دراسات قانونية
موقف التشريعات الدولية من عقوبة الاعدام (بحث قانوني)
تعتبر عقوبة الإعدام من أخطر العقوبات وأشدها جسامة، ذلك أنها تعني إزهاق روح المحكوم عليه بها، وقد أثارت هذه العقوبة خلافاً كبيراً في الفقه فيما يتعلق بشرعيتها وملائمتها، وبالتالي الإبقاء عليها من عدمه. وقد انعكس ذلك على مختلف دول العالم، فبينما احتفظت العديد من الدول بهذه العقوبة، نجد دولاً أخرى قامت بإلغائها ولجميع الجرائم، في حين أن دولاً أخرى ألغتها لجميع الجرائم ما عدا الجرائم الاستثنائية
كجرائم الحرب.
وقد تعددت أنواع الإعدام وتغيرت طرق تنفيذه عبر الزمن، واختارت الأنظمة على اختلافها طرق إعدام تتناسب مع طبيعتها المجتمعية والسيكولوجية، ووضعت لها طقوسا وإجراءات وأساليب متنوعة، تختلف باختلاف كيفية الإعدام والغاية منه( ).
وفي ظل هذا الخلاف الفقهي والخلاف التشريعي نتناول في هذه الورقة البحثية موقف التشريعات العقابية الدولية من عقوبة الإعدام، وذلك علي النحو التالي:
المبحث الأول : ماهية عقوبة الإعدام.
المبحث الثاني: موقف الاتفاقيات الدولية من عقوبة الإعدام.
المبحث الثالث: موقف القضاء الجنائي الدولي من عقوبة الإعدام.
المبحث الأول “· ماهية عقوبة الإعدام “
تعتبر عقوبة الإعدام أقصى العقوبات الصادرة في تاريخ الإنسانية، ويتم توقيعها علي كل فعل خطير يرتكب في حق شخص أو عدة أشخاص. ولهذا فقد حددت العقوبة بالمفهوم التقليدي بأنها إجراء يستهدف إنزال الألم بالفرد من قبل السلطة جراء ارتكابه جريمة ما، أو هي ردة فعل اجتماعية على عمل مخالف للقانون.
ويقصد بالإعدام “إزهاق روح المحكوم عليه”، ويتميز بأنه مقصور على الجرائم الخطيرة التي تمس أمن وسلامة الدولة، كجرائم الخيانة والتجسس والاعتداء علي أراضي الدولة وغيرها من الجرائم الأخرى كجريمة القتل العمد والتخريب.
ووفقاً لذلك فإن جوهر هذه العقوبة هو استئصال المحكوم عليه بها من المجتمع بإزهاق روحه، وقد كانت عقوبة الإعدام شائعة التطبيق في الشرائع القديمة، وكانت تنفذ بطريقة وحشية وقاسية مصحوبة بصور بشعة من وسائل التعذيب يقشعر لها البدن( ).
ويعترف فقهاء القانون في تحديدهم لطبيعة هذه العقوبة بأنها “من أعلى درجات العقاب قسوة وشدة”. ولهذا تتجه معظم التشريعات الوطنية نحو تضييق مجال تقريرها وتطبيقها فحسب على بعض الجرائم دون غيرها .
والواقع أن عقوبة الإعدام قديمة في التاريخ الإنساني، لكن ما من أحد يستطيع أن يحدد بالتأكيد متى طبقت هذه العقوبة لأول مرة، لكنها قطعاً تزامنت مع نشأة التنظيم في المجتمعات الإنسانية؛ أي بعد أن أصبح البشر يعيشون في تجمعات بشرية كبيرة. ذلك أن هذه التجمعات احتاجت إلى وجود قوانين لمعاقبة الأشخاص الذين يقومون بأعمال تخالف الأعراف والتقاليد السائدة فيها.
وتشير معظم السجلات التاريخية والعديد من الممارسات القبلية البدائية إلى أن عقوبة الإعدام كانت جزءًا من النظام القضائي لديهم، وعند المقارنة بين القوانين القديمة والقوانين الحديثة فيما يتعلق بتطبيق العقوبات البدنية نجد فرقاً واسعاً حيث كانت العقوبات البدنية شائعة قبل القرن التاسع عشر في مصر وأوربا فقد لجيء إليها كوسيلة لازمة للعقاب، فالضرب والتعذيب كان لهما النصيب الأوفر في نظام العقوبات، وكانت الفكرة السائدة في ذلك الوقت أن العقوبة وسيلة للإرهاب بالنسبة للكافة، أما فكرة الإصلاح فكانت بعيدة عن روح التشريعات الجنائية.
وقد توجهت قوانين العقوبات توجهاً آخر حيث استبدلت العقوبات البدنية بالعقوبات السالبة للحرية، ومع ذلك عادت بعد فترة بعض العقوبات البدنية التي كانت موجودة من قبل كقطع يد قاتل أبيه قبل إعدامه، إلا أنه في الوقت الراهن ألغيت هذه العقوبات تماما ولم يبق في مصر ولا في معظم البلاد المتمدنة من العقوبات البدنية غير عقوبة الإعدام( ).
وقد تغيرت صفة عقوبة الإعدام في التشريعات التي احتفظت بها فأصبحت قاصرة على مجرد إزهاق الروح بعد أن كان الغرض الأول منها الإيلام والتعذيب، فمنذ قرن وجهت التشريعات عنايتها إلى التخفيف من عقوبة الإعدام باكتشاف طريقة من شأنها إحداث الموت بغير ألم، وكانت عقوبة الإعدام تشغل في التشريعات القديمة المركز الذي تشغله الآن العقوبات السالبة للحرية، فبعد أن كانت هذه العقوبة هي الشائعة في التشريعات الجنائية أصبحت الآن عقوبة استثنائية لا تطبق إلا في حالات نادرة.
وللحقيقة فإن منحى التعامل مع عقوبة الإعدام يأخذ بعدا ايجابياً، وبالنظرة الكلية للموضوع يتبين لنا أنه وإن ازداد حجم الأحكام بالإعدام فإن حجم الإجرام هو الذي ازداد فأدى إلى زيادة نسبة هذه الأحكام( ).
وإذا ما نظرنا إلى الأفكار التي تناولت عقوبة الإعدام فإنها تتباين بين الرفض والترحيب، فالرافضون لهذه العقوبة يعتقدون أنها تتناقض مع الإرادة الإلهية في ضرورة الحفاظ علي الحياة؛ ويعزز الرافضون رأيهم بمقولات نفسية واجتماعية تتراوح بين الشذوذ النفسي وعدم الأهلية الاجتماعية التي قد تدفع فردا إلى الإتيان بسلوك إجرامي لا يمكن أن يفعله لو كان في حالة نفسية أو وضع اجتماعي متماسك.
