دراسات قانونية
اشكاليات المجتمع المدني و المجتمع السياسي و الديمقراطية (بحث قانوني)
المجتمع المدني والديمقراطية
الدكتورصالح ياسر
المقدمة
بعض اشكاليات المجتمع المدني والمجتمع السياسي والديمقراطية
الدكتور صالح ياسر
شهدت السنوات الاخيرة، وما تزال، نقاشا صاخبا، ثريا متنوعاً، حول موضوع ” المجتمع المدني ” والاشكاليات المرتبطة به. ومثله مثل مفهوم العولمة فقد اصبحت الاشارة الى هذا الموضوع (أي المجتمع المدني) لازمة ضرورية في كل مناسبة تخص نقاش مشكلة الديمقراطية. وتزداد أهمية مفهوم ” المجتمع المدني ” نتيجة تلك النزاعات التي ارتسمت في الفترة الاخيرة والمتعلقة بتطور الدولة وكذلك العلاقات الناشئة بينها وبين المجتمع، حيث تجري بلورة العلاقات الضرورية بين المجتمع المدني والمجتمع السياسي، وتبذل جهود فكرية لتأصيل نظري لتلك العلاقات. ونظراً لأن النقاش الدائر حول ” المجتمع المدني ” لم يظل اكاديميا صرفا، بل اتخذ طبيعة السياسة العملية الملموسة، فإنه يمكن القول، إذن، أن مصطلح ” المجتمع المدني ” يصبح شعارا تعبويا لمختلف القوى والفئات الاجتماعية الساعية الى اجراء تحويلات عميقة في مختلف مستويات التشكيل الاجتماعي في العديد من البلدان. ولكن بالرغم من أهمية هذه الاشكالية فقد ظل النقاش حولها، في العديد من المجالات، نقاشا مجردا وعموميا، وظلت بعض القضايا المرتبطة بمفهوم المجتمع المدني غامضة وتتطلب معالجة متأنية وحصيفة في أن.
تسعى هذه الدراسة لتوضيح ثلاث قضايا، تبدو وكأنها مسلمات لا تحتاج الى تحليل، ولكن الواقع يتبت عكس ذلك. إن هذه القضايا هي المجتمع المدني، المجتمع السياسي ، الديمقراطية. إن هذه الاشكاليات لا تبدو منفصلة عن بعضها البعض، بل على العكس من ذلك، إنها شديدة الارتباط، بالرغم من مظاهر الاشياء!.
إن توضيح ذلك الترابط يستلزم أولا تحديد مضمون كل اشكالية، أي تحديد مضمون المجتمع المدني ومضمون الدولة. إن تحديد مضمون كلا الاشكاليتين سيسمح لنا بالكشف عن طبيعة العلاقة الناشئة بين المجتمع المدني والدولة والتغيير الدائم فيها، فهي ليست علاقة ثابتة، بل على العكس تتغير وتكتسي بأشكال ومضامين متنوعة بفعل عوامل متعددة ستتبين لنا لاحقا.
إن تحقيق استقلال المجتمع المدني عن الدولة ووضع هذه الاخيرة في موقعها الصحيح، في السيرورة الاجتماعية يرتبط شديد الارتباط باشكالية بالغة الاهمية والتعقيد في أن، واعني بها دمقرطة المجتمع بمختلف بناه السياسية والاقتصادية. ولهذا فإن الاستيعاب لمحتوى هذه العملية يرتبط بضرورة تحديد مضمون الديمقراطية كسيرورة وكممارسة تسمح باقامة علاقة سليمة بين المجتمع المدني والمجتمع السياسي (الدولة).
وبهدف ضبط هذه الاشكالية وفك ” الغاز ” مفهوم المجتمع المدني وعلاقته بالمجتمع السياسي والديمقراطية، تم تقسيم هذا العمل الى سبعة مباحث، اضافة الى مقدمة وخاتمة.
يظهر المبحث الاول تحت عنوان: مفهوم المجتمع المدني : محاولة تعريف، وفيه يجري العمل على المستوى المفاهيمي لتأصيل المفهوم عبر اعادة صياغته وتحديد مدلولاته النظرية، ورصد مكوناته المعرفية. واستنادا الى هذه المقاربة يتم عرض العديد من التعاريف ووجهات النظر المختلفة بهدف التوصل الى ابرز العلائم المميزة لهذا المفهوم. كما يتم الحديث في هذا المبحث عن دور المجتمع المدني ووظائفه ومكوناته.
أما المبحث الثاني الموسوم: حول المجتمع المدني – تاريخية المفهوم والاشكاليات العامة، فيتناول العودة الى الفضاء الزماني الذي شهد ولادة مفهوم المجتمع المدني، ورسم الملامح العامة للتطورات والتمايزات التي طرأت على المفهوم تاريخيا، ضمن المناظرات الكبرى التي جرت حوله. يكرس هذا المبحث، إذن، لمحاولة تحقيب سيرورة التطور التي شهدها هذا المفهوم واستخداماته منذ نشوئه حتى اليوم، فقد مرّ بعدة مراحل من أجل بلورته وصياغته بشكل أدق واكثر وضوحاً.
في حين ظهر المبحث الثالث تحت عنوان: مفهوم المجتمع المدني العالمي، حيث يتم هنا التركيز على مقاربة هذا المفهوم الذي بدأ في الظهور في السنوات الاخيرة. لقد برز هذا المفهوم مثله مثل تعبير “المجتمع المدني” ذاته- مجددا في سياق طائفة من الاوضاع والتحولات العالمية على الصعيدين السياسي والفكري ضمن مرحلة جديدة شهدت بروز معلمين اساسيين هما انهيار نظام القطبية الثنائية وبروز ظاهرة العولمة وما طرحته وتطرحه من تحديات واستحقاقات تطول الجميع. يتم في هذا المبحث التطرق الى العوامل الكامنة وراء نشوء المجتمع المدني العالمي، اضافة الى عرض العديد من المحاولات التي سعت لشرح وتفسير نشوءه، ضمن اطار السياق العريض للعلاقات السياسية والاجتماعية على المستوى العالمي.
ومن جهته يظهر المبحث الرابع تحت عنوان : الدولة – المجتمع السياسي/ بعض الاشكاليات المرتبطة بمضمون الدولة، وفيه محاولة لاعادة التفكير بطبيعة الدولة والسعي لوضعها في مكانها الطبيعي ضمن التطور التاريخي الملموس، أي مقاربتها تاريخيا. ويتعين الاشارة الى ان هذه المحاولة تأتي ضمن مسعى الرد على الاطروحة السائدة حول حدوث قطيعة بين الدولة والمجتمع المدني. فحسب هذه الاطروحة تقدم لنا الدولة وكأنها فوق الطبقات الاجتماعية، أي تظهر كمحاولة للمصالحة بين الطبقات، أو باختصار شديد تقدم لنا ” لابسة ثوب حيادها المبجل “. ولهذا فإن المطلوب انزالها من هذه العلياء ودراستها دراسة سليمة تكشف طبيعتها ووظائفها، وبما يمكننا من فك الاشتباك بين مفهوم المجتمع المدني ومفهوم المجتمع السياسي.
أما المبحث الخامس الموسوم: الديمقراطية : بعض الاشكاليات العامة، فهو محاولة للامساك بالخيط الرابط بين الديمقراطية والمجتمع المدني، حيث تتصاعد ” حمى الديمقراطية ” التي شهدتها السنوات الاخيرة وتحديدا منذ بداية تسعينات القرن العشرين. تنتعش، إذن، في الكتابة السياسية اليوم العديد من المفاهيم ، وتتحول الديمقراطية الى محور يستقطب النظر السياسي، سلطة سائدة، ومعارضة، وهيئات وتنظيمات وأفراد. ويرافق ذلك تنشيط النقاشات والمساجلات حول ضرورة انبثاق وتطور مؤسسات المجتمع المدني كضمان لأن تصبح السيرورة الديمقراطية عملية لا رجعة فيها.
يسعى هذا المبحث للتأكيد على دور مؤسسات المجتمع المدني في العملية الديمقراطية ولفت الانتباه الى جانب هام لاشكالية الديمقراطية التي يجب أن لا تنحصر فقط في بعض الممارسات السياسية مثل التعددية الحزبية، وتنظيم الحكم طبقا لمبادئ دستورية تضمن فصل السلطات عن بعضها البعض واختيار الحكام من خلال انتخابات غير مزيفة …. الخ، على أهمية ذلك. ورغم الاقرار بأن الديمقراطية كمفهوم هو بطبيعته اشكالي، متعدد الدلالات، ولكن الديمقراطية، بتعريفها البسيط تعني سلطة الشعب. فالممارسة الديمقراطية الصحيحة في السياسة تفترض دمقرطة المجتمع. ودون هذه الصيغة لا تضرب الديمقراطية جذورا في أرضية المجتمع فتظل شكلية وسطحية دون أن تكتسب شرعية غير قابلة للانقلاب.
ومن جهته فإن المبحث السادس الموسوم: المجتمع المدني والدولة السياسية في العالم العربي – بعض التعميمات، يسعى لتقديم خلاصات مكثفة للتطور التاريخي للدولة في العالم العربي والمسارات التاريخية الفعلية التي اتخذتها في محاولة الاجابة على السؤال عن الاسباب الفعلية التي احبطت أية محاولة لنشوء المجتمع المدني، بابعاده المعروفة عالميا، في هذه البلدان، وفك الاشتباك بين المجتمع المدني والمجتمع السياسي. كما يعرض المبحث السمات الاساسية والخصائص المشتركة للمجتمع المدني في البلدان العربية.
أما المبحث السابع والاخير فيظهر تحت عنوان: دور منظمات المجتمع المدنى فى التحول نحو الديمقراطية، ويكرس للحديث عن دور هذه المنظمات في ظروف العراق الملموسة، أي لحظة تحوله نحو الديمقراطية في ظل عملية سياسية بالغة التعقيد.
فكما معروف، يمر العراق حاليا حاليًا بعمليتين مترابطتين، ونعني بهما: بناء المجتمع المدنى والتحول نحو الديمقراطية على الرغم من المخاطر والتحديات التي تواجه هاتين العمليتين. والصلة بين العمليتين قوية، بل أنهما أقرب إلى أن تكونا عملية واحدة من حيث الجوهر، ففي الوقت الذى تنمو فيه التكوينات الاجتماعية والاقتصادية الحديثة وتتبلور، فإنها تخلق معها تنظيمات مجتمعها المدنى التى تسعى بدورها إلى توسيع دعائم المشاركة فى الحكم.
وهكذا فإن الدور الهام للمجتمع المدنى ومؤسساته فى تعزيز التطور الديمقراطى وتوفير الشروط الضرورية لتعميق الممارسة الديمقراطية وتأكيد قيمها الأساسية ينبع من طبيعة المجتمع المدنى وما تقوم به منظماته من دور ووظائف فى المجتمع لتصبح بذلك بمثابة البنية التحتية للديمقراطية كنظام للحياة وأسلوب لتسيير المجتمع، وهى من ثم أفضل إطار للقيام بدورها كمدارس للتنشئة الديمقراطية والتدريب العملى على الممارسة الديمقراطية. ولكن هذه العملية لا تتم بسهوله ويسر، بل تعترضها العديد من المعوقات، التي يعرض هذا المبحث أهمها.
وينتهي العمل بخاتمة هي محاولة تركيب للاشكاليات التي تمت معالجتها عبر مختلف المباحث. ومن بين العديد من الاشكاليات الكبرى التي تستحق التاكيد، استنادا الى تجارب التاريخ الكثيرة، على ضرورة فك الاشتباك بين المجتمع السياسي والمجتمع المدني وتحرير هذا الاخير من هيمنة الدولة. ومن المؤكد أن تحقيق ذلك سيساهم في وضع مشروع دمقرطة المجتمع موضع التطبيق، وبالتالي المساهمة في بناء عراق ديمقراطي موحد، تلعب فيه مؤسسات المجتمع المدني، على تنوعها، دورا مهما وبناءً.
المبحث الاول: مفهوم المجتمع المدني : محاولة تعريف
بداية، يتعين الاشارة الى أنه ليس هناك مفهوم ثابت وجامد وناجز وقابل للاستخدام في كل زمان ومكان، حتى تلك المفاهيم التي تبدو لنا كذلك. فالمفهوم مرتبط بتاريخ نشأته، أي بالمشكلات التي كانت مطروحة في وقت نشوئه، كما هو مرتبط بالاشكاليات النظرية التي رافقت هذه المشكلات أي بنوعية المناظرة الفكرية التي دارت حول المشاكل المطروحة والطريقة التي حاول بها المثقفون مواجهها. فهو بالضرورة ابن بيئة تاريخية اجتماعية محددة وهو ابن فكر محدد أيضا. ثم إن المفاهيم لا تولد في النظرية فقط وعبر التفكير أي لا يستل واحدها من الآخر بصورة منطقية ورياضية، ولكن ظهورها وتطورها يرتبطان بالصراع الاجتماعي، أي بنوع من الاستخدام الاستراتيجي. ويبدو أنه ليس هناك من مفهوم تنطبق عليه هذه العوامل الثلاث التي تجعل منه مفهوما ديناميكيا جدا ومتحولا وملتبسا في الوقت نفسه أكثر من مفهوم المجتمع المدني.
يتعين علينا، إذن، ونحن نسعى لضبط اشكالياتنا، أن نقوم نضبط المفهوم أولاً. وينطرح هنا سؤال : ماهو المجتمع المدني ؟
في البدء يمكن القول أننا حيث نتحدث عن ” المجتمع المدني ” يتبادر الى الذهن ذلك المجتمع غير الخاضع للمؤسسة الدينية، أي مجتمع علماني، ومن جهة ثانية مجتمع غير خاضع للسلطة العسكرية (المجتمع العسكري)، وثالثا مجتمع مستقل عن المؤسسة السياسية وعن أجهزة الدولة الدائمة.
ونستطيع، إذن، أن نستنتج من الاطروحة اعلاه، وهي اطروحة خام، لا يمكن الارتكان اليها كتعريف جامع، بأن عبارة ” المجتمع المدني ” تعني ذلك المجتمع الذي ينشأ كيانه الذاتي ويحافظ على قوانينه ويصوغ مبادئ تنظيمه واشتغاله، ويقيم قانونه أو عقده الاجتماعي الخاص به والمميز له. إن هذا التصور، المتطابق مع مواقف طليعي القرن الثامن عشر، يتفق وأفكار معينة من قبيل التحضر والاحترام وكذا فكرة القانون المدني. وبحسب هذا الافق المعرفي فإن المجتمع المدني هو عبارة عن مجتمع يتألف من مواطنين أحرار، يستطيعون وقادرين على العيش سوية وبشكل مشترك، بحسب القواعد التي اختطوها، والتي أصبحت عادات لا يمكن تجاوزها.
ينبه التداول الواسع لمفهوم المجتمع المدني في الخطاب المعاصر، وخصوصا في الخطاب الثقافي العربي، الى ضرورة العمل على المستوى المفاهيمي لتأصيل المفهوم عبر«اعادة صياغة المفهوم وتحديد مدلولاته النظرية والعملية، مما يستدعي رصد مكوناته المعرفية، والعودة الى الفضاء الزماني الذي شهد ولادته، ورسم الملامح العامة للتطورات والتمايزات التي طرأت عليه في سياق صعود اوروبا البرجوازية الصناعية باقتصادها وفلسفتها والحركات والثورات الاجتماعية التي ساهمت في تكريس قطعية متعددة الوجوه مع عالم العصور الوسطى….. التقاط الجوهري والدال في مسيرة تمتد ثلاثة قرون…. حيث تكون المفهوم في اطار الفلسفة الليبرالية ومفرداتها: الميثاق او العقد الاجتماعي، مقابل نظرية الحق الالهي للملوك ـ التعددية السياسية مقابل الحكم المطلق ـ الحريات العامة في الحياة والملكية والعمل والرأي والمعتقد، مقابل حرية الأقلية الارستقراطية…. حق المواطنة تجاوزاً للانتماء الضيق: ديني، مذهبي، اثني، عرقي السيادة للشعب فصل السلطات.. الخ» .
قبل التعرف على مفهوم المجتمع المدني في اطار تاريخيته والتحولات التي شهدها فلسفيا وسياسيا كما تجلى وتم تداوله في الخطاب المعاصر، لابد من الانطلاق من تعريف اجرائي يهدف الى توضيح وضبط الاسس التي يقوم عليها، خصوصا وإن شيوع استخدامه قد زاد تشوشه واضطرابه وحجب ضرورات التفكير في تأصيله النظري، وغيّب الى حد كبير امكانية تناوله النقدي.
جج
وهناك من يعرّف المجتمع المدني على نحو اجرائي بأنه جملة ” المؤسسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي تعمل في ميادينها المختلفة في استقلال نسبي عن سلطة الدولة لأغرض متعددة منها :
أغراض سياسية كالمشاركة في صنع القرار على المستوى الوطني، ومثال ذلك الاحزاب السياسية، ومنها غايات نقابية كالدفاع عن المصالح الاقتصادية لأعضاء النقابة، والارتفاع بمستوى المهنة والتعبير عن مصالح اعضائها، ومنها اغراض ثقافية كما في اتحادات الكتاب والمثقفين والجمعيات الثقافية التي تهدف الى نشر الوعي وفقا لاتجاهات اعضاء كل جمعية، ومنها اغراض اجتماعية للاسهام في العمل الاجتماعي لتحقيق التنمية. وبالتالي، يمكن القول إن العناصر البارزة لمؤسسات المجتمع المدني هي : الاحزاب السياسية، النقابات العمالية، الاتحادات المهنية، الجمعيات الثقافية والاجتماعية ” .
وإذا حللنا التعريف السابق الى مكوناته أمكننا أن نستنتج بأن جوهر المجتمع المدني، بحسب وجهة النظر هذه، ينطوي على أربعة عناصر رئيسية :
- – العنصر الاول يتمثل بفكرة ” الطوعية “، أو على الاصح المشاركة الطوعية التي تميز تكوينات وبنى المجتمع المدني عن باقي التكوينات الاجتماعية المفروضة أو المتوارثة تحت أي اعتبار؛
- – أما العنصر الثاني فيشير الى فكرة ” المؤسسية ” التي تطال مجمل الحياة الحضارية تقريبا، والتي تشمل مناحي الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. ولعل ما يميز مجتمعاتنا الحضور الطاغي للمؤسسات، وغياب المؤسساتية بوصفها علاقات تعاقدية حرة في ظل القانون؛
- – في حين يتعلق العنصر الثالث بـ ” الغاية ” و ” الدور ” الذي تقوم به هذه التنظيمات، والاهمية الكبرى لاستقلالها عن السلطة وهيمنة الدولة، من حيث هي تنظيمات اجتماعية تعمل في سياق وروابط تشير الى علاقات التضامن والتماسك أو الصراع والتنافس الاجتماعيين؛
- – وأخر هذه العناصر يكمن في ضرورة النظر الى مفهوم المجتمع المدني باعتباره جزأً من منظومة مفاهيمية أوسع تشتمل على مفاهيم مثل ” الفردية، المواطنة، حقوق الانسان، المشاركة السياسية، الشرعية الدستورية …. الخ .
أما عبد الغفار شكر فيعرف المجتمع المدني بأنه ” مجموعة التنظيمات التطوعية المستقلة عن الدولة …….، أي بين مؤسسات القرابة (الاسرة والقبيلة والعشيرة) ومؤسسات الدولة التي لا مجال للاختبار في عضويتها، هذه التنظيمات التطوعية تنشأ لتحقيق مصالح اعضائها كالجمعيات الاهلية والحركات الاجتماعية والمنظمات غير الحكومية، كما تنشأ لتقديم مساعدات أو خدمات إجتماعية للمواطنيين أو لممارسة أنشطة إنسانية متنوعة، وهي تلتزم في وجودها ونشاطها بقيم ومعايير الاحترام والتراضي والتسامح والمشاركة والادارة السلمية للتنوع والاختلاف ” .
دور المجتمع المدني ووظائفه
يستنتج من التعريف السابق أن جوهر دور المجتمع المدني هو تنظيم وتفعيل مشاركة الناس في تقرير مصائرهم، ومواجهة السياسات التي تؤثر في معيشتهم وتزيد من افقارهم، وما تقوم به من دور في نشر ثقافة خلق المبادرة الذاتية، ثقافة بناء المؤسسات، والتأكيد على إرادة المواطنين في الفعل التاريخي، وجذبهم الى ساحة الفعل التاريخي، والمساهمة الفعالة في تحقيق التحولات الكبرى حتى لا تترك حكرا على النخب الحاكمة.
وارتباطا بهذا الدور يبلور الباحث خمس وظائف تقوم بها مؤسسات المجتمع المدني هي :
- 1. وظيفة تجميع المصالح،
- 2. وظيفة حسم وحل الصراعات،
- 3. زيادة الثروة وتحسين الاوضاع،
- 4. افراز القيادات الجديدة،
- 5. إشاعة ثقافة ديمقراطية.
مكونات المجتمع المدني
أما مكونات المجتمع المدني بالنسبة للسيد شكر فهي أي كيان مجتمعي منظم يقوم على العضوية المنتظمة التطوعية في قطاعات عامة أو مهنية أو اجتماعية ولا تستند فيه العضوية على عوامل الوراثة وروابط الدم والولاءات الاولية مثل الاسرة أو العشيرة والطائفية والقبيلة، وبالتالي فإن أهم مكونات المجتمع المدني، حسب هذا الكاتب، هي :
النقابات المهنية، النقابات العمالية، الحركات الاجتماعية، الجمعيات التعاونية الزراعية والحرفية والاستهلاكية والاسكانية، الجمعيات الاهلية، نوادي هيئات التدريس بالجامعات، النوادي الرياضية والاجتماعية ومراكز الشباب والاتحادات الطلابية، الغرف التجارية والصناعية وجماعات رجال الاعمال، المنظمات غير الحكومية المسجلة كشركات مدينة مثل مركز حقوق الانسان والمنظمات الدفاعية الاخرى للمرأة والبيئة …. الخ، الصحافة المستقلة وأجهزة الاعلام والنشر غير الحكومية، مراكز الابحاث والدراسات والجمعيات الثقافية.
في ضوء ما سبق يمكن تصور النموذج الاساسي لمجتمع مدني متطور كالتالي :
- 1. إن المجتمع المدني يضم مجموعة مؤسسات (وليس مجرد منظمات) تستطيع أن تلعب دور الفاعل في عملية التغيير الاجتماعي والسياسي والثقافي، وكلما تطور دورها في عملية التغيير، وكلما اتسمت بمرونة اكبر في استجابتها للبنية الاجتماعية.
- 2. إن المجتمع المدني المتطور القائم على فعل الطوعية والمبادرة والنزوع للعمل الطوعي – في إطار مشاركة منظمة – هو ركن أساسي في ثقافة بناء المؤسسات.
- 3. إن مؤسسات مجتمع مدني متطور تعني أن يتوافر لها وعي ورؤية، أو ما يمكن أن نطلق عليه موقف نقدي فهي تمتلك تصورا واضحا لخريطة المجتمع ومصادر القوة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ومصادر الضعف، وهي مؤسسات لديها تصور واضح للتغيير الاجتماعي، وتتبنى مواقف الدفاع والمناصرة لمساندة فئات أو قطاعات أو جماعات، سواء على مستوى الحقوق المدنية أو الحقوق الثقافية والاجتماعية والاقتصادية.
- 4. انها مؤسسات لا تتبنى فقط ما يعرف ” بالدور الالحاقي ” أي معالجة المشكلات بعد حدوثها وإنما تتجاوزه الى ” دور توازني “يسعى الى تحقيق توازن المجتمع والاسهام في عملية التحول الاجتماعي.
- 5. أن يأخذ بالنظرة الكلية، بمعنى أن مشكلات المجتمع المحلي والمشكلات الوطنية تقع في كل مترابط مع المشكلات الاقليمية والدولية، ومؤسسات المجتمع المدني لها دور في كل من هذه المستويات.
تسمح التعاريف السابقة بالتأكيد على أن هناك ثلاثة مصطلحات تشكل اركان مثلث فكري لا يمكن فصلها عن بعضها عن بعض لأي مجتمع ينشد التطور الحضاري في زماننا وهي : المجتمع المدني وحقوق الإنسان والديمقراطية.
فالمجتمع المدني هو مجتمع المؤسسات الاهلية المرادفة للمؤسسات الرسمية، وتشمل الميادين السياسية والمهنية والثقافية والاجتماعية.
وحقوق الانسان هي : الحقوق الاساسية للانسان في التمتع بالعيش الكريم وضمان حريته وصيانة كرامته وتوفر العدالة في حصوله على حقوقه، وإن توفر هذه الحقوق من سمات المجتمعات المحضرة.
أما الديمقراطية فهي : المشاركة الشعبية في اتخاذ القرار، وقبول التعددية.
المبحث الثاني: حول المجتمع المدني – تاريخية المفهوم والاشكاليات العامة
منعا لأي التباس يمكن القول أن مشروع ” المجتمع المدني ” وليس المفهوم ذاته قادم الينا من فترات تاريخية سابقة مرتبطة بنشوء وتطور الرأسمالية، وما ارتبط بها من صراعات فكرية. ونعثر على ذلك المشروع عند سانت سيمون، وفي بيانات الثورة الفرنسية، في كتابات الموسوعيين (الانسكلوبيدين) التي تمحورت حول المعرفة واستخداماتها التقنية وحول نقد الدين المسيحي والكنيسة. كما نعثر على هذا المشروع في اشكالية العقد الاجتماعي الذي صاغه جان جاك روسو.
