤهله لمنافسة مكانة المؤسسات الأجنبية خصوصا بعد تكريس تدعيم سياسة تراجع الحواجز الجمركية إلا أن هذا الاهتمام بالمؤجر باعتباره محرك أساسي للحياة الاقتصادية جاءت هذه السلطات واسعة وذات طابع خطير على مصلحة الأجير(2).
سلطات واسعة:
منح المشرع المؤجر[75] سلطات واسعة لحماية المؤسسة التي تمر بصعوبات اقتصادية سواء في صورة الفصل 21 م ش قديم أو في بعض النصوص الخاصة فأجاز القانون في صورة مرور المؤسسة بصعوبات اقتصادية أن تلجا إلى طرد الأجراء وذلك من غير أن يكون للقاضي الصلحي ولا حتى تفقدية الشغل ولا لجنة مراقبة الطرد من إجبار المؤجر على إرجاع الأجير لسابق عمله وأكثر من ذلك فأصبح دور القاضي في حالة الصعوبات[76]
فقط المصادقة على إنهاء عقد الشغل بعد أن كان دوره مراقبة أسباب الطرد وتجنبه خصوصا أن القاضي الشغلي لا يخول له القانون إعادة النظر في تقييم الأسباب الإقتصادية أو الفنية التي إعتمدتها اللجنة بإعتبار إنهاء عقد الشغل مبررا، ضرورة أن الفصل 21 -11 مكن القاضي في النظر في صورة إذا لم يقع الإتفاق بين الطرفين على مبلغ مكافئة نهاية الخدمة دون مناقشة رأي اللجنة في إقتراحها الطرد من عدمه[77].
وتبرز سلطات المؤجر أكثر بالرجوع إلى النصوص الخاصة سواء ما تم بيانه سابقا في صورة مرور إعادة هيكلة المؤسسات التي تمر بصعوبات اقتصادية خصوصا في غياب نص خاص ينظم الطرد في هذه الحالة.
أما الوهم الكبير وهو الفصل 15[78] من م ش حين اعتبر العديد من الشرّاح بأنه يحافظ على استقرار الأجير بعمله إذ لا يمكن أن يكون الفصل المذكور حاجزا لمنع الطرد سواء السابق لإعادة هيكلة المؤسسات واللاحق بعد هيكلتها وهو ما يحدث عادة فيقع التقليص من عدد الأجراء بقصد التشجيع على شرائها من الغير وبعد شرائها من الغير يقع التنقيص من عدد العمال الفائض وذلك بقصد التقليل من التكلفة .
بغية إنقاذ المؤسسة التي تمر بصعوبات اقتصادية[79] فلا يترد أبدا المؤجر من طرد العملة فهذه الهيكلة تمكنه من الاستغناء عن الأجراء خصوصا في ظل غياب أي نص قانوني يعاقب على ذلك فقانون عدد 34 لسنة 1995 متساهل مع المؤسسة إذا لجأت للطرد فتتبين إرادة المشرع الواضحة في ترجيح كفة المؤسسة على كفة الأجير باعتبار أن الضرر يتحمله الأجير وحده لما يحرم من مواصلة عمله[80] .
والحال ونظرا لتجديد الآليات الاقتصادية والمفاجئات التي تحيط بالسوق تجعل المؤسسة لا تلجا للطرد في صورة الصعوبات الاقتصادية فقط بل قصد تطوير عملها باستبدال الإجراء بالآلات الحديثة.
ولكل ما سبق لم يعد قانون الشغل يحمي الأجير بل دعم صلاحيات المؤجر حتى إن القاضي الشغلي اعتبر أن تغليب حماية المؤسسة لما فيه مصلحة عامة لذلك ابرز دور المؤسسة – المؤجر – على مصلحة الأجير وعلى بقاءه في العمل وقد يكون ذلك باعتبار أن المؤسسة تلعب دورا اقتصاديا هاما وشعورا من المشرع في النهوض بالإقتصاد الوطني بإعتباره سندا له محاولا إيجار السبل الكفيلة لمساعدة المؤسسة والإستبقاء على كيانها كوحدة إنتاج ومورد رزق[81].
