دراسات قانونية

الفصل التعسفي وأحكامه في القانون الفلسطيني

تعريف الفصل التعسفي
اتبع الفقه والقضاء الفرنسيين، حتى سنة 1928، قاعدة قديمة يكون لرب العمل بمقتضاها، في العقد غير محدد المدة، مطلق الحرية في فصل العامل الذي يعمل لديه، ولكن وبعد أن تبين للمشرع الظلم الذي يصيب العامل في هذا الصدد تدخل لحمايته، إذ منع رب العمل من إنهاء عقد العمل إنهاء تعسفيا.

إلا أن فكرة عدم التعسف لم تكن كافية لتوفير حماية فعالة للعامل المفصول، مما دفع المشرع الفرنسي إلى تقديم بعض الأفكار التي توفر ضمانة أكبر لهؤلاء العمال، إذ أخضع فصل العامل لأسباب اقتصادية إلى ضوابط موضوعية وضوابط شكلية.

· الضوابط الموضوعية يقصد بها السبب الاقتصادي الذي يبرر الفصل، وهذا السبب لا يتعلق بشخص العامل، إنما يكون ناشئا عن إلغاء العمل أو تغييره أو تعديل جوهري في عقد العمل، وأن يكون هذا التغيير أو التعديل ناتجا على وجه الخصوص من صعوبات اقتصادية أو تغيير تقني.

· الضوابط الشكلية، وهي ضوابط تقيد حرية رب العمل في فصل العامل لأسباب اقتصادية، وهذه القيود تهدف إلى توفير حماية العمال من التهديد بالفصل، فوجود سبب اقتصادي في حد ذاته لا يجعل الفصل مشروعا وإنما ينبغي على رب العمل أن يتقيد بالضوابط الشكلية المنصوص عليها في قانون العمل، وإلا قامت مسؤوليته المدنية تجاه العامل.[1]

أما في فلسطين، فقد اتجه المشرع مع الاتجاه الحديث في تقييد حرية رب العمل في فصل العامل وعدم الإبقاء على حرية رب العمل مطلقة في فصل العامل متى يشاء، لأي سبب كان، حماية لحقوق العامل وليتفق مع مبدأ حق الأفراد في العمل وذلك بتنظيم علاقات العمل بما يكفل العدالة للفرقاء ويوفر الرعاية والأمن للعمال المنصوص عليه في المادة (25) من القانون الأساسي المعدل لعام 2003[2].
إلا أن قانون العمل الفلسطيني لم يعرف الفصل التعسفي، لذلك فإن تعريف الفصل التعسفي يمكن من خلال البحث في الفقه والقضاء ويكون لقاضي الموضوع الاستدلال على وقوع الفصل التعسفي من خلال بعض المعايير منها حالة كون الفصل مفاجئا ومباشرا دون إشعار أو بدون سبب يبرره.[3]

أما محكمة النقض الفلسطينية فقد اهتدت في قرار غريب لها، ونظرا لعدم وجود تعريف في قانون العمل لماهية الفصل التعسفي، إلى تعريف له[4] من تطبيق المادة (66/2) من القانون المدني الأردني التي بينت أن حالات استعمال الحق بطريقة غير مشروعة هي:

‌أ. إذا توفر قصد التعدي: ذلك بأن تتجه نية الشخص من استعمال حقه إلى الإضرار بالغير، أي أن يقصد الإضرار بالغير من جراء استعمال حقه.
‌ب. إذا كانت المصلحة المرجوة من الفعل غير مشروعة: فإذا كانت الغاية من استعمال الحق هي تحقيق مصلحة غير مشروعة مخالفة للنظام العام والآداب، فإن هذا الاستعمال يكون تعسفيا.
‌ج. إذا كانت المنفعة لا تتناسب مع ما يصيب الغير من ضرر: أي عندما تكون المصلحة المحققة أقل بكثير من المصلحة الفائتة للغير.

‌د. إذا تجاوز ما جرى عليه العرف والعادة.
كما قد اهتدت المحكمة في ذات القرار إلى نص المادة (91) من مجلة الأحكام العدلية التي نصت على أن “الجواز الشرعي ينافي الضمان” أي أن استعمال الحق المشروع لا يرتب ضمانا.

