دراسات قانونية
القانون ونظرية الخطاب (بحث قانوني)
بحث قانوني متميز عن القانون ونظرية الخطاب
يورجن هابرماز
هناك شىء معقول فى أن يكتشف المؤلف ما قاله فى نص ما من خلال ردود أفعال قراءة أولاً. وهو يغدو فى هذه العملية واعياً أيضاً بما قصد أن يقول، حتى أنه يغتنم الفرصة حين تسنح له ليعبر بشكل أشد وضوحاً عما أراد أن يفصح عنه. وإننى لأجد نفسى فى هذا الموضع بعد عام بالكاد من ظهور كتابى ” بين الوقائع والقواعد ” ـ وبعد قراءة مجموعة من المراجعات النقدية الذكية، المتعاطفة أساساً، والتى كانت فى كل الأحوال مثقفة لى بالفعل. من المؤكد أن المفسر يتمتع بميزة فهم نص بشكل أفضل من المؤلف ذاته، ولكن قد يُسمح للمؤلف بمناسبة إعادة طباعة مؤلفة أن يقوم بدور المفسر ويحاول أن يعيد باختصار الفكرة الجوهرية التى تهيمن على كتابة كما يراها. فضلاً عن أن هذا يتيح له فى نفس الوقت أن يبدد بعض الاعتراضات التى أثيرت.
– 1 –
يتشكل القانون الحديث من نظام من القواعد الإلزامية الوضعية التى ـ يُدعى أنها ـ تضمن الحرية. وتتلازم الخصائص الشكلية للإكراه والوضعية مع دعوى الشرعية: ترتبط القواعد التى يظاهرها التهديد بالإكراه من قبل الدولة التى تصدر عن القرارات المتغيرة لمشرع سياسى بتوقُع أن تضمن هذه القواعد استقلال كل الأشخاص القانونية بشكل متساو. ويتداخل توقع الشرعية هذا مع وقائعية facticity سن القانون وإنفاذه. وتنعكس هذه الرابطة بدورها فى الطابع المتضارب للصلاحية القانونية. حيث يعرض القانون الحديث وجوهاً متعددة للمخاطبين به. فهو يترك لهم حرية اختيار مقاربة من بين اثنتين بإمكانهم أن يتخذوها إزاء القانون وفقما أرادوا. فيمكن لهم إما أن يعتبروا القواعد القانونية أوامر Commands فحسب، بمعنى أنها قيود فعلية تحد من أطر حركتهم الشخصية، فيتبنوا مقاربة إستراتيجية بشأن حساب النتائج المترتبة على انتهاك محتمل للقاعدة Rule، أو يمكن لهم أن يتخذوا موقفاً انجازياً Performative، حيث ينظرون للقواعد بوصفها مبادئ صالحة وينصاعوا لها ” بدافع احترام القانون “. تتوفر صلاحية للقاعدة القانونية حين تضمن الدولة أمرين فى ذات الوقت: أن تؤمن الدولة من ناحية قدراً معقولاً من الانصياع لظاهرة العقوبات، إن كان ذلك ضرورياً، ومن ناحية أخرى، أن تضمن الشروط المسبقة المؤسسية للأصل الشرعى للقاعدة ذاتها، حتى يكون من الممكن دائماً على الأقل أن يتم الانصياع للقانون بدافع الاحترام له.
فما الذى يؤسس شرعية القواعد التى يمكن أن يغيرها المشرع السياسى فى أى وقت؟ يغدو هذا السؤال خطيراً بصفة خاصة فى المجتمعات التعددية التى تحللت فيها النظرات الشاملة للعالم، فضلاً عن الأخلاق الملزمة جماعياً، تلك المجتمعات التى لا تقدم فيها أخلاقية الضمير القائمة ما بعد التقليدية بديلا للقانون الطبيعى الذى كان مؤسسا ذات مرة فى الدين أو الميتافيزيقا. يشكل الإجراء الديمقراطى لإنتاج القانون بوضوح المصدر الوحيد ما بعد الميتافيزيقى للشرعية. ولكن ما الذى يضفى على هذا الإجراء قوته الشرعية؟ تجيب نظرية الخطاب على هذا السؤال بإجابة بسيطة قد تبدو للوهلة الأولى غير وافية بالغرض: يجعل الإجراء الديمقراطى من الممكن تداول الموضوعات والإسهامات، المعلومات والأسباب بحرية، فهو يؤمن طابعاً استطرادياً Discursive لتكوين الإرادة السياسية، ويؤسس من ثم افتراض القابلية للخطأ الذى يتولد عن الإجراء الدقيق، فيغدو من الممكن جعله معقولاً بهذه الدرجة أو تلك. يقدم اعتباران الأسس البديهية لصالح مقاربة نظرية للخطاب.
ينهض القانون من وجهة نظر النظرية الاجتماعية مع النظام السياسى المؤسس دستورياً بوظائف تكاملية من الناحية الاجتماعية، حيث يقدم القانون شبكة أمان ضد الاخفاقات فى تحقيق التكامل الاجتماعى. فهو يشتغل كنوع من ” حزام إرسال “، يلتقط البنى المألوفة للاعتراف المتبادل المعتاد من تفاعلات المواجهة، وينقل هذه، فى شكل مجرد وإن يكن ملزماً، إلى التفاعلات المجهولة المتوسطة نسقيا بين الغرباء. ينشأ التضامن وهو المصدر الثالث للتكامل الاجتماعى إضافة إلى النقود والسلطة الإدارية ـ من القانون بشكل غير مباشر فحسب، بالطبع: إذ يجعل التوقعات السلوكية مستقرة يؤمن القانون بالمثل علاقات متماثلة تتسم بالاعتراف المتبادل بين الحملة المجردين للحقوق الفردية. وتفسر التشابهات البنوية بين القانون والفعل الاتصالى Communicative action لم تلعب الخطابات، ومن ثم الأشكال الانعكاسية للفعل الاتصالى دور تكوينياً فى إنتاج (وتطبيق) القواعد القانونية.
يمكن للنظام القانونى الحديث من وجهة نظر النظرية القانونية، أن يستمد شرعيته من فكرة حرية الإرادة فحسب: لابد وأن يكون المواطنين قادرين دائماً على فهم أنفسهم أيضا كمؤلفين للقانون الذين يخضعون له بوصفهم مخاطبين به. لقد فسرت النظريات التعاقدية استقلال المواطنين من خلال مقولات قانون العقود البورجوازى، أى بوصفه الخيار الحر الخاص للأطراف التى انتهت إلى التعاقد. ولكن لم يكن من الممكن حل المشكلة الهوبزية ( نسبة إلى هوبز ) بشأن تأسيس النظام الاجتماعى بشكل مُرضٍ بلغة التجمع الاتفاقى للخيارات العقلانية التى يتخذها الفاعلون المستقلون. وقد أدى هذا بكانط Kant إلى أن يزود الأطراف وهم فى حالة الطبيعة بقدرات أخلاقية حقيقية، كما سيفعل راولس Rawls فيما بعد مع أطراف فى الوضع الأصلى Original position اليوم، وفى أعقاب المنعطف اللسانى [ التحول اللغوى ] تقدم نظرية الخطاب تفسيراً لهذا الفهم الأخلاقى غير الأنطولوجي Deontological للأخلاقية. وعلى ذلك، فإن نموذجاً استطرادياً Discursive أو تداولياً Deliberative يحل محل نموذج العقد: لا تشكل الجماعة القانونية ذاتها بواسطة العقد الاجتماعى وإنما على أساس اتفاق منجز استطرادياً Discursively.