منح المؤجر هذه الصلاحيات تبلور بشكل جلى بعد التنقيحات المتتالية لمجلة الشغل واختلاف نظرة المشرع لما كانت عليه وتراجعه عن حماية الأجير وتأكد ذلك بتنقيح 1994 “وتبريره انه استجابة إلى مقتضيات المرحلة التي تمر بها اقتصاد البلاد الذي أولى المؤسسة الاقتصادية العناية التي تستحق باعتبارها حجر الزاوية في إنجاح الخيار الاقتصادي التحرري” وتواصل بتنقيح 1996 فالمؤجر يلجا للطرد لتجنب كل ما قد يلحق ضررا بالمؤسسة ويستشكل خطرا على مصالحها ومنها قدرة التأقلم مع الأوضاع الاقتصادية الجديدة.
ويتجلى دعم مصلحة المؤسسة حين سكت المشرع وهو إقرار ضمني بأنّ الالتجاء إلى الطرد ممكن في حالة إعادة المؤسسة وهو ما أعطى المؤسسة مرونة تمكنها من مجاراة المحيط الاقتصادي العالمي.
سلطات خطيرة:
احدث تنقيح 15 جويلية 1996 تعديلا خطيرا وواسعا فيما يتعلق بطبيعة العلاقة الشغلية التي تربط بين الأجير والمؤجر حين ساوى ضمن أحكام الفصل 6-2 من م ش على مبدأ أن عقد الشغل يبرم لمدة غير معينة أو لمدة معينة، هذا المبدأ ساوى بين العمل القار والعمل الغير قار هذا التنقيح فتح بابا واسعا أمام المؤجر بالسماح له بالاستعمال المفرط للعقد المحدد المدة وجعله الشكل المبدئي للانتداب، حين مكن المؤجر من حرية إختيار الشكل الزمني للعقد وهو إقصاء العقد غير المحدد المدة بإعتباره العقد النموذجي وذلك على عكس التشريع الفرنسي.
التنقيح المذكور أعلاه اوجد نوعين أساسين من عقود الشغل المحدد المدة .أولهما عقد الشغل المحدد المدة[82]
موضوعا وهي التي وردت ضمن أحكام الفقرة 2 من الفصل السادس الذي نص على انه”يمكن أن يتضمن عقد الشغل لمدة معينة تحديدا لفترة زمنية لتنفيذه أو تقيدا للعمل الذي ينتهي العقد بانجازه “من خلال هذا النص نجد أن عقد الشغل المحدد المدة قد يكون لأجل ثابت تحدده إرادة المؤجر والأجير كما يمكن أن يكون لأجل غير ثابت يمتد في الزمن إلى حين انتهاء تنفيذ عمل معين متفق عليه، والصورة الأخيرة هي صورة عقد الشغل المحدد المدة موضوعا ذلك أن موضوعه هو تنفيذ عمل مؤقت استدعته وضعية معينة غير داخلة في النشاط العادي للمؤسسة ولا مستمرة في الزمن. ويكونه العامل وفق هذه النوعية من العقود عاملا وقتيا ولا يمكنه المطالبة بوضعية العامل القار مهما امتد زمن تنفيذ العقد بالرغم من عدد المرات التي قد يتجدد فيها العقد .
والنوع الثاني لعقد الشغل المحدد المدة إراديا بمعنى له أجل ثابت[83] متفق عليه بين المؤجر والأجير بغض النظر عن طبيعة العمل موضوع العقد.
وهذه النوعية من العقود لا يمكن أن تتجاوز أربع سنوات بما في ذلك تجديداته باعتبار أن كل انتداب للعامل بعد هذه المدة يكون على أساس الاستخدام القار وبإمكان المؤجر الاستغناء عن الأجير بعد الأربع سنوات وانتداب عامل آخر لانجاز نفس العمل لمدة أربع سنوات جديدة وبذلك يمكن شغل مواطن عمل قار بعمال وقتيين بصورة دائمة.
