دراسات قانونية

دراسة قانونية حول جناية تخريب أملاك الدولة

جناية تخريب أملاك الدولة

تشمل المذكرة على الأبحاث التالية:
أولاً: جناية تخريب أملاك الدولة المادة (81 ع)، وأحوال تطبيقها.

ثانيًا: ركن سبق الإصرار وسلطة محكمة النقض في الرقابة عليه.

ثالثًا: نية القتل العمد القتل العمد والتفريق بينه وبين القتل الخطأ، والضرب المفضي إلى الموت النتائج الاحتمالية.

رابعًا: عدم اختصاص محكمة النقض بالفصل في مسألة موضوعية هي ثبت جريمة.

خامسًا:

( أ ) تحديد الفارق بين الفاعل الأصلي والشريك.
(ب) الفارق بين الأعمال التحضيرية والشروع في جرائم الحريق – والتسميم، والتخريب أو الإتلاف باستعمال مواد مفرقعة.

أولاً: جناية تخريب أملاك الدولة (المادة (81) عقوبات وأحوال تطبيقها)

1- كانت المادة (81 ع) في قانون سنة 1904 هي المادة (83 ع) وقد نقلت عن المادة (95) من قانون العقوبات الفرنسي، وقد عدلت العقوبة في قانون سنة 1904 لأنها كما ورد في تعليقات وزارة الحقانية كانت متناهية في الشدة وكان نصها في قانون سنة 1904 (كل من أحرق أو خرب عمدًا وبسوء قصد مباني أو مخازن مهمات أو نحو ذلك من أملاك الحكومة يعاقب بالأشغال الشاقة المؤبدة أو المؤقتة).
ولما عدلت بالقانون نمرة (32) سنة 1923 حذف منها كلمة (أحرق) كما حذفت عبارة (بسوء قصد) اكتفاءً بكلمة (عمدًا).

2- وقد وردت المادة (81 ع) تحت عنوان (في الجنايات والجنح المضرة بالحكومة من جهة الداخل) كما وردت في المادة (95 ع ف) المقابلة لها تحت العنوان المماثل بالقانون الفرنسي.
وظاهر من الرجوع إلى تعليقات وزارة الحقانية في سنة 1904 أن المادة المصرية منقولة عن المادة الفرنسية فقد جاء فيها (العقوبة المقررة في القانون القديم مأخوذة من المادة (95) المقابلة لهذه المادة من القانون الفرنساوي التي لا تنص إلا عن الضرر الحاصل باستعمال اللغم وظاهر أنها متناهية في الشدة).

3- وفي القانون المصري فوق ذلك المادة (316) معدلة بقانون رقم (37) لسنة 1923 ونصها (كل من خرب أموالاً ثابتة أو منقولة لا يمتلكها أو جعلها غير صالحة للاستعمال أو عطلها بأية طريقة وكان ذلك بقصد الإساءة) يعاقب بالحبس أو الغرامة اللذين يختلف مقدارهما باختلاف قيمة الضرر الناشئ من الإتلاف ونوعه، ونص في الفقرة الأخيرة على أن (كل من ارتكب جريمة من الجرائم المنصوص عليها في الفقرات الثلاث السابقة بواسطة استعمال قنابل أو ديناميت أو مفرقعات أخرى يعاقب بالأشغال الشاقة المؤقتة).
وهي تقابل المادة (435 ع) فرنسي ونص الفقرة الأولى منها (وكذلك يكون العقاب تبعًا للأحوال المنصوص عليها في المادة السابقة – بالنسبة لمن يخربون عمدًا أو يشرعون في تخريب – بواسطة لغم أو مادة أخرى مفرقعة مباني أو مساكن أو قناطر….. وعلى وجه العموم أي منقول أو عقار مهما كان).
وفي إيراد التعبير على هذه الصورة ما يكفي للرد على ما قالته النيابة من أن المادة (435 ف) تقابل (223) عندنا فإن المادة التي تقابل (223) عندنا هي المادة (434 ف).
وقد جرى جندي بك عبد الملك في كتابه على اعتبار المادة (81) مقابلة للمادة (95) وعلى اعتبار المادة (316) جديدة مقابلة للمادتين (435 ف) و (437 ف).

4 – ولما كان نص المادتين (435) و (95) من القانون الفرنسي واحدًا فقد قام الخلاف بالنسبة للأحوال التي يطبق فيها كل من النصين، ويقول جارو في الجزء الثالث من مؤلفه طبعة خامسة بند (1237) ص (589) لو لم يوجد نص المادة (95) لوقع ما فيها من أعمال وجرائم تحت طائلة المادتين (434) و (435 ع) فكأن القانون وضع عقوبتين لعمل واحد، فكيف نحدد مدى تطبيق كل منهما.
وقد كان التساؤل لا ضرورة له قبل تعديل القانون في سنة 1832 الذي أنزل عقوبة المادة (435) إلى الأشغال الشاقة بدل الإعدام إذا كانت المساكن التي حصل تخريبها أو نسفها غير مسكونة وزادت أهمية الخلاف بعد ما حذفت عقوبة الإعدام من الجرائم السياسية والمادة (95) لورودها في باب الجرائم المرتكبة ضد أمن الدولة في الداخل جريمة سياسية والمادة (435) جريمة عادية.
وأخذ (جارو) يستعرض الآراء التي أبديت في هذا الصدد، ففريق من الشراح يرى أن المادة (95) تنطبق على الأملاك العامة والمادة (435) على الأملاك الخاصة، وقد فنَّد جارو هذا التقسيم الذي قد تكون له قيمته التاريخية، وبنى جارو تفنيده لهذا الرأي على اعتبارات متعلقة بالتشريع الخاص بالجرائم السياسية وتشريع 1892 الذي أدخل على المادتين (434) و (435) تعديلاً بالنسبة لجرائم الفوضويين حيث نص فيه على حماية الطريق العام والخاص ومن رأيه أنه لا يصح كذلك الأخذ بالرأي القائل بالرجوع إلى الباعث على ارتكاب الجناية القائل بأنه إذا كان الباعث سياسيًا طبقت المادة (95) وإذا كان عاديًا طبقت المادتان الأخريان، لأن هذا التقسيم يصادر النظرية الفرنسية القائمة على أن الصفة السياسية لجريمة من الجرائم لا تتحدد تبعًا للبواعث التي دعت إلى ارتكابها.
ثم قال جارو (يجب أن يلاحظ أن المادة (95) وردت في الباب الذي يعاقب على أعمال الحروب الأهلية والفتن، وعلى ذلك فالقانون يفترض أن انفجار اللغم هو حادثة من حوادث الحرب الأهلية ووسيلة من وسائلها ففي هذه الحالة – وفيها فقط – تعد الحادثة معاقبًا عليها بالمادة (95) وتعتبر جريمة سياسية) أما المادتان (434) و (435) فتطبقان – دون بحث عما إذا كانت الأملاك عمومية أو خاصة – على كل عمل من هذه الأعمال يرتكب منفردًا مهما كان الباعث عليه

à tout fait du même genre commis isolément, quel qu’en fut le mobile. Il est dans l’opinion la plus générale qui permet de séparer les cas d’applications de ces textes paralleles (Garraud III p. 590).