ليست القطيعة مع تقليد القانون الطبيعى العقلانى كاملة، على أية حال، طالما بقى التدليل الأخلاقى نموذجاً للخطاب المؤسس للدستور. عندئذ يتوافق استقلال المواطنين كما هو الحال عند كانط مع الإرادة الحرة للأشخاص الأخلاقيين، والأخلاقية أو يستمر القانون الطبيعى فى صنع جوهر القانون الوضعى. ( ) لا يزال هذا النموذج مؤسساً على صورة القانون الطبيعى بشأن تدرجية القوانين، ويظل القانون الوضعى خاضعاً للقانون الأخلاقى ومكيفاً معه. فى الواقع، فإن العلاقة بين الأخلاق والقانون، على أية حال، هى أكثر تعقيداً بكثير.
يهدف الجدال الذى طورته فى كتابى ( بين الوقائع والقواعد ) (*) Faktizität und Geltung بصفة أساسية لتبيان أن هناك علاقة داخلية أو مفهومية، وليس ببساطة ارتباطاً تاريخياً عرضياً بين حكم القانون والديمقراطية. وكما بينت فى الفصل الأخير، فإن هذه العلاقة واضحة أيضاً فى الجدل Dialictic بين المساواة الواقعية والمساواة القانونية، وقد استدعى هذا الجدل بادئ ذى بدء نموذج الرفاة الاجتماعى رداً على الفهم الليبرالى للقانون الذى يوصى اليوم بفهم ذاتى إجرائى للديمقراطية الدستورية. تحمل العملية الديمقراطية كامل عبء إضفاء الشرعية. ويتعين عليها أن تؤمن بالمثل الاستقلال الذاتى الخاص والعام للذوات القانونية. لأنه لا يمكن حتى أن تصاغ الحقوق الفردية الخاصة بشكل ملائم، فضلاً عن أن تطبق سياسياً، إن لم يكن هؤلاء الذين تأثروا بها قد انخرطوا فى مناقشات عامة لتوضيح أية ملامح هى التى لها صلة وثيقة بمعالجة القضايا النموذجية، وهل تستدعى أن تعالج بشكل متماثل أم مختلف، وعندئذ توظف القدرة الاتصالية مع مراعاة حاجاتهم التفسيرية الجديدة. وهكذا يميز الفهم الإجرائى للقانون الافتراضات المسبقة الاتصالية والشروط الإجرائية للرأى الديمقراطى وتشكل الإرادة بوصفها المصدر الوحيد للشرعية. تتعارض وجهة النظر الإجرائية مع الفكرة الأفلاطونية القائلة بأن القانون يمكن أن يستمد شرعيته من قانون أعلى، وكذلك مع الإنكار التجريبى لأى شرعية، وراء عرضية القرارات التشريعية. لتبيان العلاقة الداخلية بين حكم القانون والديمقراطية، فلابد، عندئذ، أن نفسر لم لا يمكن للقانون الوضعى ببساطة أن يخضع للأخلاق ( القسم الثانى ) وأن نبين كيف تفترض السيادة الشعبية وحقوق الإنسان مسبقاً كل منهما الآخر بشكل متبادل ( القسم الثالث ) وأن نظهر أن مبدأ الديمقراطية له جذوره باستقلال عن المبدأ الأخلاقى ( القسم الرابع ).
-2-
1- من المؤكد أن كلاً من الأخلاق والقانون يخدمان فى تنظيم النزاعات بين الأشخاص Interpersonal، ويفترض بهما كليهما أن يحميا الاستقلال الذاتى لكل المشاركين والأشخاص المعنيين بشكل متساوٍ، وما يثير الاهتمام على أية حال، هو أن وضعية القانون تجبر الاستقلال الذاتى على الانشقاق/ أو الانقسام Split up بطريقة لا مثيل لها فى الأخلاق. إن حرية الإرادة الأخلاقية هى مفهوم أحادى يعنى أن كل شخص يطيع فقط تلك القواعد التى يعتبرها ملزمة وفقاً لحكمه الذاتى غير المتحيز. وخلافاً لذلك تظهر حرية إرادة المواطنين فى الشكل المزدوج للاستقلال الذاتى الخاص والعام. لا يتطابق الاستقلال الذاتى القانونى مع الحرية بالمعنى الأخلاقى فهو يتضمن لحظتين أخريين وهما الخيار الحر لفاعلين مقررين عقلانياً، وكذلك الخيار الوجودى لأشخاص مقررين أخلاقياً.
إن للحقوق الفردية فى المحل الأول طابع تحرير الأشخاص القانونية من القواعد الأخلاقية بطريقة محددة بعناية مانحة الفاعلين إطاراً للخيار الشرعى الحر. ويدعم القانون الحديث ككل بهذه الحقوق مبدأ أن ما هو غير محظور بصراحة مسموح به. بينما يوجد فى الأخلاق تساوق كامن بين الحقوق والواجبات، بينما تنشأ الواجبات القانونية كنتيجة فقط لحماية الحقوق وهى السابقة بالمعنى المفهومى. كيفما كان الأمر، لا يعنى الاستقلال الذاتى ببساطة الخيار الحر داخل حدود آمنة قانونياً، فهو يشكل أيضاً غطاء دفاعياً لحرية الفرد الأخلاقية فى أن يواصل مشروع حياته الوجودى الخاص، وذلك حسب كلمات راولس Rawls، ومفهومه الراهن عن الخير( ).
هناك بعد أخلاقى يظهر أولاً فى الاستقلال الذاتى الذى يعطى حق الاقتراع للمواطنين بوصفهم مساوين للمشرعين، على أن يمارسوا ذلك على الشيوع لكى يتمتع كل واحد منهم بشكل متساو بالحريات الفردية. بخلاف الاستقلال الذاتى الأخلاقى وهو المكافئ لأهلية الالتزام الذاتى العقلانى، يتضمن الاستقلال الذاتى للشخص القانونى ثلاث مكونات مختلفة ـ إضافة إلى الاستقلال الذاتى للمواطنين الذى يمارس جماعياً، هناك الأهلية للاختيار العقلانى، والتحقق الذاتى الأخلاقى.