أما المدافعون عن عقوبة الإعدام وضرورة تنفيذها فيرون أن الجسم المجتمعي لكي يتخلص بشكل قاطع من مقومات السلوك الجرمي فإنهم يدعون إلى بتر العضو الفاسد اعتمادا على مقولة شائعة، وهي أن السلوك الجرمي له صفة العدوى والانتقال خاصة في المجتمعات الفقيرة( ).
ويمكن القول أن مسألة إلغاء عقوبة الإعدام أو بقائها مثار جدل شديد علي المستوي الدولي، وسيستمر هذا الجدل ويزداد شدة كلما تقدمت المدنية وتلطفت الأخلاق والعادات، وقد ألغيت هذه العقوبة في كثير من البلاد الأوربية إما واقعياً أو قانونياً .
ويشير الواقع العملي إلي تزايد عدد الدول التي تلغي عقوبة الإعدام كل عام، ففي عام 1899 كانت هناك ثلاث دول فقط في العالم لا تطبق عقوبة الإعدام هي: كوستاريكا، وسان مارينو، وفنزويلا؛ وقد أصبح العدد عام 1948 ثمانية دول، وفي نهاية عام 1978 وصل العدد إلى تسعة عشر دولة؛ وخلال العشرين سنة الماضية صعد الرقم إلى أكثر من ثلاثة أمثاله، وفي مطلع هذا القرن كانت هناك 108 دول ألغت الإعدام عقوبة في القانون أو التطبيق العملي علي النحو التالي:
• 75 دولة ألغت الإعدام نهائياً، كفرنسا التي ألغته عام 1981، وتركمانستان عام 1999.
• 13 دولة استبْقته للجرائم الاستثنائية فقط، كجرائم الحرب، مثل ألبانيا والبرازيل.
• 20 دولة ألغته واقعياً، أي أنها لم تنفِّذ أي حكم بالإعدام خلال العشر سنوات الماضية، مثل تركيا (جرت آخر عملية إعدام فيها 1984).
• أما بقية دول العالم فما زالت تنفذ عمليات الإعدام، كالولايات المتحدة الأمريكية، الصين، إيران، والدول العربية كافة، ما عدا البحرين وتونس.
ووفقاً لآخر تقرير للأمم المتحدة فإن إجمالي الدول التي تطبق عقوبة الإعدام في العالم انخفض من 23 دولة عام 2010 إلى 20 دولة عام 2011.
المبحث الثاني “· موقف الاتفاقيات الدولية من عقوبة الإعدام “
يوجد العديد من الاتفاقيات الدولية التي اتجهت نحو إلغاء عقوبة الإعدام، وقد صدقت علي هذه الاتفاقيات العديد من الدول، ونعرض فيما يلي لبعض هذه الاتفاقيات:
أولا: الإعلان العالمي لحقوق الإنسان :
أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة في 10 ديسمبر 1948م هذا الإعلان، وأكدت المادة الثالثة منه على حق كل إنسان في الحياة، والحرية، والأمان على شخصه، ومن المعلوم قانوناً أن هذا الإعلان يمثل إحدى الخطوات الأساسية الأولى للدفاع عن حياة الإنسان وأمانه.
ثانياً: العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية:
نظراً لأن الإعلان في العرف الدولي ليست له قوة إلزامية ولكن قوته أدبية فحسب، الأمر الذي جعل المطالبات الإنسانية مستمرة للوصول إلى معاهدة دولية أكثر تفصيلاً للحقوق، ولها قوة إلزامية على الدول المصادقة عليها، ومن هنا جاء العمل من أجل هذا العهد الذي اعتمدته الجمعية العامة للأمم المتحدة في 16 ديسمبر 1966م ولم يدخل حيز النفاذ إلا في 23 مارس 1976م، وجاءت المادة السادسة من هذا العهد لتقدم تفصيلاً أوسع من ذي قبل للدفاع عن حق الحياة والتأكيد على الزاميته، وذلك على النحو التالي:
• الحق في الحياة حق ملازم لكل إنسان، وعلى القانون أن يحمي هذا الحق، ولا يجوز حرمان أحد من حياته تعسفاً.
• لا يجوز في البلدان التي لم تلغ عقوبة الإعدام، أن يحكم بهذه العقوبة إلا جزاء على أشد الجرائم خطورة وفقاً للتشريع النافذ وقت ارتكاب الجريمة وغير المخالف لأحكام هذا العهد ولاتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، ولا يجوز تطبيق هذه العقوبة إلا بمقتضى حكم نهائي صادر عن محكمة مختصة.
• حين يكون الحرمان من الحياة جريمة من جرائم الإبادة الجماعية، يكون من المفهوم بداهة أنه ليس في هذه المادة أي نص يجيز لأية دولة طرف في هذا العهد أن تعفي نفسها على أية صورة من أي التزام يكون مترتباً عليها بمقتضى أحكام اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها.
• لأي شخص حكم عليه بالإعدام حق التماس العفو الخاص أو إبدال العقوبة، ويجوز منح العفو العام أو العفو الخاص أو إبدال عقوبة الإعدام في جميع الحالات.
• لا يجوز الحكم بعقوبة الإعدام على جرائم ارتكبها أشخاص دون الثامنة عشرة من العمر، ولا تنفذ هذه العقوبة بالحوامل.
• ليس في هذه المادة أي حكم يجوز التذرع به لتأخير أو منع إلغاء الإعدام من قبل أية دولة طرف في هذا العهد.
ثالثاً: البروتوكول الاختياري الملحق بالعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية بشأن إلغاء عقوبة الإعدام:
يمثل هذا البروتوكول – برغم كونه اختيارياً – توجهاً دولياً، وخصوصاً من الدول الأكثر التزاماً بالحرية والديمقراطية، وقد بدأ نفاذه في 11 يوليو 1991م، وجاء في ديباجته ما نصه “أن الدول الأطراف فيه إذ تؤمن بأن إلغاء عقوبة الإعدام يسهم في تعزيز الكرامة الإنسانية والتطوير التدريجي لحقوق الإنسان، وأن المادة السادسة من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية تشير إلى إلغاء عقوبة الإعدام بعبارات توحي بشدة بأن هذا الإلغاء أمر مستصوب، واقتناعاً منها بأنه ينبغي اعتبار التدابير الرامية إلى إلغاء عقوبة الإعدام تقدماً في التمتع بالحق في الحياة، ورغبة منها في أن تأخذ على عاتقها بموجب هذا البرتوكول التزاما دوليا بإلغاء عقوبة الإعدام، اتفقت على ما يلي…”.