5- ويرى جارسون أيضًا هذا الرأي في تعليقه على المادة (95) ص (22) بند (9) وما بعده ويقرر أن المادة (95) تطبق في حالة ما ينفجر لغم وتخرب أملاك الحكومة أثناء حرب داخلية مسلحة، وحين يعتبر عملاً من أعمال الدفاع العسكري أو عملاً من أعمال الحرب، وتطبق المادتان الأخيرتان من غير تمييز بين أملاك الدولة وأملاك الأفراد – إذا حصل انفجار اللغم كحادثة فردية مستقلة منعزلة بصرف النظر عن الباعث لدى المتهم.

6- والآن وقد انتهينا من استعراض رأي الشراح الفرنسيين الذي يمثله جارو وجارسون وهو الرأي القائم على اعتبار الجريمة المنصوص عليها في المادة (95 ع) جريمة حرب أهلية ومظهرًا من مظاهرها، نعود إلى نص المادة (81 ع) ومكانها من القانون المصري فنجد أن كل المسوغات التي سوغ بها الشراح الفرنسيون رأيهم هذا متوفرة في مصر، فمكان المادة (81) من القانون وورودها في الباب الخاص بالجنايات والجنح المضرة بالحكومة من جهة الداخل بين جنايات الاعتداء على حياة الملك أو ولي عهده، والشروع في قلب دستور الدولة أو شكل حكومتها بالقوة من عصابة مسلحة وتأليف عصابات لمهاجمة السكان، بليغ في دلالته.

وفي هذا الصدد يقول جارو في كتابه جزء ثالث ص (559) بند (1210)

Il faut voir, dans ces textes (arts. 95 ets.) leprincipe même qu’ils consacrent, celui d’une protection contre des complots et des attaques tendant au renversement du Gouvernement.

على أن نفس لفظ المادة (81) حيث تنص على تخريب مبانٍ أو مخازن للذخائر مما يجعل تفسير الشراح الفرنسيين أكثر انطباقًا فتخريب مخازن الذخيرة والمباني عمل ملحوظ فيه مهاجمة الحكومة كحكومة للتغلب عليها بالقوة.

7- تقول النيابة في مذكرتها أن اشتراط حصول التخريب في زمن هياج أو فتنة أو حرب داخلية شرط زائد على نص المادة (81) وتخصيص لعموم هذا النص بغير مخصص وفرض قيد جديد، وأن المشرع المصري كلما عنَّ له في صدد جريمة من الجرائم أن يقيدها بهذا القيد فإنه ينص على ذلك صراحة كما نص في المادة (143) على أن كل من أتلف في زمن هياج أو فتنة خطًا من الخطوط التلغرافية.
ونسيت النيابة أن المشرع إنما وضع عبارة (في زمن هياج أو فتنة) في المادة (143) لأنها وردت في باب ليس خاصًا بالجرائم التي تحصل في زمن الهياج والفتن والحروب الداخلية، ولو أن هذه المادة وردت في الباب الثاني الذي وردت فيه المادة (81) لما احتاج الشارع إلى وضع هذا القيد.

8- أما الاحتجاج بالاعتبارات العملية التي ألجأت الشراح في فرنسا إلى تفسير المادتين (95) و (435) هذا التفسير والقول بأنه لا محل له عندنا فمردود عليه، إذ أن المادة (316) معدلة بنفس تفسير النيابة تشمل ما يحصل في زمن الهياج والفتنة وهي تتناول كل ما تتناوله المادة (81 ع) والمادة (316) لا تشترط إلا أن يكون الشيء الذي حصل تخريبه غير مملوك للمتهم ولم تقيدها بأي قيد من شأنه أن يجعلها قاصرة على أملاك الأفراد، والعقاب في المادتين مختلف فأي المادتين يطبق والحالة هذه إذا حصل تخريب لملك من أملاك الدولة، هل توقع عقوبة المادة (81 ع) مهما كان الضرر الحاصل ولو كان مقصورًا على تخريب باب في مصلحة من المصالح فيقضى بالأشغال الشاقة المؤبدة بينما يقضى بالأشغال الشاقة المؤقتة ولو كان التخريب حاصلاً بواسطة استعمال لغم لنسف عمارة كبرى أو مستشفى مملوكين للأفراد، أم أن وجود هذين النصين وهما على هذه الحالة من الخلاف يقتضي وضع فوارق تحدد أحوال انطباق كل من المادتين.

9- على أن استشهاد النيابة بالمذكرة الإيضاحية للمادة (316 ع) قد يحمل على الظن بأن المادة (81) قد أصبحت منسوخة بهذا التعديل الأخير لما ورد في المذكرة الإيضاحية من عبارات الفتنة والاضطراب خصوصًا وأن القوانين الحديثة تتجه نحو إلغاء المادة المقابلة للمادة (95 ع) فرنسي لشذوذها ولما توجده من صعوبات في التطبيق (راجع جارو نمرة (2) تحت هامش ص (589) جزء ثالث حيث يقرر أن القانون البلجيكي حذف المادة المقابلة لها).
وعلى أقل الفروض فتعتبر المادة (416) هي المادة الواجب تطبيقها بالنسبة لتخريب أملاك الدولة ولو كان حاصلاً زمن هياج وفتنة.

10- مغزى تعديل سنة 1923
على أنه يخيل إلينا من ناحية أخرى أن المشرع بالتعديل الذي أدخله على المادة (316) في سنة 1923 جعل جريمة تخريب الأملاك بواسطة استعمال مفرقعات جريمة خاصة ورتب لها عقابًا خاصًا، وبهذا أخرجها من متناول المادة (81 ع) والظاهر أنه تأثر في ذلك بالتشريع الفرنسي الصادر في 1892 ومن المتفق عليه أن هذا التشريع يسري على الأملاك العامة والخاصة على أن الرأي الذي تقول به النيابة ينتهي بنا إلى الإقرار بوجود مادتين تعاقب كل منهما بعقوبات مختلفة عملاً واحدًا، وهذا الرأي بصرف النظر عن عدم معقوليته يلزمها ببيان الأحوال التي تطبق فيها كل من المادتين ومع شعور النيابة بضرورة وضع فارق عملي يهتدي به القاضي في تحديد الأحوال التي تطبق فيها كل مادة إلا أنها هربت من ذلك هروبًا ظاهرًا حيث قالت في ص (10) من مذكرتها (ولا تذهبن بالباحث رغبته في التوفيق بين نص المادة (81) وبقية نصوص مواد الإتلاف في القانون إلى تقيد المادة (81) باشتراط وجود دافع خاص لدى الجاني كباعث سياسي أو غرض سياسي) فمهمة التوفيق بين النصوص المختلفة مهمة متعينة على القاضي في الحالة التي نحن بصددها لأنه أمام نصين قانونين متعلقين بجريمة واحدة وكل منهما يطبق عقوبة مختلفة، فمتعين عليه أن يوفق بين هذين النصين حتى يعرف أيهما يطبق وليست هذه الحالة كحالة انطباق عدة أوصاف مختلفة على فعل واحد، بل أن الفعل هنا موصوف بأنه تخريب لملك من أملاك الدولة ومعاقب بمادتين تقرران عقوبتين متغايرتين.
كذلك نحن لم نذهب إلى إدخال الباعث السياسي في تقديرنا بل بالعكس نحن نقول بوجوب الأخذ برأي جارو وجارسون وكل منهما يستبعد الباعث والغرض ويحدد دائرة البحث في نوع العمل وهل هو جزء من أعمال تكون حربًا أهلية، أم هو عمل مستقل لا دخل له بغيره فكل الاعتراضات التي ساقتها النيابة على مسألة الباعث السياسي لا محل لإيرادها هنا.
نخرج من هذا البحث إلى أن ما وقع من المتهمين إنما ينطبق عليه المادة (316) فقرة ثالثة معدلة لا المادة (81 ع).