تنقسم ممارسة الاستقلال الذاتى القانونى إلى الاستخدام العام للحريات الاتصالية والاستعمال الخاص للحريات الفردية. وقد جرى تفسير هذا التمايز بواسطة وضعية القانون التى تنبثق من القرارات الملزمة جماعياً التي تصدر عن أجهزة سن القانون (وتطبيق القانون). وعلى ذلك فهو يتطلب من الناحية المفهومية على الأقل فصلاً مؤقتاً للأدوار بين المؤلفين الذين يسنون ( ويطبقون ) القانون ذى الصلاحية والمخاطبين الذين يخضعون للقانون. على أية حال، إذا تضمن الاستقلال الذاتى للشخص القانونى أكثر من استقلال ذاتى بالمعنى الأخلاقى، عندئذ لا يمكن أن ينظر للقانون الوضعى كحالة خاصة من الأخلاقية.
2- تعوق أسباب أخرى أيضاً المفهوم التدرجى عن القانونين الطبيعى والوضعى. فلكل من القواعد القانونية، والأخلاقية مجموعات مرجعية مختلفة، فضلاً عن أن كل منها ينظم أموراً مختلفة. يطوق العالم الأخلاقى وهو غير المحدود فى الفضاء الاجتماعى والزمان التاريخى، كل الأشخاص الطبيعيين فى تعقد حياتهم التاريخية. وهو يشير لهذا المدى للحماية الأخلاقية لكمال أشخاص مفردين تماماً. بخلاف ذلك، فإن جماعة قانونية محلية زماناً ومكاناً تحمى تكامل أعضاءها فقط إلى المدى الذى يكتسبون فيه وضعاً يكونون فيه حملة الحقوق الفردية.
يختلف كل من الأخلاق والقانون أيضاً فى نطاقيهما، فالأمور التى تحتاج، وتكون جديرة بالتنظيم القانونى هى أضيق وأوسع فى مداها فى نفس الوقت من الاهتمامات الأخلاقية ذات الصلة: إنها أضيق لأن للتنظيم القانونى سبيل فقط إلى الخارجى، أى السلوك الجبرى، وهى أوسع بقدر ما يقدم القانون، كوسيلة لتنظيم الحكم السياسى، أهدافاً جماعية، أو برامج لها شكل ملزم، وعلى ذلك ليست مستنفدة فى تنظيم النزاعات ما بين الأشخاص. للسياسات والبرامج القانونية وزن أخلاقى بدرجة أكبر أو أقل من حالة إلى أخرى، لأن الأمور التى تحتاج إلى تنظيم قانونى لا تثير بالتأكيد أسئلة أخلاقية فقط، وإنما تتضمن أيضاً مظاهر أخلاقية وبراجماتية عملية وتجريبية، وكذلك موضوعات معنية بالتوازن العادل بين المصالح القابلة للمساومة. وهكذا يعتمد تكوين رأى وإرادة الهيئة التشريعية على شبكة معقدة من الخطابات والمساومات ـ وليس ببساطة على الخطابات الأخلاقية. وعلى خلاف دعوى الصلاحية المعيارية المتمركزة بوضوح حول الأوامر الأخلاقية، تؤيد دعوى شرعية القواعد القانونية ـ مثل الممارسة الشرعية للتبرير ذاته ـ أسباباً ذات أنماط مختلفة( ).
إجمالاً، يمكن لنا أن نقول أن للقانون بنية أكثر تعقيداً من الأخلاق لأنه (1) يحرر ويحد معيارياً فى وقت واحد حرية الفرد فى الحركة ( بتكيفه لمصالح وقيم الفرد الخاصة)، و (2) يجسد إطاراً جماعياً للأهداف وتكون نظمه غاية فى العينية فلا تقبل التبرير بواسطة الاعتبارات الأخلاقية وحدها. كبديل لإخضاع القانون الطبيعى للأخلاق، فإنه لمن المعقول النظر إلى القانون الوضعى القابل للتفعيل كمكمل وظيفى للأخلاق ؛ إنه يعفى القضاة والفاعلين من المتطلبات الإدراكية والتحريكية ـ إذا راعينا التقسيم الأخلاقى للعمل المطلوب غالباً لإنجاز الواجبات الوضعية ـ والتنظيمية للأخلاق المتمركزة على ضمير الفرد. يعوض القانون، إن جاز القول عن الضعف الوظيفى لأخلاق، غالباً ما تنتهى، من منظور الملاحظ، لنتائج غير مستقرة إدراكياً ودافعياً. لا تتضمن هذه العلاقة التكميلية بأى حال معنى أن القانون يتمتع بحياد أخلاقى. حقاً، تدخل الأسباب الأخلاقية إلى القانون عن طريق العملية التشريعية حتى وإن لم تكن الاعتبارات الأخلاقية اختيارية تماماً لإضفاء الشرعية على البرامج القانونية، والسياسية، والقانون، فلا يزال من المفترض أن يكون منسجماً مع الأخلاق على أساس تبرير مشترك ما بعد ميتافيزيقى( ).
إن ثنائية القانون وانقسامه إلى قانون طبيعى وقانون وضعى توحى بفكرة أن النظم القانونية التاريخية يفترض أن تنسخ نظاماً سابقاً مفهوماً. يتوجه المفهوم النظرى لخطاب القانون بين شركى الوضعية القانونية والقانون الطبيعى إذا كانت شرعية القانون الوضعى تُتصور كعقلانية إجرائية لمن تتبعها وردها فى النهاية إلى ترتيب إتصالى ملاءم حتى تتشكل إرادة المشرع السياسية العقلانية ( وكذلك لتطبيق القانون)، عندئذ لا تحتاج لحظة الصلاحية القانونية المنيعة إلى أن تتلاشى فى نزعة قراراتية عمياء Decisionism ولا أن تحفظ من دوامة الزمانية بواسطة احتواء أخلاقى. يمكن إذن إعادة صياغة السؤال الأساسى للقانون الطبيعى الحديث تحت مقدمات نظرية جديدة للخطاب: ما هى الحقوق التى يتعين أن يمنحها المواطنون كل للآخر إذا قرروا أن يشكلوا أنفسهم فى جمعية طوعية للمتحدين قانوناً وأن ينظموا معيشتهم معاً بشكل شرعى بواسطة القانون الوضعى.
يحتوى المعنى الإنجازى لهذه الممارسة المؤسسة للدستور بالفعل بشكل جنيني In Nuce على كامل مضمون الديمقراطية الدستورية. ويمكن تطوير نظام الحقوق ومبادئ الدولة الدستورية مما يعنيه ويسفر عنه تنفيذ الممارسة الذى أدخل مع أول فعل للتشكل الذاتى لمثل هذه الجماعة القانونية.
إذا كان علينا أن ننهض بإعادة بناء القانون بدون دعم من قانون أعلى أو سابق يتمتع بالجلال الأخلاقى، عندئذ تؤدى الاعتبارات السابقة إلى مشكلتين: يثير القسم الثالث مسألة كيف يمكن أن نتصور الضمان المتساوى لكل من الاستقلال الذاتى الخاص والعام، إذا موقعنا حقوق الحرية، منظوراً إليها بوصفها حقوقاُ إنسانية، فى نفس بعد القانون الوضعى بوصفه حقوقاً سياسية، ويواجهنا الفصل الرابع بمسألة كيف يمكن لنا أن نفهم معيار شرعية القانون، ومبدأ الخطاب، إذا كانت تكميلية القانون والأخلاق تمنعنا من مطابقتها مع المبدأ الأخلاقى.