هذا وقد اشتمل البروتوكول علي “11” مادة تتبني الإلغاء الكامل لعقوبة الإعدام، ولكنه يسمح للدول الأطراف بأن تُبقي على عقوبة الإعدام في أوقات الحرب إذا ما تقدمت بتحفظ في هذا الشأن في وقت التصديق على البروتوكول أو الانضمام إليه. ويمكن لأي دولة طرف في العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية أن تصبح طرفاً في البروتوكول.
رابعاً: مبادئ المنع والتقصي الفعالين لعمليات الإعدام خارج نطاق القانون، والإعدام التعسفي، والإعدام دون محاكمة:
اعتمد هذه المبادئ المجلس الاقتصادي والاجتماعي بالأمم المتحدة في قراره رقم 65 المؤرخ بتاريخ 24 مايو 1989م واعتمدته الجمعية العامة للأمم المتحدة في 15 ديسمبر1989م. وهذه المبادئ تقدم لنا ملمحاً آخر للحرص الدولي علي الحد من تطبيق عقوبة الإعدام، وذلك من خلال عشرين بند أدرجت تحت محاور ثلاثة هي: (الإجراءات الوقائية؛ والتحقيق؛ والإجراءات القانونية)، وتقدم هذه المحاور مجموعة من المبادئ الوقائية والقانونية التي تلزم الدول التي مازالت تطبق هذه العقوبة بمنع عمليات الإعدام خارج نطاق القانون أو الإعدام التعسفي الذي قد يحدث في أثناء التحقيق أو الاحتجاز في السجون أو أقسام الشرطة أو أي أماكن احتجاز تستخدمها السلطات، كما يعتبر القتل المقترف لأسباب سياسية – يكون للسلطة مصلحة فيه – ضمن الإعدام التعسفي.
وتلزم هذه المبادئ الدول بمنع الإعدام دون محاكمة بل وتطالبها بأن يتضمن قانونها الوطني اعتبار كل ذلك جرائم يعاقب مرتكبوها مع تفعيل العقوبات، وضرورة توخي الدول لوضع رقابة دقيقة لما يدخل في هذا النطاق من الأعمال مع تأكيد المبادئ على ضرورة التقصي الدقيق في التحري والإجراءات للقضايا التي قد تصل عقوبتها للإعدام.
خامساً: البروتوكول السادس الملحق بالاتفاقية الأوربية لحماية حقوق الإنسان بشأن إلغاء عقوبة الإعدام:
في 4 نوفمبر 1950 أبرمت الدول الأعضاء في مجلس أوروبا (الاتحاد الأوروبي حالياً) الاتفاقية الأوروبية لحماية حقوق الإنسان والحريات الأساسية، وهي الاتفاقية الإقليمية الأولى في مجال حقوق الإنسان، ولها القوة القانونية الإلزامية على الدول الأوروبية المصادقة عليها.
وعلى امتداد العقود الماضية تم إضافة أحد عشر بروتوكولاً إضافياً لهذه الاتفاقية لتفعيل كل الحقوق الإنسانية التي تضمنتها، ومنها هذا البروتوكول الخاص بالتزام الدول الأوروبية بإلغاء عقوبة الإعدام. وقد بدأ العمل بهذا البروتوكول في الأول من مارس 1985، ويشمل تسعة مواد تلغي العقوبة مع جواز استخدامها فيما يتعلق بالأعمال التي ترتكب وقت الحرب أو التهديد الوشيك بالحرب مع توضيح عدم جواز انسحاب الدول من البروتوكول بعد المصادقة عليه.
سادساً: البروتوكول الملحق بالاتفاقية الأمريكية لحقوق الإنسان بشأن إلغاء عقوبة الإعدام:·
·
في إطار منظمة الدول الأمريكية تم التوقيع على الاتفاقية الأمريكية لحقوق الإنسان في نوفمبر 1969م ويطلق على هذه الاتفاقية (ميثاق سان خوسيه) وهي المدينة التي أبرمت فيها في كوستاريكا. ومع تزايد المطالبات والضغط المدني والحقوقي، تم التوقيع على هذا البروتوكول الذي اشتمل على ديباجة وأربعة مواد أكدت على التزام الدول المصادقة على عدم تطبيق عقوبة الإعدام في أراضيها أو على من يخضع لولايتها مع إمكانية تطبيق العقوبة في وقت الحرب فقط وذلك في الجرائم الخطيرة للغاية ذات الطبيعة العسكرية.
المبحث الثالث “· موقف القضاء الجنائي الدولي من عقوبة الإعدام “
منذ بدء الخليقة ونزعة الشر والعدوان من صفات الإنسان الغريزية وإذا لم يكن لبروز هذه النزعة ما يبررها آنذاك لبساطة الحياة وتوافر مصادر الرزق والعيش فيها بيسر وسخاء، فقد أصبح لهذه النزعة ما يبررها الآن بعد تزايد أعداد البشر والسعي للسيطرة على مراكز الثروة والاستقطاب في العالم، وتحديداً في بلدان القارات البكر التي تم اكتشاف الثروات فيها مؤخراً( ).
ولم يكن لفكرة مسئولية الفرد ومن ثم عقابه وضع مقنن قبل الحرب العالمية الأولى حيث أن الجرائم المرتكبة في ذلك الوقت كانت مشروعة، بل أنها كانت مظهر من مظاهر السيادة؛ إذ كان للدول الحق في اللجوء إلى الحرب في أي وقت، ولها في سبيل وصولها إلى النصر الحق في ارتكاب ما تشاء من أعمال العنف والقسوة ضد الجنود والمدنيين الأبرياء، ولم يكن هناك ثمة جزاء يوقع على من يرتكب هذه الجرائم, فالقاعدة العامة التي كانت سائدة في ذلك الوقت هي عدم الأخذ بفكرة المسئولية الجنائية الفردية، فالمسئولية الجماعية كانت هي الأثر الوحيد الذى يرتبه القانون عن خرق الالتزامات الدولية، وذلك بأن تلجأ الدولة المرتكبة بحقها الجرائم الدولية إلى أعمال الانتقام والحروب، أي أعمال القصاص( ).
ونبين فيما يلي تطور مبدأ إلغاء عقوبة الإعدام علي الجرائم المرتكبة من الأفراد علي المستوي الدولي منذ محاكمات الحرب العالمية الأولي وحتى الوقت الراهن.
أولاً: عقوبة الإعدام في محاكمات الحرب العالمية الأولي:
باستعراض الممارسات الدولية في هذه الفترة لوحظ وجود بعض الإرهاصات الأولى لتدعيم المسئولية الفردية والعقاب عليها منها المحاولات التي جرت بإنشاء قضاء جنائي لمعاقبة مرتكبي جرائم الحرب( )؛ ففي عام 1268 جرت محاكمة (كونرادين ستيفر) Conradin von Hohen Staufer وحكم عليه بالإعدام لثبوت مسئوليته عن قيامه بحرب غير عادلة.