حاول المشرع المساواة بين العامل القار[84] والعامل المؤقت[85] وذلك بموجب الاتفاقية الإطارية المشتركة ثم بعد ذلك بتنقيح جويلية 1996 من حيث الأجر والمنح والعطل إلا أن هناك فوارق خطيرة ومهمة بينهما فوضعية العامل غير القار الغير مستقرة تجعله قلقا على مستقبله المهني فإنهاء عقد عمله أو استمراره يتوقف على إرادة صاحب المؤسسة دون ادني شك فهذه الوضعية الهشة تجعل الأجير في حالة ضعف إزاء مؤجره بحيث يكون أكثر استعدادا للخضوع لقرارات والسكوت عن تجاوزت محتملة كالتنقيص من حقوقه المادية.
هذه النوعية من العقود تهمش وضعية الأجراء خصوصا أن ميدان هذه العقود يزداد على حساب عقود العمل غير محدد المدة فبعد أن كان الشكل المبدئي للعقود هو العقد الغير محدد المدة، والمؤجر حين يروم طرد الأجير لا بد عليه أن يتبع سلسلة من الإجراءات غير أنه وبالتفرقة الحالية فإن العقود المحددة المدة تنتهي بإنتهاء أجلها دون أن يتمكن الأجير من الحصول على أي تعويض أو على أي منحة ودون مطالبة المؤجر بتقديم أي تبرير لعدم مواصلة تشغيله.
الفقرة الثانية: الضغط على التكلفة الاجتماعية
إرتفاع التكلفة كان نتيجة حتمية لحماية الأجير، غير أنه بتراجع قانون الشغل عن دوره التقليدي سعى إلى الحط من التكلفة أثناء بداية العلاقة (1) وصولا إلى الحط منها عند نهايتها (2).
الضغط عند بداية العلاقة
من مظاهر الحط من التكلفة عند بداية العلاقة إعفاء المشرع المؤسسة التي تندب الأجير المعوق من دفع التكلفة الاجتماعية (مساهمات الأعراف في النظام القانوني للضمان الاجتماعي الأداء على التكوين المهني).
واقر قاعدة تدرّج الإعفاءات بحيث يعفي المؤجر من جميع التكاليف إذا كان الأجير من ذوي الإعاقات الحادة وتمتع بالتخفيض لما منحه القانون تشجيعات جبائية فمنح خصما جبائيا على المنتج المصنوع من لدن المعاق لينتشر رواجه وهو ما سيتم التعرض عليه من خلال الضغط المباشر (أ) والضغط الغير مباشر (ب).
الضغط المباشر
يتجلى الضغط على التكلفة من خلال ما تم ذكره سابقا حين تم ربط الأجر بالإنتاجية وذلك منذ تنقيح جويلية 1996 هو شكل من أشكال الضغط على التكلفة لان مصلحة المؤسسة لا يمكن أن تتحقق في دفع أجور باهظة فبقدر الإنتاج يكون الأجر.
كما يمكن التعرض في هذا الإطار إلى تقنية التفاوض وذلك وصولا للتخفيف من الأعباء الإجتماعية.
فأصحبت التكلفة ونسبتها تختلف حسب وضعية كل قطاع مهني وحسب الحالة العامة لكل مؤسسة فأصبحت للتكلفة طابع مرن يأخذ بعين الإعتبار قدرة المؤسسة على تحمل أعباء جديدة ومثال ذلك تعليق الزيادة في الأجور خصوصا في المؤسسات التي تعاني من صعوبات إقتصادية[86].
ومن مظاهر الضغط على التكلفة التقليص من حظوظ إنشاء مصلحة خاصة لطب الشغل وذلك يتأكد من خلال الترفيع في عدد العمال المفروض قانونا لإنشاء مثل هذا الهيكل داخل المؤسسة.