-3-
يمكن أن نفسر العلاقة الداخلية بين حكم القانون والديمقراطية على المستوى المفهومى بحقيقة أن الحريات الفردية لذوات القانون الخاص والاستقلال الذاتى العام لمواطنين يتمتعون بحق الاقتراع يجعل كل منهما الآخر ممكناً بشكل متبادل. تعرض هذه العلاقة بشكل نموذجى فى الفلسفة السياسية بطريقة يضمن فيها فرع الاستقلال الذاتى لأعضاء المجتمع بواسطة حقوق الإنسان ( الحقوق الكلاسيكية حول حق الإنسان فى الحياة والحرية والملكية ) وحكم قانون غير مميز، بينما يستمد الاستقلال الذاتى السياسى للمواطنين المتمتعين بحق الاقتراع من مبدأ السيادة الشعبية ويتحقق فى التشريع الذاتى الديمقراطى، فى التراث. على أية حال، فإن العلاقة بين هذين العنصرين مطبوعة بطابع منافسة لا حل لها. لقد استحضرت الليبرالية التى ترجع إلى عهد لوك، على الأقل منذ القرن التاسع عشر خطر الأغلبيات الاستبدادية وافترضت أولوية حقوق الإنسان فى العلاقة بالسيادة الشعبية، بينما منحت أيضاً النزعة الجمهورية المدنية التى ترجع إلى أرسطو الأولوية للحرية السياسية للقدماء على الحرية غير السياسية للحديثين. لقد فقد حتى كل من روسو وكانط الحدس الذى أرادا أن يمفصلاه. يتعين ألا تفرض حقوق الإنسان، التى يلخصها عند كانط الحق الأصلى، فى حريات فردية متساوية، على المشرع ذى السيادة كقيد خارجى ولا أن تجعل أداة كضرورة وظيفية للأغراض التشريعية فحسب.
قد تكون حقوق الإنسان مبررة تماماً بوصفها حقوقاُ أخلاقية، مع ذلك بمجرد أن ننظر إليها بوصفها عناصر فى القانون الوضعى، فمن الواضح أنها لا يمكن أن تفرض بشكل أبوى على المشرع ذى السيادة. لن يكون بمقدور المخاطبين بالقانون أن يفهموا أنفسهم بوصفهم مؤلفيه إذا كان على المشرع أن يكتشف حقوق الإنسان بفرض حقائق أخلاقية معطاة مسبقاً ليست فى حاجة إلا إلى أن تقنن كقانون وضعى. وفى نفس الوقت، بغض النظر عن الاستقلال الذاتى لهذا المشرع فلا ينبغى أن يكون فى مكنته تبنى أى شىء قد ينتهك حقوق الإنسان. لحل هذه المعضلة يتبين الآن أنه كان من المميزات أننا صورنا القانون كنوع فريد من الوسيط الذى يتميز عن الأخلاق بخصائصه الشكلية.
تتطلب الممارسة المؤسسة للدستور أكثر من مجرد مبدأ خطاب يستطيع المواطنون بواسطته أن يحكموا ما إذا كان القانون الذى يسنوه شرعياً. فضلاً عن أن عين أشكال الاتصال التى كان يفترض أن تمكن من تشكيل إرادة سياسية عقلانية بواسطة الخطاب تحتاج هى ذاتها إلى تمأسس. يتحول مبدأ الخطاب عند اتخاذه مظهراً قانونياً إلى مبدأ الديمقراطية. لهذا الغرض، على أية حال، يجب أن يكون التقنين الشرعى بوصفه كذلك متاحاً، ويتطلب تأسيس مثل هذا التقنين خلق حالة/ وضع Status أشخاصا قانونية ممكنة، أى، أشخاصا ينتمون إلى جمعية من حملة الحقوق الفردية النافذة. بدون ضمان الاستقلال الذاتى هذا، لا يمكن لشىء مثل القانون الوضعى أن يوجد أبداً. وعلى ذلك، فبدون الحقوق الكلاسيكية للحرية التى تؤمن الاستقلال الذاتى للأشخاص القانونية فما من وسيط أيضاً حتى لمأسسة هذه الشروط قانوناً التى يمكن للمواطنين فى ظلها أن يستفيدوا أولاً من استقلالهم المدنى. ليست الذوات التى تريد أن تنظم حياتها معا على نحو شرعى بواسطة القانون الوضعى أحراراً بعد فى أن يختاروا الوسيط الذى يمكن لهم به أن يحققوا استقلالهم الذاتى الخاص. إنهم يسهمون فى إنتاج القانون كذوات قانونية فحسب، فلم يعد فى سلطتهم أن يقرروا أية لغة سوف يختارون فى هذا المسعى. وعلى ذلك، تتوقف العلاقة الداخلية المرغوبة بين “حقوق الإنسان”، والسيادة الشعبية على حقيقة أنه لا يمكن تحقيق مطلب تشريع ذاتى ممأسس قانونياً إلا بمساعدة تقنين يتضمن فى آن معاً ضمان حريات فردية نافذة. وفوق ذلك، فإن التوزيع المتساوى لهذه الحريات ( وقيمتها العادلة ) يمكن بدوره أن يلبى بواسطة إجراء ديمقراطى فحسب يؤصل الافتراض بأن نتاج الرأى السياسى ـ وتكوين الإرادة معقولة. يبين هذا كيف أن الاستقلال الذاتى الخاص والعام يفترض كل منهما الآخر مسبقاً وبشكل تبادلى حتى أنه لا يمكن لأى منهما أن يدعى الأولوية على الآخر.
إن نقد الليبرالية الذى تستتبعه هذه الفكرة قد استنهض همم المدافعين عن أولوية حقوق الإنسان. وهكذا فإن أوتفريد هوفه Otffried Höffe، على سبيل المثال، قد اعترض على تنزيل حقوق الإنسان ( التى أراد أن يؤسس صلاحيتها الشاملة أنثروبولوجيا) إلى مجرد حقوق قانونية أساسية( ).