وفى عام 1474م أنشئت محكمة جنائية دولية تألفت من قضاة ينتمون لعدد من الدول الأوربية لمحاكمة القائد العسكري (بيتر فون هاغنباخ) Peter de Hegenbach عن جرائم القتل والاغتصاب والحنث باليمين والجرائم الأخرى التي ارتكبها عند احتلاله لمدينة (برايساخ) Breisach( )، وفي ذلك الوقت كان عقاب المتهم يتوقف علي مسألة الانصياع للأوامر العليا( )؛ وقد أصدرت المحكمة حكمها علي المتهم بأنه مذنب وجردته من رتبة الفارس، وما يتصل بها من امتيازات، لأنه ارتكب جرائم كان من واجبه أن يمنعها، وتم إعدام (فون هاغنباخ) بالفعل، بعد محاكمة يمكن أن يطلق عليها أنها محاكمة دولية( ).
وفي أثناء الحرب الأهلية الأمريكية (1861-1865) أصدر الرئيس (إبراهام لنكولن) قانون ليبر، الذي يعد أول محاولة لترتيب قوانين الحرب، وقد حرمت المادة (44) منه أعمال العنف التي ترتكب ضد السكان المدنيين الذين يعيشون على أرض تم غزوها من القوات الأمريكية ، مثل تدمير الممتلكات بدون أوامر من القادة ، وكذلك أعمال السرقة والنهب ، وأعمال الاغتصاب وإحداث الجروح وقطع الأطراف ، وتخضع هذه الجرائم لعقوبة الإعدام أو لعقوبات صارمة أخرى تتناسب مع جسامة الجرم المرتكب.
وحري بالذكر أن المحاكمات سالفة البيان جرت استناداً إلى العرف الدولي( )، حيث أنه لم يكن يوجد نص قانوني أو محكمة جنائية دولية بالمعنى الصحيح، لكن كانت هناك فكرة كامنة في النفوس وهي اعتبار مبدأ الإنسانية القلب النابض للنظام القانوني الذي يهدف إلي توفير الحماية من الأفعال الإجرامية التي يرتكبها أفراد سواء في الحرب الدولية أو الداخلية، أو في السلام، وهذا لا يعد واجباً أخلاقياً فحسب، بل إنه التزام أساسي بمقتضي القانون الدولي العرفي( ).
وعندما أوشكت الحرب العالمية الأولى على الانتهاء أبرمت اتفاقية الهدنة في 11 نوفمبر سنة 1918م وشكلت لجنة في الخامس والعشرين من يناير 1919م لتفصل في موضوع الحرب العدوانية ومسئولية مجرمي الحرب عنها، وسميت هذه اللجنة “بلجنة تحديد مسئوليات مبتدئي الحرب وتنفيذ العقوبات”( ). وتقدمت اللجنة بتقريرها تناولت فيه ثلاث مسائل رئيسية، هي( ):
المسألة الأولي: تتعلق بالأفعال التي ارتكبها الألمان والتي تعد انتهاكاً لقوانين الحرب وأعرافها.
المسألة الثانية: تتعلق بالمسئولية الجنائية الشخصية للأفراد الذين ارتكبوا تلك الأفعال.
المسألة الثالثة: تتعلق بمسئولية من قاموا بالحرب، وفي هذا الصدد قررت اللجنة أن إثارة حرب الاعتداء علي الرغم من كونه عملاً مجافي للعدالة، إلا أنه لا يقع تحت طائلة العقاب وذلك لعدم وجود قواعد قانونية دولية تحرم اللجوء إلي الحرب، وكل ما يمكن أن تخضع له أفعال الاعتداء هو الجزاء الأدبي، وسداً لهذا النقص اقترحت اللجنة وضع جزاء جنائي عند ارتكاب تلك الأفعال في المستقبل( ).
وجاءت معاهدة فرساي التي عقدت بعد ذلك في 28 يونيه سنة 1919م( )، متأثرة إلى حد كبير بما جاء بتقرير لجنة تحديد مسئوليات مبتدئي الحرب وتنفيذ العقوبات بخصوص المسئولية الجنائية الفردية( )، إلا أنها لم تأخذ بما انتهت إليه اللجنة بخصوص عدم المحاكمة والعقاب علي جريمة إثارة حرب الاعتداء، إلا بعد وضع عقوبات جنائية لتلك الجريمة؛ وقد أناط نص المادة (227) من هذه الاتفاقية بالمحكمة مهمة تحديد العقوبة التي ترى تطبيقها، ووفقا لذلك النص يكون للمحكمة سلطة تقديرية في توقيع العقاب حتى لو وصل إلي الإعدام، أي أن هذه الإتفاقية علي هذا النحو لم تمنع عقوبة الإعدام( ).
ثانياً: عقوبة الإعدام في محاكمات الحرب العالمية الثانية:
كان للجرائم البشعة التي شهدها العالم خلال الحرب العالمية الثانية أثر كبير في إقرار مبدأ المسئولية الجنائية الفردية والعقاب عليه؛ إذ صاحبت الحرب جرائم متنوعة انتهكت حرمة القيم الإنسانية والقوانين والأعراف الدولية إلى حد كبير, وصاحب شعور الاستنكار لهذه الجرائم شعور يدعو إلى ضرورة تطبيق القانون الدولي بحق المتهمين بارتكاب جرائم دولية وملاحقتهم بشتى الطرق سواء بالمسئولية التقليدية للدول، أو المسئولية الفردية، لذا، أبرم في ذلك الوقت العديد من الاتفاقيات بين دول الحلفاء( ).
ففي عام 1942 وقع الحلفاء بقصر سانت جيمس اتفاقاً بإنشاء لجنة الأمم المتحدة لجرائم الحرب UNWCC ( )، وكان هذا الاتفاق أول خطوة علي طريق إنشاء المحكمة العسكرية الدولية في (نورمبرج).
وقد تم تشكيل محكمتي (نورمبرج وطوكيو) الدولتين العسكريتين بعد ذلك لمحاكمة كبار مجرمي الحرب الذين لم تكن لمخالفتهما موقع جغرافي معين سواء كانوا متهمين كأفراد أو بوصفهم أعضاء في منظمات أو جماعات بالصفتين معاً.
1- عقوبة الإعدام في النظام الأساسي للمحكمة العسكرية الدولية بنورمبرج IMT :
أنشئت المحكمة العسكرية الدولية في (نورمبرج) بموجب اتفاق لندن الموقع في 8 أغسطس 1945، وقد ألحق بهذا الاتفاق ملحقاً يحتوي علي النظام الأساسي للمحكمة الجنائية المزمع إنشاؤها، وقد شكل هذا الملحق جزءاً متمماً للاتفاق.