كما شمل الضغط على التكلفة الحط من صلاحيات بعض الهياكل فمثلا اللجنة الاستشارية للمؤسسة لا تتمتع بالاستقلالية المالية وذلك حتى لا تصبح عبئا ماليا على المؤجر باعتبار ما يتطلبه ذلك من تكلفة فأقر تنقيح 21 فيفري 1994 انه على اللجنة الاستشارية للمؤسسة أن تأخذ بعين الاعتبار عند القيام بمهامها المصالح الاقتصادية للمؤسسة كما أن المشرع فضل النظام التمثيلي الأقل تكلفة وذلك باشتراطه 40 عاملا قارا لتكوين اللجنة.
وقد اقر المشرع تشريك الدولة بالتخفيف عن كاهل المؤجر ماليا وذلك من خلال مشاركتها في مصاريف التكوين من جهة ومشاركة الأجير بتحمل المصاريف من جهة ثانية[87] والهدف من ذلك طبعا الضغط على تكلفة الإنتاج.
كما منح التنقيح الجديد مرونة أكثر بغية الضغط على المصاريف والتقليل منها وبذلك يكون قلص من دوره الحمائي فتنقيح جويلية 1996 وتحديدا ضمن أحكام الفصل 79 جديد اقر إمكانية التخفيض في مدة العمل في الأسبوع إلى حدود 40 ساعة ومن شان ذلك هذا التخفيف ان ينجر عنه تقليل في الأجر باعتبار انه أصبح مرتبطا بالإنتاجية.
وبهذا يكون المشرع كرّس الضغط على التكلفة وغلب المصالح الاقتصادية للمؤسسة كاعتماده وقت العمل حسب قانون العرض والطلب وهو ما يترتب عنه تخفيض على مستوى الأجور والاشتراكات في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي.والحط من تكلفة العطل الخالصة باعتبار ان هذه الأخيرة يقع احتسابها على أساس مدة العمل الفعلي.
وفي هذا الإطار لا بد من ذكر قانون عدد 76 لسنة 2001 مؤرخ في 17 جويلية 2001 وتحديدا ما أضيف في الفقرة الرابعة من الفصل 8 الذي نص على أنه يقع طرح الأرباح أو المداخيل كليا من أساس الضريبة خلال الشعر سنوات الأولى علاوة على ما أضيف إلى الباب الثالث من نفس القانون حين نص على توقيف العمل بالأداء على القيمة المضافة بالنسبة للتجهيزات المصنوعة محليا[88].
الضغط غير المباشر
ويمكن وصف هذه الأساليب بغير المباشرة لأنها وردت في نطاق قوانين وأوامر أعفى المشرع المؤسسة التي تندب الأجير المعوق من دفع التكلفة الاجتماعية (مساهمات الأعراف النظام القانوني للضمان الاجتماعي الأداء على التكوين المهني) وأقرّ قاعدة تدرج الإعفاءات بحيث يعفي المؤجر من جميع التكاليف إذا كان الأجير من ذوي الإعاقات الحادة ويتمتع بالتخفيض لما منحه القانون تشجيعات جبائية فمنح خصما جبائيا على المنتوج المصنوع من لدن المعاق لينتشر رواجه.
كما ضغط التوجه الجديد على التكلفة للمؤسسة حين مكن المؤسسات التي تمنح الشبان من قضاء تربصات إدماج مهني من إعفاء دفع منحة التربص.
يتبن مما سبق عرضه من الضغط على تكلفة الإنتاج عند بداية تكوين العلاقة حين انتداب الأجراء الشبان[89] أن المشرع متع المؤسسة بجملة من الإعفاءات المختلفة حسب صنف التربص الذي يقع إعتماده وندوم هذه الإعفاءات مدة سنتين بعد قضاء التربص في نطاق عقد التشغيل والتكوين وسنة بعد قضاء تربص الإعداد للحياة المهنية كما تتمتع المؤسسة بمنحة تشغيل ب 20 دينار عن كل تربص ففي مثل هذه الصور تستفيد المؤسسة من وجود يد عاملة مختصة من غير أن تتحمل أي تكلفة وحتى إن تحملت فهي تكلفة بسيطة.