انطلاقا من ذلك، نستطيع القول أن التعريف (المجتمع المدني) خضع منذ ظهوره الى الحدود التاريخية لوعي المفكرين والى الشكل الذي رأوا من خلاله علاقة السلطة السياسية بالأفراد. يكفي على سبيل المقارنة رؤية (هوبز) للمجتمع المدني كمخلوق اصطناعي للدولة (القرن 17) برؤية (لوك) له في القرن 18 باعتباره يشمل دائرة الملكية وعلاقات التجارة والتبادل على الضد من الدولة والمجتمع السياسي التي تضمن حماية المصالح الجماعية.
وفي محاولة لتقريب الموضوع من الأذهان يمكن تحقيب سيرورة التطور التي شهدها مفهوم المجتمع المدني واستخداماته منذ نشوئه حتى اليوم، فقد مرّ هذا المفهوم بعدة مراحل من أجل بلورته وصياغته بشكل أدق واكثر وضوحاً. ويمكن تعقب تطور هذا المفهوم عبر المراحل التالية :
المرحلة الاولى (القرنين السابع عشر والثامن عشر) وفيها يظهر مفهوم المجتمع المدني كنقيض لمفهوم الطبيعة والمجتمع الطبيعي، الذي هو بالنسبة للبعض المجتمع الحيواني أو المجتمع الأبوي أو المجتمع التقليدي أو مجتمع الحرية الأولى. ونستطيع، إذن، أن نستنتج من الاطروحة اعلاه، وهي اطروحة خام، لا يمكن الارتكان اليها كتعريف جامع، بأن عبارة ” المجتمع المدني ” تعني ذلك المجتمع الذي ينشأ كيانه الذاتي ويحافظ على قوانينه ويصوغ مبادئ تنظيمه واشتغاله، ويقيم قانونه أو عقده الاجتماعي الخاص به والمميز له .
لقد تم ارساء الأسس والمكونات المعرفية والنظرية للمجتمع المدني في عصر النهضة الأوروبية وفلسفة الأنوار. ذلك أن تاريخ مفهوم المجتمع المدني يعود إلى تطور الفكر السياسي الليبرالي على مدى القرنين السابع عشر والثامن عشر، المرتبط بالمذاهب الاجتماعية والاقتصادية، والذي بلور النظرية السياسية الليبراليه الكلاسيكية الغربية، منذ بداية انهيار “النظام القديم”، أي عهد انهيار الحكم المطلق وسلطان البابا الديني والدنيوي المتحكم في ملوك أوروبا باسم سلطة الكنيسة المسيحية، وبداية الهجوم الكاسح عبر الثورات على حكم الملوك، الذين يحكمون بمقتضى الحق الإلهي، الذي يبيح لهم بأن لا يحاسبوا عن سياستهم إلا أمام الله، وإلى بداية سلطان القانون الطبيعي، الذي يقر بحرية الفرد الإنسان باسم العقل والمنطق. فإلى سيادة الشعب، والسيادة القومية، وحقوق الإنسان، التي فجرتها الثورة البرجوازية الانكليزية، وتدعمت بشكل جذري قوى مع اندلاع الثورة البرجوازية الفرنسية، التي أصبحت منذ ذلك ثورة عالمية بالمعنى التاريخي والإنساني، تفصل بين العالم القديم والعالم الحديث والعصري، ودشنت عهداً جديداً في تاريخ الإنسانية جمعاء، بحكم ما أعلنته من حريات ومساواة قانونية وسياسية للإنسان الفرد .
وقد نشأ استخدام هذا المفهوم في هذه المرحلة ضمن سياق تحلل النمط التقليدي للمجتمع الاقطاعي أو الدولة ما بعد الاقطاعية القائمة على البديهة الدينية أو العرفية ونمو الشعور بأن السياسة صناعة أي نشاطا عقليا وتابعا لعمل الانسان والمجتمع، ومن خلف ذلك ظهور النظرية السياسية الحديثة. وكانت الحاجة ضرورية لمفهوم جديد يعكس النزوع المتزايد لاكتشاف ما سوف يسمى بالسياسة المدنية، أي السياسة التي تعبر عن حقيقة الانسان وخصوصيته مقابل ما كان سائدا في الحقبة الوسيطة من انعدام السياسة كمجال عام ومشترك ومن ارتباط السياسة بالدين أو بالإرث الارستقراطي أو بالاثنين معا. فبنية المجتمعات ما قبل الحديثة كانت تقتصر على ثلاث مراتب أساسية من الوجهة السياسية، رجال الدين والكنيسة، طبقة النبلاء أو ملاكين الأرض والإقطاعيين، ثم عامة الشعب. ولم يكن لعامة الشعب أي اعتبار في أي موضوع يخص ما نسميه اليوم موضوعات سياسية.
إن هذا التصور، المتطابق مع مواقف طليعي القرن الثامن عشر، يتفق وأفكار معينة من قبيل التحضر والاحترام وكذا فكرة القانون المدني. وبحسب هذا الافق المعرفي فإن المجتمع المدني هو عبارة عن مجتمع يتألف من مواطنين أحرار، يستطيعون وقادرين على العيش سوية وبشكل مشترك، بحسب القواعد التي اختطوها، والتي أصبحت عادات لا يمكن تجاوزها.
لقد كانت المشكلة الرئيسية المطروحة على مثقفي القرن السابع عشر والثامن عشر الذين رافقوا تحلل هذا النظام الاجتماعي التقليدي وتطور البرجوازية كطبقة جديدة تطمح إلى إعادة بنائه من منظورات مختلفة تلغي المراتبية الجامدة وتفتح المجال أمام هيمنة سياسية حديثة، هي إعادة بناء السياسة على أسس غير دينية وغير ارستقراطية، أي لا ترتبط بتكليف إلهي ولا بإرث عائلي، ولكن بالمجتمع نفسه، تنبع منه وتصب فيه. ومن هذه النقطة سوف ننتقل تدريجيا من نظرية لا سلطة ممكنة إلا إلهية أو ملكية وراثية، إلى النظرية المناقضة تماما وهي لا سلطة شرعية إلا تلك التي تعبر عن السيادة الشعبية والإرادة الجمعية. وهذا هو أصل الانتقال نحو الحداثة السياسية.
ومن الواضح أن مفهوم المجتمع المدني خلال هذه المرحلة لا يعني هنا شيئا آخر سوى مفهوم الرابطة الاجتماعية العادية كأساس للاجتماع مقابل الرابطة الدينية أو الارستقراطية التي يمكن ربطها بالعرف والتقليد واعتبارها طبيعية. ولذلك سيرتبط مفهوم المجتمع المدني منذ ذلك الوقت بمفهوم القانون والعقد الاجتماعي كتعبير عن هذا القانون المختلف عن العرف، وبالسيادة الشعبية. إنه يجسد مفهوم السياسة الحديثة بوصفها سياسة نابعة من المجتمع البشري كما هو، وليست مسقطة عليه من قبل عالم آخر. ولذلك فإن كلمتي دولة ومجتمع مدني تتطابقان تماما هنا ولا وجود لأي فصل بينهما.
ويمكن تلخيص هذه الاشكالية بجملة واحدة : السياسة الحديثة هي سياسة مدنية. ومن هذه السياسة المدنية سوف تتطور جميع المفاهيم الحديثة الأخرى مثل المواطنية والديمقراطية ودولة القانون. وهنا تصب اسهامات الكتاب الكلاسيكيين الكبار للقرنين المذكورين مثل هوبز، لوك، توكفيل، مونتسكيو، روسو وسبينوزا. وأفضل تجسيد لهذا الاستخدام الخاص للمفهوم الذي يشير أكثر من أي شيء آخر إلى السياسة الجديدة وليس إلى تناقض بين المجتمع المدني والدولة كما نستخدمه اليوم هو كتاب جون لوك الشهير ” رسالة في الحكم المدني”. ويمكن أن نترجمها اليوم برسالة في ماهية السياسة الحديثة في تعارضها مع الحكم الذي يعتمد مصادر دينية أو عرفية ارستقراطية.
أما المرحلة الثانية لاستخدام مفهوم المجتمع المدني فتشمل القرن التاسع عشر بشكل خاص. الجديد هنا هو أن البرجوازية كانت قد حققت ثورتها ونقلت السياسة فعلا من ميدان الديني والعرفي إلى ميدان الاجتماعي، أي جعلتها حقيقية إنسانية تعاقدية. ولم تعد المشكلة المطروحة هي تحرير السياسة عن الدين والعرف الارستقراطي ولكن إعادة بناء مفهوم السياسة الحديثة ذاته والتمييز فيه بين مستوياته المختلفة. فالسياسة الحديثة التي ألغت المراتب الطبقية التقليدية جعلت من الشعب كلية واحدة أي افترضت وحدته في الوقت الذي هو كثرة وأفراد عديديون. والثورة الصناعية التي نقلت المجتمع من نمط العلاقات الحرفية والاقطاعية حيث كانت العلاقات السائدة التي تربط بين الأفراد علاقات عائلية، داخل المشغل الحرفي، أو أبوية داخل الاقطاعة بين سيد وأتباعه، طرحت أيضا مسائل جديدة على المجتمع من حيث هو عدد كبير من الأفراد يتعاملون مع بعضهم البعض ويعتمدون بعضهم على بعض، وهو معنى المجتمع المدني بالضبط. فقد أدت تصفية الحرفة ونشوء الاقتصاد السلعي وتحلل الملكيات الاقطاعية وتراجع الارستقراطية إلى انخلاع الأفراد عن رحم علاقاتهم القديمة، مما طرح بقوة مشكلة إعادة بناء هذه العلاقات، أي إعادة بناء المجتمع المدني وفهم حقيقته الجديدة في مواجهة وبموازاة الدولة الحديثة معا. وعلى هذه المشاكل والاشكاليات النظرية سوف يرد فلاسفة القرن التاسع عشر الكبار، وفي مقدمهم هيجل وماركس الذين سيسيطرون عمليا على فكر القرن التالي السياسي.
رؤية هيغل للمجتمع المدني. وسيط بين العائلة والدولة
في هذه الفترة شهد مفهوم ” المجتمع المدني ” تبلوره في المحاولة التي قام بها الفيلسوف الالماني هيغل، الذي يرى فيه مجتمعا يوحد ويضم عناصر متنوعة ومتعارضة : العائلة، المهن، الطبقات الاجتماعية…… الخ. إن المجتمع المدني، حسب هيغل، هو الوسيط بين العائلة والدولة. انه نظام الحاجات أو مكان التبادل والانتاج الخاص الذي لا يمكن أن يولد أو يتطور الا في، وبواسطة الدولة المجسدة للمصلحة العامة، حسب تعبيره. ومن هنا كانت العلاقة بين الاثنين علاقة تكامل وتعارض في الوقت ذاته.
وبقدر تعلق الامر بهيغل لابد من الاشارة هنا الى أمرين أساسيين في فهمه للمجتمع المدني :
يماثل هيغل بين مدني وبرجوازي وهو يستعرض المفهوم على محورين :
- الاول تاريخي (عمودي) عبر الانتقال من الاسلوب الاقطاعي للملكية الخاصة وعلاقاتها، الى الاسلوب الرأسمالي للملكية الخاصة، حيث يشير الى الانتقال من الجماعة الطبيعية (العائلة والاسرة) الى الجماعة السياسية (الاقتصادية الاجتماعية وتنظيمها في الدولة الحديثة). يرافق هذا التحول تحول في الدساتير والقوانين فيظهر القانون المدني (البرجوازي) لحماية هذا الحق، حق الملكية الخاصة للافراد.
- المحور الثاني في تناول هيغل للمجتمع المدني هو المحور البنيوي (الافقي)، أي دراسة المجتمع المدني من حيث هو المسافة الاجتماعية – الاقتصادية بين الفرد والدولة، التي هي سلطة سياسية ولحظة اكراه. وعلى هذا فالمجتمع المدني عند هيغل يشتمل على علاقات الانتاج الاجتماعية-الاقتصادية والنقابات الحرفية والمنظمات الدينية والاهلية والنقابات العمالية والاحزاب السياسية، ويشمل الاجهزة الايديولوجية والتربوية للدولة الحديثة (المدارس والجامعات والمؤسسات التربوية الاخرى) باستثناء القضاء والبرلمان والحكومة التي تشكل كأجهزة إكراه بأشكال مختلفة اللحظات الثلاث للسلطة السياسية من حيث هي سلطة.
وارتباطا بما جاء اعلاه فإنه بالنسبة لهيغل ليس المجتمع المدني – باعتباره مجموع الروابط القانونية والاقتصادية التي تنظم علاقات الناس الأفراد فيما بينهم وتضمن تعاونهم واعتمادهم بعضهم على البعض الآخر – سوى لحظة في صيرورة أكبر تجد تجسيدها في الدولة ذاتها، وهي في الواقع الدولة القومية. فالمجتمع المدني، بوصفه كما ذكرنا سابقا مجموع هذه الروابط، يمثل تقدما نوعيا بالمقارنة مع الطبيعة الخام، لكنه لا يجد مضمونه الحقيقي إلا في الدولة التي تجسد ما هو مطلق، أي الحرية والقانون والغاية التاريخية في أجلى تجلياتها. فالمجتمع يظل على مستوى المجتمع المدني مجتمع المصالح الفردية والمشاريع الخصوصية، أي مجتمع الانقسام والتملك الفردي والصراع، ولا يجد خلاصه إلا في الدولة. ومن هذه النزعة الهيجلية إلى رفع الدولة إلى مستوى الحل والمفتاح معا للمجتمع سوف تتغذى الحركات والفلسفات القومية التي تضع الدولة فوق المجتمع والتي قادت إلى إضفاء صفة سلبية على مفهوم المجتمع المدني أيضا لصالح تقديس متزايد لمفهوم الدولة كما سوف نرى.
يمكن تلخيص اطروحات هيغل حول المجتمع المدني على النحو التالي: – يعتبر هيغل الأسرة، والمجتمع المدني، ميداني فهم للدولة، وميداني نهائيتها. أولاً، الأسرة، باعتبارها كلاً جوهرياً، هي التي يتعلق بها قبل أي شيء، التبصر من أجل الفرد في هذا الوجه الخاص، سواء من وجهة نظر الوسائل والقابليات الضرورية، لينال نصيبه من الثروة الجماعية، أم من جهة نظر معاشه ونفقته، في حال حدوث العجز . وتمثل الأسرة الكلي. أما المجتمع المدني، فهو يقطع هذه الرابطة ويبعد أعضاء الأسرة بعضهم عن بعض ويعترف بهم بوصفهم أشخاصاً مستقلين (…) وعلى هذا النحو، يصبح الفرد في المجتمع المدني، الذي بإمكانه أن يطالب به، بيد أن الفرد تكون له أيضاً حقوق عليه” . – يمثل المجتمع المدني لحظة الجزئية. أما الدولة فهي ضرورة خارجية وقوة أسمى، من جهة مقابل دوائر الحس الخاص والمصلحة الخاصة للأسرة والمجتمع المدني، فبطبيعتها تلحق قوانينها ومصالحهما التي تتعلق بها. ولكنها من جهة أخرى، غايتهما المتضمنة فيهما وقوتها في وحدة غايتها النهائية الكلية ومصالح الأفراد الخاصة، وهي وحدة تعبر عن نفسها في حقيقة أن لهؤلاء، الأفراد واجبات حيالها، ضمن الحد الذي لهم فيه حقوق في الوقت ذاته” .
والخلاصة التي يمكن التوصل اليها من خلال العرض المكثف السابق هو أن الأساس التاريخي لمفهوم المجتمع المدني ضمن ارتباطه بالواقع البرجوازي، وضمن الشروط التاريخية التي تشكل فيها، يقوم على ما يلي:
- أولاً: على أساس مضمون الحياة المدنية الحديثة والمعاصرة، الذي جوهره التحرر السياسي، وعلى التمييز بين الإنسان المطلق والإنسان الديني، أو بالأحرى على انفصال واستقلال الإنسان الديني، عن مواطن الدولة المدنية، باعتبار هذا التمييز، أو هذا الاستقلال هو البذرة العقلية للتحرر السياسي بالذات. ولكن علينا أن نؤكد أن تحرر الدولة السياسي من الدين، لا يعني بأي حال تحرر الإنسان الفعلي من الدين، فالدولة تستطيع أن تتحرر تماماً من الدين، حتى حين لا تزال أغلبية الشعب أو الأمة متدينة، علماً أن بقاء هذه الأغلبية دينية لا يعدو أن يكون بقاءا دينياً خاصاً. إن عملية الانتقال هذه، هي التي كانت أساس ولادة العلمانية للدولة السياسية من ناحية، وللمجتمع المدني من ناحية أخرى.
- ثانيا : ينجم عن الملاحظة السابقة أن التحرر السياسي، قلما يقضي على التدين الفعلي للإنسان، مثلما لا تعني العلمانية الإلحاد. ومن هذا المنظار، تصبح العلمانية روح المجتمع المدني، ولا يمكن تحقيقها إلا في درجة جذرية من انفصال السياق الديني عن الدولة، وبالقدر الذي تبرز به الدرجة المعنية من تطور الروح البشري للإنسان، حيث أن التحرر السياسي، هو التعبير عنها، لكي تبني نفهسا به في شكل دنيوي. وهذا ما لا يمكن حدوثه إلا في ظل سيادة العقلانية، واستقلال المجتمع المدني عن السلطة الدينية، واستقلال السلطة الدينية عن السلطة الزمنية، وفي ظل سيادة الدولة الديمقراطية الحديثة والمعاصرة، حيث أن كل إنسان مطلق بمفرده، مؤمناً كان أم متديناً، متعصباً لدينه وأصولياً أم غير ذلك، ظلامياً أم عقلانياً، يكون فيها كائناً إنسانياً نوعياً سائداً.
- ثالثاً: يقوم المجتمع المدني على أساس احترام حقوق الإنسان، وهي جزئياً الحقوق السياسية، ومضمونها يكمن في المشاركة السياسية في الدولة. ومن هذا المنظار، فهي تدخل في مقولة الحرية السياسية. وحقوق الإنسان هي حقوق عضو المجتمع المدني المتحرر سياسياً، أي حقوق الإنسان الأناني، أو الفرد البرجوازي. أما مرتكزات إعلان حقوق الإنسان، فتتمثل في المساواة السياسية والقانونية، والحرية والملكية الخاصة، والأمن. من الناحية التاريخية، والسياسية، والأخلاقية، إن حق الإنسان في الحرية يعني فعلياً وعملياً حق الإنسان في الملكية الخاصة. يقول ماركس معلقاً على هذا الموضوع، “ومن هنا ينجم أن حق الإنسان في الملكية الخاصة هو حقه في انتفاع بملكه والتصرف به على هواه (a som gré) دون أي علاقة بالناس الآخرين، بصورة مستقلة عن المجتمع، أنه حق المصلحة الشخصية” . رابعا: إذا كان المجتمع المدني ببعده التاريخي العالمي، يشكل الأساس الطبيعي للدولة البرجوازية الحديثة والمعاصرة، فإنه لا يعني بأي حال من الأحوال اعتبار المجتمع المدني هو الليبرالية عينها فقط، كما يروج له بعض الكتاب. ومع أن هذا المجتمع المدني قد اكتمل تطورهفي المجتمع البرجوازي الحديث، في أوروبا الغربية، وباحتوائه كل الحياة التجارية والصناعية، في إطار درجة معينة من تطور القوى المنتجة والنقابية، في الحياة السياسية، وبتخطيه جدلياً حدود الدولة القومية والأمة، ليعتنق رحاب العالمية، إلا أن الايديولوجية البرجوازية الليبرالية تحاول تقزيمه بإبرازه خارجياً في صورة القومية، وداخلياً في صورة الدولة. خامساً: إن المجتمع المدني بهياكله الاقتصادية، وانقساماته الطبقية والفئوية، وتبايناته الاجتماعية وتكويناته السياسية والنقابية، الذي تحكمه مبادىء المواطنة، والمساواة السياسية والقانونية بين الأفراد في الحقوق والواجبات، والمشاركة السياسية من خلال الانتخابات التشريعية، والبلدية والمحلية، لانتخاب الممثلين عنه للاضطلاع بأعباء السلطة في الدولة البرجوازية، باعتبار أن الشعب أو الأمة، هو مصدر السلطات، الذي لا يتحقق كمبدأ، إلا في ظل سيادة الديمقراطية، بوصفها أيضاً الساحة التي يتقاطع فيها المجتمع المدني مع الدولة، فإن هذا المجتمع المدني عينه، هو مجتمع الاختلاف، والتعدد، والتعارض، والتناقض، داخل بنيانه، وهياكله الاجتماعية والسياسية. سادساً: وعندما نؤكد على الجوانب الايجابية والتقدمية للمجتمع المدني، علينا أن نعترف بأن أوروبا الغربية، كانت لحظة تاريخية مهمة كبيرة وحاسمة، وحيوية، في التبلور التاريخي لهذا المجتمع المدني بعمقه العالمي، وإن كان هذا الاعتراف ليس مقترناً بالنزعة التماثلية، أو بالتبعية للمركزية الأوروبية، بقدر ما هو نابع من منهج نظري، يتخذ من الجدل ركيزة أساس في بنيانه الداخلي.
ماركس والتخطي الجدلي للتناقض بين المجتمع المدني والدولة السياسية
في البدء لابد من الإشار الى أنه ليس ثمة نظرية تبدو للوهلة الأولى أنها على تناقض جذري صارم مع النظرية الليبرالية الكلاسيكية أكثر من الماركسية، فإن المبادىء الأساسية المتعلقة بامكانية خلق مجتمع مدني متجانس قائم على أسس واقعية للديمقراطية، والعقلانية، والمواطنة، وحقوق الانسان، والالتحام بين الحرية والمساواة، هي مبادىء مشتركة بين الاثنتين .
ومع أن الليبرالية والماركسية تتناقضان بشكل حاد بخصوص الغايات والأساليب، والدور التاريخي الذي قدّر للبروليتاريا أن تلعبه، إلا أن على حدودهما كان يتم تداخل الواحدة منها بالأخرى، باعتبار أن الماركسية، التي ترعرعت في موروث الفلسفة الليبرالية الكلاسيكية الأوروبية، شكلت تحولاً تاريخياً على نحو متواصل، وقفزة ثورية وفق نمط مترابط منطقياً، حيث أبدعت جدلاً نوعياً جديداً في غمار النضال الثوري، مستفيدة، ومنقذة، ومحافظة في الوقت عينه، في سيرورة تطويرها للنواة العقلانية الحقة لجدل هيغل، ومنتقدة إياه من مواقع نظرية نوعية. فإذا كان الاقتصاد السياسي الانكليزي، والاشتراكية الفرنسية، والفلسفة الكلاسيكية الألمانية، قد شكلت المصادر النظرية الأساسية للفلسفة الماركسية، فإنه والحق يقال تمثل النظرية الماركسية الوريث الشرعي للمنجزات الجدلية المثالية، من القرن السادس عشر إلى منجزات هيغل الجدلية، التي طرحت مسألة تطابق الجدل من المنطلق ونظرية المعرفة، والتي كانت في الوقت عينه، نقطة انطلاق لأسس الماركسية، والتجاوز الجدلي الخلاق والمبدع للنظرية الليبرالية الكلاسيكية الأوروبية عامة.
يستخدم ماركس مصطلح المجتمع المدني بطريقتين، الاولى وردت في ” المسألة اليهودية” حيث المجتمع المدني، هنا، كحياة مادية خاصة مقابلة للحياة العامة والمجردة للدولة الحديثة، حيث يتم التحديد، هنا، بالتقابل (التعريف بالنقيض)، والمجتمع المدني هذا هو المجتمع البرجوازي. أما في ” الايديولوجيا الالمانية ” فإن ماركس يماثل بين المجتمع المدني وعلاقات الانتاج التي تشمل العلاقات الاقتصادية (علاقات السوق) والعلاقات الاجتماعية، أي علاقات الملكية الخاصة.
وفي المؤلفات اللاحقة وخاصة في ” رأس المال “، يستغني ماركس عن مصطلح المجتمع المدني كبنية تحتية ويبقي على مفهوم علاقات الانتاج الاجتماعية – الاقتصادية كمسرح للتاريخ. أي على اعتبار أن التاريخ اساسا هو الانتقال من شكل سائد للملكية الخاصة الى شكل جديد. هذا التخلي عن المفهوم جاء على أرضية الارهاصات الثورية لمنتصف القرن التاسع عشر (ثورات 1848 الديمقراطية)، وعلى أساس التحضير النظري لقلب السلطة البرجوازية وتحطيم سلطتها ومعها مجتمعها المغترب – مجتمعها المدني.
وكما معلوم فإن الماركسية درست، وحللّت، واستخلصت الدروس، التي قدمتها الثورات البرجوازية الأوروبية في الماضي، فيما يتعلق بمفهوم المجتمع المدني وعلاقته ببناء الديمقراطية، وبخاصة الثورة الانكليزية خلال أعوام 1640- 1649، والثورة الفرنسية الكبرى خلال أعوام 1789- 1794، وربيع ثورات 1848، التي اجتاحت أوروبا، وهدّمت عروش الملكية المطلقة، وقضت على الاقطاعية، ونجحت في مرحلة صعودها في إحداث تطورات تاريخية عظيمة لا تتزعزع في مجال بناء مجتمع مدني منعتق سياسياً، يسود فيه مبدأ الحق البرجوازي، حيث تشكل الملكية الخاصة عامة، والملكية الخاصة لوسائل الانتاج بخاصة، الضمانة الحقيقية لنظام الدولة السياسية البرجوازي.