وقد وضع النظام الأساسي للمحكمة العسكرية الدولية (بنورمبرج) الأساس القانوني لمبدأ المسئولية الجنائية الدولية الفردية؛ إذ تضمن نص المادة السادسة الهدف من إنشاء المحكمة وهو محاكمة كبار مجرمي الحرب من بلاد المحور الأوربية.
ونصت المادة “27” من نظامها الأساسي على أنه “تستطيع المحكمة أن تحكم على المتهمين الذين أدانتهم بعقوبة الإعدام أو أية عقوبة أخرى تقدر إنها عادلة”، كما أجازت المادة “28” منه للمحكمة مصادرة الأموال التي تم تحصيلها من الجرائم التي يدان عنها المتهم.
وقد جاءت العقوبات السابقة على سبيل المثال لا الحصر، وكان ذلك أحد الحجج التي استند إليها المحامون في دفاعهم عن المتهمين الذين مثلوا أمام المحكمة( ). كما كان ذلك أحد الانتقادات الموجهة إلى تلك المحكمة من قبل العديد من الباحثين( ).
ويلاحظ أن محكمة نورمبرج تعد أول محكمة جنائية دولية تُقر عقوبة الإعدام، وقد انتقد البعض نص المادة “27”· لأنه لم يضع ضوابط محددة ومعينة يتقيد بها القضاة عند إنزال العقوبة بحق المدانين( ). فقد كان لهم سلطة تقديرية مطلقة في تحديد العقوبة. فلهم الحق إذا ما ارتكب متهم جريمة تدخل في اختصاص هذه المحكمة أن يحكموا بعقوبة الإعدام، أو عقوبة السجن، أو أي عقوبة أخري ( ).
2- عقوبة الإعدام في النظام الأساسي للمحكمة الدولية العسكرية بطوكيو IMTFE :
كان لإلقاء القنبلتين النوويتين علي (هيروشيما وناجازاكي) في 8، 9 أغسطس 1945، وما نجم عن ذلك من دمار وخراب لهاتين المدينتين، أثر في توقيع اليابان علي وثيقة الاستسلام في 2 سبتمبر 1945، والتي تضمنت إخضاع سلطة إمبراطور اليابان والحكومة لمشيئة القيادة العليا لقوات الحلفاء، والتي كان من سلطتها تقرير ما تراه لازماً من إجراءات لوضع شروط الاستسلام موضع التنفيذ( ).
وأصدر الجنرال الأمريكي (دوجلاس ماك أرثر) بوصفه القائد الأعلى لقوات الحلفاء في الشرق الأقصى، في 19 يونيو عام 1946، قراراً بإنشاء المحكمة العسكرية الدولية للشرق الأقصى، وقد صدق هذا الجنرال في نفس اليوم علي النظام الأساسي للمحكمة، الذي لم يختلف كثيراً عن النظام الأساسي لمحكمة (نورمبرج)، إذ تضمنت المادة الخامسة منه النص علي إعطاء الصلاحية للمحكمة لمحاكمة ومعاقبة الأشخاص الطبيعيين الذين يرتكبون الجرائم الواردة في ذات المادة.
واختصت محكمة طوكيو بالنظر في الجرائم ضد السلام والجرائم ضد الإنسانية، وكذلك جرائم معاهدات الحرب وهي مخالفات قوانين وأغراض الحرب، أما عن العقوبات التي تحكم بها المحكمة فكان بإمكانها فرض عقوبة الإعدام فضلاً عن العقوبات السالبة للحرية، وقد أصدرت هذه المحكمة في 12/11/1948 عدة أحكام منها ستة فقط بالإعدام.
3- عقوبة الإعدام في المحاكمات التي تمت في إطار قانون مجلس رقابة الحلفاء رقم (10) لسنة 1945:
لقد أجريت بعد الحرب العالمية الثانية محاكمات عديدة بالإضافة إلى محاكمات (نورمبرج وطوكيو)، حيث أن هاتين المحكمتين خصصتا لمحاكمة كبار مجرمي الحرب وهم قلة؛ لذا كان من الضروري إيجاد وسيلة أخرى لمحاكمة باقي المسئولين الذين ارتكبوا أفعالاً تمثل جرائم دولية أثناء الحرب، وأصدرت بالفعل دول الحلفاء ما يعرف باسم القانون رقم (10) بتاريخ 20 ديسمبر سنة 1945، ويهدف هذا القانون إلى ملاحقة ومحاكمة كل من ارتكب جريمة حرب أو جريمة ضد السلام وسلامة الإنسانية من المسئولين الألمان والذين لم يمثلوا أمام محكمة (نورمبرج).
وقد أجازت المادة الثانية من هذا القانون توقيع عقوبة الإعدام ثم السجن مدي الحياة مع الأشغال الشاقة أو بدونها ومصادرة الممتلكات ثم الحرمان من بعض الحقوق المدنية علي حسب الجريمة المرتكبة.
وأصدرت المحاكم المنشئة تبعا لهذا القانون سلسلة من الأحكام على عدد من مرتكبي الإجرام الدولي في أوربا والشرق الأقصى وتم إعدام كثيرين منهم.
ثالثاً: عقوبة الإعدام في القضاء الجنائي الدولي المؤقت والدائم:
قام القضاء الجنائي الدولي المؤقت المتمثل في محكمة (يوغسلافيا السابقة) ومحكمة (رواندا)، والقضاء الدولي الدائم المتمثل في المحكمة الجنائية الدولية بترسيخ مبدأ استبعاد عقوبة الإعدام كعقوبة توقع علي الأفراد مرتكبي الجرائم الدولية – علي خلاف نظامي نورمبرج وطوكيو- من خلال النص عليه في النظام الأساسي لهذه المحاكم، وكذا تطبيقه عمليا من خلال الأحكام الصادرة عنها، وذلك علي النحو التالي:
1- المحكمة الجنائية الدولية ليوغسلافيا السابقة (ICTY):
إزاء الوضع السيئ الذى عاشته (يوغسلافيا السابقة) منذ أوائل عام 1991م من حرب أهلية وجرائم ضد الإنسانية شكلت انتهاكاً جسيماً لمعاهدات جنيف الأربعة الموقعة عام 1949م، وللقانون الدولي الإنساني بصفة عامة كان تدخل مجلس الأمن ضرورة حتمية لمعاقبة المسئولين عن هذه الانتهاكات، وبالفعل أصدر مجلس الأمن قراره رقم 808 لسنة 1993 لإنشاء محكمة دولية محددة من حيث النطاق والغرض، في مقاضاة الأشخاص المسئولين عن الانتهاكات الجسيمة للقانون الإنساني الدولي التي ارتكبت في إقليم يوغسلافيا السابقة منذ عام 1991م( ).