إذا أراد المرء أن يتحدث عن القانون بمعنى القانون الوضعى وحده، ففى الحقيقة علينا أن نميز عندئذ بين حقوق الإنسان كقواعد فعل مبررة أخلاقياً وحقوق الإنسان كقواعد دستورية صالحة وضعياً. مثل هذه الحقوق الدستورية الأساسية لها وضع مختلف عن القواعد الأخلاقية وهى قواعد قد يكون لها نفس المعنى. تكتسب الحقوق الدستورية بوصفها قواعد مسنونة نافذة صلاحية ضمن جماعة قانونية معينة. ولكن لا يناقض هذا الوضع المعنى الشامل للحريات الكلاسيكية الذى يشمل كل الأشخاص بوصفهم كذلك وليس فقط كل أعضاء الجماعة القانونية بل إنها تمتد حتى بوصفها حقوقاً قانونية أساسية لكل الأشخاص إلى المدى الذى يقيم فيه الأخيرون ضمن حدود النظام القانونى: إلى هذا المدى، يتمتع كل شخص بحماية الدستور فى جمهورية ألمانيا الاتحادية، على سبيل المثال، فإن الوضع القانونى للأجانب، والأجانب المرحلون، والأشخاص الذين لا دولة لهم قد قارب على الأقل وضع المواطنين بسبب معنى حقوق الإنسان لهذه الحقوق الأساسية ؛ وتتمتع هذه المجموعات بنفس الحماية القانونية، طبقاً لنص القانون، وعليها نفس الواجبات ولها نفس الحقوق( ).
التعارض من ناحية بين مضمون حقوق الإنسان فى الحريات الكلاسيكية، ومن ناحية أخرى، شكلها الذى يتخذ هيئة القانون الوضعى الذى يقصرها بصفة أساسية على دولة قومية، هو فقط ما يجعل المرء واعياً أن ” نظام الحقوق ” المؤسس سياقياً يشير إلى ما وراء الدولة الدستورية بمفردها تجاه عولمة حقوق الإنسان. وكما أدرك ذلك كانط تتطلب الحقوق الأساسية بسبب مضمونها الدلالى مجتمعاً كوسموبوليتانيا دولياً يدار قانونياً. أن تصدر الحقوق النافذة من إعلان الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، فليس كافياً ببساطة أن تكون هناك محاكم دولية فهذه [ المحاكم ] سوف تكون قادرة أولاً على أن تشتغل بشكل ملائم فقط عندما ينتهى عصر الدولة الفردية ذات السيادة من خلال أمم متحدة لا تصدر قرارات فقط وإنما قادرة على التصرف وفرض قراراتها( ).
عند الدفاع عن أولوية حقوق الإنسان، يتبع الليبراليون الحدس المعقول بأنه يتعين أن تُحمى الأشخاص القانونية من إساءة استخدام احتكار الدولة للعنف [Gewalt]. وهكذا يعتقد تشارلز لارمور Charles larmore أن هناك على الأقل حق فردى واحد ـ وهو المؤسس أخلاقياً ـ عليه أن يسبق ويقيد تكوين الإرادة الديمقراطى: “لا ينبغى أن يُكره أحد بالقوة على أن يخضع لقواعد لا يمكن إظهار صلاحيتها للعقل”( )، فى قراءة غير ضارة هناك حجة تفترض أن الأشخاص الذين يريدون أن يشكلوا أنفسهم كجماعة قانونية قد قبلوا eo ipso مفهوماً للقانون الوضعى يتضمن توقع الشرعية. الحاجة إلى التبرير فى هذه الحالة هى واحدة من التخمينات الدلالية لهذا المفهوم عن القانون, وهو من ثم جزء من ممارسة تأسيس الدستور بوصفها كذلك. فى قراءة أقوى، على أية حال، تعبر الحجة عن الاعتقاد النوعى بأن حكم القانون غير الشخصى جوهرى بنفس قدر عنف الدولة (الليفاثان) الذى يفترض أن يقيده.
كيفما كان الأمر، فإن هذه الفكرة الليبرالية، التى تفسرها التجارب التاريخية الواضحة لا تعدل إزاء الرابطة التكوينية بين القانون والسياسية.( ) إنها تدمج السيادة الشعبية مع احتكار العنف ويفلت منها المعنى الفنى الكامن، وعلى أية حال غير القمعى لسلطة [Macht] إدارية تظهر فى شكل القانون ـ بقدر ما تمارس فيه هذه السلطة داخل إطار القوانين الديمقراطية. وفوق كل شىء يفلت منها المعنى التكوينى الذى يمارسه الاستقلال المدنى ما بين الذوات فى كل جماعة سياسية. وحتى نكون عادلين إزاء حرية الإرادة الديمقراطية وحكم القانون يتطلب ذلك منا إعادة بناء على مرحلتين. واحدة تبدأ بالجمعية الأفقية للمواطنين الذين، يعترف كل واحد منهم بالآخر باعتباره متساوياً، يمنح الواحد منهم الآخر حقوقاً بشكل متبادل. عندئذ فقط نتجه إلى التنظيم الدستورى للسلطة [Gewalt] الذى يفترض مسبقاً بوساطة القانون. ونرى بالانطلاق فى خطوتين أن الحقوق الليبرالية التى تحمى الفرد ضد جهاز الدولة باحتكاره للعنف ليست بأية حال أصولية Originary وإنما تنبثق من تحويل للحريات الليبرالية التى منحت أولاً بشكل متبادل. تكتسب الحقوق الفردية المرتبطة بالتقنين الشرعى بوصفه كذلك بصفة ثانوية فقط المعنى السلبى لتعيين مجال خاص يفترض أن يكون حراً من التدخل الإدارى التعسفى. تظهر الحقوق ضد الدولة فقط بوصفها نتيجة لعملية التمايز التى تغدو فيها جمعية من المتحدين تحكم نفسها ذاتياً فى ظل القانون جمعية منظمة حول دولة. تظهر هذه الحقوق بشكل أصلى يترافق مع المبدأ الدستورى لشرعية الإدارة، وعلى ذلك، ففى البناء المفهومى لنظام الحقوق فليس لها الموقع الجوهرى الذى يعطيه إياها لارمور Larmore لكى يؤسس أولوية حقوق الإنسان.
-4-
لم يعد بمقدور القانون الوضعى أن يستمد شرعيته من قانون أخلاقى ذو مرتبة أعلى، إنما فقط من إجراء يفترض أنه رأى عقلانى ومكون للإرادة. لقد حللت بشكل أكثر تمعنا هذا الإجراء الديمقراطى الذى يضفى سلطة شرعية على سن القانون فى ظل التعددية الاجتماعية والأيديولوجية باستخدام مقاربة نظرية الخطاب( ). عند عمل ذلك، فقد بدأت بمبدأ لا أستطيع أن أبرره هنا، وهو أن القواعد المنظمة وطرائق العمل التى قد تدعى الشرعية هى تلك التى يصادق عليها كل المتأثرين بها بوصفهم مشاركين فى الخطابات العقلانية. يختبر المواطنون فى ضوء مبدأ الخطاب هذا ماهية الحقوق التى يتعين أن يمنحها كل واحد منهم للآخر. يتعين عليهم بوصفهم ذوات قانونية أن يرسخوا هذه الممارسة للتشريع الذاتى فى واسطة القانون ذاته، وعليهم أن يؤسسوا قانوناً تلك الافتراضات الضمنية الاتصالية، وإجراءات الرأى السياسى، وتكوين الإرادة التى يطبق فيها مبدأ الخطاب. وهكذا فإن تأسيس التقنين الشرعى، الذى شُرع فيه بمساعدة الحق العام / الشامل فى حريات فردية متساوية، ينبغى أن يستكمل من خلال حقوق المشاركة والاتصال التى تضمن فرصاً متساوية للاستعمال العام للحريات الاتصالية. يكتسب مبدأ الخطاب بهذه الطريقة الشكل القانونى للمبدأ الديمقراطى( ).