ترتبط مفاهيم ” المجتمع المدني ” و ” الديمقراطية ” بسياق محدد وهو الذي يسمح ببروز مفهوم ” المواطن ” أو ” الفرد “. هذا السياق هو الذي ” يختزل الانسان الى عضو في المجتمع البرجوازي ” والى الفرد الاناني المستقل من جهة، والمواطن، الشخص المعنوي من جهة اخرى، على حد تعبير ماركس. وليس هذا السياق التاريخي غير العصر الذي يصبح فيه الفرد متساويا من الناحية الحقوقية على الاقل) مع كل فرد وأخر، فينزل الى حلبة الحياة مجردا من انتمائه الى العشيرة أو الطائفة، أو الملة.
ولاحقا، مع التطورات الحاصلة في التشكيل الاجتماعي الرأسمالي والتطورات الحاصلة في العلاقات بين الدولة والمجتمع المدني وكذا تطور الممارسة الديمقراطية وبروز ظواهر جديدة تستهدف معالجات جديدة، أعاد المفكر الايطالي المعروف غرامشي اكتشاف وبلورة هذا المفهوم واستخدامه ومنحه مضامين جديدة.
إن مفهوم المجتمع المدني عند ماركس ينطلق من السياسة كتجريد، حيث يمثل ” نقد فلسفة الحق لهيغل 1843 “، و ” المسألة اليهودية “، النقد الأكثر جذرية، التي كان موضوعه الحق والدولة الدستورية التمثيلية الحديثتين، وذلك باسم الديمقراطية الجذرية. لقد بقيّ هذا النقد أدنى بكثير من الناحية النظرية من نقد الرأسمال، ولكنه شكل مرحلة انتقالية، المحرك لايصال نقد السياسة إلى نقد الاقتصاد السياسي، أي إلى نقد رأس المال، باعتباره يدخل في سياق عميق التحليل النظري لنمط الانتاج الرأسمالي، وللعلاقات الانتاجية الرأسمالية الجديدة. كتب ماركس في مقدمة كتاب: ” مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي “، يقول”… وساقتني أبحاثي إلى النتيجة التالية، وهي أن العلاقات الحقوقية، شأنها بالضبط شأن أشكال الدولة لا يمكن فهمها لا بحكم ذاتها، ولا بحكم ما يسمى التطور العام للروح البشرية، وإنما على العكس، تمد جذورها في العلاقات الحياتية المادية التي يسمى هيغل، مجموعها “بالمجتمع المدني” على غرار ما فعل الكتاب الانجليز والفرنسيون من القرن الثامن عشر، وأنه ينبغي البحث عن تشريح المجتمع المدني” .
ويظهر أول نقد علمي للاقتصاد السياسي، الدولة السياسية البرجوازية، كامتداد، تعبر عن علاقات الانتاج الرأسمالية، التي تتمفصل عليها، وإن استقلاليتها مرتبطة، بتبعيتها لبنية التبادل من أجل الانتاج، أي بتشكل المجتمع المدني في طبقات متناقضة.وهكذا، فالمجتمع المدني، يختزله ماركس إلى مواجهة ذريه للمصالح الخاصة واعتباره مجتمع غير سياسي، تحدده تناقضات المصالح فيه، الدولة السياسية البحتة و”شكلياتها وبيروقراطيتها كتوسط مجرد وعاجز لمصالحه”.
ومن الطبيعي التأكيد على أنه لا يمكننا أن نفهم هذا الموقف السلبي من الدولة، ووضع ” المجتمع المدني ” مقابلاً لها إلا إذا نزّلنا المفهوم الماركسي في الظرفية التاريخية للنضال الفكري السياسي، والاقتصادي الاجتماعي الذي عرفه النصف الثاني من القرن التاسع عشر….. وهكذا يمكن القول : إن المفهوم قد اكتسب في الرؤية الماركسية معنى مادي نأى به عن المفهوم المعرفي البحت، ومعنى ثوريا ليتحول في العمل اليومي الى سلاح سياسي ضد السلطة الاستبدادية. ويقطع كل من ماركس وانجلز بالمفهوم شوطا جديدا في الايديولوجية الالمانية (1864) حين يصلح مفهوما تاريخياً عالمياً مرتبطاً بالمجتمع الرأسمالي، ومتطوراً بتطور طبقة البرجوازية، وإنتقال قاعدتها الانتاجية من درجة الى درجة اخرى أكثر تقدماً.
لقد نظر ماركس إلى الموضوع من منظار التناقض الذي كشف عنه في مسيرة الحداثة البرجوازية ذاتها ومشروعها التحرري نفسه. ففي نظر ماركس إن مشروع التحرير السياسي الذي قامت به البرجوازية بالفعل عندما نقلت المجتمعات من النظام القديم إلى النظام الحديث ليس في العمق إلا مشروع استلاب جديد. بل إن السياسة هي في قلب هذا الاستلاب وهي تجسد أعظم أشكال هذا الاستلاب. ففي اللحظة ذاتها التي خلقت فيها برجوازية الدولة كمجال للعام، خلقت أيضا مجال الخاص. وبذلك قضت على الفرد بالتصدع أو الانشقاق في ذاته وهويته نفسها بين ماهيتين متنابذتين ولا يمكن التوفيق بينهما، ماهيته كمواطن، وماهيته كمنتج. فالعام (المواطنية وما تعنيه من حق المساواة) فيه يعيش حالة صدام ونزاع مستمر مع الحقيقة الانتاجية الاجتماعية الفعلية التي تعني التفاوت والتباين الشديدين في شروط الحياة والعيش والممارسة. لذلك سوف يقول إن الحرية التي تعكسها المواطنية التسووية هنا شكلية تماما، ولن يكون هناك تحرر حقيقي للفرد إلا عندما تتوافق شروط الحرية السياسية مع شروط الحرية الاجتماعية. وهذه هي، حسب ماركس، غاية الشيوعية وبرنامجها، أي المطابقة بين العام والخاص، بين الدولة إطار الحرية لكن الشكلية والمجتمع المدني إطار المصالح لكن البرجوازية الخصوصية فحسب، وذلك بتجاوز الدولة والمجتمع المدني البرجوازي الطبقي في الوقت نفسه. فكلاهما الدولة والمجتمع البرجوازيان مجال للاستلاب. وليست الشيوعية سوى برنامج التجاوز التاريخي هذا للدولة الديمقراطية الشكلية وللمجتمع المدني البرجوازي الرأسمالي معا، ومثالها أن تأتي بنظام مجتمعي تكون حرية الفرد فيه شرطا لحرية المجموع، أي يتحقق فيه الانسجام المطلق بين العام (الدولة- النظام، الحرية) والخاص (المجتمع المدني-الفردية، المصلحة) وتتعانق فيه الفردية والجمعية معا. إن الصدع الذي أحدثته البرجوازية بين العام والخاص في كل فرد هو أصل السياسة التي يوجه إليها ماركس نقدا قويا باعتبارها أكبر تجسيد للاستلاب البرجوازي.
ومن جهة اخرى لابد من الاشارة الى أن النتيجة التي توصل إليها ماركس في نقده فلسفة الحق العام عند هيغل، هي مسألة الانفصال بين المجتمع المدني والدولة السياسية، الذي يتم في العالم البرجوازي، المترافق مع تأكيد سلطة البرجوازية كطبقة مسيطرة، والدولة الديمقراطية البرجوازية، تؤكد هذا الانفصال، الذي يصيب كل عضو فرد في المجتمع المدني. إنها تؤكد هذا الانشطار بين الوجودين، وجود الفرد البرجوازي العيني، الفردي، الانساني في المجتمع المدني، ووجود المواطن المجرد الشامل والمساواتي في الدولة السياسية، التي يمارس فيها سيادة مجردة ووهمية.
هذه الحياة المزدوجة للإنسان، وهذا الإنشطار في حياة الإنسان، وهذا النزاع الذي يتواجد فيه الإنسان، هو الذي يفضي على حد قول ماركس إلى الانشقاق الدنيوي، بين المجتمع المدني والدولة السياسية.
إن السؤال الذي يطرح نفسه هنا، هل يمكن تجاوز هذا التناقض العقلاني بين الدولة السياسية التمثيلية والمجتمع المدني الممزق، من خلال تحويل الديمقراطية التمثيلية إلى ديمقراطية فعلية. وذلك بواسطة تسييس المجتمع المدني؟ ” إنه ميل المجتمع المدني إلى اتخاذ وجود سياسي، أو إلى جعل الوجود السياسي وجوده الفعلي الخاص به”، يسمى هذا الميل حتى اليوم مشاركة”، وإن يكن ماركس يتصوره بطريقة تبدو الآن محدودة (بيد أنها ذات مغزى كبير تاريخياً)” بوصفها أهم مشاركة ممكنة في السلطة التشريعية” .
وإذا كان التحرر السياسي للمجتمع المدني، فقد شكل خطوة تقدم كبيرة، حيث أن الديمقراطية البرجوازية قد حطمت الامتيازات الاقطاعية، وأعلنت المساواة السياسية، عبر المشاركة السياسية للمجتمع المدني، ولكنها بمقابل ذلك أبقت على الامتيازات الاقتصادية الرأسمالية، والاضطهاد، والاستغلال البرجوازي. وتأسيسا على ذلك فان هذا التحرر السياسي عينه، متطابق مع سيادة الرجل الخاص البرجوازي في الدولة السياسية، وبالتالي فهو ليس كل التحرر الإنساني بل إنه تحرر مخادع ولأن الديمقراطية البرجوازية من وجهة النظر الماركسية لم تشكل أبداً تخطياً جدلياً للانشقاق، أو الانفصال، أو التناقض المزدوج بين المجتمع المدني، من دون أن يكتمل ببعده الملازم له، أي التاريخي والعالمي، أي التحرر الاجتماعي والإنساني يظل ويستمر اغتراباً سياسياً، حيث سلطة الدولة السياسية تتجلى في سيادة سلطة الملكية الخاصة لوسائل الانتاج.
من هنا يندرج البرنامج الثوري لماركس، الذي يطرح على مختلف مكونات المجتمع المدني السياسية، والنقابية، وهياكله الاجتماعية والطبقية المستغلة، والمضطهدة، لاستعادة، ولامتصاص “قواهم الخاصة”، بغية التخطي الجدلي لهذا التناقض المزدوج بين المجتمع المدني والدولة السياسية البرجوازية الضامنة الرئيسة لملكية البرجوازية لوسائل الانتاج، ومصالحها، عبر الثورة الاجتماعية، باعتبارها ثورة تهدف إلى تحرير المجتمع المدني بأسره، وإلى تحرير الدولة البرجوازية ككيان قائم منفصل عن هذا المجتمع المدني المأزوم. ولقد أعطى ماركس هذا الدور التاريخي والتحريري لطبقة من طبقات المجتمع المدني، هي “البروليتاريا”، باعتبارها الطرف الحاسم في هذا التناقض الأساس في هذا المجتمع البرجوازي، القادر على حله، وانطلاقاً من رؤيته العقلانية للتطابق الحاصل بين ثورة الشعب مع تحرر الطبقة العاملة. “ولا يمكن لهذا التحرر الاجتماعي أن يرتكز إذن إلا على الغاء التفكيك السياسي، وليس على الديمقراطية، بل على نقد قواعد الديمقراطية، ليس على الدولة الحرة، بل على تحرير الدولة السياسية” .
إن هذا التحرر الاجتماعي والإنساني الحاسم، يعتبر مكملاً للتحرر السياسي للمجتمع المدني البرجوازي السابق، الذي من الواجب الاستفادة منه، من مختلف الحقوق السياسية والمدنية، والحرية، والمساواة، التي تحققت في عهد البرجوازية، باعتبارها حقوقاً مثلت تقدماً عظيماً بالنظر إلى الامتيازات الاقطاعية، من أجل توظيفها بشكل صحيح نحو بناء علاقات اجتماعية وسياسية وحقوقية إنسانية جديدة، خالية من الاضطهاد، والاستغلال، والعسف.
المرحلة الثالثة وتشمل النصف الأول من القرن العشرين وذلك في إطار احتدام الصراع الثوري وفي سياق إعادة بناء الاستراتيجية الثورية في مجتمعات أوربا الصناعية. وكان أكبر مسؤول عن تطوير هذا الاستخدام الجديد المفكر الايطالي الشيوعي أنطونيو غرامشي. وغرامشي هو الذي ترك أكبر الأثر على المفهوم كما يستخدم اليوم، بعد استبعاد عناصر فلسفية وعقائدية كثيرة منه.
غرامشي وطرح موضوع المجتمع المدني في اطار نظرية السيطرة والهيمنة :
على الصعيد المفاهيمي اعتبر غرامشي المجتمع المدني احد مكونات البنية الفوقية. ففي احد النصوص الهامة في دفاتر السجن كتب غرامشي قائلا : ” ما نستطيع أن نفعله حتى هذه اللحظة، هو تثبيت مستويين فوقيين أساسيين، الاول يمكن أن يدعى المجتمع المدني، الذي هو مجموع التنظيمات التي تسمى (خاصة) والثاني هو المجتمع السياسي أو الدولة. هذان المستويان ينطويان من جهة اولى على وظيفة الهيمنة حيث إن الطبقة المسيطرة تمارس سيطرتها على المجتمع، ومن جهة ثانية تمارس الهيمنة المباشرة أو دور الحكم من خلال الدولة أو الحكومة الشرعية “.
ويضيف في مكان أخر قائلا : ” ينبغي الانتباه الى أن في مفهوم الدولة العام عناصر ينبغي ردها الى المجتمع المدني، إذ تعني الدولة : المجتمع السياسي + المجتمع المدني، أي الهيمنة المدرعة بالعنف ” . ويضيف ” لا ينبغي أن يفهم بكلمة دولة جهاز الحكم فحسب، بل جهاز الهيمنة الخاص أو المجتمع المدني ” . الدولة، حسب رأي غرامشي، هي المجتمع السياسي (سلطة الدولة) زائدا المجتمع المدني (الحقل الايديولوجي أو الاجهزة الاعلامية والتربوية للدولة البرجوازية الحديثة).
ومن جهة ثانية أدخل غرامشي قطيعة جديدة في المضمون الدلالي Semantic لمفهوم المجتمع المدني، بإعتباره فضاء للتنافس الايديولوجي. فإذا كان المجتمع السياسي حيزا للسيطرة بواسطة سلطة الدولة، فإن المجتمع المدني فضاء للهيمنة الثقافية الايديولوجية، ووظيفة الهيمنة Hegomony هي وظيفة توجيهية للسلطة الرمزية التي تمارس بواسطة التنظيمات التي تدعي أنها خاصة مثل النقابات والمدارس ودور العبادة والهيئات الثقافية المختلفة.
تتبدى استقلالية الايديولوجيا في الهيمنة الثقافية باعتبارها رؤية للعالم لا تستمد قوتها وقدرتها من التغلب وفرض السلطة كما هو الامر في حالة السيطرة، ولا من عقلانية مفترضة أو منطق مجرد، بل من احتضان كتل المجتمع المتجانسة واقامة اللحمة بينها.
هذه الهيمنة الثقافية التي لا تعرف مركزا ولا تأتي عن ألية موحدة، بل هي نشاط متعدد المراكز يقيم تجهيزاته وتنظيماته خارج الدولة، وفي فضاء المجتمع المدني تحديدا، في محاولة منها – الهيمنة – لاقامة سياسة للايديولوجيا يكون الهدف منها استعادة المجتمع المدني لحقه في ممارسة شرعيته والوصول الى سيادته على مكونات وجوده الخاصة. بهذا يكون غرامشي أول من استعمل مفهوم الهيمنة بمعنى القيادة، وايجاد سياسة ثقافية تهدف الى تنسيق وتوحيد مواقف الفئات والطبقات الاجتماعية كمقدمة لا بد منها لتحقيق السيادة، وذلك من خلال فاعلية الحزب ” المثقف الجمعي ” وقدرته على حشد وتعبئة كل اصحاب المصلحة في التغيير تحت قيادته، وذلك لأنه يحمل لواء الاصلاح والتغيير، ويسعى لنشر اليات هيمنته الثقافية والسياسية على كامل المجتمع. هكذا يرى غرامشي على غرار ابن خلدون ان المطاولة الثقافية هي أساس وشروط المطاولة السياسية.
وطبعا لا يمكن فهم موقف غرامشي بإعطائه اهمية أساسية للمستوى الايديولوجي في البنية الاجتماعية – الاقتصادية من دون ربط ذلك بالظروف التاريخية التي كانت سائدة أنذاك في أوربا الغربية بفعل ابتعاد أفق الثورة الاجتماعية. فقد اعتقد غرامشي أن المشكلات ” الثقافية ” هي مشكلات ذات أهمية خاصة في مراحل تتلو النشاط الثوري، كما في أوربا 1815، ثم ثانية بعد عام 1921. ويقول إنه في مثل هذه الاوقات لا تكون هنالك معارك مباشرة بين الطبقات، ويتحول الصراع الطبقي الى ” حرب مواقع “، وتصبح ” الجبهة الثقافية ” هي الميدان الرئيسي للنزاع .
لقد حاول غرامشي أن يطرح موضوع المجتمع المدني في إطار نظرية السيطرة والهيمنة الطبقية ويستخدمه لإعادة بناء استراتيجية الثورة الشيوعية أو التحررية. وبالنسبة لغرامشي سواء أكان ذلك في كتابه ” الأمير الحديث ” أو ” دفاتر السجن ” هناك مجالان رئيسيان يضمنان استقرار سيطرة البرجوازية ونظامها. المجال الأول هو مجال الدولة وما تملكه من أجهزة، وفيه تتحقق السيطرة المباشرة، أي السياسية، والمجال الثاني هو مجال المجتمع المدني وما يمثله من أحزاب ونقابات وجمعيات ووسائل إعلام ومدارس ومساجد أو كنائس إلخ، وفيه تتحقق وظيفة ثانية لا بد منها لبقاء أي نظام هي الهيمنة الايديولوجية والثقافية. ولذلك لا يكفي للوصول إلى السلطة في نظر غرامشي والاحتفاظ بها السيطرة على جهاز الدولة ولكن لا بد من تحقيق الهيمنة على المجتمع، ولا يتم ذلك إلا من خلال منظمات المجتمع المدني وعبر العمل الثقافي بالدرجة الرئيسية. وفي هذا التحليل يبلور غرامشي للحزب الشيوعي الطامح إلى السيطرة استراتيجية جديدة تقول إن من الممكن البدء في معركة التغيير الاجتماعي المنشود، أي الشيوعي، من استراتيجية تركز على العمل على مستوى المجتمع المدني وتعبئة المثقفين لكسب معركة الهيمنة الايديولوجية التي ستلعب دورا كبيرا في مساعدة الحزب على عبور الخطوة الثانية وهي السيطرة على جهاز الدولة. ففي مقابل استراتيجية الانقلاب العسكري أو شبه العسكري يقترح غرامشي عملية التربية والتعبئة الشاملة للمجتمع، أي السيطرة التدريجية والفكرية على الأطر التي تنظم علاقاته اليومية. ففي منظور غرامشي المجتمع المدني هو المجال الذي تتجلى فيه وظيفة الهيمنة الاجتماعية مقابل المجتمع السياسي أو الدولة الذي تتجلى فيه وتتحقق وظيفة السيطرة أو القيادة السياسية المباشرة. ولأن الهيمنة مرتبطة بالايديولوجية فإن المثقفين هم أداتها. ومن هنا جاءت حاجة غرامشي لإعادة تعريف المثقف وتحليل دوره والرهان الكبير الذي وضعه عليه في التحويل الاجتماعي.
لكن المراهنة على المجتمع المدني لم تلغ عند غرامشي دور الدولة ولا أهمية السيطرة عليها. فالعمل في إطار المجتمع المدني هو جزء من العمل في إطار الدولة وسياسة التحويل الدولوية. لذلك لا قيمة للمثقف عند غرامشي ولا ضمانة لفاعليته إلا إذا كان عضويا، أي إذا ارتبط بمشروع طبقة سياسي، تماما كما أن الهيمنة لا قيمة لها إلا كجزء أو مستوى من مستويات العمل لتحقيق السيطرة الاجتماعية. إنها ليست منافية للسياسة ولكن مكملة لها، وإن كانت متميزة عنها. فالمجتمع المدني والمجتمع السياسي أو الدولة يسيران جنبا إلى جنب ويجمع بينهما في كل نظام وحدة ديناميكية السيطرة الاجتماعية.
إن قراءة اطروحات غرامشي بشأن المجتمع المدني ومقارنتها بأطروحات كل من هيغل وماركس تتيح القول بوجود اختلاف في مستويات النظر بالنسبة لماركس وهيغل من جهة وغرامشي من جهة ثانية.
يرى هيغل وماركس في ” المجتمع المدني ” بمعنى المجتمع المدني لطبقات اجتماعية كما في مجتمع برجوازي، أي أن تفكيرهما ينصب على مفهوم المجتمع المدني بعلاقته بالبنية التحتية، أي القاعدة الاقتصادية، أي العلاقات الناشئة في هذا المجال/الحقل الاقتصادي. أما غرامشي فقدم مفهوم ” المجتمع المدني ” ضمن اشكالية سياسية وفكرية هامة هي ” الهيمنة”، وحلل مفهوم المجتمع المدني في علاقته بالبنية الفوقية، وهذا هو عنصر الاختلاف، الذي نراه جوهريا وهاما.
إن فكرة غرامشي عن المجتمع المدني انما لها معنى محدد في اطار فكره ذاته، أي أنه مجتمع مدني كمجال لتحقيق مشروع تاريخي معين. وبالتالي فإن هذا يعتبر امرا يتعدى الاشكال المحددة لمفاهيم طبيعة السلطة، عسفها، مقاومة عسف السلطة أو ما شابه.
المجتمع المدني، بحسب غرامشي، يمثل مجموع العضويات أو الكيانات الخاصة التي تمكن المجتمع المدني من أن يعبر عن وظائف الهيمنة. ويعني ذلك أن غرامشي يريد، وبمساعدة مفهوم المجتمع المدني، أن يحدد مضمون الهيمنة السياسية والثقافية لطبقة اجتماعية محددة (أو إئتلاف طبقي) في عموم المجتمع.
إن مفهوم الهيمنة مفهوم نظري يشير الى الطريقة التي يتم بواسطتها، إبراز مصالح المجتمع ككل، وكذلك طريقة تنظيم القبول الاجتماعي بهذا الاتجاه. الهيمنة، إذن، ذات علاقة بالمجتمع المدني في حين أن السيطرة (القسر) عائد للدولة، أي للمجتمع السياسي.
يقول غرامشي : نستطيع الان أن نحدد مستويين رئيسين من البنى الفوقية – احدهما يمكن أن يعرف باسم ” المجتمع المدني، وهو مجموع الاجهزة المعروفة عموما باسم ” الحاضنة “، والثاني هو ” المجتمع السياسي ” أو الدولة. وهذان المستويان يقابلان وظيفة ” الهيمنة ” التي تمارسها الجماعة المسيطرة عبر المجتمع كله من جهة ووظيفة ” السيطرة المباشرة ” التي تمارسها الدولة.
تبنى الهيمنة، كما يعاد انتاجها، ضمن شبكة من المؤسسات يسميها غرامشي بالمجتمع المدني تميزا لها عن الجانب القمعي للدولة. المجتمع المدني، إذن، هو تلك التنظيمات ذات الطابع غير الحكومي : النقابات، المدرسة، الاحزاب …. الخ، وهذه تنظيمات طوعية تفعل فعلها عن طريق الاقناع أي من خلال الايديولوجيا. وبخلاف هذه التنظيمات، تشكل مؤسسات الدولة : الادارات، الجيش، الشرطة، القضاء، ما يسمى بالمجتمع السياسي، الذي يفعل فعله عن طريق القهر (السيطرة).
لابد أن يكون مفهوما، منعا لأي التباس، الاشارة الى أن المقارنة ما بين الثنائي الدولة/ المجتمع، أو استخدام ثنائي مشابهة كالقوة/القبول، لا يعني اننا نقصد التلميح الى أن هناك أجهزة دولة قمعية بشكل خالص، وان الباقي هو أجهزة ايديولوجية خالصة، ولا أن بالامكان تركيز الصراع الطبقي ضد الدولة بشكل رئيسي، في هذا الجانب أو ذاك. على العكس من ذلك يتعين التأكيد على حقيقة مهمة وهي أن لكل بنية دولة وظيفتها القمعية ووظيفتها الايديولوجية، إلا أن هناك بعض البنى التي تكون قمعية أكثر من غيرها، وبعض البنى التي تكون بالمقابل أكثر ايديولوجية من غيرها.
المرحلة الرابعة لاستخدام مفهوم المجتمع المدني وتشمل العقدين الأخيرين من القرن العشرين والأن، التي شهدت اعادة اكتشافه من تراث غرامشي لكن بعد تنقيته من بعض القضايا التي كانت موضع سجالات ساخنة خلال المراحل السابقة، بحيث لا يحتفظ منه إلا بفكرة المنظمات والهيئات والمؤسسات الاجتماعية الخاصة التي تعمل إلى جانب الدولة لكن ليس تحت إمرتها على تنظيم المجتمع وتنشيطه وتحقيق الاتساق فيه. وبهذا المعنى فالمقصود بالمجتمع المدني كما يستخدم اليوم تلك الشبكة الواسعة من المنظمات التي طورتها المجتمعات الحديثة في تاريخها الطويل والتي ترفد عمل الدولة. وإذا شبهنا الدولة بالعمود الفقري فالمجتمع المدني هو كل تلك الخلايا التي تتكون منها الأعضاء والتي ليس للجسم الاجتماعي حياة من دونها. فليس هناك أي شكل من العداء بينهما ولا اختلاف في طبيعة الوظائف وإن كان هناك اختلاف في الأدوار.