وجاء النظام الأساسي لهذه المحكمة مؤكداً علي مبدأ المسئولية الجنائية الفردية؛ ثم بين العقوبات التي يجوز توقعيها علي مرتكبي الجرائم الدولية الداخلة في اختصاص هذه المحكمة، وهذه العقوبات محددة على سبيل الحصر، وتتمثل في السجن مدى الحياة وهي أقصي عقوبة يمكن أن تحكم بها، بالإضافة إلى سلطتها في الحكم بالسجن لمدد محددة والمصادرة والغرامة، في حين استبعد النظام الأساسي لهذه المحكمة عقوبة الإعدام( ).
وأكدت المحكمة الجنائية الدولية (ليوغسلافيا السابقة) على ذلك في أحكامها؛ إذ أصدرت مجموعة من الأحكام بحق بعض المجرمين تتراوح بين السجن المؤقت والسجن المؤبد( ).
والجدير بالذكر أن أغلب الأحكام التي أصدرتها محكمة (يوغسلافيا السابقة) كانت ضد قادة مدنيين وعسكريين( )؛ حيث أصدرت الدائرة الابتدائية بهذه المحكمة حكماً باعتبار المتهم الدكتور (ميلومير ستاكيتش) Miliomir Stakić مداناً بتهمة الإبادة بوصفها جريمة ضد الإنسانية، وتهمة القتل وانتهاك قوانين وأعراف الحرب، وتهمتي الاضطهاد والترحيل بوصفهما جرائم ضد الإنسانية، وقد أصدرت الدائرة الابتدائية حكماً عليه بالسجن مدي الحياة( ).
وأدانت الدائرة الابتدائية في ذات المحكمة القائد العسكري (ناليتيليتش)· Naletilić في ثمانية اتهامات تتعلق بجرائم ضد الإنسانية، وانتهاكات لقوانين الحرب أو أعرافها، والمخالفات الجسيمة لاتفاقيات جنيف، وأصدرت ضده حكماً واحداً بالسجن لمدة عشرين عام، وكذلك أدانت (فينكو مارتينوفيتش) Martinović في تسعة اتهامات تتعلق بجرائم ضد الإنسانية، وانتهاكات لقوانين الحرب وأعرافها، والمخالفات لاتفاقيات جنيف، وأصدرت ضده حكماً واحداً بالسجن لمدة 18 عاماً( ).
وأصدرت الدائرة الاستئنافية حكماً بإدانة الجنرال (مومشيلو كراجنيك)Momčilo Krajišnik· لتحمله المسئولية طبقاً لمبدأ المسئولية الجنائية الفردية عن أفعال القتل والإبادة والاضطهاد كجرائم ضد الإنسانية، وحكمت عليه بالسجن لمدة عشرين عاماً( ).
2- المحكمة الجنائية الدولية لرواندا (ICTR):
أصدر مجلس الأمن – على أثر الانتهاكات الجسيمة والخطيرة للقانون الدولي الإنساني التي ارتكبت أثناء الحرب الأهلية في (رواندا) بما في ذلك جرائم الإبادة الجماعية التي ارتكبتها قبائل (الهوتو والتوتسى) في حق بعضهم البعض -· القرار رقم 955 لسنة 1994 بإنشاء المحكمة الجنائية الدولية (برواندا) واعتماد نظامها الأساسي الذى كان مماثلاً تقريباً لنظام محكمة (يوغسلافيا السابقة)، فقد أكد هو الآخر علي مبدأ المسئولية الجنائية الفردية ( ).
أما بشأن العقوبات التي تفرضها المحكمة الجنائية الدولية (لرواندا) فقد كانت إحدى الإشكاليات التي واجهها مجلس الأمن من أجل إنشاء هذه المحكمة، حيث كان هناك اختلاف في وجهات النظر بين معظم أعضائه وبين حكومة رواندا التي كانت تريد أن تكون إحدى العقوبات التي يمكن للمحكمة توقيعها علي مرتكبي الجرائم عقوبة الإعدام، في حين كان المجلس يعارض ذلك نظرا لسابقة معارضته لهذه العقوبة بالنسبة لمحكمة (يوغسلافيا السابقة)، وقد استقر الأمر على استبعاد عقوبة الإعدام فجاءت الفقرة الأولي من المادة (34) من النظام الأساسي لمحكمة (رواندا) بنص مشابه لما تضمنه النظام الأساسي لمحكمة (يوغسلافيا السابقة) عندما استبعد عقوبة الإعدام من التطبيق بحق الجناة، وجعل أقصي عقوبة يمكن تطبيقها عليهم هي السجن مدي الحياة، وبالتالي لا يجوز للمحكمة الحكم بعقوبة الإعدام مهما بلغت الجريمة من جسامة.
وعلى ذات النهج أكدت أحكام (محكمة رواندا)؛ إذ أصدرت الدائرة الابتدائية بهذه المحكمة أول أحكامها ضد القائد المدني (جون أكايسيو) عمده بلدة (تابا) برواندا لمسئوليته عن ارتكاب أعمال عنف جنسية وتعذيب وأفعال غير إنسانية وقتل على نحو أدخله في نطاق جريمة الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية، وقررت الدائرة مسئوليته عنها استناداً على مبدأ المسئولية الفردية وحكمت عليه بالسجن مدى الحياة( ). وأدانت الدائرة الابتدائية المتهم (إيمانويل روكوندو) Emmanuel Rukundo لارتكابه جريمة الإبادة الجماعية، والقتل والإبادة كجرائم ضد الإنسانية، وحكمت عليه أيضا بعقوبة السجن( ).
وأصدرت الدائرة الابتدائية بذات المحكمة حكماً بإدانة (جان كامبندا) Kambanda· – رئيس الوزراء السابق للحكومة الإنتقالية لجمهورية رواندا – عن التهم الست الموجهة إليه في عريضة الاتهام والمتعلقة بجرائم الإبادة الجماعية، والتآمر لارتكاب الإبادة الجماعية، والتحريض المباشر العلني والاشتراك في ارتكاب أعمال إبادة جماعية، وارتكاب جرائم ضد الإنسانية، وحكم عليه بالسجن مدي الحياة( ).
3- المحكمة الجنائية الدولية(ICC):
زادت رغبة المجتمع الدولي بعد أحداث الحرب العالمية الثانية وأحداث (يوغسلافيا السابقة ورواندا) في إيجاد آلية أكثر فعالية تمكن النظام القانوني الدولي من تتبع المسئولين عن ارتكاب الجرائم الأكثر خطورة على الإنسانية، ومساءلتهم عنها، وتوقيع الجزاء الجنائي عليهم وذلك لضمان عدم تكرار وقوع مثل تلك الجرائم( ).