وبالتالي فإن محكمة النقض الفلسطينية في قرارها المذكور قد نفت وجود ما يمكن اعتباره فصلا تعسفيا، نظرا لأنها اعتبرت أن إنهاء عقد العمل يكون باستعمال الحق المنصوص عليه في المادة (46) من قانون العمل والتي سمحت لأي من فريقي عقد العمل غير محدد المدة إنهاءه بعد إرسال إشعار بذلك. وبالتالي _وفق رأي المحكمة الكريمة_ فإن أي إنهاء لعقد العمل غير محدد المدة بعد إشعار هو استعمال الحق المشروع، ولغايات اعتبار وجود فصل تعسفي، يجب أن تتوافر إساءة استعمال الحق (والتي لا تتوفر وفق رأي المحكمة الكريمة إذا كان رب العمل قد أرسل إشعارا للعامل بإنهاء خدماته). ثم ذهبت المحكمة في بيان أن المادة (66/2) من القانون المدني والمادة (5) من القانون المدني المصري[5] اللتين تم تفسير الفصل التعسفي بموجبهما، تتناول المسؤولية التقصيرية التي لا يتم التعويض عنها إلا في حال حدوث ضرر فعلي عن إساءة استعمال الحق.

وفي رأينا، أخطأت محكمة النقض في هذا القرار في معالجتها لنقطتين هما:

الأولى، ضرورة الرجوع في تفسير الفصل التعسفي إلى القواعد العامة لإساءة استعمال الحق بالرجوع إلى القواعد الموجودة في القانون المدني الأردني والقانون المدني المصري غير الساريين في فلسطين، رغم وجود ما يفصل تلك القواعد في مجلة الأحكام العدلية.

والثانية، عدم استحقاق العامل المفصول فصلا تعسفيا _في حال حدوثه_ أي تعويض أو بدل فصل تعسفي، إلا إذا ألحق هذا الفصل بالعامل ضررا.

لكن المادة (46/3) من قانون العمل الفلسطيني، بينت أن الفصل الذي يكون دون وجود سبب موجب لذلك يعتبر فصلا تعسفيا؛ أي أن الفصل يعتبر تعسفيا بمجرد وقوعه دون أي سبب مبرر لإنهاء العقد، من الأسباب التي نص عليها قانون العمل،[6] أي أنه ليس بالضرورة الرجوع إلى القواعد العامة في إساءة استعمال الحق لتعريف وبيان ماهية الفصل التعسفي. وهذا ما أكدته محكمة التمييز الأردنية[7] في قرارها قائلة بأنه: “يستفاد من نص المادة 20/ج من قانون العمل رقم 2 لسنة 1965 أن الفصل التعسفي هو الذي يصدر عن صاحب العمل بلا مبرر ومخالفا لنص المادتين (16) و(17) من هذا القانون اللتين حددتا الحالات التي يجوز معها لصاحب العمل إنهاء خدمة العامل فإذا لم تتوفر إحدى هذه الحالات وقام صاحب العمل رغم ذلك بفصل العامل بلا مبرر فان الفصل يكون عندئذ تعسفيا”. وهذا الاتجاه الصحيح لتعريف الفصل التعسفي، وفق معطيات قانون العمل الفلسطيني.

أما بخصوص التعويض عن الفصل التعسفي، وفي بيان محكمة النقض في القرار المذكور رقم 182/2004، بأن العامل لا يستحقه إلا إذا نتج عن الفصل ضرر للعامل، إذ استندت محكمة النقض إلى قرار محكمة النقض المصرية، التي استندت في قرارها ذاك إلى القانون المدني المصري الذي اشترط في التعويض عن الفصل التعسفي، وقوع الضرر، وبالتالي فأن قرار محكمة النقض المصرية كان تطبيقا للقانون المصري الساري. أما محكمة النقض الفلسطينية، فلم يكن لديها نص قانوني مماثل، إذ أن قانون العمل الفلسطيني يفرض على رب العمل تعويض العامل المفصول فصلا تعسفيا بمجرد ثبوت وقوع الفصل التعسفي دون النظر لوقوع الضرر أو عدمه، والتعويض في قانون العمل الفلسطيني هو تعويض قانوني، إذ يتمتع العامل نتيجة لذلك بقرينة قانونية غير قابلة لإثبات العكس بأنه لحقه ضرر واجب التعويض.[8]