ثانيًا: ركن سبق الإصرار – وسلطة محكمة النقض في الرقابة عليه

11- عن ركن سبق الإصرار واستبعاده وطعن النيابة في ذلك.
تحدد قضاء محكمة النقض والإبرام في هذه المسألة بالحكم الصادر في 24 أكتوبر سنة 1932 (محاماة سنة ثالثة عشرة رقم (181) ص (276) حيث قالت (إن الترصد وسبق الإصرار هما من الظروف المشددة والبحث في وجود أيهما وعدم وجوده داخل تحت سلطة قاضي الموضوع مثل العناصر الأساسية التي تتكوَّن منها الجريمة تمامًا وللقاضي أن يستنتج توافر أي منهما مما يحصل لديه من ظروف الدعوى وقرائنها ومتى قال بوجوده فلا رقابة لمحكمة النقض عليه في ذلك اللهم إلا إذا كانت تلك الظروف والقرائن التي بينتها (لا تصلح عقلاً لهذا الاستنتاج).
وقد قالت محكمة الموضوع في حكمها تحت عنوان (عن التطبيق القانوني) ( وأما ظرف سبق الإصرار فغير متوفر إذ أن إعداد القنبلة ووضعها تحت الشريط وإشعالها لا يكون سبق الإصرار على القتل الذي كان نتيجة احتمالية لانفجار القنبلة).
فالمحكمة هنا استبعدت ركن سبق الإصرار بالنسبة لجنايتي القتل والشروع في قتل الخفيرين بناءً على أن نية قتلهما لم تكن متوفرة لدى المتهمين وإنما كانت النية محصورة في انفجار القنبلة لتعطيل القطار، وإذا كان القتل قد حدث بعد ذلك فإنما كان ذلك نتيجة احتمالية للفعل الذي أراده المتهمان وقصداه بالذات.
وهذا البيان الذي ورد في الحكم – في ذاته – بيان معقول واستنتاج يسيغه المنطق فلا يمكن أن تجد النيابة فيه محلاً للطعن، ولذلك فإن النيابة بنت طعنها على ما جاء قبل ذلك من الأسباب خاصًا بما أثبته الحكم من توفر نية القتل والشروع في القتل بخصوص الخفيرين، وهذه مسألة موضوع بحث خاص في النقض المرفوع من المتهمين سنناقشها في محلها ومتى ثبت لمحكمة النقض أن محكمة الموضوع أخطأت في إثبات ركن النية وتعمد القتل سقط استنتاج النيابة.
وسلم الحكم من الطعن عليه في مسألة استبعاد ركن سبق الإصرار.

ثالثًا: ركن العمد في جريمة القتل: 
(حصول خطأ في تطبيق القانون بالنسبة لتهمة القتل العمد).
(وقصور في بيان ركن النية وتحديده)

12- قبل أن نشرح هذا الوجه يحسن أن نلخص ما جاء بالحكم متعلقًا بمسألة نية المتهمين من ناحية الوقائع وإثباتها، ومن ناحية القانون وتطبيقه.
فالحكم قد عنى أولاً بتحديد الوقائع وإثباتها، ثم انتقل بعد ذلك إلى التطبيق القانوني ففي الباب الذي عقده لتحديد الوقائع التي رآها ثابتة على المتهمين نجد أنه بعد أن تكلم عن الوقائع المادية الخاصة بحضور المتهم الأول لأسيوط ومقابلاته مع المتهم الثاني وسفره إلى طما يقول:
(وحيث يستخلص مما تقدم أن اجتماع المتهمين الأول والثاني في أسيوط إنما كان لتدبير إجرامي وهو ما ظهر فيما بعد عند اجتماعهما بطما يوم الثلاثاء حيث أخذا جزء الماسورة من وابور والد السيد عيسى وصنعا القنبلة بأن حشواها بقطع من الحديد الظهر ووضعا في داخلها طرف الفتيل ودفناها بالمكان الذي انفرجت فيه في وقت كان الشريط خاليًا من الخفر…….. لأن حراسة السكة الحديدية لم يبدأ بها إلا بعد نصف ليلة الحادثة.

  • ثم قالت: (وحيث إن الظروف التي ارتكبت فيها الحادثة وملابساتها قد تشعر لأول وهلة أن الجريمة التي وقعت كانت لغرض ارتكاب قتل سياسي موجه ضد رئيس الحكومة وبعض أعضائها…. وغيرهم ممن كانوا في القطار المخصوص…. إلا أنه قد تبين للمحكمة من التحقيقات ومن أقوال المتهمين…… أن النزاع مستحكم من قديم بين فريق العمدة وفريق الشيخ أحمد طه أبي غريب…… وهذا مما أشعل نار الحقد في نفوس عائلة أبي غريب ومن ينتمي إليها من أهالي بلدة طما فانتهزوا فرصة ما قرأوه في الجرائد من عزم حضرة صاحب الدولة رئيس الوزراء وصحبه لزيارة مديرية جرجا فأصروا على إحداث حادث كبير يلفت نظر دولته إلى هذا العمدة).