ومن المفيد التذكير هنا أن الاستخدام المعاصر لمفهوم المجتمع المدني قد مر هو نفسه بثلاث فترات رئيسية.
الفترة الأولى هي فترة الانفتاح على المجتمع المدني من قبل الأحزاب والقوى والنظم السياسية بهدف ضخ دم جديد في السياسة وإضفاء طابع شعبي عليها بدأت تفقده مع بقرطتها وتقنرطتها. وقد تمثل ذلك بإدخال عناصر أو مسؤولين في حركات إنسانية وتنظيمات اجتماعية خيرية في التشكيلات الوزارية على سبيل تقريب السياسة من الفئات النشيطة في المجتمع ومن الجمهور الواسع الذي عف عنها في الوقت نفسه.
أما الفترة الثانية فهي فترة التعامل مع المجتمع المدني بوصفه منظمات مستقلة موازية للدولة ومشاركة في تحقيق الكثير من المهام التي تهم هذه الأخيرة بالتراجع عنها. وهذا المفهوم يتوافق مع انتشار مفهوم العولمة والانتقال نحو مجتمع يحكم نفسه بنفسه ويتحمل هو ذاته مسؤولية إدارة معظم شؤونه الأساسية. وقد استخدمت ” الدول الديمقراطية ” مفهوم المجتمع المدني في هذه الحالة للتغطية على عجزها المتزايد عن الايفاء بالوعود التي كانت قد قطعتها عن نفسها وتبرير الانسحاب من ميادين نشاط بقيت لفترة طويلة مرتبطة بها لكنها أصبحت مكلفة، ولا يتفق الالتزام بالاستمرار في تلبيتها على حساب الدولة مع متطلبات المنافسة التجارية الكبيرة التي يبعثها الاندراج في سوق عالمية واحدة والتنافس على التخفيض الأقصى لتكاليف الانتاج.
أما الفترة الثالثة فهي فترة طفرة المجتمع المدني إلى قطب قائم بذاته ومركز لقيادة وسلطة اجتماعية، على مستوى التنظيم العالمي بشكل خاص، في مواجهة القطب الذي تمثله الدولة-الدول المتآلفة في إطار سياسات العولمة والنازعة إلى الخضوع بشكل أكبر فأكبر في منطق عملها للحسابات التجارية والاقتصادية. وشيئا فشيئا يتكون في موازاة هذا القطب الدولوي والقيادة الرسمية للعالم، تآلف المنظمات غير الحكومية والاجتماعية التي تتصدى لهذه الحسابات الاقتصادية والتجارية من منطلق إعطاء الأولوية للحسابات الاجتماعية ولتأكيد قيم العدالة والمساواة بين الكتل البشرية. وفي هذه الحالة يطمح المجتمع المدني إلى أن يكون أداة نظرية لبلورة سياسة عالمية وبالتالي أيضا وطنية بديلة تستند إلى مجموعة من القيم والمعايير التي ينزع السوق الرأسمالي إلى تدميرها أو التجاوز عنها.
لكن الأمر لم يلبث حتى تجاوز ذلك وجعل من المنظمات غير الحكومية، المحلية والدولية، فاعلا رئيسيا إلى جانب الحكومات في تسيير الشؤؤن الوطنية والعالمية. وقد تبلور مفهوم المنظمات غير الحكومية من خلال الوضعية القانونية التي كرستها لهذه المنظمات الأمم المتحدة، والدور النشيط الذي أصبحت توليه لها لحل العديد من المشكلات والتحديات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية. حتى ساد الاعتقاد اليوم أن هذه المنظمات هي الملجأ الوحيد في تنفيذ المشاريع الانسانية الخيرية وغير الخيرية في مواجهة عجز الدولة وشلل أجهزتها بسبب سيطرة البيرقراطية عليها.
ومن الواضح أن الحالة ليست كذلك في البلاد النامية. فلا ينبع الحديث عن المجتمع المدني والدعوة لإعطاء المؤسسات الاجتماعية مسؤولياتها في العمل الاجتماعي من نضح الدولة ولا من تطويرها لفكرتها عن دورها الانجع في المساهمة في تطوير النظام الاجتماعي، ولا عن نضج المجتمع وتوسع دائرة العمل والمبادرة والتنظيم عند أفراده ونشوء جمعيات ومؤسسات أهلية قادرة على التدخل لمعالجة الكثير من القضايا والمشكلات الاجتماعية ولكن ربما بالعكس من ذلك تماما. إن منبع الحديث المتزايد عن المجتمع المدني هو انهيار الدولة وفقدانها لأي دور مركزي على الطريقة الكلاسيكية، أي بناء الأمة، وعجزها عن بلورة دور جديد لها يتماشى مع حاجات المجتمع الذي يتطور بمعزل عنها منذ فترة طويلة في تصوراته ومطالبه. كما هو تفكك المجتمع نفسه وافتقاره إلى أي مؤسسات تسمح له بممارسة دوره أو تأكيد وجوده في وجه السلطة المتحولة إلى سلطة أصحاب المصالح الخاصة وفي وجه الفوضى والدمار الذين يتهددان مصيره ومستقبله.
الأن، وقد صار لدينا مجموعة من الاطروحات، على تنوعها، تسمح لنا بتعيين حدود المجتمع المدني من خلال تعريفه بأنه : عبارة عن مجموعة من المؤسسات التي تقع خارج شبكة سلطة الدولة تتيح للقوى الاجتماعية العاملة في مجالات الاقتصاد والحياة الثقافية والايديولوجيا والسياسة أن تنظم نفسها بشكل حر بحيث تستطيع أن تلعب دورها في التطور الاجتماعي. انه مفهوم يتجاوز مجرد التغيير السياسي كما يعتبر أن ضمان وجود وحرية تلك المؤسسات الاهلية، هو شرط أساسي لفعالية الديمقراطية السياسية نفسها
إذا تابعنا التطور التاريخي للرأسمالية وكذا تطور مؤسسات المجتمع المدني نستطيع أن نقول أن تلك المؤسسات كانت ضرورية من أجل تكريس استقلالية المجال الاقتصادي والانشطة التي يتجلى من خلالها الاقتصاد الرأسمالي في مواجهة السلطة.
لم تقف سيرورة التاريخ عند هذه اللحظة التاريخية الاولى في تكوين الرأسمالية بل تعرضت هذه السيرورة الى تطور متناقض نتج عنه تبلور طبقات اجتماعية جديدة، اضافة للطبقة الصاعدة أنذاك – البرجوازية -. هكذا نشأت البروليتاريا كطبقة جديدة وجرت تغيرات عاصفة في مضمون طبقات قديمة أخرى تجلّت في تحولها الى منتجين سلعيين صغار يخضعون لمنطق قوانين التشكيلة الرأسمالية. وبذلك تم بسط العلاقات السلعية الرأسمالية وهيمنتها واخضاعها كافة العلاقات الاخرى لمنطقها. هكذا، إذن، بدأت تتبلور مؤسسات أهلية تخرج عن إطار إدارة شؤون رأس المال، تبحث عن حلول وسطى بين فئات البرجوازية نفسها من أجل تكريس السلطة السياسية المشتركة لها.
أدى تطور الرأسمالية الى تطور القطبين الرئيسين : البرجوازية والبروليتاريا، وقد ترتب على ذلك مجموعة من النتائج أهمها بروز البروليتاريا كقوة مستقلة، وكطرف رئيسي في الصراعات مع البرجوازية. وبدأت تنادي بنظام اجتماعي اخر، لا طبقي في الجوهر. وهكذا فرض ميزان القوى الجديد على النظام الرأسمالي ضرورة العمل وفقا لمبدأ التعددية الحزبية والانتخابات العامة. إن هذه الصيغة من الديمقراطية السياسية، التي كانت محصلة للصراع الدائر بين القطبين البرجوازية/البروليتاريا، وتنامي كفاح الاخيرة واشتداد عودها قد أدخل تناقضا جديدا في عمل القوانين الناظمة لاشتغال التشكل الراسمالي، ترتبت عليه نتائج بالغة الاهمية. أهم تلك النتائج يتجلى ببحث أطراف التناقض الاساسي عن مساومة تنتج حلا وسطا تاريخيا بين رأس المال والعمل.
المبحث الثالث: مفهوم المجتمع المدني العالمي
بداية، لابد من الاشارة الى أن تعبير “المجتمع المدني العالمي”- برز مثله مثل تعبير “المجتمع المدني” ذاته- مجددا في سياق طائفة من الاوضاع على الصعيدين السياسي والفكري يمكن الاشارة الى أهمها :
- 1. التحولات التي شهدها العالم عشية انهيار انهيار الاتحاد السوفياتي والمعسكر الاشتراكي وما رافقه من تداعيات من اهمها انهيار نظام القطبية الثنائية واستحقاقاته. لقد دشنت المرحلة الجديدة في بداياته الامال بانحسار التهديدات التي رافقت نظام القطبية الثنائية وسباق التسلح والحروب الباردة ….الخ. وقادت الاوضاع الجديدة الى تنامي الدعوات، من مواقع فكرية مختلفة، بضرورة طرح تصورات وطرق جديدة لعلاج مشكلات ” العالم الجديد ” وتطوير بنياته.
- 2. ظاهرة العولمة وخطابها. ودون الدخول في تفاصيل اشكالية العولمة لأنها خارج هذه المساهمة، الا أنه يمكن القول بعدم وجود خطاب موحد حول هذه الظاهرة بل يلاحظ تنوع الخطابات المطروحة. وباختصار يمكن تمييز اتجاهين رئيسيين دون أن يعني ذلك اهمال اتجاهات اخرى لم تتبلور بصيغتها النهائية بسبب عدم تبلور الظاهرة ذاتها لأسباب معروفة.
– الاتجاه الاول يرى في العولمة باعتبارها سيرورة تهدف الى مد نطاق السياسات والفعاليات التي قادت إلى الرخاء والسلام في ” الغرب ” أو ” الشمال ” إلى العالم كله، عبر طائفة من الاتفاقيات الدولية والتعديلات الهيكلية المحلية التي تطلق قوى السوق، وتدفع إلى تحسين الإنتاجية، والإفادة الأفضل من الموارد، وتشجع المزيد من التطور التكنولوجي، وتحسن من التنظيم الاجتماعي.
– أما الاتجاه الثاني فيطرح بالمقابل عولمة مضادة تقوم على إدراك وترجمة المسئولية المباشرة للعالم المتطور عن اقتلاع الفقر، وذلك من خلال التوقف عن الاستغلال المالي لـ ” العالم الثالث “، وتعويضه عن فترات الاستعمار والاستنزاف المتعاظم للثروات الطبيعية، وتصفية المديونية، والاعتراف بحاجة هذا” العالم ” لانتهاج طرقه الخاصة بالتطور والنمو والتقدم الاقتصادي الاجتماعي، ومنحه معاملة تمييزية تنحاز لإطلاق قواه المنتجة، وتعفيه من منافسة يستحيل عليه مقابلتها، وتوفر له الموارد اللازمة لانطلاقه الاقتصادي والاجتماعي.
وفي إطار التطلعات نفسها، طرح آخرون مشروع بناء وتطوير “المجتمع المدني العالمي ” الذي توفر بالفعل عناصر حقيقية لنشأته ونموه.
وبسبب اختلاف المرجعيات النظرية والتاريخية فإن النظرة الى ” المجتمع المدني العالمي ” تختلف كذلك. ويمكن أن نلاحظ هنا مقاربات مختلفة :
- المقاربة الاولى تقوم على اساس النظر الى” المجتمع المدني العالمي ” باعتباره جزءً من تجليات مشروع العولمة، وباعتباره مستوى مواكبا للمستوى الاقتصادي لهذه الظاهرة. واذا دفعنا هذه المقاربة الى نهايتها المنطقية أمكننا أن نستنتج ان هذا الفهم ينطلق من التبشير الليبرالي الجديد بنظام سياسي جديد للبشرية. فالحركة الحرة لرءوس الأموال والتكنولوجيا، وأنماط التنظيم والإنتاج المشترك أو ” المصنع العالمي ” يخترق ويتعارض مع البنية القومية للتنظيم السياسي للعالم الموروث من القرن السابع عشر (بالنسبة لأوربا الغربية). ويحتاج الاقتصاد المعولم إلى بنية سياسية تناسبه، ربما تجسدت يوما من الأيام في حكومة عالمية. وحيث إن التنظيم القومي للعالم نشأ على قاعدة عملية بناء الأمة، فالحكومة العالمية يمكن أن تنشأ على قاعدة اجتماعية وبشرية عابرة للحدود القومية وهي “المجتمع المدني العالمي”.
- أما المقاربة الثانية وهي مناقضة للمقاربة الاولى فتقوم على النظر الى المجتمع المدني العالمي باعتباره جزء من عملية أوسع، هي النضال المشترك من أجل العدالة الدولية والسلام العالمي. وبحسب هذه المقاربة يقوم المجتمع المدني بدور القاطرة لعملية التحويل الديمقراطي في الداخل عبر النضال الضروري لاستلهام ووضع إستراتيجيات ورؤى جديدة للتنمية والتطور. كما يقوم بدور الجسم الحي الذي يخوض النضال من أجل نشأة بيئة سياسية واقتصادية دولية مواكبة أو مناسبة للتنمية البشرية ذات الوجه الإنساني في العالم الثالث.
وبحسب مؤيدي هذه المقاربة وانصارها، فقد تجسد هذا الواقع في احداث يوم 15 فبراير 2003 ، اذ تجلى ” المجتمع المدني العالمي “، بأعظم معانيه ودلالاته، في المسيرات الحاشدة والمتزامنة في نحو 6000 مدينة، وأكثر من 70 دولة في العالم، لمناهضة الحرب الأمريكية المزمعة ضد العراق. وقد فرض هذا اليوم نفسه حتى على أكثر المتشككين في مفهوم ” المجتمع المدني العالمي “، باعتباره يوما فريدا في تاريخ العالم، وظاهرة لا يضاهيها شيء في تاريخ البشرية أو واقعها الحديث.
استنادا الى الملاحظات السابقة ينطرح السؤال الاساسي في موضوعنا هنا وهو : ما هو إذن المجتمع المدني العالمي؟
قد تتنوع التعاريف انطلاقا من الخلفيات والمرجعيات الفكرية والنظرية ولكننا نستطيع نفرز ابرز علائم المجتمع المدني العالمي انطلاقا من الركائز التالية :
- أولا: إنه بمثابة فضاء أو حقل للنشاطية أو الكفاحية المنطلقة من الإيمان بقيم عالمية، وبوحدة المصير البشري، على الأقل بالنسبة لموضوعات أو قضايا حاسمة مثل السلام والعدالة والتنمية والبيئة وحقوق الإنسان.
- ثانيا: كما يمكن النظر إليه أيضا باعتبار ذلك النسيج من الروابط الكفاحية التي تنشأ على قاعدة الإيمان بالمساواة والمسئولية المشتركة والحاجة إلى علاقات عالمية لا تقوم على التسلط أو القوة والامتياز.
- ثالثا: ومن حيث الفاعلين في المجتمع المدني العالمي، فيمكن القول أنهم أولئك الذين يمدّون نشاطهم في الدفاع عن قيم مدنية إلى الساحة العالمية، ويشملون الجمعيات والروابط والنقابات والهيئات المهنية والمجالس النيابية والمنتديات الفكرية والشبكات الاتصالية والهيئات الدينية، بغض النظر عما إذا كانت صلاحياتها قومية ذات امتداد عالمي أو عالمية بالأصل، هذا فضلا عن الجمهور العام المؤمن بهذه القيم والمرتبط بتلك التجمعات.
ونظرا لأن مفهوم “المجتمع المدني العالمي” قد نما من رحم النشاطات والثقافة المدنية القومية، ثم أخذ يمد هذه النشاطات على مستوى عالمي، أو كمستوى نضالي عالمي يشتق طاقته وعناصره البشرية من مختلف القوميات، وينظم عمله عبر روابط واتحادات عالمية أو متعددة الجنسيات، أو عبر تقنيات الحركة الاجتماعية، فإنه لابد من التساؤل عن العناصر الاساسية التي جعلت ولادة المجتمع المدني العالمي ممكنة ؟
وفي مسعى الاجابة على هذا السؤال يمكن بلورة ثلاثة عناصر أساسية وهي:
- أ – الثقافة المدنية العالمية التي بدأت تتبلور منذ الحرب العالمية الثانية بفضل نخبة مدولة تكونت في طيف واسع من المنظمات الدولية الحكومية وغير الحكومية. ولعبت المنظمات المتخصصة للأمم المتحدة (منظمة اليونسكو، منظمات اخرى مثل الأغذية والزراعة والصحة العالمية)، وفى مجال التنمية والتجارة (منظمات مثل الأمم المتحدة للتنمية الفنية والأونكتاد) دورا مبدعا على الصعيد الفكري، وكذلك المجلس الاقتصادي والاجتماعي. أما فى مجال حقوق الإنسان والبيئة والمرأة والأقليات فقد نشأت منظومة كاملة داخل الأمم المتحدة بدءا من اللجنة العامة وصولا إلى اللجان التعاهدية، وهكذا.
غير أن دور الأمم المتحدة كان بالضرورة مقيدا بطابعها الحكومي. كما أن النخب الفكرية ذات الأفق العالمي- بغض النظر عن أصلها القومي- لم تكن ذات قدرات تواصلية كبيرة مع شعوبها ذاتها، وهو ما حرمها من بناء نفوذ واسع في بلادها، أو على المستوى العالمي. ولذلك تدفقت أفكارها عبر قنوات حكومية دولية أو محلية. وبسبب تلك القيود وأوجه النقص نشأت أو نشطت أعداد مدهشة من المنظمات غير الحكومية العالمية أو متعددة الجنسية، بدءا من منظمات العلماء واتحادات المهنيين، مرورا بجمعيات الدفاع مثل “منظمة العفو الدولية”، وصولا إلى المنابر الفكرية متعددة الجنسيات في محاولة للقيام بدور جماهيري، أو يخاطب جماهير العالم وحكوماته.
وفي واقع الحال فإن الجهد الأساسي الذي قامت به هذه المنظمات غير الحكومية لم يتعلق بإنشاء أهداف أو قيم مدنية، وإنما بترويجها بين أوساط شعبية مختلفة، والتعبئة المنظمة لها، والمطالبة بتحسين التشريعات وإحكام آليات العمل.
وجاءت مرحلة ثالثة نمت فيها أدوار المثقفين والنشطاء من ” العالم الثالث ” على هامش المنظمات غير الحكومية الدولية في البداية، ثم عبر منظماتهم القومية أو الإقليمية الخاصة بهم.
وحملت تلك الموجة الأخيرة قدرا كبيرا من التجديد الفكري والقدرات التنظيمية، ربما بحكم أصولها ونشأتها في صفوف حركات وأحزاب اليسار التي كانت تتعرض لتفكك واسع في مختلف بلاد ” العالم الثالث “، وهو ما أتاحها للنضال المدني.
- ب- الأطر والأوعية الاتصالية الجديدة. وفي الوقت نفسه أتاحت تكنولوجيا المواصلات والاتصال العصرية فرصة تطوير قنوات وأوعية أخرى لتحل جزئيا محل الأحزاب التقليدية في الفضاء العام. فالأطر الجمعياتية ومجالس المدن والمقاطعات والأحياء والشبكات الاتصالية المكونة في الفضاء الإلكتروني وروابط الأصدقاء متعددي الجنسيات والاتحادات المهنية والمؤتمرات والمعسكرات الشبابية والعالمية والمنتديات الثقافية والفكرية والحركات الاجتماعية – صارت أكثر أهمية، ليس فقط من الأحزاب السياسية، بل ومن النقابات والحركات العمالية التقليدية.
وتبين حصيلة التجربة أن تلك الأوعية صارت أكثر قدرة على استيعاب طاقات الأجيال الجديدة في أوربا وأمريكا الشمالية، وبدرجة أقل في ” العالم الثالث، لأسباب عديدة:
• فهي أنسب لأجيال أقل اهتماما بالأيديولوجيات وبالثقافة السياسية من آبائها، وأكثر تمتعا بالإنجازات العلمية والتكنولوجية والاقتصادية.
• ثم إن تلك الأوعية أكثر قربا وتلامسا مع الواقع المعاش.
• وهي أيضا أكثر ديمقراطية وأقل تراتيبية، ولا تستلزم انضباطا أو تدريبا حزبيا من النمط التقليدي للعمل في الفضاء العام.وهي فوق ذلك أكثر قابلية للإشباع النفسي بحكم سرعة إثمار العمل المدني المباشر.
• ولا بد من الإشارة المركزة من جديد إلى أثر الفضاء الإلكتروني في التعارف وبناء الشبكات الثابتة والمتحركة والاتصال ونشر وترويج الشعارات والمواقف.
- ج- أما العامل الثالث الذي أسرع بإنضاج المجتمع المدني العالمي فهو العامل الاقتصادي. ويشمل هذا العامل جوانب مختلفة. فالتطور العام في التكوين الاقتصادي الحديث صار يتحيز كثيرا لصالح الأنشطة الخدمية ذات الدخل المرتفع ووقت العمل الأقل.
وقد مكّن هذا التحول ملايين الناس من السفر والاحتكاك بثقافات أخرى، وكذلك بتخصيص وقت للفضاء العام دون الشعور بالملل، ودون حاجة لهذا المستوى من الحماسة التعصبية التي كانت تميز العمل السياسي في الماضي، وربما لا زالت تستلزمه في كثرة من بلاد العالم الثالث.
والواقع أن التطور نفسه في طبيعة العمل في المجتمعات المتقدمة، وفي طبيعة أنشطة العمل صار يتحيز للسلام بين الشعوب. فلدينا بطبيعة الحال حالة الهجرة الدولية (130 مليون مواطن في أوربا الغربية وحدها). وبينما تثير تلك القضية مشكلات لا حد لها، فهي تفرض أيضا قدرا من حتمية التعايش، بما في ذلك الزواج وتكوين الأسر متعددة الجنسيات أو الخلفيات الثقافية. ومن ناحية أخرى فإن التطور المذهل في أنشطة السياحة الدولية يقوم على فكرة السلام المديد، ويتطلب قدرا عاليا من الاستقرار في البيئة الدولية، وينشر بذاته رواجا للثقافة المدنية.
المجتمع المدني العالمي : تعدد التفسيرات
جرت الاشارة في الملاحظات السابقة الى العوامل المباشرة وراء نشوء المجتمع المدني العالمي، ولكن السؤال المهم الاخر هو كيف نفهمه في اطار السياق العريض للعلاقات السياسية والاجتماعية على المستوى العالمي. هناك محاولات مختلفة لشرح وتفسير نشوء المجتمع المدني العالمي ومن بينها :
- 1. نظرية الاعتماد المتبادل التي سادت لفترة طويلة باعتبارها تمثل محاولة لشرح مقبول لنشوء المجتمع المدني العالمي. وتنبثق هذه النظرية عن (النموذج الأساسي) الوظيفي كبديل لشرح العلاقات الدولية في النظرية الكلاسيكية للعلاقات الدولية باعتبارها علاقات قوة. من هذا المنظور فالعالم يتطور تبعا لنبوءة المدرسة الوظيفية التي ترى أن الاقتصاد والروابط العالمية الجديدة تحتم تحرك النظام العالمي كنظام وظيفي في اتجاه بناء السلام بين الشعوب وتقليص أو إلغاء الحاجة إلى الحروب، حيث تتعلق مصالح الدول والشعوب بالتعاون والاعتماد المتبادل وتصير رفاهية كل شعب معتمدة على الشعوب الأخرى.
ولكن تلك النظرة المتفائلة للعلاقات الدولية لا تشرح أو تفسر لنا مظاهر استعراض القوة والحروب الصغيرة والكبيرة. ولذلك حاول الوظيفيون الجدد أن يعدلوا هذا الإطار النظري لإدخال علاقات القوة إلى صلب النظرية، فأكدوا أن الاعتماد المتبادل نفسه ليس رفاهية وسلاما بحتا، وإنما هو أيضا علاقة قوة، إذ تختلف درجة حساسية كل اقتصاد نحو الآخر أو نحو الاقتصاد العالمي. فالعملات مثلا ليست بالقوة ذاتها، وتتأثر عملات معينة- أكثر من عملات أخرى- بالهزات في الاقتصاد العالمي. والأهم هو أن تعرُّض أو انكشاف اقتصاد ما للهزات أو لسلوك اقتصاديات أخرى ليس على الدرجة نفسها. وتستطيع دول معينة إحداث ضرر أكبر بالآخرين نظرا لانكشافهم بدرجة أكبر أمامها. وبهذا المعنى فهناك تبعية متبادلة ومصالح متشابكة بين الجماعات والشعوب، ولكن هناك أيضا فجوات وعلاقات قوة.
ومن هذا المنظور أيضا فالعولمة ليست إلا تعبير خاص عن تمدد واتساع الاعتماد المتبادل وتطور العالم كنظام وظيفي جديد أو مختلف. والمجتمع المدني العالمي في هذا الشرح هو الجانب الاجتماعي من العولمة التي تتجلى بأشكال أخرى.
ويصطدم هذا الشرح مع أحد أهم صور النضال أو دوافع أو “مهام” المجتمع المدني العالمي، وهو مناهضة العولمة بصيغتها النيوليبرالية. فأقوى مظاهر تحرك المجتمع المدني العالمي قبل مظاهرات ومسيرات السلام الحالية تجسد في المظاهرات الصاخبة ضد العولمة الرأسمالية، بدءا من “سياتل” و”نجازاكي” و”روما” حتى “واشنطن” خلال عام 2002. وتبدو حركة مناهضة العولمة كنموذج مثالي للحركات الاجتماعية العالمية التي تأخذ بألباب الأجيال الشابة في العالم. وهي في الوقت نفسه مظهر مميز لكفاحية المجتمع المدني العالمي.