بخلاف ما يبدو أن أونورا أونيل Onora o neil يفترضه هنا فإن الفكرة غير الواقعية بأن قاعدة ما تستحق موافقة عامة لم تستوعب وتحيد حتما بالوقائعية التى تلازم التأسيس القانونى للخطاب العام.( ) يؤكد ألبرشت فيلمر Albrecht Wellmer بصواب أنه: لمفهوم شرعية القانون أيضاً تطبيق ضد واقعى Counter factual. لا يمكن انكار، أنه لمما يكمن داخل منطق المفهوم الحديث للشرعية أن الطبيعة العامة لأى عملية صنع قرار لابد وبقدر الإمكان أن تتحقق فى واقعة فعلية actual fact، أى إلى المدى الذى يُمنح فيه كل المعنيين فى النهاية حقاً متساوياً فى المشاركة فى العمليات الجماعية التى تتشكل بها الإرادة العامة: هذه هى فكرة الديمقراطية. ولكن إذا كان على القوانين الشرعية أن توجد بحيث يكون كل المعنيين المتأثرين بها قادرين على تمريرها/ إصدارها جماعياً، وإذا كان كل هؤلاء المعنيين مبدئياً لهم حق متساو فى المشاركة فى عملية إصدار القرار الجماعية، عندئذ غنى عن القول أن تسوية القضايا المعيارية/ القاعدية بواسطة النقاش العام لابد وأن يلعب دوراً مركزياً فى أى محاولة لتحقيق إمكانية وجود قانون شرعى … وتضمن أن يكون القانون معترفاً به بوصفه شرعياً. تعني المجادلة فى صالح القاعدة القانونية أو نظام من القواعد القانونية فى هذه الحالة محاولة تقديم أسباب تقنع كل الأشخاص الآخرين المعنيين / المتأثرين بها لم ينبغى أن يكون حسنى النية وذوى البصيرة قادرين بالضرورة على أن يعتبروا أنه لفى صالح الجميع بشكل متساو أن تسود تلك القاعدة أو هذه القواعد المجتمع( ).
مما لا ريب فيه، فإن هذا التوتر بين الوقائعية facticity وبين الصلاحية متضمن مسبقاً فى الخطاب الأخلاقى ـ كما هو الحال فى ممارسة المحاججة بصفة عامة، وفى واسطة القانون فهو مجسد ببساطة وشغال.
يريد فيلمر Wellmer، على أية حال، أن يستبقى فكرة المقبولية Acceptability العامة الشاملة لتفسير شرعية القانون وهو لا يمدها على صلاحية القواعد الأخلاقية. وهو يفترض أنه من الخطأ أن تحتفظ أخلاق الخطاب بالرابطة بين الصلاحية المعيارية والخطاب الواقعى الحاضر فى الحالة الخاصة بالصلاحية القانونية للأوامر الأخلاقية. لا يمكن لنا فى هذا السياق أن نشغل أنفسنا بهذا الاعتراض ذاته( ). ولكنه يجذب انتباهنا إلى مشكلة التمييز التى تطرحها فى الحقيقة نظرية خطاب القانون والأخلاق. لأنه بخلاف فيلمر إذا كنا لا ندخل مبدأ الخطاب بشكل حصرى لتفسير مبدأ الديمقراطية، ونوظفه بشكل أكثر عمومية لنشرح معنى التقويم غير المتحيز للقضايا المعيارية من كل نوع، عندئذ نغامر بتعتيم الحدود بين تبرير قواعد الفعل ما بعد التقليدى بصفة عامة وتبرير القواعد الأخلاقية بصفة خاصة. يتعين من وجهة نظرى أن نموقع مبدأ الخطاب على مستوى من التجريد يظل فيه محايداً فى مواجهة التمييز بين القانون والأخلاق. من ناحية، يُفترض أن يكون هناك مضمون معيارى كاف للتقويم غير المتحيز لقواعد الفعل بوصفه كذلك، من ناحية أخرى، فلا ينبغى له أن يتوافق مع المبدأ الأخلاقى، لأنه يتمايز لاحقاً فقط إلى المبدأ الأخلاقى والمبدأ الديمقراطى. وعلى ذلك، فينبغى أن نبين إلى أى مدى لا يستنفد المبدأ الديمقراطى مضمون المبدأ الأخلاقى للخطاب بصدد التعميم (ت). بخلاف ذلك، فإن المبدأ الأخلاقى الذى كان مختفياً فحسب فى مبدأ الخطاب سوف يكون مرة أخرى ـ كما فى القانون الطبيعى ـ المصدر الوحيد للشرعية فى القانون.
من المهم ان نلاحظ أن المفهومين الأساسيين فى الصياغة المقترحة لمبدأ الخطاب (خ) تبقى غير محددة: فقط قواعد الفعل التى يمكن أن يصادق عليها كل من يمكن أن يتأثر بها من الأشخاص بوصفهم مشاركين فى الخطابات العقلانية هى الصالحة. لا تعين هذه الصيغة “قواعد الفعل” المختلفة ( والقضايا المعيارية المتطابقة ) أو الخطابات العقلانية المختلفة ( التى تعتمد عليها المساومة، عرضاً، إلى المدى الذى لابد وأن تكون فى إجراءاتها مبررة من الناحية السياقية الاستدلالية. يقدم هذا مدى كافياً، على أية حال، لاشتقاق المبادئ الديمقراطية والأخلاقية بتعيين مبدأ الخطاب بشكل دقيق. بينما يطبق المبدأ الديمقراطى على القواعد التى تعرض الخصائص الشكلية للقواعد القانونية فقط، يدل المبدأ الأخلاقى الذى تكون وفقا له القواعد الصالحة فى خدمة كل الأشخاص بشكل متساو.( ) يدل على قيد، على نوع من الخطاب تكون فيه المبادئ الأخلاقية وحدها هى الواضحة. لا يحدد المبدأ الأخلاقى نمط القاعدة، بينما لا يعين المبدأ الديمقراطى أشكال التدليل/ المحاجة (والمساومة ). هذا يفسر اللاتماثل الثنائى، بينما بتخصيص الخطابات الأخلاقية فى نمط مفرد من الأسباب، والقواعد الأخلاقية مزودة بنمط موافق من الصلاحية المعيارية المركزة بحده، فإن شرعية القواعد القانونية يدعمها طيف عريض من الأسباب بما فيها الأسباب الأخلاقية. ثانياً، بينما يخدم المبدأ الأخلاقى، كقاعدة للبرهان، بشكل حصرى فى تكوين الأحكام فإن مبدأ الديمقراطية لا يبنين المعرفة وحدها، وإنما الممارسة المؤسسة للمواطنين، فى نفس الوقت يلاحظ أنه إذا ما حددنا العلاقة بين الأخلاق والقانون بهذه الطريقة وكففنا عن استخدام اللصقة الشائعة ” الإنصاف ” لمطابقة دعوى شرعية القواعد القانونية مع إدعاء العدالة الأخلاقية( )، عندئذ يمكن لنا أن نترك السؤال اللاحق مفتوحاً أى عما إذا كانت هناك أسس أخلاقية لدخول النظام القانونى على الإطلاق ـ المشكلة التى طرحها القانون الطبيعى العقلانى بوصفها إنتقالاً من حالة الطبيعة إلى المجتمع المدنى. القانون الوضعى الذى نجده فى الحداثة نتاجا لعملية تعليم مجتمعية له خصائص شكلية زكته بوصفه أداة ملاءمة لجعل التوقعات السلوكية مستقرة ؛ ولا يبدو أن هناك أى مكافئ وظيفى لهذا فى المجتمعات المعقدة. تطرح الفلسفة على نفسها عملاً غير ضرورى عندما تسعى إلى إظهار أنه ليس ببساطة مما يوصى به وظيفياً، وإنما أيضاً مطلوب أخلاقياً أن تنظم حياتنا العامة بواسطة القانون الوضعى، أى أن نشكل مجتمعات قانونية. يتعين أن يرضى الفيلسوف بالاستبصار بأنه فى المجتمعات المعقدة فإن القانون هو الوسيط الوحيد الذى يمكن التعويل عليه فى تأسيس علاقات من الاحترام المتبادل، الملزمة أخلاقياً، حتى بين الغرباء.