ويلاحظ أن الحكم لم يقل إحداث حادث كبير لقطار نفسه كما تكرر النيابة في مذكرتها بل إحداث حادث في الطريق يلفت النظر (نحو العمدة الذي تنفرد بلدته بحصول هذا الحادث بالقرب منها وبذلك يأملون في إقصائه عن العمدية، فرتب المتهم الأول والثاني مع غيرهم ممن لم يعلموا هذا الحادث وصنعا القنبلة بالصفة السالفة الذكر وتحينا فرصة عدم وجود أحد من الخفراء ووضعاها تحت شريط السكة الحديد في المكان الذي انفجرت فيه.
(وحيث إنه مما يرجح أن نية الفاعلين لم تنصرف إلى الإضرار بالقطار الذي يقل دولة رئيس الوزراء
(أن اشتعال الفتيل قد حصل قبل موعد وصول القطار إلى محطة طما بنحو النصف الساعة ومضى الحكم يدلل على ذلك في بيان طويل) ثم قال (وهذا الوقت كبير يدل على أن الغرض من اشتعال القنبلة لم يكن القصد منه ارتكاب قتل سياسي موجه من أقل القطار الخاص…) ثم رد الحكم على احتمال أن يكون الفاعل قد تعجل في إشعال الفتيل أو ارتكن على ساعة غير مضبوطة واستبعده.
ثم ذكر الحكم بعد ذلك تحت عنوان التطبيق القانوني أمرًا خاصًا بالوقائع (أن التحقيق لم يسفر بجلاء عن أن المتهمين أو أحدهما قد أشعل فتيل القنبلة بنفسه).
فمحكمة الموضوع هنا تؤكد وقائع أثبتتها في الحكم وهي في إثباتها قد حددت:
أولاً: الأعمال المادية التي صدرت من المتهمين من اتفاق وتحضير للقنبلة ودفنها تحت الشريط.
ثانيًا: حددت المحكمة استنتاجًا من الوقائع والتحقيقات ستقصد المتهمين من هذا العمل فاستبعدت نية الإضرار بالقطار أو ركابه واستبعدت تبعًا لذلك جناية القتل السياسي كما أنها عنيت بإبراز أن المتهمين اللذين قصرت أعمالهما المادية على وضع القنبلة بعد تحضيرها تحت الشريط قد تحينا فرصة عدم وجود أحد من الخفراء وقالت مرة أخرى أنهما دفناها في وقت كان الشريط خاليًا من الخفراء وعنيت مرة ثالثة بإبراز أن جغرافية المكان لم تكن تسمح برؤية من يضع القنبلة، وعنيت مرة رابعة بالقول بأنها وضعت قبل أن تبدأ حراسة السكة الحديد التي لم تبدأ إلا بعد نصف ليلة الحادثة.

13- هذه هي الوقائع التي قالت محكمة الموضوع أنها قد ثبت لها من التحقيقات وهي التي يجب أن ينصب عليها التطبيق القانوني ولكن لما جاء دور التطبيق القانوني رأيناها تقول:

  • (وحيث إن نية القتل العمد واضحة من وضع المتهمين الأوليين للقنبلة تحت الشريط لتعطيل القطار المقل لدولة رئيس الوزراء وصحبه ولما اشتعلت وتناثرت شظاياها تسبب عنها قتل الخفير أبى زيد والشروع في قتل الآخر وكانت جرحة القتل والشروع فيه نتيجة طبيعية لانفجار القنبلة)

فالمحكمة هنا تتكلم عن نية القتل العمد بالنسبة لجنايتي القتل والشروع فيه مع أنها سبق أن استبعدت هذه النية بكل ما يمكن من الصراحة بالنسبة لراكبي القطار وعادت فأكدتها هنا بقولها أن وضع القنبلة تحت الشريط كان القصد منه تعطيل القطار (أي تأخيره عن سيره لا إحداث حادث لركابه).
على أن المحكمة نسيت أنها وهي في معرض استظهار الوقائع لتستخلص منها الثابت لتجري فيه حكم القانون لم تذكر واقعة واحدة يفهم منها من قرب أو بعد أنه كان هناك خفراء بجوار محل انفجار القنبلة أو في دائرة الانفجار اتجهت نية المتهمين وتعلقت إرادتهم بقتلهم بل أنها بالعكس من ذلك قد عنيت بإثبات عدم وجود هؤلاء الخفراء وعدم رؤية المتهمين لهم فكيف مع نفيها نية إحداث القتل لراكبي القطار يمكن أن توجد لديهم نية قتل أشخاص لم يروهم ولم يعلموا علم اليقين أنهم سيوجدون في هذا المكان وقت الانفجار.
صحيح أن لمحكمة الموضوع أن تستقل بإثبات وجود النية والقصد الجنائي ولكن يجب عليها حين تثبتها أن لا تستنتجها من أمور لم تثبت لديها ولم تقل بوجودها بل من باب أولى يجب أن لا يجتمع في حكمها نفي وجود القصد الجنائي (نية القتل العمد) في باب الوقائع وإثبات هذه النية في باب تطبيق القانون، فالمحكمة قد افترضت وجود هذه النية افتراضًا من عندها ولم تدلل عليها بدليل بل أن ما ساقته دليلاً وهو وضع القنبلة بقصد تعطيل القطار هو دليل نفي لا إثبات لوجود هذه النية فهو قول ينم عن أن النية كانت متجهة لتعطيل القطار فقط.

وقد جرَّ هذا الخطأ إلى خطأ آخر فقد قالت المحكمة:
(إن جريمة القتل والشروع فيه (بالنسبة للخفيرين) كانت نتيجة طبيعية (لانفجار القنبلة)
ولكنها ما كادت تنتقل إلى بحث مسألة سبق الإصرار حتى أثبتت أن (إعداد القنبلة ووضعها تحت الشريط لا يكون سبق الإصرار على القتل الذي كان نتيجة احتمالية لانفجار القنبلة).
ومسألة سبق الإصرار هنا تكاد تكون متلازمة مع مسألة نية القتل العمد إذ من الصعب فصلهما عن بعضهما في مثل هذا الحادث، وقد استبعدته المحكمة لأن القتل كان نتيجة احتمالية لانفجار القنبلة وبهذا استبعدت المحكمة هنا ركن الإصرار ولكن النية معه ولكنها رغم ذلك بنت حكمها على أساس وجود النية.

14- وإذا نظرنا إلى مسألة وفاة الخفيرين فلن نجدها في الواقع إلا نتيجة احتمالية من النتائج التي ترتبت على عمل إجرامي خاص هو الذي قصده المتهمان وشريكهما المجهول ولم يقصدا سواه وهو تعطيل القطار للفت نظر دولة رئيس الوزراء إلى العمدة ولكن النتائج تجاوزت غرضهما وتعدت ما قصداه وفي هذا الصدد يقول جارو في كتابه جزء أول ص (495) بند (333)

Ce n’est pas la volonté indéterminée de faire le mal, mais la volonté determineé de faire tel mal don’t la preuve incombe dans l’incrimination (ten – tative)… L’examen de l’existence et du degré de la volonté criminelle, essentielle pour tout délit interntionel, le devient bien plus encore pour la tentative.

  • ويقول جارسون في بند (55) من كتابه تعليقًا على المادة (295 ع)

Ces explications n’ont pas un simple intérêt de curiosité historique, elles montrent qu’en principe, depuis 1832 , l’intention simplement eventuelle ne suffit pas pour constituer le meurtre. La poursuite ne doit pas seulement établir que le coupable pouvait et devait prévoir que ces actes violents auraiet pour conséquence la mort de la victime, elle doit prouver que l’agent avait effectivement prévu ce résultat et qu’il a commis l’acte qui lui est reproché en vue de l’atteidre.