ولا شك أن هذا النضال ضد هذا النوع من العولمة ثم ضد التهديد بالحرب يفضح حقيقة أن العلاقات الدولية الرسمية لا تزال تقوم على القوة وعلى عدم التكافؤ في القوة، وخصوصا في ظل ” نظام القطبية الاحادية ” الراهن.
- 2. ومن جانبهم يشرح الماركسيون الجدد واليسار الجديد بصورة عامة منطق النضال ضد العولمة باعتباره شكلا خاصا من النضال الطبقي ضد الرأسمالية المعولمة. وبهذا المعنى، فالمجتمع المدني العالمي هو نوع من التحالف الأممي ضد الرأسمالية المعولمة في طورها الليبرالي الجديد. ويؤكد هذا الشرح أن القوى المدنية الجديدة التي تناضل ضد العولمة الاقتصادية تتخذ المنظمات والرموز الكبرى للعولمة الاقتصادية هدفا كبيرا لنضالها. وتدرك تلك القوى أن تصفية استغلال أو إهمال ” العالم الثالث ” هو بنفس الوقت كفاح من أجل مصالحها في الحصول على تعليم وخدمات صحية ورفاهية أفضل. وأن النضال ضد الحرب هو أيضا كفاح من أجل تحررها من الاستغلال الأشد المصاحب لصعود ما يسمى بالليبرالية الجديدة.
- 3. التفسير التكنولوجي. يشير البعض إلى السياق الذي انبثقت فيه عملية النضال ضد العولمة كثورة كونية ذات أبعاد متعددة وخاصة البعد المعرفي والتكنولوجي الاتصالي.
في هذا الإطار قد يمكننا فهم نشوء المجتمع المدني العالمي وتبلوره أو نضوجه النسبي، كأحد تجليات الثورة التكنولوجية الراهنة، بما صاحبها من ” فورة ثقافية ” على المستوى الكوني. ويبدو أن العامل المحرك من وجهة النظر هذه هو سقوط “النماذج الأساسية الكبرى”، وبروز اهتمامات وتطلعات عالمية جديدة من ناحية ثانية.
وبوسعنا أن نرى في هذه النظرية صياغة مستحدثة لفكرة “القرية الكونية” رغم التباس هذا المفهوم. وتعبر تلك الفكرة أساسا عن الضمير أو الوعي الليبرالي الذي بشر مبكرا بالنتائج الإيجابية للثورة الاتصالية من خلال يوتوبيا القرية الكونية. فالفكرة لا تقول بسقوط القوميات أو نهاية المرحلة القومية، ولكنها ترى وعيا جديدا يخرج من ” شرنقة ” الدولة القومية، ويتطلع لأنماط من التواصل والانتماء عابر للحدود القومية، بل وللحدود المرسومة بين الثقافات. فكأن ” القرية الكونية ” تتجاوز المفهوم الاتصالي الذي يلغي المسافات ويعكس بروز مواطنية جديدة عالمية أو كونية. ومنعا للالتباس، لابد من الاشارة الى ان هذه ” القرية العالمية ” ليست ” مدينة فاضلة ” تضمن المساواة بين الجميع بل انها في واقع الحال تحتوي على كل التناقضات الفعلية السائدة على الصعيد العالمي، بما في ذلك حالة الاستقطاب المعولم الذي يرافقه تراكم الفقر من جهة وتراكم الثروة من جهة اخرى.
- 4. وقد نجد تعبيرا خاصا عن تلك الظاهرة نفسها في نظرية أخرى تتفرع عن ” نبوءة ما بعد الحداثة “. فثورة الوعي ضد “النماذج الأساسية” قد تنتهي إلى اضمحلال أو على الأقل خفوت الدولة القومية كإطار للفعاليات والنشاطات الاجتماعية. ومن هنا تبرز فكرة ” ما بعد الحداثة ” القائلة بما بعد الدولة القومية. وتعكس تلك الفكرة أيضا الثورة على النمط الكلاسيكي للسياسة أو ظهور منظور “ما بعد السياسة”. فالسياسة التقليدية ركزت على “التدافع” والتنافس والتحزب، وخاصة في النسق الديمقراطي الغربي. بينما الممارسة التي تميز الأجيال الحالية تركز على الحاجة للتكافل والعمل المشترك والتحالفات الكبيرة العابرة للحدود بين الأيديولوجيات.
- 5. ويمكننا أن نشرح نشوء وتطور المجتمع المدني العالمي باعتباره “تمددا عالميا” لحركات اجتماعية أو سياسية غربية المنشأ أكثر منها “تحالفا” حقيقيا بين قطاعات وحركات اجتماعية متعددة الجنسيات. فالعناصر الأساسية اللازمة لنضوج المجتمع المدني العالمي تحققت في المجتمعات الغربية أو الصناعية المتقدمة أكثر مما تحققت في الأفق الكوني بذاته. ولكن هذا الشرح لا ينطلق من مفهوم المصلحة فحسب، بل من مفهوم الرؤية بصورة أكبر.
لقد ثارت نضالات تاريخية كبرى انطلاقا من “رؤى” أكثر كثيرا من دافع المصلحة وخاصة إذا فهمنا هذا المصطلح الأخير من زاوية الطبقات وأنماط الإنتاج. فحركة السلام لم تكن تعبيرا عن مصالح طبقية أو اقتصادية مباشرة بل كانت تعبيرا عن رؤية مناهضة للحرب بذاتها ولما تسببه من آلام بشرية عميقة وواسعة النطاق. وكذا الامر بالنسبة لحركة حقوق الإنسان التي لم تكن تعبيرا عن دوافع طبقية أو سياسية مباشرة، بل كانت انعكاسا لالتزام فكري أو رؤية إنسانية عامة.
المبحث الرابع: الدولة – المجتمع السياسي/ بعض الاشكاليات المرتبطة بمضمون الدولة
يسعى هذه المبحث لاعادة التفكير بطبيعة الدولة ومحاولة وضعها في مكانها الطبيعي ضمن التطور التاريخي الملموس. إن السبب في ذلك يكمن في الرد على بعض الاطروحات السائدة في فترات مختلفة حول حدوث قطيعة بين الدولة والمجتمع المدني. فحسب هذه الاطروحة تقدم لنا الدولة وكأنها فوق الطبقات الاجتماعية، أي تظهر كمحاولة للمصالحة بين الطبقات، أو باختصار شديد تقدم لنا ” لابسة ثوب حيادها المبجل “. ولهذا فإن المطلوب انزالها من هذه العلياء ودراستها دراسة سليمة تكشف طبيعتها ووظائفها.
فمن المعروف أن الرهان المكثف على الدولة، والتمركز من حولها، وتحويلها إلى مركز عبادة وتقديس منذ القرن التاسع عشر، في أوربا أولا ثم في جميع أنحاء العالم فيما بعد، قد نشأ بسبب الآمال والأوهام الكبيرة التي كانت تحيط بعمل هذه الدولة وقدراتها وإمكاناتها معا. فقد ساد الاعتقاد، منذ هيجل الذي نظر إلى الدولة القومية باعتبارها التعبير الأسمى عن وصول التاريخ إلى غاياته ومطابقة الوعي لذاته، حتى النظم الشمولية التي وجدت فيها الأداة المثلى للتحرر من جميع الإكراهات التاريخية والوصول بالمجتمعات إلى أعلى قمة في السيادة والتنمية والحرية. والعجيب في الأمر أن هذه الدولة التي بني ماركس نظريته في التحرر الانساني على فرضية تلاشيها الحتمي وإحلال إدارة الأشياء محل إدارة البشر (السياسة)، أي بمجتمع يقود شؤونه وينظمها بنفسه، سوف تصبح غاية في ذاتها في بعض النظم بقدر ما سوف تمثل إطار تنظيم ” الطبقة ” البيرقراطية الجديدة وأداة سيطرتها الرئيسية، وسوف تجعل من السياسة إدارة البشر بوصفهم أشياءا كما لم يحصل في أي حقبة أخرى.
وبهدف الرد على هذه الأطروحات يتعين التأكيد على القضايا/ المبادئ التالية :
• للدولة وظيفة سياسية شاملة تسعى من خلالها الى تحقيق ترابط مستويات الكل الإجتماعي وذلك بإعادة إنتاج التناقضات و ” الأوضاع القائمة “. إذن يتعين عدم الاكتفاء بالفهم ” التقليدي ” للدولة – أداة قوة – بل على أنها “منظمة للهيمنة “. ويعني ذلك تعريف الدولة انطلاقا من دورها الإجتماعي والسياسي بالدرجة الأولى. الدولة، إذن، هي الهيئة المركزية التي يتعين عليها الحفاظ على وحدة وتماسك التشكيل الإجتماعي، والحفاض على الشروط الإجتماعية للإنتاج وبالتالي إعادة إنتاج الشروط الإجتماعية للإنتاج من دون ” عوائق “.
• يعني ذلك أن إعادة إنتاج هذه الأوضاع وتلك التناقضات يسير في اتجاه تحقيق مصالح الطبقة المسيطرة ( أو الائتلاف الطبقي المهيمن) داخل التشكيل الإجتماعي المحدد.
• إن سلطة الدولة في المجتمعات الطبقية هي ” لحظة ” من التناقض الذي يعكس الصراع الطبقي السياسي وأطرافه ونتائجه. الدولة، إذن، على عكس ما يروج له ليست محايدة ولا حكماً بين القوى المتصارعة، كما تبدو ظاهرياً. وفي الواقع يجب النظر الى سلطة الدولة بكونها وحدة متناقضة. هذه الوحدة ممكنة، إذ أن أجهزة الدولة تمتلك تماسكاً داخليا خاصا بها ومستقلاً تجاه البنى الإقتصادية وكذلك تجاه الطبقات أو فئات الطبقة المسيطرة. هذه الملاحظة ضرورية إذ أنها تتحاشى جعل الدولة مجرد ” شيء ” أو ” أداة ” بيد القوى المسيطرة.
• من الضروري في هذا المجال التذكير باستقلالية أجهزة الدولة ليست في استقلالها عن الطبقات المتصارعة، بل عن الفئات الطبقية المسيطرة. فاستقلال أجهزة الدولة لا يكون إلا في تبعيتها المباشرة للطبقة المسيطرة ككل. معنى هذا أن استقلالها النسبي يتيح لها ضبط تطور التناقضات الثانوية بين فئات الطبقة المسيطرة ومنعها من أن تنفجر بشكل يهدد علاقة السيطرة الطبقية نفسها حين تعجز فئة أو طبقة عن فرض هيمنتها الطبقية داخل الطبقة المسيطرة ( أو الائتلاف الطبقي). إن التدخل المباشر لأجهزة الدولة هو، إذن، لإنقاذ الوجود المسيطر للطبقة السائدة، بتحقيق الهيمنة الطبقية للفئة المهيمنة فيها، والتي تعجز، في ظروف تاريخية محددة، من فرض هيمنتها. في مثل هذه الظروف التاريخية يختفي الشكل ” الديمقراطي ” للممارسة السياسية للطبقة المسيطرة، ويبرز الشكل الدكتاتوري المباشر الذي يضمن المنطق نفسه لهذه الممارسة السياسية. فالعلاقة بين الديمقراطية والدكتاتورية هي إذن خاصة بالممارسة السياسية للطبقة المسيطرة.
• للدولة وظيفة مركبة، أي أن لها أبعاداً أو مستويات إقتصادية، سياسية، إيديولوجية. ولإنجاز هذه الوظيفة المركبة يتعين انبثاق أجهزة الدولة ( المؤسسات والموظفين) والتي يناط بها إنجاز أهداف هذه الوظيفة الشاملة بمستوياتها المختلفة :
– على المستوى الاقتصادي يتم التركيز على :
- أ. إعادة انتاج العلاقات الانتاجية،
- ب. إعادة انتاج قوة العمل،
- ج. إعادة انتاج تمايز الفرص بين الطبقات الاجتماعية.
– على المستوى السياسي والايديولوجي يتم التركيز على :
- أ. إدارة الصراع لصالح حائزي سلطة الدولة،
- ب. إعادة إنتاج ايديولوجية حائزي السلطة واحتضانها،
- ج. تزيف وعي المبعدين عن حيازة السلطة.
ثمة أبعاد جوهرية في أي بنية اجتماعية تكون أكثر أهمية من غيرها من الأبعاد، من حيث تأثيرها، وتحديدها لملامح وعمق وتوجه الصيرورة الإجتماعية لهذه البنية. تأتي أهميتها لهذه الصيرورة في أن طبيعتها، وأنماطها ومستوياتها وتوزيعها ذات علاقة مباشرة بمسائل الصراع الإجتماعي. من بين هذه الأبعاد الجوهرية هناك ” بُعد السلطة السياسية “. إن الحديث عن السلطة السياسية في مستواها الأكثر تركيزاً هو حديث عن” الدولة ” بوصفها التجسيد الرسمي للسلطة السياسية السائدة .
ينطرح، إذن، وعلى الفور ذلك السؤال الحاسم : ما هي طبيعة العلاقة ما بين الطبقات الإجتماعية، المحددة أساساً وإعتباراً لموقعها ضمن البنية الإقتصادية، وما بين السلطة السياسية من خلال الدولة ؟
إن الإجابة على هذا السؤال تستحث ضرورة الحديث – ولو باختصار- عن مناهج دراسة السلطة السياسية. يعج الأدب السياسي الخاص بهذه الإشكالية بكثير من المناهج الساعية لتحديد طبيعة السلطة السياسية وبالتالي الإجابة على السؤال السابق. ومن الدخول في تفاصيل كثيرة نستطيع أن نفرز ثلاثة مناهج أساسية أكثر أهمية من غيرها في هذا المجال وهي :
• المنهج الأول هو ذلك المنهج الذي يركز على السؤال المهم : من لديه السلطة ؟ ويمكن تسمية هذا المنهج بالمنهج الذاتي بمعنى أنه يسعى لتحديد الذات الممارِسة للسلطة. وضمن هذا المنهج هناك نقاشات ساخنة وجدل لا يتوقف ما بين منظري ” التعددية ” أو ” نخبة السلطة ” و ” الطبقة الحاكمة “.
• أما المنهج الثاني فهو ذلك المنهج الذي يتعامل مع هذه القضية بطريقة رجل الأعمال مركزاً على السؤال : ما الكمية ؟ بمعنى ماهي كمية السلطة ؟ وفي مسعى الإجابة على هذا السؤال يدعو هذا المنهج الى التشديد على السلطة كفعل power to do وليس السلطة على power over، والتشديد على تبادل السلطة وتراكمها وليس توزيعها. يعتمد التحليل السياسي من هذا الطراز على أحد الأشكال المختلفة للنظرية الإقتصادية الليبرالية. إن السلطة تدرس ضمن هذا المنهج من خلال الأفضليات، أو البدائل أو الخيارات الممكنة.
• في حين أن المنهج الثالث، هو المنهج الماركسي، بتنوع تياراته ومداخله المختلفة. في مسعاه لإنتاج معرفة سليمة عن طبيعة السلطة السياسية لا ينطلق من ” وجهة نظر اللاعب ” بل من العملية الإجتماعية السابقة، أي عملية إعادة الإنتاج الإجتماعي. وبتكثيف يمكن صياغة السؤال الرئيسي لهذا المنهج كما يلي: ماهي طبيعة السلطة وكيف تتم ممارستها ؟ نقطة التركيز، إذن، في التحليل الذي يعتمده هذا المنهج، ليست الملكية ولا المالكين بحد ذاتهم، بل علاقات الإنتاج التاريخية المحددة، في ترابطها الوثيق بقوى الإنتاج من جهة وبالدولة ومنظومة الأفكار الإجتماعية السائدة في التشكيل الإجتماعي التاريخي الملموس من جهة ثانية. إن هذا المنهج ينظر الى الدولة بإعتبارها مؤسسة مادية محددة تتمركز عندها علاقات القوة ضمن المجتمع. إن الدولة، بحسب هذا المنهج، لا تمتلك سلطة بحد ذاتها، بل إنها ” المؤسسة ” التي تتجمع السلطة فيها وتمارس. يمكن الاستنتاج، إذن، بأن النقطة الأساسية التي يركز عليها هذا المنهج، ليست العلاقات الشخصية بين مختلف ” النخب “، كما أنها ليست ” عملية اتخاذ القرارات ذاتها “، بل هي تأثيرات الدولة على إنتاج وإعادة إنتاج معينة، سواء كانت هذه التأثيرات حقيقية أو مفترضة. يجب أن يكون واضحاً إن حلقة إعادة الإنتاج التي تربط الدولة، كأحد مكونات البناء الفوقي، بالقاعدة الإقتصادية هي حلقة تفاعل متبادل. فالقاعدة الإقتصادية تقرر البنية الفوقية السياسية عبر دخولها في عملية إنتاج سلطة الدولة وجهاز الدولة، لكن يتعين التأكيد على طبيعة العلاقة هذه. إن العلاقة بين أنماط الدولة وأساليب الإنتاج السائدة ليست علاقة ميكانيكية بسيطة بل هي علاقة مركبة ومعقدة في أن. إن هذا التعقيد هو نتاج تداخل المؤثرات الداخلية والخارجية وتفاعلها وانعكاسها على نمط الدولة والأشكال التي تتخذها، وعلى وجه الخصوص محتوى التراكم الإقتصادي وحجمه والتحولات الإجتماعية المرافقة له في منشأه وتحول الأنظمة السياسية وطبيعة السلطة ذاتها .
ينطرح، إذن، سؤال أخر هو : كيف تؤثر الدولة وتدخل في عمليات إعادة الإنتاج الإجتماعي ؟ إن هذا يتقرر عبر : ماذا يتم فعله من خلال الدولة ؟ وعبر ذلك : كيف يتم ذلك من خلال الدولة ؟
عندما يجري الحديث عن طبقة ما تمسك بزمام السلطة، فإن المقصود بذلك أن ما يتم فعله من خلال الدولة، يؤثر إيجابياً على إعادة إنتاج نمط الإنتاج الذي تكون الطبقة المقصودة هي ممثلته السائدة. غير أنه ينبغي التحذير هنا من إساءة تفسير التعابير الشائعة من قبيل ” أخذ ” و ” الإمساك ” بسلطة الدولة، على أنها تعني أن سلطة الدولة هي شيء يمكن لمسه باليد. إن هذه القضية هي أبعد وأعقد من ذلك بكثير. فهي، بالأحرى، عبارة عن عملية تدخلات في مجتمع معين من قبل ” مؤسسة منفصلة ” هي الدولة، تتركز لديها الوظائف العليا في المجتمع والمتمثلة في : وضع القانون، تطبيق القانون، تعديله، فرضه والدفاع عنه ” عند الضرورة “. ولهذا فإن ” أخذ ” سلطة الدولة و ” الإمساك ” بها يعني بدء نمط معين من التدخل من قبل ” هيئة خاصة ” مخولة للقيام بتلك الوظائف .
غير أن الملاحظة السابقة، على أهميتها، لا تكفي بل يتعين الإشارة الى ثلاث قضايا أخرى هامة وهي :
• الأولى : إن الدولة، في بنيتها، ليست واقعاً جامداً، بل يحتمل شكل الدولة تغيرات متنوعة، هي نتاج ورهان الصراع السياسي. وقد تكون تلك التغيرات في بعض الأحيان ” راديكالية “. ولا تستخدم الطبقة المسيطرة الدولة كما لو أنها علاقة تصرف حر إرادي تجاهها بل أن هذه الطبقة تتشكل ويعاد إنتاجها بفضل التغيرات الحاصلة في الدولة كآلة. وإذا لم يكن مفهوم ” آلة الدولة ” قد أُعلن رسمياً، فهو حاضر عملياً على الدوام.
• الثانية : تتضمن السلطة السياسية لطبقة ما والتي هي نتاج وشرط لسيادتها الإقتصادية، سلطة فعلية للممثلي هذه الطبقة على جهاز الدولة. ولأن هؤلاء الممثلين هم أنفسهم دوماً أعضاء في ” شريحة ” محددة من الطبقة المسيطرة فإنه يمكن للسلطة السياسية أن تكون رهاناً للصراع فيما بين هذه الشرائح. ومنعاً لأي التباس منهجي يجب عدم خلط السلطة الفعلية الخاصة بالماسكين بآلة الدولة مع سلطة الدولة المنظمة قانونياً على المجتمع، ذلك لأن هذه الأخيرة هي التي تؤول الى تحقيق السلطة الفعلية.
ومع أن الدور الذي تحتله التناقضات الداخلية بين الشرائح المختلفة للطبقة المسيطرة وصراعاتها الداخلية لاحتلال مراكز القوة هو دور ثانوي بالنسبة للتناقض الرئيسي إلا أنه ما يزال هاماً. إن التجليات لمختلفة التي تتخذها الدولة وأشكالها ترتبط بتبديل مراكز القوة بين شرائح الطبقة المسيطرة. غير أنه يتعين التأكيد على أن السيطرة الإقتصادية والهيمنة السياسية لا تكونان متماثلين بشكل ميكانيكي. إذ يمكن لإحدى شرائح الطبقة المسيطرة أن تلعب الدور المسيطر في الإقتصاد ولكن من دون أن تحظى بالهيمنة السياسية، والتاريخ شاهد لا يجامل.
• الثالثة : تحقق آلة الدولة علاقة طبقية تنعقد في مكان أخر، في الميدان الإقتصادي. غير أن الميكانيزم الذي يحقق هذه العلاقة إنما يحققها وهو يعمل على إخفائها ! إن عمل الدولة الأخير الذي يتكون بفعل وجودها وتحولها الخاصين بها، هو تكوين المجتمع والدولة نفسها في مواجهة أحدهما للأخر. يكمن عملها في تحقيق هذه المعارضة التي هي، في الوقت نفسه، تبعية وتوحيد، وهي تجعل سيطرة المصالح المهيمنة ممكنة بفضل تحقيقها من خلال تغليف المجتمع المدني الذي تحققه بمثابة دولة. هكذا يسمح اشتغالها، إذن، بممارسة السلطة من قبل الممثلين ” الشرعيين ” الذين جرى تكوينهم لإنجاز هذه المهمة ولاحتلال موقع ممثلي المجتمع، الموقع الذي أكتسب شرعيته أولاً وتم إخفائها .
لا تعني الملاحظات السابقة أن الدولة طاقم مفكك الأقسام والمستويات كتفسير لتقاسم السلطة السياسية بين طبقات وشرائح متعددة، بل أن الأمر هو غير ذلك تماماً. إذ فوق التناقضات ضمن أجهزة الدولة المختلفة وخلفها، تحمل الدولة دائماً وحدة داخلية متميزة، هي وحدة سلطة الطبقة المسيطرة أو الفئة المهيمنة، غير أن هذا يحدث بشكل معقد وليس بصيغة مباشرة، بل عبر توسطات.
إن إعادة إنتاج مجتمع محدد تبين أن إعادة إنتاج نمط أداء وظيفة كعملية اجتماعية مستمرة، لا تتوقف، يتم من خلالها إنتاج السلع وتوزيعها ولاستهلاكها، وكذلك إعلان الأوامر وتطبيقها، علاوة على استعراض العنف أو ممارسته ” عند الضرورة “، وكذلك معايشة الأفكار ووضعها موضع التطبيق الفعلي. ونظراً لأن أي نشاط إنساني لابد أن يكون له هدف محدد فإن لإعادة الإنتاج هدفين هما : المواقع في بنية اجتماعية معينة، وكذلك الأشخاص اللازمين لتشغيلها .
ونستطيع، إذن، أن نقول بأن إعادة الإنتاج الموسع للطبقات الإجتماعية ( للعلاقات الإجتماعية) يستلزم عمليتين لا يمكن تواجد أحدهما بمعزل عن الأخرى :
• أولاً : ثمة إعادة إنتاج موسعة للمراكز التي يحتلها الوسطاء، وتجلو هذه المراكز التحديد البنيوي للطبقات، أي الطريقة التي من خلالها يعمل التحديد المذكور على ضوء البنية ( علاقات الإنتاج ، علاقات السيطرة/الخضوع السياسية والإيديولوجية) في الممارسة الطبقية.
• ثانياً : هناك إعادة إنتاج للوسطاء أنفسهم وتوزيعهم على هذه المراكز. إن الوسطاء سيعاد إنتاجهم ” تدريبهم على الإذعان ” لكي يحتلوا مراكز معينة، ولهذا فإن توزيعهم لا يعتمد على
اختياراتهم أو طموحاتهم بل على مجرد إعادة إنتاج هذه الوظائف التي تسمح بإعادة إنتاج السيطرة دون ” عوائق “. ونظراً لأن التوزيع الرئيسي يندرج تحت إعادة الإنتاج الرئيسية للمراكز التي تحتلها الطبقات الإجتماعية خلال مختلف مراحل تطور التشكيل الإجتماعي المحدد، فإن التوزيع الرئيسي هذا يعني لجهاز ما أو سلسلة أجهزة، الدور الخاص المنوط بها والذي ينبغي أن تلعبه في توزيع الوسطاء.
يتم الاستيلاء على سلطة الدولة ضمن حقل مكون من نوعين ثابتين من العلاقات. فالدولة بالرغم من مظاهر الأشياء، تمثل مجتمعاً طبقياً، وخصوصاً الطبقة السائدة، كما أن الدولة تتوسط في العلاقات الإجتماعية ما بين ” الحاكم والمحكوم “. تعني إعادة إنتاج سلطة الدولة لطبقة ما ( أو جزء منها أو تحالفاً معيناً )، إعادة إنتاج تمثيلها في قيادة الدولة والتوسط لفرض غلبتها على بقية الطبقات.