وتجدر الإشارة إلى أن المادة (46) من قانون العمل الفلسطيني، بينت أن الحق بإنهاء العقد بموجب إشعار يكون في العقود غير محددة المدة،وبالتالي فإن الفصل التعسفي لا يمكن أن يحدث إلا في العقود غير محددة المدة، نظرا لعدم وجود فترة ينتهي فيها العقد. أما في العقود محددة المدة فلا يتصور وقوع الفصل التعسفي، نظرا لأن تلك العقود تنتهي بانتهاء المدة أو بالقيام بالعمل المحدد. وفي حالة إنهاء أحد الفريقين للعقد محدد المدة قبل انتهاء المدة المحددة، فالتعويض يكون على أساس الإخلال بشروط العقد على أساس المسؤولية العقدية وفق القواعد العامة للعقود، وليس على أساس الفصل التعسفي.

إثبات وقوع الفصل التعسفي

من قواعد الإثبات العامة أن “من يدعي الشيء، يقع عليه عبء إثباته”، ولكن على من يقع عبء إثبات وقوع الفصل التعسفي؟ هل يتبع في ذلك القواعد العامة في الإثبات، أي أن عبء الإثبات يقع على العامل الذي ليس في يده حيلة والذي يدعي فصله تعسفيا ليحصل على حقوقه من رب العمل، أم يقع عبء الإثبات على رب العمل، بعكس قواعد الإثبات، نظرا لأن رب العمل يتمتع بمقدرة أكبر على إثبات عدم وقوع فصل تعسفي. وقد جاء في قرار محكمة التمييز الأردنية “وإن كان من يدعي حصول التعسف ملزم بإثباته من حيث الأصل إلا أن المدعى عليه صاحب العمل الذي يدعي بأن الفصل كان قانونيا ولا تعسف فيه يقع عليه عبء إثبات مشروعية الفصل وفق الأحكام القانونية، حيث أن المدعى عليها صاحبة العمل ادعت بمشروعية فصلها للمدعية العاملة فإن عبء إثبات ذلك يقع عليها “صاحبة العمل”.[1] فإذا لم يقدم صاحب العمل ما يثبت أن فصل العامل كان لأسباب مبررة فيكون فصله للعامل تعسفيا موجبا للتعويض.

أما محكمة النقض الفلسطينية فقد قررت أن عبء إثبات وقوع الفصل التعسفي يقع على عاتق العامل، وليس على عاتق رب العمل[2]، استنادا إلى القواعد العامة في الإثبات، فالأصل أن صاحب الحق لا يتحمل عبء إثبات مشروعية استعمال حقه لأن كل استعمال للحق هو استعمال مشروع ما لم يقم الدليل على عكس ذلك.
ولكن اتجاه محكمة النقض الفلسطينية في قرارها المذكور لا يمكن أن يكون صحيحا، وناتجا عن الفهم الصحيح لمفهوم الفصل التعسفي، إذ أن العامل هو الطرف الضعيف في علاقة العمل، وقانون العمل حرص على حمايته في كافة مواده، وبالتالي فإن إلزام العامل بإثبات الفصل التعسفي يكون فيه تحميله أكثر من قدرته. فالقانون افترض قرينة قانونية بسيطة تتمثل بأن العامل المدعي ما عليه إلا أن يثبت عمله في المنشأة وعلى صاحب العمل إثبات عكس تلك القرينة بحيث يثبت وجود الأسباب المبررة للفصل. وهذا يرتب إلزام صاحب العمل بتقديم مبررات لإنهاء عقد العمل لأن الفصل لا يكون مشروعا إلا إذا كان مبررا، وبالتالي يقع على صاحب العمل واجب تقديم مبررات الفصل أمام المحكمة، وعلى العامل مدعي التعسف أن يثبت عدم صحة المبررات والأسباب التي قدمها رب العمل أمام المحكمة كأن يثبت حسن قيامه بالعمل، ووفائه بالالتزامات المفروضة عليه.[3]

(محاماة نت)
إغلاق