15- وهذه الآراء الفقهية السليمة السائدة في فرنسا هي التي تأثر بها الفقه والقضاء في مصر، فقد حكمت محكمة النقض والإبرام بأن العمد في القتل هو التوجه إليه بإرادة إحداثه ولا يعد القتل عمدًا إذا انتفت هذه النية مهما كانت درجة احتمال حدوثه بل يعد الفعل ضربًا أو جرحًا أفضى إلى الموت منطبقًا على المادة (200 ع) فنية القتل عمدًا هي الفارق الجوهري بين القتل عمدًا أو الضرب المفضي إلى الموت – ( – محاماة سنة تاسعة ص (347) رقم (184) – 3 يناير سنة 1929).
ويقول أحمد بك أمين في كتابه ص (322) طبعة ثانية ما نصه (ومن المتفق عليه أنه لا يعد القتل قتلا عمدًا مهما كانت درجة احتمال حدوثه ولولا ذلك لاعتبر كل ضرب يفضي إلى الموت قتلاً متعمدًا لأن من نتائجه المحتملة أن تحدث الوفاة على أثره مهما تراخت الوفاة، فالفارق بين القتل العمد والخطأ أو الضرب الذي يفضي إلى الموت أن في الأول تتجه إرادة الفاعل إلى إحداث الموت بفعل يعلم أنه مميت، أما في القتل الخطأ فهو لا يتجه إلى إحداثه بل يحدث رغم إرادته ومن غير قصد منه كما لو أطلق شخص عيارًا في الهواء بقصد الإرهاب فأصاب لعدم احتياطه شخصًا فقتله).

فمهما قيل من أنه كان يجب على المتهمين أو شريكهما الذي أشعل الفتيل أن يتصور احتمال مرور بعض الحراس إلا أن هذه النتائج الاحتمالية ووجوب توقعها لا يمكن أن يحل محل شرط توفر نية القتل العمد أو يغني عنه.
ومن الوقائع الثابتة في الحكم أنه لم يكن أحد من الخفراء موجودًا وقت وضع القنبلة ولا وقت إشعالها فما كان بالإمكان تصور إصابة أحد منهم وعلى ذلك فما وقع من المتهمين لا يعدو أن يكون قتلاً خطأ.
والخلاصة أن الحكم قد حدد الجريمة التي كانت مقصودة بالذات وهي تعطيل القطار فلا محل بعد ذلك لاعتبار الجرائم التي وقعت كنتائج غير مقصودة لهذه الجريمة جرائم عمدية كانت ارتكابها مقصودًا بذاته.

رابعًا: (عدم اختصاص محكمة النقض بالفصل في مسألة موضوعية هي ثبوت جريمة)
الوجه الخاص بجناية القتل السياسي

16- تذهب النيابة إلى أن المحكمة أخطأت في عدم تطبيق المادة (79) على الواقعة التي أثبتها الحكم بزعم أن اشتعال القنبلة لم يكن بقصد ارتكاب قتل سياسي، وقد مهدت لشرح هذا الوجه بقولها أنها تسجل على الحكم أنه أثبت:

1/ أن المتهمين انتهزوا فرصة مرور القطار وأرادا أن يحدثا حادثًا كبيرًا بالنسبة لهذا القطار.
2/ أن القتل الذي وقع كان نتيجة طبيعية ومقصودة من التدبير الإجرامي.
3/ أنه كان للخلاف الحزبي والسياسي بين المتهمين وبين عمدة البلدة دخل فيما دفع بهما إلى ارتكاب هذه الجريمة.

ويجدر بنا أن نرد الوقائع إلى نصابها أولاً فالمسائل التي سارعت النيابة إلى تسجيلها على الحكم باعتبارها ثابتة فيها شيء من التحريف.
فأولاً: لم يثبت الحكم أن المتهمين أراد أن يحدثا حادثًا كبيرًا بالنسبة لهذا القطار بل كل ما أثبته أنهما أرادا أن يحدثا حادثًا يلفت نظر دولة رئيس الوزراء إلى عمدة طما الذي تنفرد بلدته بحصول هذا الحادث بالقرب منها (والحادث هو نسف شريط السكة الحديد).

ثانيًا: أما قول النيابة أن القتل الذي وقع كان نتيجة طبيعية ومقصودة من التدبير الإجرامي فقد سبق لنا أن ناقشناه بالنسبة لجريمتي قتل الخفير والشروع في قتل الآخر، ولا يصح في شرع المنطق أن تتخذ مسألة هي موضوع البحث والجدل كأنها مسألة مسلم بها وتبني عليها نتائج.

17- والواقع أن الحكم المطعون فيه عندما تصدى لجريمة القتل السياسي – بحثها بحثًا موضوعيًا صرفًا فبدأ باستعراض الظواهر التي قد تحمل على الاعتقاد – لأول وهلة – بأن الجريمة وقعت لغرض ارتكاب قتل سياسي موجه ضد رئيس الحكومة ومن معه. ثم تصدت المحكمة لمناقشة هذه الظواهر واستعرضت بالتفصيل الأسباب الموضوعية التي رجحت لدى النيابة أن هذا الغرض أو القصد الخاص لا وجود له وأن نية القتل محدودة بالمرة وأبرزت أن مسألة الانفجار حصلت قبل مجيئ القطار الخاص بنصف ساعة مما يدعو إلى الاعتقاد بأنه لم يكن مقصود بالمرة، كما ردت على الاعتبارات أو الأدلة أو القرائن التي ساقتها النيابة تأييدًا للزعم بأن النية اتجهت إلى إحداث قتل سياسي.

وأثبتت أن حصول الانفجار قبل مجيئ القطار بنصف ساعة كان مقصودًا حتى لا يصاب القطار الخاص بضرر إذ أن مضي هذا الوقت بعد سماع الانفجار الشديد من شأنه أن ينبه رجال السكة الحديد إلى حجز القطار وهذا ما حصل فعلاً.
وانتهت المحكمة من مناقشتها إلى القطع بأن نية المتهمين لم تنصرف إلى الإضرار بالقطار الذي يقل دولة رئيس الوزراء ومن معه فهذه النتيجة التي وصلت إليها بنيت على تقديرها للوقائع وما ثبت لديها منها فهي قد حددت الجريمة التي اتفق عليها المتهمان وقصداها واستبعدت ما لم يتناوله اتفاقهما وما لم تنطو عليه نواياهما.

فالطعن في هذا الحكم بطريق النقض هو طعن في تقدير محكمة الموضوع للأدلة الموضوعية ومحكمة الموضوع هنا لم تبن رأيها على وقائع لا وجود لها كما حصل في مسألة قتل الخفيرين بل بنتها على مسائل مادية ثابتة استنتجت منها ما استنتجته، ومن المسلم به أن لمحكمة الموضوع وحدها حق تقدير الوقائع وإثبات ما تراه منها ثابتًا وترك ما تراه غير ثابت.

  • وفي هذا الصدد يقول جارو في كتابه عن قانون العقوبات جزء أول ص (493) بند (232) ما نصه

En resumé pour déterminer avec exactitude le point initial de la tentative, le juge recherchera Quelle infraction l’agent avait l’intention de commettre, ce qui sera un question de pur fait, à examiner et à rèsoudre d’apres les circonstances de la cause et appréciée souverainement par les juges de fait.