تتحكم مشكلات التمثيل والتوسط فيما يسمى بالاستقلال النسبي للدولة. إن معنى عبارة ( الاستقلال النسبي للدولة) هو أن سياستها تمثل محصلة الممارسة السياسية العملية، والتي يتعين عليها وباستمرار أن توفق بين مصالح جماعات مختلفة، والتي تكون شديدة التأثر بتاريخ طويل لمثل هذه التسويات والإيديولوجيات التي تقف ورائها، ولذلك فإن سياسة الدولة ليست بالضرورة عقلانية بأي معنى من المعاني البسيطة. غير أن أهمية الاستقلال النسبي للدولة يتجلى بوضوح شديد في حقبات تاريخية تصبح فيها التناقضات بين الطبقات الإجتماعية شديدة الى حد كبير ولا يسمح ميزان القوى القائم في اللحظة التاريخية لأي من الطبقات أن تفرض سلطتها بصورة مستدينة، مما يستدعي مجيء ” بيروقراطية الدولة ” وارتقائها فوق الطبقات، ناصبة نفسها قوة مستقلة وتقيم سلطتها الخاصة غير الخاضعة للرقابة. ويعبر النموذج البونابرتي عن هذه الأطروحة بأعمق الوضوح.
إن الاستقلال النسبي لنموذج الدولة البونابرتية حيال الطبقات أو الفئات المسيطرة يتمتع بأهمية خاصة ومتميزة لكونه حصيلة الأزمة السياسية وتوازن القوى، الذي ينتمي هذا الاستقلال اليهما معاً. وهو على أية حال استقلال نسبي ” ضروري ” لهذه الدولة من أجل إعادة تنظيم توازنات الكتل الموجودة في السلطة، ومن أجل إعادة تنظيم الهيمنة، وذلك ضمن إطار الأزمة السياسية، التي غالباً ما تبرز فيها ” الفئات الوسطى ” كقوى اجتماعية تتميز بثقل سياسي مؤثر وفعال.
لقد أدى توطد البيروقراطية والانفصال الظاهري للسياسة عن الإقتصاد الى سيادة الوهم القائل بتجرد الدولة ورئيسها وإدارتها عن الصراعات. غير أنه من المهم التذكير بأنه ليس لهذا الاستقلال وهذه ” الذاتية ” صفة الشمولية والثبات. فقد فوضّت الطبقة المسيطرة السلطة السياسية لبونابرت مؤقتاً غير أنها بقيت المهيمنة. يعني ذلك أن الطبقة المسيطرة سخرت الديكتاتورية البونابرتية لحل عقدة ” التوازن ” بينها وبين خصومها لصالحها. وعندما تم إنجاز هذه المهمة بنجاح، تم وبطريقة ” مهذبة ” إزاحة الدكتاتور وترحيله الى حيث مصيره المحتوم .
ومن جهة اخرى يشير بعض الباحثين اليوم الى مسألة تراجع مكانة الدولة في الحقبة الراهنة بالمقارنة مع موقعها من العملية الاجتماعية، الاقتصادية والسياسية والثقافية، في الحقبة الكلاسيكية لبناء الدولة الحديثة، وأول ما يشيرون إليه كمصدر لهذا التراجع هو العولمة. فبما تخلقه العولمة من فضاءات تتجاوز سلطة الدولة القومية، وبما تستخدمه من تقنيات تضعف إن لم نقل تلغي سيطرة هذه الدولة على مواطنيها وتربطهم بشبكات للاتصالات والمعلومات والتبادل الثقافي والاقتصادي معا تتعدى كثيرا الإطار الوطني التقليدي للدولة، تنشيء هذه العولمة وضعية جديدة تجد فيها الدولة نفسها فاعلا صغيرا وضعيفا مقابل الفاعلين الجدد الكبار الذين يحتلون اليوم، أكثر فأكثر ميادين النشاط الانساني في كل المجتمعات ويتحكمون به، نعني الشركات العالمية العابرة للحدود والقوميات والمؤسسات الدولية القائمة فوق الدول والأوطان. ويبدو الأمر كما لو أن العولمة التي تطور فضاءات معولمة أو عالمية للنشاطات البشرية ما فوق الوطنية تعمل بمثابة إسفين يدق بين الدولة والمجتمع، وتعمل بالتالي على زيادة الصدع والتباعد بينهما.
والحال أن العولمة لا تزال وستبقى مفهوما واسعا ومشوشا لا يكفي لتفسير ما يطرأ على المجتمعات التي لا تزال إلى حد كبير مجتمعات وطنية، أي تخضع لقواعد وآليات التنظيم القومي للسلطة والحدود والسياسات بصرف النظر عن التراجع الذي تلقاه سياسات الدولة المركزية نفسها داخل هذا الاطار الوطني.
المبحث الخامس: الديمقراطية : بعض الاشكاليات العامة
شهدت السنوات الاخيرة وتحديدا منذ بداية تسعينات القرن العشرين تصاعد ” حمى الديمقراطية “. نحن، إذن، شهود ظاهرة ملفتة للنظر تتجلى بالعودة الى أدبيات وفاهيم الفكر السياسي الليبرالي، بعد أن ظل الخطاب السياسي للعديد من القوى ولعقود طويلة ينتقد بلا هوادة ” الديمقراطية البرجوازية ” و ” الديمقراطية الشكلية ” و ” ديمقراطية النخب ” ….. الخ.
تنتعش، إذن، في الكتابة السياسية اليوم المفاهيم الليبرالية، وتتحول الديمقراطية الى محور يستقطب النظر السياسي، سلطة سائدة، ومعارضة، وهيئات وتنظيمات وأفراد. ويرافق ذلك تنشيط النقاشات والمساجلات حول ضرورة انبثاق وتطور مؤسسات المجتمع المدني كضمان لأن تصبح السيرورة الديمقراطية عملية لا رجعة فيها.
يتعين التأكيد على أن التركيز على دور مؤسسات المجتمع المدني قد لفت الانتباه الى جانب هام لاشكالية الديمقراطية وإن الديمقراطية لا تنحصر في بعض الممارسات السياسية مثل التعددية الحزبية، وتنظيم الحكم طبقا لمبادئ دستورية تضمن فصل السلطات عن بعضها البعض واختيار الحكام من خلال انتخابات غير مزيفة …. الخ. فالممارسة الديمقراطية الصحيحة في السياسة تفترض دمقرطة المجتمع. ودون هذه الصيغة لا تضرب الديمقراطية جذورا في أرضية المجتمع فتظل شكلية وسطحية دون أن تكتسب شرعية غير قابلة للانقلاب.
غير أن السؤال الاساسي الذي يطرح نفسه وبحدة هو : ما هي الديمقراطية ؟. يتعين، إذن، أن نحدد في البدء مفهوم الديمقراطية. بداية لا بد من القول أن الديمقراطية كمفهوم هو بطبيعته اشكالي. انها مفهوم متعدد الدلالات. ولكن الديمقراطية، بتعريفها البسيط تعني سلطة الشعب. جوهر الديمقراطية، إذن، حكم الناس بالناس لصالح الناس. وقد بقي هذا الجوهر صحيحا منذ العهد الاغريقي القديم حتى يومنا هذا، بالرغم من ظهور الخلاف في المدينة اليونانية القديمة حول مفهوم الشعب. ولأن الديمقراطية حقيقة سياسية فإنها تعني مجموعة من المؤسسات والاليات لتنظيم الحكم، بما يضمن أن يكون هذا الحكم بواسطة الشعب ومن أجله.
ونستطيع، إذن، أن نطور هذه الاطروحة بالقول بأن الديمقراطية هي طريقة الحياة واسلوب الحكم الذي يقوم على أساس قيام السلطة على ارادة الشعب، وممارسة الشعب حريته، وحقه في اختيار السلطة التي تحكمه، بطريقة يقبلها، وضمان حقوقه الاساسية السياسية والاجتماعية في المساواة وحرية التعبير والتنظيم والعمل والمشاركة في صياغة الحياة السياسية والاجتماعية. إنها، إذن، سلطة الشعب. غير أن السؤال الذي يطرح نفسه فورا هو : أي شكل من اشكال الحكم يمثل سلطة الشعب، كيف يقوم الشعب بحكم نفسه، ماهو الشعب …..الخ؟.
إذا عدنا الى التاريخ وتأملنا التجارب الملموسة سنجد اشكالا متنوعة ونماذج مختلفة لما نسميه الديمقراطية خاصيتها المشتركة هي أنها أشكال تجمع بين الديمقراطية والدكتاتورية. تتيح الفكرة السابقة استخلاص مجموعة من الاستنتاجات من بينها :
– لا توجد ولن توجد هناك ما نسميه ديمقراطية في ذاتها، ديمقراطية مطلقة. ليست الديمقراطية، إذن، عبارة محايدة تفيد شيئا معلوما، وهي كذلك ليست وصفة شكلية ولا مجرد اجراء روتيني اداري في مجال السياسة. انها محصلة صراع القوى الاجتماعية ونتيجة المساومات الكبرى بين تلك القوى.
– إن الديمقراطية ليست نظاما غربيا فقط، إنما هي نظام انساني ساهمت البشرية، عبر تاريخها الطويل، في تطوره باتجاه التوازن بين السلطة كضرورة والحرية كمطلب اساسي للناس. هذه الاطروحة لا تلغي حقيقة أن الديمقراطية البرجوازية هي بلا شك، أكثر اتساعا وعمقا من أي ممارسة ديمقراطية سابقة لها أو رافقتها في حقبة تاريخية محددة.
– لم يتطور النموذج الليبرالي كنتيجة لمقولات محض فكرية أو فلسفية بقدر ما تطور كمحصلة لصراع اجتماعي داخل البلدان التي تطور فيها. وقد أدى ذلك الصراع الى تطور النموذج الديمقراطي الحالي، من خلال مشاركة طبقات اجتماعية متعددة فيه وعبر عدد من المراحل التاريخية، كانت معمدة بالتضحيات وبالدم !. يتعين التأكيد على حقيقة أن انتصار مبدأ الديمقراطية البرلمانية لم يتحقق قط في أي بلد من البلدان الغربية أثر انتصار ثورته البرجوازية بل ان حق الاقتراع العام والشامل لم يطبق في الغالبية الساحقة من الدول الرأسمالية المتطورة إلا أثر هزائم في حروب خارجية أدت الى توسيع القاعدة الاجتماعية للانظمة المهزومة (المانيا، ايطاليا، اليابان)، أو أثر حروب خارجية تطلبت نوعا من الاجماع الوطني لمجابهة المخاطر (انكلترا، بلجيكا، فرنسا، النرويج – في صراعها مع السويد)، ولم تشذ عن هذه القاعدة الا سويسرا.
إن التجربة التاريخية لهذا النموذج (الليبرالي) أنتجت اليات محددة أخذت تترسخ بمرور الزمن. وتوجد العديد من الاليات، لكن هنالك اربع اليات اساسية يمكن اعتبارها تمثل مجموع الخبرة النظرية والتطبيقية للديمقراطية كعملية للحكم وكإطار مؤسسي وليس كفلسفة ونظام اجتماعي. وهذه الاليات هي :
- الالية الاولى: التعدد التنظيمي المفتوح، أي حرية تشكيل الاحزاب والمنظمات والجمعيات السياسية دون قيود. وهذه هي الالية المتعلقة بالنظام الحزبي.
- الالية الثانية: تداول السلطة السياسية من خلال انتخابات حرة تنافسية تتيح انتقال السلطة وفقاً لنتائجها. وهذه هي الالية المتعلقة بالنظام السياسي.
- الالية الثالثة: وتشمل منظومة الحقوق والحريات العامة التي اصبح توافرها مقياسا لاحترام حقوق الانسان، وهذه هي الالية هي الالية المتعلقة بالنظام القانوني.
- الالية الرابعة: وهي الية المؤسسة، غيابها يساوي غياب الديمقراطية. مضمونها النظري يعتمد على وجود قاعدة موضوعية تحدد اختصاصات كل جهاز من اجهزة الدولة التي هي مؤسسة المؤسسات. لماذا هي جوهرية ؟ باختصار شديد نجيب : لأنه قبل تبلورها كان بمقدور لويس الرابع عشر أن يقول ” أنا الدولة والدولة أنا “، وهو محق في ذلك لأنه كان يعبر عن حقيقة قانونية كانت قائمة بالفعل، حيث كانت ارادة الحاكم هي ارادة الدولة.
الديمقراطية الحديثة تفترض ” المواطن ” وهو مفهوم يختلف عن مفهوم ” الرعايا ” أو ” المؤمن ” في النظم السابقة للراسمالية. كما تفترض الديمقراطية ” العلمانية ” أي فصل السياق الديني عن السياق السياسي/ الدولة. ولاشك أن البعض يخشى أن تكون العلمنة ابتعادا عن التمسك بمبادئ الدين وهو لا يناسب ميول أغلبية الشعب، في حين أن العلمنة هي بالعكس الوسيلة الوحيدة لحفظ المبادئ الدينية بعيدة عن التزوير الذي تعاني منه نتيجة تدخل المصالح الاقتصادية الطبقية ومناورات السياسية.
هكذا نرى أن مجموع هذه السمات تعطي للديمقراطية معناها الحديث هو الاخر وتحول دون التشبيه بين هذه الظاهرة وظواهر مماثلة أخرى ” ظاهريا ” خاصة بالعصور القديمة.
وكذلك فإن مؤسسات ” المجتمع المدني ” هي خاصة بالرأسمالية إذ أنها مؤسسات مرتبطة بممارسة الديمقراطية. وبالتالي فإن وظائفها خاصة ومختلفة جوهريا عن الوظائف التي قامت بها المؤسسات ” الاهلية “الشبيهة ظاهريا في الماضي.
فعلى مستوى الوظائف الايديولوجية والثقافية مثلا قامت ” المدرسة ” القديمة بالاساس على العلوم ” النقلية ” بينما دور المدرسة الحديثة هو تطوير القدرة العلمية. فالايديولوجيات القديمة قامت، إذن، على ” الاجتهاد “، بينما الحديثة تعتمد أساسا على الابداع.
أما على مستوى الوظائف السياسية كانت مجموعة المؤسسات القديمة تنحصر في الاجتهاد وتأويل النصوص بغرض ضمان ” الاستمرارية التقليدية ” ، أما وظيفة المؤسسات الاهلية الحديثة فهي بالاساس تطوير المفاهيم والممارسات المجتمعية بحيث تتكيف مع التطور الاقتصادي القائم على التجديد. فالديمقراطية في هذا الاطار قائمة على الابداع ” الحر ” أي غير المقيد بأية نصوص.
في حين على مستوى الوظائف الاقتصادية كانت المؤسسة القديمة (مثل الطوائف المهنية) تستهدف الحؤول دون ” المنافسة “، بينما المؤسسات الحديثة تقوم بالدور العكسي وهو دفع ” المنافسة ” ولو شملت هذه الوظيفة أيضا ” إدارة ” هذه المنافسة وتأطيرها.
ونستطيع تلخيص ذلك بالقول بأن الجمع أو المماثلة بين مؤسسات الماضي ومؤسسات ” المجتمع المدني “الحديث يلغي التمييز الاساسي بين وظائفها ويسويها على أساس قاسم مشترك شكلي وفارغ من أي مضمون محدد. إن هذا النوع من المماثلات التي لا تقارب المفاهيم في حدودها الخاصة وشروطها التاريخية المواكبة لنشأتها وتطورها، تؤدي في النتيجة الى تعويم المفاهيم.
المبحث السادس: المجتمع المدني والدولة السياسية في العالم العربي – بعض التعميمات
ثمة حاجة ملحة للتمييز بين خصائص نشوء وتطور المجتمع المدني في البلدان المتطورة والبلدان النامية بشكل عام، وبلداننا العربية بشكل خاص.
بداية، لابد من التذكير واستنادا الى بعض عناصر التحليل السابق بأن نزعة الانكفاء عن الدولة كراع وحيد للتقدم والتحديث والتنظيم المدني للمجتمع تعبر عن ولادة ما أعتقد أنه موجة جديدة من الديمقراطية أو ما يمكن تسميته بالديمقراطية الجديدة أو المجددة. فقد تركزت الديمقراطية الكلاسيكية أو في المرحلة الأولى على إصلاح الدولة وأساليب ممارسة السلطة من قبل القائمين عليها، وكان أفضل تعبير عنها بناء الدولة الدستورية والقانونية وتثبيت مبدأ فصل السلطات، واستقلال المؤسسات الرئيسية بعضها عن البعض الآخر وتحديد مسؤوليات الحاكمين وإخضاعها للمراقبة الاجتماعية المستمرة. أما في المرحلة الجديدة فإن هناك نزعة قوية للنظر إلى الديمقراطية من داخل المجتمع أو لبناء أسس الديمقراطية الاجتماعية. فالمرحلة الأولى كانت مرحلة الدولة الديمقراطية، والمرحلة الثانية هي مرحلة المجتمع الديمقراطي. والمجتمع الديمقراطي لا يقوم على وجود دولة قانونية وديمقراطية فحسب ولكنه يتجاوز ذلك نحو توطين مباديء الديمقراطية في ممارسات الفرد والجماعة معا. وفي هذا الاطار يستعيد التفكير السياسي النظر في كل ما كان غائبا في الديمقراطية الكلاسيكية، نعني التركيز على السلطة أو السلطات الاجتماعية والسعي إلى تطويرها والعمل على تغذيتها بالمباديء والقيم التي حكمت دمقرطة السلطة السياسية العمومية. وهكذا فإن الاستثمار المادي والمعنوي يتجه أكثر فأكثر في الدول ذات الديمقراطية الناضجة من التركز على السلطة المركزية والدولة نحو السلطات الاجتماعية. وتزداد مراهنة الرأي العام على هذه السلطات في تحقيق الأهداف التي لم يعد من الممكن للدولة.
ومن هنا تعيش فكرة التعددية مرحلة تجديد في جميع أشكالها، وتضطر الدولة تلبية لذلك في جميع بلدان الديمقراطية الناجزة إلى أن تزيل احتكارها الذي بقي مفروضا خلال الفترة الطويلة السابقة على مجالات مختلفة. وبالمثل تكاثرت المنظمات غير الحكومية التي تهتم بالشؤون ذاتها الوطنية والدولية التي كانت من اختصاص الدول حتى وقت قريب. وأصبحت منظمات حقوق الانسان مثلا من أهم الهيئات التي تحظى بالشرعية العالمية للتصدي للحكومات المستبدة والقمعية. كما أصبحت منظمات المشاركة في التنمية ودعم الشعوب أو الجماعات الفقيرة أو التي تتعرض لكوارث طبيعية أو تهديدات خطيرة أكثر نشاطا من المنظمات الرسمية على صعيد الكرة الأرضية. وفي مواجهة سياسات العولمة الجديدة التي تطورها مجموعة الدول الصناعية الرئيسية، نمت ولا تزال تنمو منظمات أهلية عالمية تمثل أدوات ضغط متزايد على الدول الصناعية في ميدان ضمان الحقوق الاجتماعية أو توجيه السياسات الدولية وجهة إنسانية. وبالمثل تتكاثر الجمعيات المحلية التي تأخذ على عاتقها مهام تنظيم الحياة الأهلية للفئات أو للمجموعات القومية أو للنشاطات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية لهذه الشريحة أو تلك من السكان.
جاء الحديث المتزايد عن المجتمع المدني ومؤسساته في الدول الصناعية كدليل، إذن، على نضج الديمقراطية أو اكتمالها ونضج المجتمعات معا وارتفاع درجة التفاعل والتواصل بين الدولة والمجتمع. فالدولة، بغض النظر الى اهدافها الفعلية، هي التي شجعت المجتمع على المبادرة واحتلال مواقع بقيت تحتلها منذ فترة طويلة وسهلت قانونيا وتنظيميا نشوء مؤسسات مدنية وقدمت لها ولا تزال تقدم لها الدعم المالي والتنظيمي والقانوني لتقوم بالدور الجديد الملقى عليها.
وباختصار، نستطيع أن نقول إن ” المجتمع الديمقراطي ” في البلدان المتقدمة يأتي هنا مكملا وامتدادا للدولة التي كانت في أصل نشوئه، وهي لا تزال ترعاه حتى لو كانت تخاف من تجاوزاته على الصلاحيات الجديدة التي أخذت تحصر عملها فيها. فالدولة تدرك أيضا أن ما يقوم به المجتمع المدني، أي المؤسسات الخاصة غير الحكومية، لا تستطيع هي أن تقوم به، وأنه في مواجهة المنافسة الدولية المفتوحة والتي ستفتح أكثر فأكثر، من مصلحة الدولة عموما والمجتمع ككل أن تتطور وتتدعم المؤسسات المدنية وتزداد نشاطا في الداخل والخارج.
وبالعكس من ذلك يأتي الحديث المتزايد والمتضخم عن المجتمع المدني في البلاد النامية، ومنها البلاد العربية كتعويض عن غياب هذا المجتمع تماما وكرد على الفراغ الذي أحدثه في الفضاء العمومي تفسخ الدولة وتحلل السلطة العمومية إلى سلطة أصحاب مصالح خاصة، وانهيار أي قاعدة قانونية ومؤسسية ثابتة وراسخة للدولة والمجتمع معا. ولذلك فهو يبقى هنا ويستمر يعمل في إطار الايديولوجية، مما يعني أيضا سهولة استعماله كأداة أو كوسيلة لتحقيق أهداف وتدعيم مواقف وتأكيد مساعي متنوعة وأحيانا متناقضة، سياسية وعقائدية واقتصادية من دون أن يكون غاية في ذاته. فهو ليس مقصودا لما يمثله من إطار نظري وقانوني لبناء سلطة اجتماعية مستقلة بالفعل عن النزاعات السياسية وقادرة على المشاركة مباشرة في ايجاد الحلول من خارج المجال السياسي الرسمي للعديد من المشاكل والتحديات المجتمعية، وإنما لغيره، أي لأهداف تتعلق سواء بالسياسة بمعنى الصراع على السلطة كمواقع ومناصب أو بالوجاهة أو بالمنافع المادية التي تزداد قيمة بقدر ما تزداد مساعدات الدول الصناعية لهذا القطاع الجديد من النشاط الدولي.
وبقدر ما تبدو الدولة في البلدان النامية بشكل عام بوصفها أكثر فأكثر تجسيدا لمجال المصالح الخاصة والجزئية وغياب القانون، ينمو نزوع قوي إلى البحث عن المواطنية والعمومية والمصالح الوطنية والحرية في المجتمع المدني ذاته، أي خارج الدولة. فالمشكلة الحقيقية التي تحاول أن ترد عليها هنا إشكالية المجتمع المدني ليست تنظيم المصالح الخاصة، ولكن بالعكس تنظيم المصالح العامة. ومن هنا التخبط والصعوبة الهائلة في تحديد هذا المفهوم والتناقض الكبير الذي يفترضه استخدامه بينه وبين الدولة. فالاشكالية تبدو هنا مستحيلة، نعني محاولة بناء العام في قلب الخاص، مما يعني في الواقع إعادة ولادة الدولة من قلب المجتمع، مما يجعل النخبة المسيطرة على الدولة تشعر بأن فكرة المجتمع المدني تنطوي على إنشاء دولة بديلة أو دولة !!.
ومصدر كل هذا الاختلاط والتخبط هو إخفاق الدولة القومية، بمعنى الدولة/الأمة، دولة المواطنين، في هذه البلدان، مما يضعنا أمام مسار تاريخي مختلف تماما عن ذاك الذي عرفته المجتمعات الغربية، وأحيانا معاكسا له.
وهذا يعني في الواقع أنه كما أن تطور المجتمع المدني في البلدان الراسمالية المتطورة ليس منفصلا عن تطور الدولة الديمقراطية فإن غياب الدولة الديمقراطية في العالم النامي، والعالم العربي بشكل خاص، ليس منفصلا أيضا عن غياب المجتمع المدني أو تحييده وما يضمه من مؤسسات اجتماعية مستقلة فاعلة تقوم بتأدية مهام مرئية وثابتة في المجتمع وتكتسب نتيجة ذلك مواقع وصدقية وشرعية حقيقية.
فعلى سبيل المثال منذ الاستقلال السياسي الذي حصلت علية البلدان العربية، احتلت جهاز الدولة في العديد منها نخبة سياسية – إدارية من مختلف شرائح الفئات الوسطى، وعملت على تعبئة مختلف الفئات والطبقات الاجتماعية بهدف تشكيل قاعدة اجتماعية وجماعة سياسية مساندة للدولة الجديدة – من حيث هي كيان سياسي قانوني -، وقطب تحقيق جماعي للذات – تبحث عن إضفاء الشرعية على تأسيسها، والتغلب على الازمات التي كانت تهددها في وحدتها ووجودها، في مختلف مراحل نموها، انطلاقاً من قوة المساندات هذه. ومع ذلك ظل تكوين هذه الدول الجديدة المنبثقة من الاستقلال السياسي هشاً، ويعاني من نقص بنيوي في إضفاء الشرعية، بسبب ممارسة هذه الدولة البعد الوصائي على المجتمع المدني الوليد .