وفي مثل هذا المجال لا بد من ذكر قانون 03 فيفري 1993[90] الذي بدوره خفف من الاشتراكات المحمولة على المؤسسة في إطار تشجيع الاستثمار حين خفض من مقدار معلوم الاشتراك المحمول على كاهل المؤسسة لتسديد نفقات الضمان الاجتماعي بمنحه المؤسسة من تخفيض بنسبة 50 بالمائة.
وربط الأجر بالإنتاجية ما هو إلا مظهر أكيد لتراجع المشرع لحمايته للأجير خصوصا أن هذا الأخير لا يستطيع الإنتاج بدون خطا من جانبه كتقادم الآلات أو من الأساليب البالية والتقليدية لتسير المؤسسة فيعاقب بالتنقيص في أجره في حين أن الإنتاجية عملية مشتركة بين الأجير والمؤجر.
فتنقيح جويلية 1996 هو شكل من أشكال الضغط على التكلفة لان مصلحة المؤسسة لا يمكن أن تتحقق بدفع أجور باهظة فبقدر الإنتاج يكون الأجر.
من مظاهر الضغط على التكلفة التقليص من حظوظ إنشاء مصلحة خاصة لطب الشغل وذلك يتأكد من خلال الترفيع في عدد العمال المفروض قانونا لإنشاء مثل هذا الهيكل داخل المؤسسة.
الضغط عند نهاية العلاقة
من أشكال الحط من العبء المادي عند انتهاء العلاقة اشترطت أحكام الفصل 22 من م ش أن يكون الأجير مرتبطا بعقد غير محدد المدة للحصول على منحة مكافأة نهاية الخدمة[91]، هذا الفصل بقراءته بطريقة معاكسة يتبين انه يقصي بصفة صريحة الأجير المرتبط بعقد محدد المدة من هذه المكفاءة، كما أن التخفيف يتجلى عندما تم إقصاء العامل الذي ارتكب خطا فادح في حين أن النص القديم للفصل 22 لم يكن يشترط انعدام الخطأ الفادح للتمتع بمنحة الطرد ومن الأكيد أن تضيق التمتع بمنحة نهاية الخدمة هو تخفيف من الأعباء المالية المحمولة على كاهل المؤسسة.
علاوة على أن الفصل 14 مكرر في نفس الإطار مجال المطالبة بمنحة مراعاة اجل الإعلام بانتهاء العمل في عقود الشغل المبرمة لمدة غير محددة كما أن غرامة الطرد التعسفي قد تم التضييق منها عندما اشترط انقضاء فترة التجربة للحصول على هذه الغرامة.ومن جهة أخرى رفع في فترة التجربة[92].
وفي نفس الموضوع تضمن الفصل 21-9 أن اللجنة الجهوية أو اللجنة المركزية لغرامة الطرد جملة من الحلول التي تساعد المؤسسة على الخروج من أزمتها المالية ويكون ذلك اخف الضررين فعوض عن الطرد وتحميل المؤسسة من عبء مالي تقترح اللجنة المالية التقاعد المبكر لأسباب اقتصادية أو فنية وذلك بغية تمكين المؤسسة من الصمود أمام الصعوبات بتجنبها دفع جملة من المبالغ المالية.
ومن أهم مظاهر التخفيف من الأعباء المالية[93] هو ضبط سقف لغرامة الطرد فضبط المشرع حد أدنى وحد أقصى وفي هذه الصورة جنب المؤجر دفع مبالغ مالية مشطّة كان القاضي الشغلى يحكم بها، كما اقر تفرقة بين مقادير الغرامات بتميزه بين تعويض الطرد الواقع لعدم وجود سبب حقيقي وجدي يبرره وبين الطرد الواقع لعدم احترام الإجراءات[94].