وتحققت هذه الآلية باعتماد نظام روما الأساسي المنشئ للمحكمة الجنائية الدولية في المؤتمر الدبلوماسي للأمم المتحدة المنعقد في روما بتاريخ 17 يوليو 1998م؛ فمن أجل وضع التحقيق ومحاكمة الأشخاص الذين يرتكبون أشد الجرائم خطورة موضع الاهتمام الدولي أنشئت المحكمة الجنائية الدولية( ).
وقد حدد نظامها الأساسي العقوبات التي يمكن أن تفرضها المحكمة على سبيل الحصر؛ إذ جاءت المادة “77” منه والمعنونة “العقوبات الواجبة التطبيق” ونصت على أنه: “رهناً بأحكام المادة 110, يكون للمحكمة أن توقع على الشخص المدان بارتكاب جريمة في إطار المادة الخامسة من هذا النظام الأساسي إحدى العقوبات التالية:
أ ) السجن لعدد محدد من السنوات لفترة أقصاها 30 سنة.
ب) السجن المؤبد حيثما تكون هذه العقوبة مبررة بالخطورة البالغة للجريمة وبالظروف الخاصة للشخص المدان.
2- بالإضافة إلى السجن, للمحكمة أن تأمر بما يلي:
أ ) فرض غرامة بموجب المعايير المنصوص عليها في القواعد الإجرائية وقواعد الإثبات.
ب) مصادرة العائدات والممتلكات والأصول المتأتية بصورة مباشرة أو غير مباشرة من تلك الجريمة, دون المساس بحقوق الأطراف الثالثة الحسنة النية.
وحري بالذكر أن هذا النص لا يتضمن عقوبة الإعدام على الرغم من أن الجرائم التي تنظر فيها المحكمة هي جرائم دولية شديدة الخطورة.
وبالرجوع إلى الخلفية التاريخية لإقرار النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية نجد أن التوصل إلى صياغة هذه المادة لم يكن بالأمر الهين، وإنما جاء بعد سجال طويل تمخض عنه هذا النص كتسوية تهدف إلى إرضاء أكبر عدد ممكن من الدول، حيث أثارت أنواع العقوبات جدلا كبيرا في مؤتمر روما الدبلوماسي، وخصوصاً ما يتعلق بعقوبة الإعدام، فقد انقسمت الوفود المشاركة إلى فريقين، الأول وتتزعمه الدول الغربية الرافضة بصورة مطلقة لفكرة إدراج هذه العقوبة في النظام الأساسي، ففضلاً عن· الحجج التقليدية، قدّم هذا الفريق حجة أخرى مفادها أن النص على هذه العقوبة سيخرق النصوص الدستورية في بلدانهم( )، وفي المقابل فإن الفريق الثاني الذي تزعمته البلدان العربية والإسلامية وبعض البلدان الأخرى التي تنص تشريعاتها الجنائية على هذه العقوبة أصر على إدراجها في النظام الأساسي، متعللا بأن عدم النص عليها يؤدي إلى تناقض صارخ لدي هذه الدول لكونها تعاقب علي جرائم أقل جسامة وخطورة بعقوبة الإعدام، بينما لن تطبق هذه العقوبة بحق مرتكبي أشد الجرائم خطورة كجريمة الإبادة الجماعية( ).
وقد تم التوصل إلى تسوية بموجبها تم استبعاد عقوبة الإعدام من المادة “77”، مع إضافة مادة جديدة تحمل رقم “80” والمعنونة “عدم المساس بالتطبيق الوطني للعقوبات والقوانين الوطنية” وتنص على أنه (ليس في هذا الباب ما يمنع الدولة من توقيع العقوبات المنصوص عليها في قوانينها الوطنية، أو يحول دون تطبيق قوانين الدول التي لا تنص على العقوبات المحددة في هذا الباب).
ونخلص مما سبق إلي أن الجرائم المنصوص عليها في النظام الأساسي إذا ما نظرت من قبل المحكمة الجنائية الدولية فإن أقصى عقوبة يمكن أن تحكم بها هي السجن مدى الحياة، أما إذا نظرت تلك الجريمة من قبل القضاء الوطني لأحد الدول الأطراف وفقاً لمبدأ التكامل( )، وكانت تلك الدولة تفرض عقوبة الإعدام بموجب قوانينها الوطنية فإنه يمكن لهذا القضاء أن يفرض عقوبة الإعدام بحق المدان.
رابعاً: عقوبة الإعدام في القضاء الجنائي المختلط:
لم يمهد إنشاء المحكمتان الجنائيتان الدوليتان (ليوغسلافيا السابقة ولرواندا) الطريق لإنشاء المحكمة الجنائية الدولية فحسب، بل أوجد إمكانية للسعي بصورة غير مباشرة لإنشاء العديد من المحاكم الوطنية ذات الطابع الدولي أو ما يسمى بالمحاكم المختلطة( ).
ويتم إنشاء المحكمة المختلطة باتفاق بين الدولة المعنية والأمم المتحدة، وقد تنشأ في حالات استثنائية بقرار من مجلس الأمن الدولي، أما عن تشكيلها فيكون بمعرفة السلطات الوطنية (قضاتها وطنيون) بالاشتراك مع منظمة الأمم المتحدة. ومن ثم، تصبح هذه المحكمة مختلطة بعناصرها الوطنية والدولية – وهو ما يسمى بالنمط المشترك من المحاكمة الوطنية والدولية( )- وتعمل هذه المحاكم تحت إشراف مشترك من الأمم المتحدة والدولة المعنية( )، على أن يطبقوا مباشرة أو بطريق غير مباشر القانون الوطني (مع ملاحظة بعض التعديلات علي القوانين الوطنية بما يتوافق والمعايير الدولية لإجراءات المحاكمة والأحكام)، والمعاهدات والمواثيق الدولية ذات الصلة. وأبين دور هذه المحاكم في إقرار عقوبة الإعدام من عدمه على النحو التالي:
1- اللجان ذات الولاية القضائية الخاصة علي الأفعال الخطيرة في تيمور الشرقية:
إزاء تدهور الحالة الأمنية في (تيمور الشرقية)، ولاسيما استمرار أعمال العنف، وما ورد من تقارير تشير إلي وقوع انتهاكات منظمة وواسعة النطاق للقانون الدولي الإنساني وحقوق الإنسان في تيمور الشرقية( )، أصدرت الإدارة الانتقالية التابعة للأمم المتحدة في تيمور الشرقية( ) اللائحة رقم 15 لسنة 2001 بشأن إنشاء لجان ذات ولاية قضائية خاصة علي الأفعال الجنائية الخطيرة.