إن النخبة السياسية الحاكمة التي قادت الكفاح الوطني في عهد الاستعمار في العديد من البلدان ، كانت تعبر عن الموقع المفصلي لايديولوجية النزعة القومية الكليانية في خصوصيتها المحلية، التي تتسم بها هذه الفئات الوسطى في ممارستها للصراع الوطني باسم الوطن، باعتباره كياناً قائماً بذاته. وكانت هذه الفئات الوسطى توظف هذه الايديولوجية القومية الكلية في خدمة قضية الاستقلال الوطني على الصعيد المحلي، وبناء الدولة القطرية. ويوضح الدكتور محمد عابد الجابري هذه المسألة حين يؤكد على توظيف فكرة ” الوحدة” في خدمة الدولة القطرية قائلاً: (لقد اتجه تاريخ الكفاح الوطني في الأقطار العربية بفكرة ” الوحدة ” إلى خدمة نقيضها : الدولة القطرية، بعثها وبلورتها وترسيمها. نعم كان هناك بعد ايديولوجي يطفو من حين لآخر على ساحة الخطاب النهضوي العربي ليعطي لمفهوم ” الوحدة” مضموناً مستمداً من وحدة التاريخ واللغة حيناً، ومن وحدة المصير والطموحات حيناً آخر. وكان هذا في المشرق خاصة. أما في المغرب العربي فقد كان مفهوم الوحدة قبل سنة 1956 يستقي مضمونه الايديولوجي من تأكيد الهوية العربية الاسلامية لشعوب شمال افريقيا، رداً على محاولات السياسة الاستعمارية فصل المغرب العربي عن المشرق العربي. وهكذا فبينما كان مفهوم ” الوحدة ” يستقي مضمونه الايديولوجي في المشرق من الاتجاه عمودياً إلى الماضي أوالمستقبل أو إليهما معاً، كان المفهوم نفسه في المغرب العربي يستقي مضمونه الايديولوجي من الاتجاه أفقياً إلى الارتباط بالمشرق تأكيداً للانفصال عن فرنسا) .
الملاحظ أيضاً أن هذه الفئات الوسطى الحاملة ايديولوجية القومية الكلية في البلدان التي كانت تحت السيطرة الكولونيالية، قد ولدت وتشكلت في إطار البنية الاجتماعية الكولونيالية في المجتمعات المجزأة بتعدد الانخراط في الرأسمالية الكولونيالية، وغير المتجانس، وذلك بتأثير علاقات الانتاج الكولونيالية، وهي تختلف كلياً عن ” الطبقة الوسطى ” في الغرب التي بسبب من تكونها التاريخي، في إطار علاقات الانتاج الاقطاعية عينها كانت تمثل فيه القوة الاجتماعية الرئيسية الثورية الحاملة في صيرورتها الطبقية نظام انتاج رأسمالي جديد قائم بذاته، يدفعها إلى نقض ثوري لبنية علاقات الانتاج هذه، في مرحلة التكون التاريخي لعلاقات الانتاج الرأسمالية، وإجراء التحولات الثورية فيها للافساح في المجال لتطور القوى المنتجة، بهدف فرض هيمنتها الطبقية على سائر الطبقات الاجتماعية الأخرى، من خلال الاضطلاع بالدور المركزي والقيادي للثورة الديمقراطية البرجوازية، وانتزاع السلطة السياسية من الطبقة الاقطاعية القديمة .
وارتباطا بهذه المقاربة، فإن المضمون الايديولوجي لهذه الفئات الوسطى يختلف جذرياً عن مضمون الطبقة الوسطى الكلاسيكية في الغرب، ولا يوجد أي منطق تماثلي بنيوي بينهما. ولهذا عندما مارست هذه الفئات النضال الوطني، مارسته في إطار من المحافظة على البنية الاجتماعية الكولونيالية، لا على أساس التحويل الثوري لعلاقات الانتاج القائمة. ومن هنا كانت عقلانية هذه الفئات عقلانية” ثورة من الاعلى ” لأن الحركة الإصلاحية التي اضطلعت بها الدولة الجديدة بهدف إضفاء تجانس اجتماعي، وتحديث البنى والعقليات، قد قادت إلى أن يصبح للدولة ذاته جهاز للهيمنة خارج على المجتمع وصولاً إلى إلغائه، وهو ماكانت نتيجته تفاقم القطيعة بين الحاكمين والمحكومين.
وهذا التطور المفرط للجهاز كان يعني في الوقت نفسه غياب فضاء عام محدد بصورة متميزة، ومجهز بقواعده الخاصة وبممثليه. وبمقدار ما كانت الدولة غير مفصولة عن المجتمع، كانت لا تستطيع تمثيله. والدولة التي كانت تشكل وحدة تامة مع جهازها وبيروقراطيتها، كانت خارجة عن المحكومين. إن الصفة الخارجية والتداخل، وجدا التعبير عنهما في، في العديد من البلدان، في مجمع الدولة – الحزب ” .
إن ما يميز الدولة في العالم العربي بعد الاستقلال هو طغيانها الكلي على مجموع المجتمع المدني بواسطة أنظمة حكم شديد المركزية أو حزب سياسي ذي طبيعة شمولية، ولكنه اكتسب شرعيته السياسية والتاريخية بفضل النضال ضد الاستعمار أو بفضل ” الشرعية الثورية ” عن طريق الانقلابات العسكرية، وهيمنت عليه ايديولوجيا توفيقيه أو ايديولوجيا شمولية اقصائية .
ومن جهة اخرى فإن المشروع التحديثي الذي أطلقته دولة الوصاية (حسب تعبير د.المنصب وناس، المصدر السابق) على المجتمع المدني، قد تم في سياق خيار أيديولوجي هجين، ادى الى تعميق التبعية الثقافية للخارج وفاقم التناقضات الاجتماعية والطبقية في الداخل. ومن الواضح أن التوتر والصدام بين ” دولة الوصاية ” التي تجسد في أيديولوجيتها القومية الكلية، وفي خطابها السياسي والثقافي سياسات تهدف مخاطبة المجتمع المدني، بهدف تدويله و ” تنويره ” بأسلوب تلقيني ووصائي.
وفي لحظة تاريخية ” فريدة ” ، انكشفت الهشاشة التكوينية للدولة العربية الجديدة المنبثقة من عهد الاستقلال السياسي، وانكشف معها طابعها المركزي التسلطي بعد اجهاضها للحظة الليبرالية التي كانت تشكل المجال السياسي الوحيد للمعارضة السياسية. وهذا يقودنا إلى القول بأن سيرورة تشكل الدولة العربية الحديثة في علاقتها بالمجتمع المدني من جهة، وبالقوى الاجتماعية من جهة أخرى، لم تتم في نطاق القطيعة مع ميراث الدولة الكولونيالية التي تمثل الاستمرار التاريخي للدولة البيروقراطية الحديثة، التي ولدت في أعقاب الثورة الديمقراطية البرجوازية في الغرب من ناحية، مثلما لم تتم القطيعة مع الدولة السلطانية التي سادت العالم الإسلامي من ناحية أخرى. وهذه الدولة الجديدة التي اضطلعت بتطبيق مشروعها التحديثي في نطاق علاقته بالمجتمع التقليدي الذي دمرت الرأسمالية الكولونيالية توازنه العرضي الذي كان سائداً والذي وسم المجتمع الكولونيالي بالتجزأ، والتذرر، والتباعد، والتنافر بين مختلف أطرافه، قد خلقت بيروقراطيتها الحديثة ذات الطابع المركزي المهيمنة على هياكل ومؤسسات السياسة والاقتصاد، والمتغلغلة في بنى ومؤسسات المجتمع المدني الوليد، حيث أصبحت هذه الدولة الحديثة التي توحدت مع جهازها وبيروقراطيتها الحديثة خارجة عن المجتمع المدني، ومنفصلة عنه. وكانت هذه الدولة تمثل في الوقت ذاته العنصر التكويني الرئيسي للعلاقات الرأسمالية وكونها “العلاقات الرأسمالية” باعتبارها دولة كانت تبحث دائماً عن ممارسة سياسة وسط معينة بين النموذج الليبرالي ونموذج رأسمالية الدولة، وكانت تجسد رأسمالية الدولة التابعة للمراكز الرأسمالية الإمبريالية الغربية بامتياز. لكن بعد تضخم هيمنة الدولة على المجتمع المدني وصولاً إلى تدويله، وإلغاء دور القوى الاجتماعية والشعب، انبثقت الدولة البيروقراطية التسلطية الحديثة التي امتلكت ناصية الاستبداد المحدث من “مصادر الاستبداد التقليدي بإحتكار الحكم مركز السلطة” من ناحية، ومن خلال “احتكار مصادر القوة والسلطة في المجتمع “عبر اختراق المجتمع المدني على مختلف مستوياته ومؤسساته”، و”بقرطة الاقتصاد إما خلال توسعة القطاع العام وإما بإحكام السيطرة عليه بالتشريع واللوائح (أي رأسمالية الدولة التابعة) وكون شرعية نظام الحكم تقوم على القهر من خلال ممارسة الدولة للإرهاب المنظم ضد المواطنين”، من ناحية أخرى .
إن مشروع التحديث الذي تبنته الدولة الجديدة منظور إليه من زاوية انعكاساته على مستوى المجتمع المدني، وفي علاقة الدولة بالمجتمع المدني، قد قام على أساس تجربة الحزب الشمولي الواحد أو الحاكم الاوحد ملكا أم رئيسا، وشرعية الزعامة الفردية السياسية والتاريخية للرئيس أو الملك، التي تتحكم فيها عقلية التكيف والإندماج والتحول في المراحل التاريخية التي خاضتها. وتكمن خصوصية التحديث في البلدان التي قامت بذلك في انفصاله الكلي عن المسألة الديمقراطية، سواء في مفهومها الليبرالي الغربي المتعلق بطبيعة المؤسسات السياسية والدستورية التي تفرزها، أم ببعدها المتعلق بالتوزيع العادل للثروة الوطنية، وتوجيه التنمية وفق اختيارات اقتصادية – اجتماعية تخدم مصالح الطبقات والفئات الاجتماعية الكادحة. وفي هذه المعادلة غير المنطقية التي تقيم جداراً صينياً بين مشروع التحديث ونمط الديمقراطية تكمن أزمة الفئات الوسطى الحاكمة في ديناميات بناء السلطة، وقضايا التحديث والتحرر، من حيث أنها نخبة مارست الاحتكار الفعال لمصادر القوة والسلطة في المجتمع، وأفرغت العملية السياسية من المعارضة حين ألغت المجال السياسي بهيمنتها المطلقة على المجتمع المدني، وإخضاعها المنظمات الاجتماعية والجماهيرية لهيمنة الحزب الحاكم، وتصفية أو تحجيم نشاط القوى السياسية الاخرى، وترييف المدن من خلال تهميش فئات الفلاحين وإبعادها عن كل تأثير سياسي، وإزدياد تدخلها في الاقتصاد، وخلقها مجالها السياسي الخاص بها. وأصبحت هذه البيروقراطية تعتبر نفسها هي المالكة الوحيدة لمعنى الدولة، مجسدة بذلك ظاهرة استبدادية محدثة من خلال احتكارها المطلق للدولة إلى الدرجة التي تقضي فيه بإطلاقية على كل مكونات المجتمع المدني السياسية والاجتماعية الأخرى، وعبر سيطرة نزعة التماثل أو التماهي الشمولية السرمدية مع الدولة. وكما يقول الدكتور خلدون النقيب، في دراسة جادة، فإن هذه الدولة البيروقراطية التسلطية في ” العالم الثالث ” هي تشويه للدولة البيروقراطية الليبرالية الحديثة، من حيث إفتقارها إلى القيود والضوابط الدستورية الديمقراطية. وفي الوقت نفسه، فإن النظام الاقتصادي للدولة البيروقراطية التسلطية وهو رأسمالية الدولة التابعة (تابعة لدول المركز الإمبريالية) هو تشويه لنمط الانتاج الرأسمالي .
إن الدولة البيروقراطية الحديثة التي تعتبر نفسها هي الممثلة للمجتمع، قامت بإقصاء مختلف مؤسسات المجتمع المدني من الأحزاب السياسية المعارضة، إلى النقابات المهنية والعمالية، مروراً بالمؤسسات الاجتماعية المختلفة، من مجالها السياسي، وبنت النخبة السياسية -الإدارية الحاكمة فيها نموذج الدولة التسلطية، التي تعاظم دورها في مختلف الميادين والنشاطات الاقتصادية تحت شعارات مختلفة. وقد اتجهت الدولة في العديد من البلدان نحو احتكار مصادر القوة والثروة في المجتمع عبر انتهاج طريق رأسمالية الدولة وخلق القطاع الحكومي وتقويته، في إطار نمط الاستيعاب من قبل النظام الرأسمالي العالمي، بما يجعل الاقتصاد الوطني تابعاً لمتطلبات السوق الرأسمالية العالمية. حيث يلاحظ ان هذه الفترة شهدت عملية تغلغل الاحتكارات الرأسمالية في الاقتصاد الوطني، وأسهمت في تعميق تبعية البنية الاقتصادية والمالية والسياسية، كنتيجة لذلك، وقدمت ميزات سياسية كبيرة جداً للدول الراسمالية المتطورة.
غير أن العواقب لهذه التجارب كانت صارخة، وتمثلت في إزدياد التفاوتات الاجتماعية والتمايزات الطبقية، واشتداد الاستغلال الرأسمالي، وهو ما أدى إلى احتدام التناحرات الطبقية سواء في الريف أو المدن مع ازدياد تسلط البيروقراطية، واحتكارها الأعمى للقرار السياسي والاقتصادي، وممارستها الطغيان والاستبداد على الجميع الفلاحين، وقمع القوى الوطنية والديمقراطية، وضرب النقابات.
إن هذه العوامل مجتمعة قادت إلى تعميق التعارض بين “مجتمعين”، المجتمع السياسي الذي تهيمن فيه البرجوازية البيروقراطية أو الكمبرادورية الحاكمة، والمجتمع المدني الذي لم ينتظر أي شيء من الدولة، خصوصاً في ظل تفاقم البطالة وتعاظم التهميش الاجتماعي لقطاعات واسعة من السكان، واستعمال جهاز الدولة المركزية التسلطية في عمليات التحول الديمقراطي حتى المحاولات الخجولة منها التي تم تدشينها في بعض البلدان.
وبفعل ضغوط اجتماعية داخلية وضغوطات خارجية جرت محاولات خجولة لبعض الاصلاحات الديمقراطية المحدودة. غير أن عملية ” التحول الديمقراطي ” اصطدمت بعقبات بنيوية حقيقية، لعل أهمها الاختراق الإمبريالي للاقتصاد والمجتمع، وعلاقات التبعية للنظام السياسي إزاء المراكز الرأسمالية الغربية التي وفرت له موارد مالية عن طريق القروض والتسهيلات الائتمانية للديون، والتي تكرس في الوقت عينه تسلط الطبقة البرجوازية الحاكمة المهيمنة، التي نجدها غير مستعدة لتقديم تنازلات لمصلحة الاصلاحات الديمقراطية. والملاحظة المثيرة للانتباه، وهي مفارقة ايضا، أن عملية الانتقال نحو التعددية التي جرت في بعض البلدان العربية تمت تحت قيادة جهاز الدولة البيروقراطية. لقد اصر هذا الجهاز على وضع نفسه وصياً على المجتمع المدني الامر الذي ادى إلى ضعف المجتمع المدني، وانسحاب تكويناته وقواه الحية من المجال السياسي، الذي ملأته الدولة التسلطية المستندة الى اقتصاد كومبرادوري ريع في معظم الاحيان.
من المجرد الى الملموس. المجتمع المدني في البلدان العربية
بعض السمات الاساسية
تستند صياغة هذه الملاحظات على التقرير السنوي الثاني الصادر عن ” الشبكة العربية للمنظمات الأهلية ” نشر مؤخرًا والذي يتناول تطورات القطاع الأهلي خلال عام 2002. يقع هذا التقرير في 270 صفحة، ويغطي 16 دولة عربية، هي: الأردن، والإمارات العربية، والبحرين، وتونس، والجزائر، والسودان، وفلسطين، وقطر، والكويت، ولبنان، وليبيا، ومصر، وسوريا، والمغرب، وموريتانيا، واليمن. كما شارك في إعداد هذا التقرير حوالي 20 باحثًا وخبيرًا من المختصين في شئون العمل الأهلي والمجتمع المدني العربي.
تسمح قراءة التقرير المذكور باستخلاص السمات التالية :
- 1. تركز مؤسسات المجتمع المدني في مجموعة محددة من البلدان. فقد بلغ عدد المنظمات الأهلية التي جرى إشهارها قانونيًا في 8 دول عربية من تلك التي غطاها التقرير عام 2002 وحده 8590 منظمة، منها 7000 جمعية ومنظمة تتركز في المملكة المغربية وحدها ( حوالي 81% من العدد الاجمالي)، تليها -بفارق كبير- مصر التي شهدت تسجيل وإشهار 700 جمعية ومنظمة أهلية جديدة، ثم اليمن (326)، ولبنان (219)، وتونس (157)، والسودان (112)، والبحرين (58)، وسوريا (18). إضافة إلى تسجيل وإشهار 5 مبرات خيرية في دولة الكويت. ومن جهة اخرى أشارت البيانات الخاصة ببقية البلدان التي غطاها التقرير إلى اتجاه المنظمات الأهلية نحو الزيادة المطردة، وإن لم تتوافر إحصاءات دقيقة بحجم هذه الزيادة.
- 2. وإلى جانب تلك الزيادة الكمية، لاحظ التقرير حصول تطور نوعي/ كيفي أيضًا في مجال اهتمامها؛ فأغلبها يتجه للعمل في قضايا التنمية البشرية، والحد من الفقر الذي تعاني منه قطاعات واسعة من السكان في البلدان موضوعة البحث، كما تتجه لإعطاء مزيد من الاهتمام بتقديم الخدمات الصحية والتعليمية والبيئية في تلك البلدان وفي غيرها من البلدان العربية.
- 3. ويرصد التقرير أيضًا توجهات جديدة للمنظمات نحو النشاط الدفاعي؛ وهو ما يعرف في بعض الدول العربية باسم النشاط “الحقوقي”. وهذا النشاط أكثر ظهورًا في الدول العربية التي اتخذت خطوات ملموسة على طريق التحول الديمقراطي. وتركز اهتمام الجمعيات والمنظمات المعنية بالدفاع عن حقوق الإنسان بصفة عامة، وحقوق المرأة بصفة خاصة. ففي البحرين -مثلا- سجلت 3 جمعيات لحقوق الإنسان دفعة واحدة في سنة 2002، وفي مصر سجلت 9 جمعيات جديدة لحقوق الإنسان أيضًا خلال عام 2002 وحده، أما في المغرب فقد سجلت عشرات الجمعيات الحقوقية، وفي لبنان ظهرت 10 جمعيات نسائية جديدة.
- 4. استمرار جمود الأطر القانونية المنظمة للعمل الأهلي العربي، بالرغم من صعود موجة الاهتمام العالمي والإقليمي بهذا القطاع. وقد اقترن ذلك بتصاعد الجدل حول القوانين المنظمة للعمل الأهلي الذي كان -ولا يزال- مصدرًا من مصادر التوتر بين الدولة والمجتمع المدني في أغلبية البلدان العربية.
5. التفاوت في مواقف السلطات المسيطرة في البلدان العربية. واستنادا الى واقع التطورات التي رصدها التقرير بهذا الخصوص خلال عام 2002 فإنه يكمن التمييز بين ثلاث مجموعات من الدول العربية، تباينت مواقفها بين المرونة والتصلب فيما يتعلق بمسألة تغيير وتطوير قوانين العمل الأهلي على النحو الآتي :
أ- التغيير المحافظ: وقد حدث هذا النمط من التغيير بصدور تشريعات جديدة في كل من فلسطين واليمن والمغرب ومصر، على مدى السنوات: 2000، و2001، و2002. وبالرغم من نجاح ضغوط مؤسسات المجتمع المدني في تغيير الأطر القديمة واستصدار قوانين جديدة؛ فإن هذا التغيير جاء محملا بكثير من التحفظات -وفي بعض الأحيان القيود- التي من شأنها الحد من حرية عمل المنظمات غير الحكومية، واستمرار تعرضها للتدخلات الإدارية الحكومية في شئونها، وبخاصة فيما يتعلق بإجراءات التسجيل والإشهار، وحق الجهة الإدارية في حل الجمعيات، وممارسة رقابة صارمة على مصادر التمويل، وبخاصة المصادر الأجنبية بدوافع وتبريرات أمنية.
ب- الضغط من أجل التغيير: وهو ما شهدته بلدان مثل الأردن، والبحرين، والسودان، وموريتانيا، والكويت. ويتمثل الهدف الرئيسي للقوى المطالبة بالتغيير في ضرورة إعادة النظر في القوانين القديمة التي مضى على صدورها ما يقرب من 4 عقود، وإدخال التعديلات التي تتجاوب مع المستجدات التي شهدها المجتمع العربي في السنوات الأخيرة. ولم تصل هذه الضغوط إلى نتيجة محددة حتى نهاية عام 2002.
ج- السكون على الوضع القائم: وهذه الحالة هي التي شهدتها مجموعة أخرى من الدول التي تشهد بين الحين والآخر إجراء بعض التعديلات غير الجوهرية على القوانين القديمة، وتشمل هذه المجموعة دولا مثل: ليبيا (أدخلت عدة تعديلات كان آخرها سنة 2001)، وسوريا (لا يزال العمل فيها وفقًا لقانون 1958)، والإمارات (لا يزال العمل فيها وفقا لقانون 1974).
- 6. حصول بعض التطور النسبي في العلاقات بين السلطات الحكومية ومؤسسات المجتمع المدني على قاعدة العمل المشترك في مشروعات محددة. ويمكن تفسير هذا التحسن النسبي بأنه انعكاس لتفاقم تحديات التنمية التي تواجه مختلف المجتمعات العربية من جهة، ومحاولة للحد من الآثار السلبية لسياسات الخصخصة والإصلاح الاقتصادي من جهة أخرى؛ الأمر الذي أدركت معه الحكومات أنها بحاجة ماسة إلى حشد وتنسيق كافة الجهود الأهلية والحكومية للعمل من أجل مصلحة الدولة والمجتمع معًا.
- 7. ولكن مقابل ذلك يلاحظ حظْر العمل السياسي على المنظمات الأهلية، تحت صيغ مختلفة، هو واحد من أهم القواسم المشتركة بين الدول العربية في علاقتها بتلك المنظمات؛ حيث تنص أغلبية القوانين على هذا الحظر بنصوص صريحة وقاطعة. غير أن الواقع يشهد -في الوقت نفسه- انخراط نسبة لا بأس بها من الجمعيات والمنظمات الأهلية في نشاطات سياسية متنوعة؛ سواء بشكل مباشر أو بشكل غير مباشر. وهذه الحالة هي من مفارقات العمل الأهلي في علاقته بالدولة في المجتمع العربي منذ ما يقرب من نصف قرن مضى.
- 8. شهدت الفترة موضوعة البحث وجود تداخل بين العمل الأهلي والعمل السياسي، الامر الذي يعد من معطيات الحياة العامة في المجتمع العربي الذي يشهد قيودًا شديدة -في أغلب البلدان- على حرية التنظيم السياسي، وحق تكوين الأحزاب؛ الأمر الذي يجعل منظمات العمل الاجتماعي الأهلي حقلا خصبًا ومتنفسًا لممارسة مثل تلك النشاطات السياسية التي تصب في نهاية المطاف في صالح المجتمع المدني والتطور الديمقراطي.
المبحث السابع: دور منظمات المجتمع المدنى فى التحول نحو الديمقراطية في العراق
هناك صلة وثيقة بين المجتمع المدنى والتحول الديمقراطى، فالديمقراطية كما هو معروف مجموعة من قواعد الحكم ومؤسساته التى تنظم من خلالها الإدارة السلمية للصراع فى المجتمع بين الجماعات المتنافسة أو المصالح المتضاربة، وهذا هو نفس الأساس المعيارى للمجتمع المدنى حيث نلاحظ أن مؤسسات المجتمع المدنى من أهم قنوات المشاركة الشعبية. ورغم أنها لا تمارس نشاطا سياسيا مباشرًا وأنها لا تسعى للوصول إلى السلطة السياسية إلا أن أعضاءها أكثر قطاعات المجتمع استعدادا للانخراط فى الأنشطة الديمقراطية السياسية، وبالإضافة لهذا فإن الادارة السلمية للصراع والمنافسة هى جوهر مفهوم المجتمع المدنى.
ويمر العراق حاليا حاليًا بعمليتين مترابطتين، ونعني بهما: بناء أسس المجتمع المدنى والتحول نحو الديمقراطية على الرغم من المخاطر والتحديات التي تواجه هاتين العمليتين. والصلة بين العمليتين قوية، بل أنهما أقرب إلى أن تكونا عملية واحدة من حيث الجوهر، ففى الوقت الذى تنمو فيه التكوينات الاجتماعية والاقتصادية الحديثة وتتبلور، فإنها تخلق معها تنظيمات مجتمعها المدنى التى تسعى بدورها إلى توسيع دعائم المشاركة فى الحكم.
وهكذا فإن الدور الهام للمجتمع المدنى فى تعزيز التطور الديمقراطى وتوفير الشروط الضرورية لتعميق الممارسة الديمقراطية وتأكيد قيمها الأساسية ينبع من طبيعة المجتمع المدنى وما تقوم به منظماته من دور ووظائف فى المجتمع لتصبح بذلك بمثابة البنية التحتية للديمقراطية كنظام للحياة وأسلوب لتسيير المجتمع وهى من ثم أفضل إطار للقيام بدورها كمدارس للتنشئة الديمقراطية والتدريب العملى على الممارسة الديمقراطية.