-5-
ليس القانون نظاماً نرجسياً منغلقاً على ذاته، وإنما نظام يتغذى على [ الحياة الأخلاقية ] Sittlichkeit الديمقراطية لمواطنين محررين ولثقافة سياسية ليبرالية تلتقى بها فى منتصف الطريق( ). يغدو هذا واضحاً حينما يحاول المرء أن يفسر الواقعة المتناقضة بأن القانون المشروع يمكن أن ينبثق من مجرد الشرعية. يعتمد الإجراء الديمقراطى فى سن القانون على المواطنين الذين يستعملون حقوقهم الاتصالية والمشتركة أيضاً بتوجههم نحو الصالح العام، وهو موقف يمكن أن يكون هناك بالفعل ما يقتضيه سياسياً، ولكن ليس مفروضاً قانوناً. مثل كل الحقوق الفردية، يتجلى شكل الحقوق السياسية فى أنها تمنح مجالات للاختيار الحر فحسب وتحول السلوك القانونى إلى واجب. برغم هذه البنية، على أية حال، يمكن لها أن تتيح فرصة لمصادر شرعية فى الرأى الاستدلالى وتكوين الإرادة فقط إذا لم يستخدم المواطنون حرياتهم الاتصالية تحديداً قبل الحريات الفردية فى متابعة مصالحهم الشخصية، وإنما أن يستخدموها بالأحرى بوصفها حريات اتصالية بغرض ” الاستعمال العام للعقل “. يمكن أن يبقى القانون مشروعاً فقط إذا ما تحول المواطنين المحررين من دور الذوات القانونية الخاصة وتبنوا منظور المشاركين المنخرطين فى عملية هدفها الوصول إلى فهم لقواعد حياتهم المشتركة. إلى هذا المدى، تعتمد الديمقراطية الدستورية على دوافع السكان المعتادين على الحرية، الدوافع التى لا يمكن أن تولدها معايير إدارية. وهذا يفسر لم فى النموذج الإجرائى للقانون فإن بنى المجتمع المدنى النابضة بالحياة ووجود مجال سياسى عام غير مدمر لابد وأن يحمل قسطاً معقولاً من التوقعات المعيارية خاصة عبء أصل ديمقراطى متوقع معياريا للقانون.
لايدهشنا أن يثير هذا شكوك العالم الاجتماعى والأكاديمى القانونى، يعلمنا الأول بوصفه تجريبياً عن الأفكار التى لا قوة لها التى تبدو غبية دائما فى وجه المصالح، ويعلمنا الأخير بوصفه براجماتيا عن النزاعات القاسية التى يمكن التعامل معها فقط باستدعاء مساندة سلطة الدولة القوية. تقدم المقاربة النظرية للخطاب تحديداً عنصراً واقعياً إلى المدى الذى يحول فيه شروط وجود رأى سياسى عقلانى وتكوين الإرادة والقرارات من مستوى دوافع الفرد أو الجماعة إلى المستوى الاجتماعى لعمليات الحوار واتخاذ القرار. تدخل بهذه الحركة، وجهة نظر بنيوية فى اللعب: يمكن أن تشتغل الإجراءات الديمقراطية وترتيباتها الاتصالية المتوافقة معها بوصفها مصفاة تفرز الموضوعات والمساهمات، المعلومات والأسباب، بحيث “يعتد”، بالمدخلات الصالحة وذات العلاقة. مع ذلك، فلابد أن نواصل إجابة السؤال كيف أن فهما ذاتياً متطلباً للقانون الذى، إذا ما سايرنا كانط، ليس مصمماً لـ جنس من الشياطين، يتلاءم كلياً مع الشروط الوظيفية للمجتمعات المعقدة.
لقد كانت هذه الشكية هى التى قادتنى إلى التركيز على التوتر بين الوقائعية Facticity والصلاحية فى المحل الأول( ). تتبع نظرية قانونية تعيد البناء مقدمات منهجية تقوم على فكرة أن الفهم الذاتى ضد الواقعى Counter factual للديمقراطية الدستورية يجد تعبيره فى أمثلات Idealizations، لا يمكن تفاديها فعالة واقعياً تفترض مسبقاً للممارسات ذات الصلة.
إن أول فعل لممارسة مؤسسة للدستور يدخل بالفعل فكرة موسعة فى تعقد المجتمع مثل إسفين. فى ضوء فكرة التكوين الذاتى لجماعة من الأشخاص الأحرار المتساوين، لا يمكن تجنب تعرض الممارسات المؤسسة لسن وتطبيق وإعمال القانون للنقد والنقد الذاتى. تتحرر وتتقنن فى شكل حقوق فردية، طاقات الخيار الحر، والعمل الاستراتيجى والتحقق الذاتى فى آن معاً بواسطة قواعد الإكراه، التى يتعين على المواطنين أن يصلوا إلى تفاهم حولها وذلك بإتباع الإجراءات الديمقراطية، وأن يستعملوا بشكل عمومى حرياتهم الاتصالية المضمونة قانونياً. يكمن الإنجاز المفارق للقانون فى حقيقة أنه يقلل النزاعات الكامنة للحريات الفردية التى أطلق عنانها من خلال القواعد التى يمكن أن تلزم فقط ما دام معترفاً بها بوصفها شرعية على الأساس الهش للحريات الاتصالية التى أطلق عنانها. إن القوة التى تقف بخلاف ذلك معارضة للقوة التكاملية للاتصال، فى شكل إكراه شرعى، تتحول من ثم هى ذاتها إلى وسيلة تكامل اجتماعى. وهكذا يتخذ التكامل الاجتماعى شكلاً انعكاسيا فريداً: بتلبية احتياجه إلى الشرعية بمساعدة القوة المنتجة للاتصال، ينتهز القانون فرصة المخاطرة الدائمة الخلافية ليحفز الخطابات العامة الممأسة قانونيا*.