الخـــاتــمة
عرفت حماية الأجير تراجعا هاما من بداية السبعينيات ضرورة أن ذلك يعود للتحولات الإقتصادية الهامة التي مر بها المجتمع، فأصبحت الحماية تشمل كل من الأجير والمؤسسة
– المؤجر-
غير أن هذا التراجع جاء محكوما بمبدأي سلطان الإرادة والحرية التعاقدية نظرا لتعلق هذين المفهومين بالنظام العام، فهذا الأخير له دور مانع يمثل حدا للحرية التعاقدية وذلك فيه ضمانة لحرية الأجير كلما كان هناك خطرا يهدده ويتجلى ذلك بتكريس الحق النقابي فلا يمكن للأجير أن يتنازل عن هذا الحق ويسري هذا الحق بإعتباره مضمونا دستوريا.
علاوة على النظام العام الإجتماعي بإعتباره يحمي الأجراء بصفتهم الطرف الأضعف في العلاقة الشغلية ضرورة أنه يسير دائما بإتجاه حماية الأجير فمثلا فالأطراف لها حرية التفاوض حول ضبط البنود المتعلقة بالأجر بشرط إحترام الأجر الأدنى المضمون وكرس هذه الحماية بردع المخالف بعقوبات مالية وذلك ما نص عليه الفصل 234 من مجلة الشغل بالإضافة إلى وضع الحد الأدنى للصحة والسلامة المهنية فإشترط حماية الأجراء من مخاطر الآلات والمعدات المستعملة وذلك بتوفير وسائل الوقاية الجماعية، فمن غير الممكن للأطراف أن تتنازل عن الحد الأدنى من هذه الحماية.
إن عقد الشغل كغيره من العقود لا بد أن يخضع للمقتضيات العامة لمجلة الإلتزامات والعقود ومن هذا المنطلق فقد وجد قانون الشغل مخرجا له حتى يتراجع عن حماية للأجير، بتبني النظرية التعاقدية للعلاقات الشغلية خصوصا وأنها المجلة الأولى التي نظمت علاقة الأجير بالمؤجر وأبقت على مفاهيم وتقنيات القانون المدنية في التعسف مثل إستعمال الحق والمسؤولية بنوعيها والفسخ والخطأ ومثال ذلك حق الإرجاع إلى العمل فإن مصلحة العامل تكمن في مبدأ عام للإرجاع وذلك حماية للحريات والحقوق التي تم طرد بسبب ممارستها وهو ما يستوجب إبطال نظرية التعسف في إستعمال الحق لأنها نظرية مدنية تخول التعويض المادي فقط بدلا من التعويض العيني وذلك لا يستجيب لخصوصيات المحيط الشغلي بإعتبار أن الإرجاع لا يستقيم إلا بتبني بطلان الطرد[95]
بإعتبار أن الإرجاع هو حق يهدف إلى إصلاح طرد باطل[96] وبذلك يحافظ قانون الشغل على دوره التقليدي الحمائي للأجراء ضرورة أن إخضاع الأجير لمجلة الإلتزامات والعقود فيه تراجع لحماية الأجير لإختلاف توجه القانون المدني وقانون الشغل فالأول يقوم على المساواة وضمان حرية المتعاقدين والثاني يتميز بنظرة حمائية إزاء الأجير.
فأخذ يتخلى شيئا فشيئا عن دوره التقليدي في تنظيم العلاقة الشغلية ففي العودة إلى المبادئ العامة إلى مجلة الإلتزامات والعقود إمعانا في التراجع عن حماية الأجير وتكرس ذلك خلال لقاء دولي في مدينة “ليل” الفرنسية بداية أفريل سنة 1996 [97] طالبت فيه العديد من الدول بإلغاء الحد الأدنى للأجر المضمون وإلغاء القيود الواردة على تسريح العمال وهو ما قد يعني إلغاء قانون الشغل في المستقبل فهل من الممكن ومن أجل حماية المؤسسة أن يتم ذلك؟