ولا يمكن تحقيق الديمقراطية السياسية فى أى مجتمع مالم تصير منظمات المجتمع المدنى ديمقراطية بالفعل باعتبارها البنية التحتية للديمقراطية فى المجتمع بما تضمه من احزاب ونقابات وتعاونيات وجمعيات أهلية وروابط ومنظمات نسائية وشبابية.. الخ. حيث توفر هذه المؤسسات فى حياتها الداخلية فرصة كبيرة لتربية ملايين المواطنين ديمقراطيا ، وتدريبهم عمليا لاكتساب الخبرة اللازمة للممارسة الديمقراطية فى المجتمع الأكبر بما تتيحه لعضويتها من مجالات واسعة للممارسة والتربية الديمقراطية.
لحداثة التجربة يواجه العاملون في هذا الميدان الهام طائفة من العوائق. ومن اجل تجاوز ذلك وخلق ديناميكية للعمل . وهنا يجب التأكيد على:
- – لابد ان يستعيد المجتمع وان تستعيد الجماهير شعورها بجدوى المشاركة وجدوى التضحيات، أي ببساطة ان تنعكس عليها ثمار عملها وجهدها رفاها وحرية سواء في الانتاج او في العمل النقابي او المدني او السياسي.
- – ولابد من زعزعة الاسس الاقتصادية والسياسية لعملية الفساد كي يمكن اعادة الاعتبار للانتاج والمنتجين وللابداع والمبدعين في المجتمع.
- – لابد من تكريس جملة الممارسات الحقوقية والتنفيذية التي تمنع كل اشكال التعدي على حقوق المواطنين الفردية والجمعية. ولابد هنا من ايلاء اهتمام استثنائي لضحايا النظام الدكتاتوري المقبور ممن تعرضوا للاذى والتهميش والتجاوزات على حقوقهم.
- – لابد من المزيد من تكريس الحقائق الديمقراطية في الحياة السياسية سواء عن طريق تشجيع منظمات المجتمع المدني او عن طريق المزيد من المبادرات الديمقراطية وتكريس دور المؤسسات الدستورية.
- – ضرورة الحذر من تسطيح فكرة المجتمع المدني وتخفيضها واختزالها إلى جمعيات غير حكومية تهتم بقضايا جزئية، وتسعى إلى الحصول على التمويل والتدريب والتشبيك مع الجمعيات المشابهة، مما يجعل مركز الحركة الاجتماعية خارج المجتمع، ويوجه النشاط الاجتماعي خارج الحقل السياسي الوطني، وينتج تصوراً قطاعياً للإصلاح الديمقراطي المطلوب، ويفضي إلى جعل القوى المحلية استطالات لقوى خارجية تتكفل هذه الأخيرة بإعالتها والإنفاق عليها وتمويلها، بغية إفسادها، حسب قابليتها لذلك، على نحو ما يجري في العديد من البلدان.
- – يتعين على العاملين في منظمات المجتمع المدني التاكيد على استقلالية هذه المنظمات وبما يحقق اهدافها في تنشيط الحياة العامة واستعادة المواطنين إلى حقل العمل العام والمشاركة الإيجابية، وإلى إعادة إنتاج الثقافة والسياسة في المجتمع بوصفهما بعدين أساسيين من أبعاد الحياة الاجتماعية، وشرطين أساسيين من شروط التقدم والبناء الديمقراطي، وإلى إرساء الوحدة الوطنية على مبدأ المواطنة والحقوق المتساوية وسيادة القانون، فإنها تعمل في سبيل إطلاق حوار ديمقراطي بين جميع الاتجاهات الفكرية والسياسية حول جميع القضايا الوطنية، وتنشيط المنتديات والندوات والملتقيات الثقافية، ونشر الثقافة الديمقراطية وثقافة حقوق الإنسان، والدفاع عن الحريات الأساسية ولا سيما حرية الفكر والضمير وحرية الرأي والتعبير.
- – ضرورة النضال من اجل جعل حركة المجتمع المدني في بلادنا لا تنفصل عن حركة المجتمع المدني العالمية التي تدعو إلى السلام، وإلى عولمة إنسانية، وتتبنى قيماً كونية، وتناهض الحرب والعنف والإرهاب، والتي عبرت عن تفهم عميق لقضايانا الوطنية الديمقراطية وتضامن غير مسبوق معها.
- – دعوة منظمات المجتمع المدني إلى مواصلة عملها في مجال الإصلاح الدّيمقراطيّ واعتماد نهج نقديّ بنّاء مع كلّ المبادرات والتنبيه إلى ما ينطوي عليه بعضها من محاولات هيمنة واحتواء وانغلاق.
- – دعوة المنظمات المذكورة إلى تطوير استراتيجياتها ورؤاها للتأثير في عمليّة إصلاح المنظومة التربوية واقتراح مشاريع وتصوّرات بديلة.
- – دعوة المنظمات إلى القيام بخطط لنشر ثقافة حقوق الإنسان والمشاركة الديمقراطية لدى الأوساط الرسميّة والشّعبية.
- – تطوير الديمقراطية داخل المنظمات بما يتطلبّه ذلك من قدرة على التسيير في إطار الشفافية والمساءلة والتّداول
- – دعم المجتمع المدني العراقي بكافة مؤسساته ومنظماته وتوفير الفرص المناسبة له للتدريب والتطوير والتنشئة على قيم العدالة وحقوق الإنسان.
- – تفعيل الحوار بين مكونات المجتمع العراقي بهدف بناء عراق جديد على أساس ديمقراطي اتحادي يضم كل مكوناته.
الخاتمة
محاولة تركيب
الأن، وبعد أن حددنا مضمون كل مفهوم من المفاهيم الثلاثة السابقة، يتعين علينا إعادة تركيب للافكار الواردة، أي تحديد مضمون العلاقة بين العناصر المذكورة. ولكي لا تكون التحليلات المذكورة في الصفحات السابقة ذات طبيعة تجريدية، يتعين أن ننتقل الى الملموس، الى البلدان المسماة بالنامية، ومنها بلداننا العربية، انطلاقا من سؤال، نراه حاسما بالنسبة لنا وهو : ما هو السبب الذي جعل التشكيلات السائدة في هذه البلدان، التي قطعت اشواطا كبيرة في دولنة Etatisation الاقتصاد وحققت الاستقلال السياسي، عاجزة تاريخيا في مواجهة مسألة الديمقراطية وبالتالي اعادة تشكيل العلاقات الاجتماعية الداخلية بما يسمح بخلق الشروط لتبلور المجتمع المدني ؟ ما هو شكل الدولة الذي اكتساه المسار الاجتماعي والاقتصادي لهذه التشكيلات ؟ وهل يمكن تعليل بروز دول قوية وديكتاتورية بعيدا عن الادانات الاخلاقية أو التصنيفات الحقوقية الشكلية ؟
لكي تكون الاجابة ممكنة على هذه الاسئلة المصيرية يتعين التأكيد على الملاحظات التالية :
· إن مجمل المسار الاجتماعي والاقتصادي القائم في البلدان النامية منذ القرن التاسع عشر بالنسبة لأمريكا اللاتينية، ومنذ القرن العشرين بالنسبة لأفريقيا واسيا هو مسار تكون ” طبقة حاكمة ” على المستوى السياسي ومهيمنة على المستوى الاقتصادي. وهذا في مرحلة نمط اقتصادي سبق أن هيمنت عليه الرأسمالية في بلدان ” المركز الامبريالي “. إن هذا المسار ليس متجانسا في جذوره ولا هو متنافر كليا، إذ تبدو التشكيلات الاجتماعية في هذه البلدان، في نفس الحين، ذات سمات مشتركة وفوارق مهمة. تتمثل السمات المشتركة في أن كل هذه التشكيلات ترتطم بمشكلة انطوائها ضمن التقسيم الدولي الرأسمالي المعاصر للعمل، وبالنتيجة، بعلاقتها البنيوية بالرأسمالية المركزية. إنها كلها تتحمل تمفصلات اجتماعية داخلية حيث تبدو القوى المسيطرة في وضع يختلف جذريا عن الجماهير والفئات الاجتماعية في الريف والمدينة التي يجري تبلترها وتهميشها بسرعة بالغة وبالتالي تعاظم التناقضات، التي تؤثر بشكل بالغ على التوجهات السياسية والاستراتيجيات الاقتصادية التي تنتهجها السلطات السياسية السائدة في هذه البلدان. ونشير كذلك الى أنه في أي من هذه التشكيلات، لم تتم محاولة جدية لإعادة تشكيل علاقات الانتاج الراسمالية (بإستثناء عدد محدود)، فقد ظلت علاقات الانتاج المهيمنة علاقات رأسمالية من نمط جديد لا يمكن مقارنتها بتلك التي في ” المراكز الامبريالية “. إن علاقات الانتاج هذه وشكل الرأسمالية الناجمة عنها ليست متخلفة ولا ” شبه رأسمالية ” بل هي، على الاصح، اللون الخصوصي المحدد للرأسمالية في هذه البلدان. إنها، على وجه التحديد، مرحلة من النظام الاقتصادي الرأسمالي العالمي متسمة بضعف الطبقات الاجتماعية بنيويا. وهذا الضعف البنيوي هو، على وجه التحديد، الذي كان أصلا أو جذرا لتشكل السلطة السياسية في هذه التشكيلات الاجتماعية : أي سمة قصور الديمقراطية السياسية وغياب السوق الثقافي القوي وشلل المجتمع المدني وضموره.
· إن غياب الديمقراطية في بلداننا هي سمة دائمة، لا تمت بصلة الى ” الوراثة التقليدية ” عن العهود السابقة، كما يروج لها في بعض الخطابات بمفاهيم من قبيل الاستبداد الشرقي ….. الخ. إن هذا الوضع هو ناتج ضروري لمقتضيات التوسع الرأسمالي، كما هو قائم بالفعل. إن الاستقطاب الناشئ على الصعيد العالمي، المرتبط بمقتضيات التوسع الراسمالي يخلق بدوره استقطابا اجتماعيا داخليا يتجلى في ظواهر عديدة أهمها التفاوت في توزيع الدخول والتهميش المتعاظم لفئات اجتماعية واسعة .
· إن الوطنية والتنمية والعصرنة، وما الى ذلك من المصطلحات السياسية، ينبغي – حتى يمكن فهمها في كل ابعادها – أن تدرج ضمن اشكالية التشكل التاريخي لهذه ” الطبقات السائدة ” في كل من التشكيلات الاجتماعية في بلدان ” العالم الثالث، وما يميز هذا التطور عن المسار التاريخي لتشكل البرجوازية الاوربية الغربية، منذ القرن الثامن عشر. إن الفارق يكمن اليوم في عدم تماثل الثورة الصناعية وعدم تمفصلها مع الثورة الديمقراطية. إن الرأسمالية الغربية، باعتبارها مسارا تاريخيا، هي التي ولّدت الثورة الديمقراطية التي كانت في حاجة اليها لتتطور. في حين كان مسار التشكل التاريخي للطبقات السائدة في “التشكيلات العالمثالثية ” ليس غير مولد لميكانيزمات تحكم ديمقراطي فحسب، بل أن نشأته غير ممكنة ايضا الا على أساس تحطيم الممكنات الديمقراطية في صلب هذه التشكيلات تحطيما كاملا وشاملا. يحدث ذلك وكأن الثورة الصناعية والنمو والعصرنة لا يمكن أن تتجسم إلا في تناف مع الثورة الديمقراطية، أي أساس حكم سياسي معاد للديمقراطية. وينبغي تحليل هذه الملاحظة والتفكير في كل تبعاتها إن أردنا أن ندحض نهائيا التحاليل التبريرية التي تبثها القوى المسيطرة في هذه البلدان ( مثل مقولة : لننم الاقتصاد وسوف يأتي دور الديمقراطية فيما بعد، أو : الشعب غير ناضج للديمقراطية، ونخبته يجب أن تقوده على درب التقدم !)
· يجب أن نعي وجود تناقض بنيوي بين السيرورة الاجتماعية في هذه التشكيلات الاجتماعية أي صعود الفئات الوسطى الى مرتبة ” الطبقة الحاكمة “، من ناحية، والايديولوجيا والممارسات الاقتصادية التي تبرز من خلالها هذه المسيرة من ناحية ثانية. لقد برزت هذه الفئات باعتبارها قوى مستقلة داخل التشكيلات الاجتماعية المعنية. هذه الاطروحة مهمة، لأنها تتيح لنا أن نفهم مدلول الايديولوجيات الراديكالية التي ترفعها القوى المسيطرة، وكذلك نظم الدولة، التي يبرز من خلالها مسار هيمنة الفئات الوسطى. إن شكل الدولة والدور البارز المناط بسلطة الدولة يجسدان طريقة جديدة مؤقلمة مع ظروف العصر. ومن هنا ينبغي فهم دور الجيش وتحليله في كل عمقه. إنه ليس مظهرا من مظاهر فرض إكراه الطبقات المالكة على بقية السكان (نموذج الدكتاتورية العسكرية التقليدية) بل وعلى الاصح، أنه جزء من تشكل العنف ” الشرعي ” في سيرورة نشأة الفئات الوسطى بوصفها ” طبقات ” حاكمة.
· أخيراً، ينبغي تعليل أشمل لدلالة المؤسسات السياسية الخاصة بهذه الدولة الاستبدادية. على هذا النحو ندرك أن شكل الدولة هذا ينشأ عبر التحطيم الشامل للممارسة السياسية الجماعية، وعبر ابعاد القوى الاجتماعية غير وثيقة الصلة بالدولة والحزب الحاكم من الاهتمام بالسياسة، وعبر نظام الفروض الملزمة (أنواع التعبئة العسكرية، جيش شعبي، كتائب شباب، طلائع ….. الخ)الذي تفرضه السلطة على التشكيلة الاجتماعية. بإختصار عبر قطع الطريق جذريا أمام مسار الثروة الديمقراطية/على المستوى السياسي، والتي كانت ينبغي أن تواكب كل ثورة اقتصادية، خاصة في ظل المصاعب التي تتخبط بها البلدان النامية الساعية لتعزيز موقعها ضمن الاقتصاد العالمي. إن الدولة الاستبدادية الجديدة التي سادت لأكثر من ثلاثة عقود، بقطع النظر عن الايديولوجيا التنموية التي روجت لها لفترة طويلة، وبقطع النظر عن مناهضتها الظاهرية للنظام الرأسمالي العالمي، كان أثرها الاساسي على الدوام، ولا يزال، تعطيل الجدلية الاجتماعية، أي الالغاء التسلطي للصراعات الاجتماعية والطبقية من أجل تأمين الظروف الاكثر ملائمة للفئات التي صعدت الى السلطة بفعل ” انقلاب القصر ” حتى تتحول الى فئات سائدة. وقد تعلق الامر باعتماد منظومة من الاجراءات والترتيبات الحاسمة تمثلت في :
– مصادرة الوظيفة السياسية في التشكيلة الاجتماعية، بشكل استبدادي قمعي فاقع الحدة،
– ابعاد الشرائح القديمة من البرجوازية الصناعية وكذلك المجموعات الاكثر فقرا في الحركة العمالية، ومجمل الجماهير الريفية والمدينية غير المرتبطة بسيرورة الانتاج عن حقل اتخاذ القرارات الاستراتيجية.
لقد أدى هذا الوضع الى ترجيح وزن الدولة في التشكيلة الاجتماعية، والى تفتيت مجموعات كاملة من القوى الاجتماعية والى اعادة الانتاج الموسع لعملية تحطيم العلاقات الاجتماعية. وبعبارة اخرى يستطيع المرء أن يغامر باستنتاج قوامه أن فشل الدولة الاستبدادية في هذه البدان لا يكمن في السياسات الاقتصادية المتبعة أساسا ولا في النوايا الواعية أو اللاواعية لدى الماسكين بمقاليد السلطة السياسية فقط بل في شكل الدولة نفسه وفي محتواه الاجتماعي وفي وظائفيته الموضوعية وفي علاقته بالمسار التاريخي لتشكل الطبقات الحاكمة.
ولهذا يتعين التأكيد على ضرورة اكتشاف ودراسة التحولات التي حصلت في شكل ومضمون الدولة في هذه البلدان، ليس عبر أثارها البسيطة، ولكن في التحولات العميقة لتمفصل الاقتصاد والمجتمع السياسي، لكي يمكن أن نفهم الاسباب الحقيقية لضمور المجتمع المدني وضعف ( أو انعدام فاعليته) من جهة، وسطوة الدولة ومؤسساتها المتنوعة من جهة أخرى. لهذه الاسباب، وغيرها، تصبح المطالبة بالديمقراطية ليست ترفا فكريا عابرا بل هي ضرورة تمتع براهنية ملحة ، لأنها ستسمح بفك الاشتباك بين المجتمع المدني والمجتمع السياسي، بما يسمح بخلق الشروط لتطور الاول وتحرره من سطوة الدولة وعسفها وقمعها في أن.
ومن جهة اخرى نستطيع أن نقول إن المجتمع الديمقراطي في البلدان المتطورة جاء مكملا وامتدادا للدولة الديمقراطية التي كانت في أصل نشوئه. وهي لا تزال ترعاه حتى لو كانت تخاف من تجاوزاته على الصلاحيات الجديدة التي أخذت تحصر عملها فيها. فالدولة تدرك أيضا أن ما يقوم به المجتمع المدني، لا تستطيع هي أن تقوم به، وأنه في مواجهة المنافسة الدولية المفتوحة والتي ستفتح أكثر فأكثر، من مصلحة الدولة عموما والمجتمع ككل أن تتطور وتتدعم المؤسسات المدنية وتزداد نشاطا في الداخل والخارج. فهي لا تجنب حصول فراغ داخلي يتيح تدخل مؤسسات مدنية خارجية فحسب ولكنها يمكن أن تشكل أكثر من ذلك أدوات لمد النفوذ الوطني في الفضاء الدولي ولدى المجتمعات الأخرى.
وبالعكس من ذلك يأتي الحديث المتزايد والمتضخم عن المجتمع المدني في البلاد النامية، ومنها البلاد العربية كتعويض عن غياب هذا المجتمع تماما وكرد على الفراغ الذي أحدثه في الفضاء العمومي تفسخ الدولة وتحلل السلطة العمومية إلى سلطة أصحاب مصالح خاصة، وانهيار أي قاعدة قانونية ومؤسسية ثابتة وراسخة للدولة والمجتمع معا. ولذلك فهو يبقى هنا ويستمر يعمل في إطار الايديولوجية، مما يعني أيضا سهولة استعماله كأداة أو كوسيلة لتحقيق أهداف وتدعيم مواقف وتأكيد مساعي متنوعة وأحيانا متناقضة، سياسية وعقائدية واقتصادية من دون أن يكون غاية في ذاته. فهو ليس مقصودا لما يمثله من إطار نظري وقانوني لبناء سلطة اجتماعية مستقلة بالفعل عن النزاعات السياسية وقادرة على المشاركة مباشرة في ايجاد الحلول من خارج المجال السياسي الرسمي للعديد من المشاكل والتحديات المجتمعية، وإنما لغيره، أي لأهداف تتعلق سواء بالسياسة بمعنى الصراع على السلطة كمواقع ومناصب أو بالوجاهة أو بالمنافع المادية التي تزداد قيمة بقدر ما تزداد مساعدات الدول الصناعية لهذا القطاع الجديد من النشاط الدولي.
وبقدر ما تبدو الدولة في البلدان النامية بشكل عام بوصفها أكثر فأكثر تجسيدا لمجال المصالح الخاصة والجزئية وغياب القانون، ينمو نزوع قوي إلى البحث عن المواطنية والعمومية والمصالح الوطنية والحرية في المجتمع المدني ذاته، أي خارج الدولة. فالمشكلة الحقيقية التي تحاول أن نرد عليها هنا إشكالية المجتمع المدني ليست تنظيم المصالح الخاصة، ولكن بالعكس تنظيم المصالح العامة. ومن هنا التخبط والصعوبة الهائلة في تحديد هذا المفهوم والتناقض الكبير الذي يفترضه استخدامه بينه وبين الدولة. فالاشكالية تبدو هنا مستحيلة، نعني محاولة بناء العام في قلب الخاص، مما يعني في الواقع إعادة ولادة الدولة من رحم المجتمع، مما يجعل النخبة المسيطرة على الدولة تشعر بأن فكرة المجتمع المدني تنطوي على إنشاء دولة بديلة أو دولة نقيض!.
ومصدر كل هذا الاختلاط والتخبط هو إخفاق الدولة القومية، بمعنى الدولة/الأمة، دولة المواطنين، في هذه البلاد. مما يضعنا أمام مسار تاريخي مختلف تماما عن ذاك الذي عرفته المجتمعات الغربية، وأحيانا معاكسا له.
وهذا يعني في الواقع أنه كما أن تطور المجتمع المدني في البلدان الراسمالية المتطورة ليس منفصلا عن تطور الدولة الديمقراطية، بغض النظر عن مضمونها، فإن غياب الدولة الديمقراطية في العالم النامي، والعالم العربي بشكل خاص، ليس منفصلا أيضا عن غياب المجتمع المدني أو تحييده وما يضمه من مؤسسات اجتماعية مستقلة فاعلة تقوم بتأدية مهام مرئية وثابتة في المجتمع وتكتسب نتيجة ذلك مواقع وصدقية وشرعية حقيقية.
ومن جهة ثانية فإن المجتمع المدني الذي نتحدث عنه اليوم، لم يعد مجرد مفهوم يشير إلى مستوى من مستويات النشاط المجتمعي يتسم بالتعددية والتناقض والجزئية والمصلحة الخاصة، ولكنه يشير إلى مجموعة من المنظمات النشيطة التي يمكن تعيينها وتحديد موقعها ومكانها والأدوار الكبيرة التي تلعبها، بموازاة الدولة أحيانا، وأحيانا ضدها. لكن ما هو أهم من ذلك أن المجتمع المدني لم يعد ينظر إليه على أنه تجسيد للخاص والمصالح الجزئية في مقابل الدولة المجسدة للعام وللمصالح الكلية ولكن كـ ” دولة مقابلة “، أي كمنظمات ذات نفع عام وأهداف كلية تخدم أهدافا عامة وتشكل مصدرا للنظام والعقلانية والترشيد والاتساق داخل نظام اجتماعي هجرت الدولة العديد من ميادينه أو أصبحت غير قادرة على بث النظام والسلام فيها. لقد تحول إلى هيئات عامة (سياسية) داخل الدولة المعدلة سياسيا أو التي خفت درجة احتكارها لما هو عام.
ويمكن الاستدلال من الملاحظات السابقة أن في مفهوم المجتمع المدني الجديد اعتراف بضرورة عودة السياسة إلى المجتمع وإلغاء الاحتراف السياسي لا إلغاء السياسة، وتقليص من أهمية السيطرة على جهاز الدولة كشرط لتحقيق أهداف إجتماعية عامة. وهذا يمثل طفرة عميقة في مفهوم السياسة ذاتها تسير في الاتجاه نفسه الذي تحدث عنه ماركس للالتقاء داخل الفرد ذاته بين المصالح العامة والمصلحة الخاصة، حيث تكون حرية الفرد شرط لحرية المجموع.
وفي الختام يمكن الاتفاق مع الاستنتاج الذي توصل اليه برهان غليون ” بأننا نسير اليوم نحو حقبة التحرر من المفهوم الكلاسيكي الحديث للدولة كمركز أحادي ووحيد للتنظيم والتنسيق الاجتماعي وهي الحقبة التي دامت أكثر من قرنين. وهذا التحرر من المفهوم التقليدي للدولة لا يعني بالضرورة زوال الدولة وإنما زوال شكل من أشكالها. لكن الأهم من ذلك هو معرفة طبيعة الهيئات والتنظيمات والمؤسسات التي ستحل محلها وتشكل جماع نشاط القرن القادم كله وربما القرن الذي يليه. إن العودة الراهنة إلى المجتمع هي موجة عميقة الجذور، لكن طرق هذه العودة وأشكالها والنماذج التي ستنجم عنها، كل ذلك لا يزال في بداياته الأولى ” .
واليوم، والحياة السياسية في بلادنا تمر بمرحلة من التوتر والتشتت والفوضى والالتباسات الفكرية والسياسية، بات لزاما علينا التاكيد على المنطلقات الوطنية الديمقراطية ، واعادة النظر في بعض المفاهيم التي شابها شيء من الغموض أو اللبس، جرَّاء الظروف التي استجدت بعد احتلال العراق ، واعادة صياغة بعض التوافقات التي تستدعيها هذه الظروف الصعبة. وفي مقدمة هذه التوافقات إخراج مشروع دمقرطة المجتمع من دائرة التجاذب بين الاطراف المتصارعة وتوكيد استقلاله وانبثاقه من حاجات المجتمع ومن توق جميع القوى الاجتماعية الراغبة في التغيير الديمقراطي إلى الحرية والحياة الكريمة. ويقتضي ذلك توكيد الروابط الضرورية، المنطقية والتاريخية، بين الوطنية والديمقراطية وأن إلغاء أي منهما هو إلغاء للأخرى، إذ الديمقراطية التي تستمد جميع عناصرها من الشعب، الذي هو مصدر جميع السلطات، هي مضمون الدولة الوطنية، وهذه الأخيرة هي شكلها السياسي وتحديدها الذاتي وتجريد عموميتها. إن علاقة الوطنية بالديمقراطية هي علاقة جدلية بامتياز، ومن المؤكد ان فك الاشتباك بين المجتمع السياسي والمجتمع المدني، وتحرير هذا الاخير من هيمنة الدولة سيساهم في وضع مشروع دمقرطة المجتمع موضع التطبيق، وبالتالي المساهمة في بناء عراق ديمقراطي فيدرالي موحد، تلعب فيه مؤسسات المجتمع المدني، على تنوعها، دورا مهما وبناءً.
(محاماة نت)