والمناقشة التي أوردتها النيابة في مذكرتها وتقريرها لا تعدو أن تكون مناقشة موضوعية في تخطئة وجهة نظر محكمة أول درجة بإثبات ما نفته أو نفى ما أثبتته بل هي في الواقع تخطئة لها في الاستنتاجات التي أخذت بها وهذا النوع من الجدل إن صح عرضه على محكمة استئناف موضوعية فلا يمكن أن يعرض على محكمة النقض، إذ المطلوب من محكمة النقض الآن هو أن تقرر في حكمها بأن القرائن والأدلة التي قدمتها النيابة لمحكمة الموضوع لإثبات توفر النية على ارتكاب جريمة قتل سياسي فلم تقنعها كان يجب عليها أن تقتنع بها، وأن تتولى محكمة النقض عنها تقدير هذه الأدلة تمهيدًا للاقتناع بها والحكم بثبوت هذه الجريمة وهذا عمل ظاهر أنه موضوعي صرف.

18- ولا حاجة بنا بعد ذلك إلى الدخول في تفسير الجريمة السياسية فقد أثبتت نفس مذكرة النيابة الآراء التي يقول بها Fabruguettes وأمثاله في تعريفها ومعظم الشراح متفقون على أن الجريمة لا تكون سياسية إلا إذا كان الغرض منها سياسيًا بحتًا أي مقصودًا بها قلب نظام الدولة والاعتداء على كيانها باعتبار أنها هيئة ذات وجود سياسي (فابرجت)، ورأى جارو وجارسون في اشتراط حصول هذه الجرائم أثناء حرب أهلية أو ثورة وأن تكون من الأعمال الجائزة إذا وقعت في حرب نظامية، فحوادث القتل الفردية لا يمكن أن تعتبر من الجرائم السياسية وإن كان مقارفها قد ارتكبها تحت تأثير عوامل سياسية.
كل هذا جاء في مذكرة النيابة فنكتفي بالإشارة إليه.

ولقد ذهبت النيابة أخيرًا إلى أن الحكم أثبت وجود نزاع حزبي وسياسي بين المتهمين وعمدة طما له دخل في ارتكاب هذا الحادث، وهذا قول فيه كثير من التجوز فإن ما أثبتته محكمة الموضوع هو أن هناك نزاعًا على العمدية بين فريقين هما عائلة العمدة الحالي وعائلة المتهمين، وهو نزاع قل أن تخلو منه بلد، والقول بأن إثباته يكفي لاعتبار أن الجريمة سياسية معناه أن كل ما يقع من جرائم القتل بسبب العمدية في البلاد تنطبق عليه المادة (79 ع) وفي هذا وحده ما يكفي للرد على نظرية النيابة.

خامسًا: تحديد الفارق بين الفاعل الأصلي والشريك

19- تقول النيابة في طعنها أن الحكم (أخطأ في اعتبار المتهمين شريكين لا فاعلين أصليين إذ يستخلص من الوقائع التي أثبتها الحكم نفسه بالنسبة للمتهمين أنهما قاما بقسط من أعمال التنفيذ ومن ثم وجب اعتبارهما فاعليين أصليين).
ومن رأى النيابة أن إعداد القنبلة ووضعها تحت شريط السكة الحديد والحفر لها لتنفجر في وقت معين ليست من الجرائم التي يبدأ التنفيذ وينتهي فيها بعمل واحد مفرد كإطلاق رصاصة وإغماد خنجر، بل هي جريمة يدخل في الأعمال المتممة لها وضعها في المكان الذي وضعت فيه والتمكن من وضعها هذا الوضع لازم لإتمام الجريمة لزوم الإشعال نفسه.

وترى النيابة على ذلك أن وضع القنبلة تحت شريط السكة الحديد يعتبر عملاً من أعمال الشروع بناءً على ما جاء في فوستان هيلي من أنه إذا وضع أحد الناس لغمًا في طريق شخص معين قاصدًا من ذلك قتله فإنه يعد شروعًا في القتل.

  • ويهمنا هنا – وضعًا للمسائل في نصابها – أن نقرر أن محكمة النقض والإبرام في حكمها الصادر في 22 فبراير سنة 1931 (محاماة سنة ثانية عشرة ص (20) رقم (14)) قد كفتنا مؤونة الجدل في رسم الحد الفاصل بين الشريك والفاعل الأصلي، فقالت:
    (لتبيان الحد الفاصل بين الفاعل الأصلي والشريك في جريمة تعدد فيها المتهمون ينظر إلى الأعمال التي اقترفها كل منهم، فإن كانت هذه الأعمال داخلة ماديًا في تنفيذ الجريمة التي حدثت عد مقترفها فاعلاً أصليًا، وإذا كانت تلك الأعمال غير داخلة في تنفيذ الجريمة اعتبر مقترفها شريكًا فقط، إذا كان هذا العمل هو من قبيل التحريض أو الاتفاق أو المساعدة بالقيود المدونة بالمادة (40 ع)).

وكان موضوع القضية يتلخص في أن اثنين اتهما بقتل آخر مع سبق الإصرار بأن أطلق كل منهما عيارًا وثبت أنه أصيب بعيار واحد – ولم يقم الدليل على أن أحدًا من المتهمين بعينه هو الذي تنفذت الجريمة بالعيار الذي أطلقه ولم تفصل محكمة الجنايات لإثبات هذا التنفيذ على واحد منهما بعينه، فقررت محكمة النقض أن لا سبيل إذًا لاعتبار أحد منهما فاعلاً أصليًا للجريمة وأنه من التحكم الواضح وتجاوز حدود القانون اعتبارهما فاعلين أصليين لمجرد أنهما كانا معًا وقت ارتكاب الحادثة وأن كلاً منهما أطلق عيارًا ناريًا على المجني عليه، وأنهما كانا قبلاً مصرين على ارتكاب الجريمة لأن مجرد اتفاقهما وسبق إصرارهما على ارتكاب الجريمة إذا كان له اعتبار قانوني فيما يتعلق بالاشتراك فليس له أدنى اعتبار فيما يتعلق بالفعل الأصلي الذي يقتضي تحقق معنى زائد هو المقارفة الفعلية لعمل من أعمال التنفيذ العادية ولذا رأت أن القدر المتيقن في حق كل من المتهمين أنه إنما اتفق مع زميله على ارتكاب الجريمة وصمم كلاهما على تنفيذها بناءً على هذا الاتفاق، وقد وقعت فعلاً بناءً عليه فيكون كل منهما شريكًا للآخر فيها مستحقًا للعقاب – بالمواد (194) و (40) و (41) و (199)

وقد قالت محكمة الموضوع في حكمها (وحيث عن الجرائم الأخرى فقد اعتبرت النيابة العمومية المتهمين الأولين فاعلين أصليين ولكن التحقيق لم يسفر بجلاء على أنهما أو أحدهما قد أشعل فتيل القنبلة بنفسه فقد سئل الخفراء ورجال البوليس عقب حصول الحادثة فقرروا جميعًا بأنهم لم يروا أحدًا عقب حصول الانفجار ولا قبله بالقرب من محل الحادثة فلا يمكن والحالة هذه اعتبار المتهمين أو أحدهما فاعلاً أصليًا وإن كان ثبت لدى المحكمة أن المتهم الأول كان موجودًا بالقرب من محل الحادثة بدليل ذهابه إلى البدارى بطريق مجريس، ولكن ليس معنى هذا أنه هو الذي تولى عملية الإشعال بنفسه ويكون الواجب اعتبار المتهمين الأول والثاني شريكين لشخص مجهول أشعل الفتيل وهو الفاعل الأصلي..).