( 1) دحض أ. ماوس هذا التفسير الكانطى للقانون الخاص فى كتابه:
zur Aufklärung der Demokratietheorie (frankfurt 1992), PP. 148ff.
(*) ملاحظة المحرر: تشير أرقام الصفحات فى هذه الهوامش للطبعات الألمانية من كتاب بين الوقائع والقواعد Faktizität und Geltung ( فرانكفورت، سور كامب، 1992 ) وسوف تصدر ترجمة لهذا الكتاب عن مطبعة معهد ماساشوتيس للتكنولوجيا
( 2) ج. راولس، الليبرالية السياسية ( نيويورك، 1992 ).( 3) تكون الأسئلة السياسية عادة غاية فى التعقيد حتى أنها تتطلب معالجة للجوانب العملية، والأخلاقية، والمعنوية فى آن واحد. ومما لاريب فيه أن هذه الجوانب تتمايز تحليلياً فقط. هكذا هى محاولتى فى “بين الوقائع والقواعد”، الفصل الرابع، القسم II 3، ص ص 203 وما يليها، إن ضرب مثل عن الأنماط المختلفة للخطابات من خلال ترتيب الأسئلة العينية بشكل خطى لهو أمر مضلل.( 4) من الطبيعى، أن علينا أن نميز بين الحقوق المؤسسة أخلاقياً والسياسات، فليست كل البرامج السياسية الشرعية تؤسس الحقوق. وهكذا، فمن ناحية، هناك أسس أخلاقية قوية للحق الفردى فى اللجوء السياسى، وضمان متطابق للتعويضات القانونية ( التى قد لا تحل محلها ضمانات مؤسسية تقدمها الدولة ). من ناحية أخرى، ليس للفرد حق قانونى مطلق فى الهجرة، رغم أن المجتمعات الغربية ملزمة أخلاقياً بالفعل بأن تدعم سياسة هجرة ليبرالية. فى كتابى “بين الوقائع والقواعد”، الملحق رقم 2، القسم الثالث، ص ص 658 وما يليها، لم أقم بتلك التمييزات بما يكفى من الوضوح، ولكن أنظر ردى على تشارلز تايلور Charles Taylor، الصراعات من أجل الاعتراف فى الدولة الدستورية، المجلة الأوروبية للفلسفة: ( 1993 ): 55 _ 128.( 5)O. Höffe, ‘Eine Konversion der Kritischen Theorie?’, Rechtshistorishes Journal 12 (1993).( 6) أنا لا أعنى بهذا أننى أنكر الحدود التى لا زالت قائمة، خاصة تلك النقائص فى قانون المواطنة الألمانى [Staatsbürgerrechts] الذى نوقش لبعض الوقت فى صلته بموضوعات حق الأجانب فى التصويت فى الانتخابات المحلية، والمواطنة المزدوجة، “بين الوقائع والقواعد”، ملحق II، ص ص 153 وما يليها.
( 7) أنظر خاتمة كتاب ى. هابرماز Vergangenheit als Zukunft (Munich 1993).
(8) C. Larmore ‘Die Wurzeln radikaler Demokraie’, Deutsche Zeitschrift Für Philosophie 41 (1993): 327.
( 9) لأجل التحليل المفهومى، أنظر “بين الوقائع والقواعد”، الفصل الرابع، القسم الأول، ص ص 87 ـ 167.
( 10) أنظر ص ص 195 ـ 207، 369 فى ” بين الوقائع والقواعد “.
( 11) أنظر ص ص 138 وما يليها. فى ” بين الوقائع والقواعد “. فكرة أن القاعدة تستحق موافقة عامة توضح ماذا يعنى لقواعد الفعل أن تكون صالحة بمقهوم المقبولية العقلانية التى ليست محلية فحسب، ويتصل هذا الشرح للصلاحية المعيارية بعملية تبرير، لا تطبيق القواعد. وهكذا فإن المقارنة مع مبدأ عملية صنع القرار القضائى ليست فى غير موضعها. أنظر ن. لوهمان
Quod Omnes Tangit..’ Rechtshistorisches 12 (1993).
( 12) O. O’Neil, ‘Kommunikative Rationalität und Praksche Vernunft, Deutsche Zeitschrift für philosophie 41. (1993): 329-32.
( 13) أ. فيلمر، الأخلاق والحوار: عناصر للحكم الأخلاقى عند كانط وفى أخلاقيات الخطاب. فى أ. فيلمر تواصل الحداثة، ترجمة د. ميدجلى ( كامبريدج، رسالة ماجستير، 1991 ) ص 194.
( 14) لمطالعة نقدى لفيلمر أنظر: ى. هابرماس التبرير والتطبيق: ملاحظات على أخلاقيات الخطاب، ترجمة سى. كرونين ( كامبريدج، رسالة ماجستير، 1993 ) ص ص 30 وما يليها، أيضا،
L. Wingert, Gemeinsinn und Moral (Frankfurtam, main, 1993).
( 15) أنظر صياغة (ت) عند ج. هابرماز، الوعى الأخلاقى والفعل الاتصالى ( كامبريدج، رسالة ماجستير، ص 1990 ) ص 120: حتى تكون القاعدة صالحة، فإن النتائج والآثار الجانبية التى يمكن أن تتوقع بملاحظتها العامة لتلبية المصالح النوعية لكل شخص يتأثر بها، فيتعين أن تتجلى فى قبول كل من يتأثر بها بحرية.
( 16) cf. R. Alexy, Begriff und Geltuing des Rechts (freiburg 1992).
( 17) حول مفهوم الحياة الأخلاقية الديمقراطية Sittlichkeit، أنظر:أ. فيلمر،
‘Bedingungen einer demokratischen Kultur’, in M. Brumlik and H. Brunkhorst (eds) Gemein Schaft und Gerechtigkeit (Frankfurt am main, 1993) PP. 173-96.
وأيضاً فى نفس المجلد
‘A. Honneth, Posttraditionale GesellSchaften’, PP. 260-70.
( 18) أنظر Faktizität und Geltung، الفصل الأول، الأقسام 3 III، 2 II ص ص 53 ـ 60.
*ترجم هذا النص عن:
Habermas, Modernity and Law, Edited by Mathieu Deflem, Sage Publication, 1996. Jürgen Habermas, post–SS– to Between Facts and norms PP 135-150.
ترجمة سعيد العليمى