20- وظاهر من هذا أن محكمة الموضوع قد قطعت في أمرين – الأول – أن الجريمة لا يبدأ تنفيذها إلا بإشعال الفتيل – الثاني – أن التحقيق لم يسفر بجلاء عن أن المتهمين أو أحدهما قد أشعل الفتيل بنفسه، وأنه وإن كان تعيين الأفعال التي تكون داخلة في الجريمة مما يدخل في الوقائع لا من المسائل القانونية كما وردت تعليقات وزارة الحقانية على المادة (39) إلا أننا نرى من الواجب أن نناقش ما جاء في مذكرة النيابة في هذا الشأن.

وأنه وإن كانت النيابة قد أغفلت في مذكرتها تحديد الجنايات التي ترى اعتبار وضع القنبلة تحت شريط السكة الحديد عملاً من الأعمال المكونة لها (مادة (39) فقرة ثانية) أو شروعًا (بدء تنفيذ فعل) في ارتكاب جناية (مادة 45 ع) إلا أننا إذا رجعنا إلى بحث العناصر المادية المكونة لجريمة الشروع في الجرائم التي تطلب النيابة الحكم بعقوبتها نجد:

أولاً: أنه بالنسبة لجريمة استعمال المواد المفرقعة وهي الجريمة المنصوص عليها في قانون العقوبات الفرنسي (مادة (435) وهي التي تقابل المادة (316) عقوبات مصري) نجد أن حضرة جندي بك عبد الملك يقول في موسوعته جزء أول ص (37) نَبذة (20) ما نصه.

ويعد بدءًا في تنفيذ الجريمة وبالتالي شروعًا معاقبًا عليه وضع المادة المفرقعة في مكان الجريمة بحيث يحصل الانفجار دون تدخل جديد من جانب الجاني.

  • ويقول أحمد بك أمين في كتابه ص (430) طبعة ثانية
    (مبدأ الشروع في جريمة استعمال المواد المفرقعة من وقت وضع المادة المفرقعة في مكان الجريمة (في حالة صالحة للانفجار من تلقاء نفسها بدون تدخل جديد من الجاني (جارو (6) فقرة 2646) وكان عمل سابق على ذلك يعد من الأعمال التحضيرية التي لا عقاب عليها وهذا ما يقرره جارسون في تعليقه على المادة (435) بند (28) ص (239)

L’exécution du crime serait certainement commencée si l’agent avait déposé l’engin explosif sur le lieu du crime, de telle sorte que l’explosion dût se produire sans aucun acte nouveau de sa part

  • ويقول (جارو) في الجزء الأول من كتابه في قانون العقوبات ص (493) بند (237) ما نصه

s’il s’agit d’incendie on d’explosion, le fait de s’être procuré des matières inflammables ou explositions ne sera q’un acte préparatiore et ne pourra être puni que comme délit sui – généris; mais, si l’agent les dispose de telle sorte que, sans autre participation de sa part l’incendie ou l’explosion devait propablement avoir lieu, il y aura tentative.

وهكذا يكاد الإجماع بين الشراح ينعقد على أن مجرد الحصول على المفرقعات أو وضعها بحيث لا تحتاج لانفجارها إلى تدخل جديد لا يعتبر عملاً من أعمال التنفيذ. وقد يعتبر إحراز المواد المفرقعة جريمة خاصة، ولكنها تختلف عن الجريمة التي نحن بصددها وهي جريمة استعمال أو تخريب باستعمال المواد المفرقعة، لا مجرد جريمة إحراز، ومن حيث الوقائع فلا خلاف مطلقًا في أن القنبلة لو تركت حيث حفر لها ووضعت تحت شريط السكة الحديد لما انفجرت مهما انقضى من الزمن ومهما كان عدد القطارات التي مرت عليها بل لا بد من إشعال الفتيل.

فوضع القنبلة مهما احتاج إلى مجهود وعمل ووقت لا يخرج عن نقل سلاح من الأسلحة إلى المكان الذي يريد قاتل (مثلاً) أن يرتكب فيه جناية قتل ليكون تحت تصرفه عند ارتكاب جنايته.

21- تقول النيابة في مذكرتها (أن التمكن من وضع القنبلة في المكان الذي وضعت له لازم لإتمام الجريمة لزوم الإشعال نفسه وبدونه لا يحدث الإشعال الأثر المطلوب).

وكأن النيابة تريد بهذا أن تقول أن كل عمل ضروري للتنفيذ بحيث لولاه لما أمكن ارتكاب الجريمة يعتبر إجراؤه شروعًا أو عملاً من أعمال التنفيذ، وفي هذا الصدد يقول جندي بك عبد الملك في موسوعته ص (717) جزء أول.
(وإنما يفرق الشارع المصري بين الأعمال المكونة للجريمة فيعتبر مرتكبها فاعلاً أصليًا وبين الأعمال التبعية كالتحريض والاتفاق والمساعدة في الأعمال المجهزة أو المسهلة أو المتممة للجريمة فيعتبر مرتكبها شريكًا فليس الفارق بين الاشتراك الأصلي والاشتراك التبعي في اتحاد الزمن حتى يقال أن جميع الأعمال المعاصرة للجريمة هي من أعمال الفاعل الأصلي بدون تمييز بين أعمال التنفيذ وأعمال المساعدة كما أن الفارق بينهما ليس في كون الفعل ضروريًا أو غير ضروري للتنفيذ حتى يقال أن من يساعد بأي عمل كان على ارتكاب الجريمة ولولا مساعدته لما أمكن ارتكاب الجريمة يعتبر فاعلاً لا شريكًا، بل الفارق بين الاشتراكين يجب أن يستنبط من نوع الأعمال المقترفة…).

ثانيًا: على أنه حتى ولو ثبت أن أحد المتهمين (من غير تعيين) هو الذي أشعل الفتيل لكان من مقتضى حكم محكمة النقض والإبرام السابق ذكره أن يعتبر الاثنان شريكين ولا شك أن قطع محكمة الموضوع بأن التحقيق لم يثبت بجلاء أنهما أو أحدهما أشعل الفتيل بنفسه من شأنه أن يجعل حظهما من جهة اعتبارهما شريكين لمجهول أحسن مما لو ثبت أن واحدًا منهما غير معين هو الذي أشعله.

22- ثالثًا: على أن النيابة تستند في مذكرتها إلى ما قرره فوستان هيلي من أنه إذا وضع أحد الناس لغمًا في طريق شخص معين قاصدًا من ذلك قتله يعد شارعًا في القتل، ويخيل إلينا أن الذي يقصده فوستان هيلي هي الحالة التي نص عليها قانون (2) إبريل سنة 1892 في فرنسا وهي جريمة من نوع خاص ليس لها نظير في التشريع المصري، فلا محل للقياس عليها بل إن في وجود قانون خاص ينص على أن وضع لغم في طريق خاص أو عام بقصد جنائي يعتبر بمثابة شروع في قتل لدليلاً على أنه لولا هذا النص لما اعتبرت الحالة شروعًا.

23- رابعًا: كذلك استندت النيابة إلى بعض أحكام قديمة لمحكمة النقض والإبرام المصرية في مسألة الشروع في جريمة السم، فقد أشارت إلى حكم يقضي بأن وضع السم في طعام أحد الناس يعد شروعًا وأخر قضي بأن من يضع سمًا في طعام أحد الناس يعد فاعلاً أصليًا ولو كان الذي قدم الطعام شخص آخر.

ولكن هذه الأحكام محل انتقاد شراح قانون العقوبات المصري فقد جاء في كتاب أحمد أمين بك ص (330) (إلا أن من المسلم به أن شراء الجواهر السامة أو وضعها لا يخرج عن كونه عملاً تحضيريًا فقط وكذلك مزج السم بالطعام أو الشراب الذي يراد تقديمه للمجني عليه (جارو (4) فقرة (1634)) ولا يبدأ الشروع المعاقب عليه إلا بتقديم الطعام المسموم إلى المجني عليه أو وضعه تحت تصرفه).

  • ثم يقول:
    (اعتبرت محكمة النقض محضر السم فاعلاً أصليًا لا شريكًا واعتبرت ما وقع منه من الأفعال بدأ في تنفيذ معاقب عليه ويظهر أنها أخذت في ذلك برأي جارسون (301) فقرة (33) وبعض أحكام (المحاكم الفرنسية، على أنه من الصعب التوفيق بين هذا الرأي ونص المادة (39 ع) الخاصة بالفاعل الأصلي) وجاء في جرانمولان بهامشه ص (332) جزء ثانٍ تعليقًا على هذه الأحكام (ولكن هذه الأحكام لا تتفق ونص المادة (40) فقرة أولى من قانون العقوبات المصري التي تعتبر المحرض على ارتكاب الفعل المكون للجريمة شريكًا لا فاعلاً).

وقد حكمت محكمة جنايات قنا في 13 فبراير سنة 1930 في القضية نمرة (79) سنة 1928 برئاسة حضرة صاحب العزة محمد لبيب عطية بك (بأن شراء الجواهر السامة أو وضعها في الطعام لا يخرج عن كونه عملاً تحضيريًا وكذلك مزج السم بالطعام أو الشراب الذي يراد تقديمه للمجني عليه وأن الشروع المعاقب عليه لا يبدأ إلا بتقديم الطعام إليه أو وضعه تحت تصرفه، (وبناءً على ذلك قضى بأنه إذا فاجأ شخص المتهم وهو يضع السم في الزير ويرجه فإن عمل المتهم لم يكن إلا الخطوة الأولى من الأعمال التحضيرية للجريمة وهذا لا يعد شروعًا.

  • ويقول جارو في كتابه الجزء الخامس بند (1909) صحيفة (231) طبعة خامسة في بيان الفارق بين الشروع والأفعال التحضيرية:
    1- مما لا خلاف فيه أن تدبير سم لشخص – وتجهيز السم وتسليمه إلى الشخص المكلف بتقديمه كل ذلك ليس إلا أعمالاً تحضيرية لجريمة التسميم لأنها تسبق تنفيذ الجريمة ولا يعتبر بدءًا في تنفيذها وعلى ذلك فكل هذه الأعمال غير معاقب عليها كشروع.
    2- ويتساءل عن خلط السم في شراب أو طعام الشخص المراد سمه هلا يكون على الأقل أول عمل في تنفيذ جريمة التسميم؟
  • يقول جارو، ولا هذا، فإنه لكي يكون خلط السم بالطعام أو الشراب أكثر من عمل تحضيري ولكي يكون مبدءًا في تنفيذ جريمة التسميم يجب أن يقدم الطعام أو على الأصل يوضع تحت تصرف الفريسة. أما مجرد وضع السم في الطعام فأشبه ما يكون بحشو السلاح المراد القتل به.
    3- ثم قال بعد ذلك بعد شرح طويل، ولكن إذا خلط السم في الطعام أو الشراب الذي سيتناوله المجني عليه ووضع أو ترك الطعام أو الشراب تحت تصرفه، يعتبر بدءًا في تنفيذ الجريمة.
    فالجريمة تتم في نظر القانون الفرنسي بابتلاع الفريسة للمواد السامة، ولكنها تعتبر شروعًا فقط عند ترك هذه المواد تحت تصرفه.

24- خامسًا:
( أ ) أما بالنسبة لجريمة الحريق فمن المتفق عليه أن شراء المواد الملتهبة أو أعدادها أو حيازتها يعد عملاً تحضيريًا فقط، وكذلك حملها إلى مكان ارتكاب الجريمة (راجع جارسون فقرة (19) تحت مادة (434) وأحمد بك أمين ص (399)).
(ب) وقد قالت محكمة النقض والإبرام الفرنسية في حكم لها بأن الشخص الذي أعد كل شيء ورتبه بحيث أصبح من المتعين اشتعال النار في وقت معين أما من تلقاء نفسها أو بتداخل برئ من يد أجنبية لا يقل إجرامًا عن الذي يشعل بنفسه ومباشرة النار (في القضية كان الشخص قد فتح مدخنة الفرن ووضع فيها حزمة من القش بطريقة من المؤكد معها أنه بمجرد ما يوقد الفرن تشتعل النار).
وقالت محكمة النقض فوق ذلك أن ما بقي من الاحتمالات أو الأمور غير المحققة أصبح بعيدًا عن سلطان من دبر الحريق وإرادته لأنه لم يبق في يده لضمان إتمام الجريمة وجعلها مختومة لا مفر من وقوعها من عمل آخر ليعمله – (بند (20) تعليقات جارسون على المادة (434)).

فهذا الحكم يلقى كثيرًا من النور على مسألة الأعمال المادية التي تكون الشروع
ويرى أحمد بك أمين في كتابه سالف الذكر ص (399) أنه مما لا نزاع فيه أن إشعال الكبريت بقصد الإحراق يعتبر بدءًا في التنفيذ فإذا وضع الكبريت الملتهب في الشيء المراد إحراقه ثم قبض على الجاني مباشرةً عُدَّ فعله شروعًا إذا كانت النار لم تلتهب بعد.
وظاهر من هذا أنه يشترط لتكوين جريمة الشروع تداخلاً جديدًا من الجاني للإشعال.

فالمستخلص مما مر بيانه أن مجرد وضع القنبلة تحت شريط السكة الحديد مهما احتاج إلى جهد ووقت وحرص لا يعد عملاً من أعمال التنفيذ إذ أنه رغم وضعها يجوز للجاني أن يندم ويتردد ولا يرتكب الجرم، وما دام هناك مجال للعدول عن الفعل فلا شروع، ولا يعتبر من اشترك في هذه الأعمال التحضيرية في ذاتها فاعلاً أصليًا في جريمة قتل أو الشروع فيه لأنه لم يشترك في أي عمل مادي من أعمال التنفيذ بل في عمل تحضيري يجعله شريكًا لا فاعلًا.

(محاماة نت)
إغلاق