وقد أقرت المادة الرابعة عشر من هذه اللائحة بأن يكون للجان ذات الولاية القضائية اختصاص علي الأشخاص الطبيعيين عملاً بالقاعة التنظيمية الحالية.
وبشأن العقوبات التي تطبق علي هؤلاء الأشخاص فقد جاءت هذه اللائحة بنص يطابق النص الوارد في النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، وبالتالي فإن أقصي عقوبة يمكن أن توقعها هذه اللجان هي السجن مدي الحياة مع استبعاد لعقوبة الإعدام.
2- المحكمة الجنائية الخاصة بسيراليون· (SCSL):
إزاء ما ارتكب من جرائم جسيمة داخل أراضي (سيراليون)، وشيوع حالة الإفلات من العقاب، طلبت حكومة (سيراليون) من مجلس الأمن المساعدة لمقاضاة عدد كبير من الأشخاص المتهمين بارتكاب تلك الجرائم حيث تم التحفظ عليهم، وذلك عن طريق إنشاء محكمة خاصة بغرض إقامة العدالة وضمان السلم الدائم، بالإضافة للحاجة إلي تعاون دولي للمساعدة علي تعزيز النظام القضائي في (سيراليون)( ).
لذا، تم اتفاق بين الأمم المتحدة وحكومة (سيراليون) بشأن إنشاء محكمة خاصة (لسيراليون)( )، وتتمثل المهمة الأساسية لهذه المحكمة في محاكمة أولئك الذين يتحملون أكبر قدر من المسئولية عن الانتهاكات الجسمية للقانون الدولي الانسانى وقوانين (سيراليون) والتي ارتكبت في أراضى سيراليون منذ 30 نوفمبر1996م بمن فيهم الزعماء الذين هددوا تأسيس وتطبيق عملية السلام في سيراليون بارتكابهم لهذه الجرائم.
وعن العقوبات الواردة في النظام الأساسي لهذه المحكمة فقد منحت المادة “19” منه والمعنونة (العقوبات) الحق للدائرة الابتدائية في أن تفرض على الشخص المدان، عدا المجرم الحدث عقوبة السجن المؤبد أوالمؤقت، وفضلا عن ذلك لها الحق في أن تأمر بمصادرة الممتلكات والعوائد المكتسبة من أي أصول غير مشروعة أو عن طريق السلوك الإجرامي، وعودتهم إلى مالكيها الشرعيين أو إلى دولة سيراليون. وبذلك فإن محكمة سيراليون لم تأخذ· بعقوبة الإعدام، وتعد أقصي عقوبة يمكن أن تقضي بها هي السجن.
3- الدوائر الاستثنائية في محاكم كمبوديا:
أفضت الانتهاكات والفظائع التي ارتكبها قادة الخمير الحمر “Khmer Rouge” إلي خلق وضع مأساوي صارخ في (كمبوديا)، وإذا كان السقوط النهائي للخمير الحمر، والجهود المتواصلة التي بذلتها حكومة (كمبوديا) وفروا الأساس لإعادة إحلال السلام والاستقرار إلا أنه تظل المسئولية الجنائية لمرتكبي تلك الانتهاكات والحيلولة دون الإفلات من العقاب تمثل أحد العناصر الرئيسية التي يقوم عليها أي إنصاف فعال لضحايا هذه الانتهاكات، وأحد العوامل الأساسية لكفالة إقامة نظام عدالة نزيه ومنصف، ولتحقيق المصالحة والاستقرار داخل أرجاء دولة (كمبوديا الملكية)، طلبت حكومة (كمبوديا) في يونيه 1997 من الأمين العام للأمم المتحدة المساعدة للتصدي للانتهاكات الخطيرة للقانونين الكمبودي والدولي والمرتكبة في الماضي( ).
وبتاريخ 6 يونيه 2003 تم إبرام اتفاق بين الأمم المتحدة وحكومة (كمبوديا) في مدينة بنوم بنه بكمبوديا علي إنشاء دوائر الاستثنائية في محاكم (كمبوديا) لمحاكمة مرتكبي الجرائم التي اقترفت خلال فترة كمبوتشيا الديمقراطية .
وقد أوضحت المادة الأولي المعنونة (أحكام عامة) من قانون إنشاء الدوائر الاستثنائية في محاكم (كمبوديا) الغرض من هذا القانون الذي يتمثل في أن يقدم للمحاكمة كبار قادة كمبوتشيا الديمقراطية والأشخاص الذين يتحملون أكبر قدر من المسئولية عن الجرائم والانتهاكات الخطيرة للقانون الجنائي الكمبودي والقوانين والأعراف الإنسانية الدولية والاتفاقيات الدولية التي تعترف بها (كمبوديا)، والتي وقعت خلال الفترة من 17 أبريل 1975 إلي 6 يناير 1979.
وبشأن العقوبات الواردة في هذا القانون فقد نصت المادة “38” منه والمعنونة “العقوبات” علي أنه ” تقتصر كل العقوبات على السجن”.·····
وتنص المادة “39” من ذات القانون علي أنه “يعاقب أولئك الذين ارتكبوا الجرائم المنصوص عليها في المواد 3 و 4 و 5 و 6 و 7 و 8· بالسجن لمدة من خمس سنوات الى السجن مدى الحياة، وبالإضافة إلى السجن، يجوز للدائرة الاستثنائية لمحكمة الموضوع أن تأمر بمصادرة الممتلكات الشخصية، والمال، والعقارات المكتسبة بصورة غير مشروعة أو عن طريق السلوك الإجرامي. وتعاد الممتلكات المصادرة إلى الدولة”.
ويمكن القول – في ضوء هذه النصوص – أن قانون إنشاء الدوائر الاستثنائية في محاكم (كمبوديا) حرص هو الآخر على تأكيد وترسيخ مبدأ إلغاء عقوبة الإعدام علي مقترفي الجرائم الدولية، واقتصار العقوبات علي السجن والمصادرة .
وقد أصدرت المحكمة المشكلة بناء علي هذا القانون في القضية الأولى في يوليو 2010 حكما بالسجن لمدة ثلاثين عاماً على كاينغ غيك إياف المدعو «دوتش»، رئيس سجن· توول سليغ حيث تعرض 15 ألف سجين للتعذيب قبل إعدامهم. وقد طلب دوتش الإفراج عنه في محكمة الاستئناف، ولم يصدر الحكم حتى كتابة هذه الورقة البحثية.
4- المحكمة الجنائية الخاصة بلبنان :
أصدر مجلس الأمن القرار رقم 1664 المؤرخ في 29 يناير 2006، والذي طلب فيه من الأمين العام أن يتفاوض مع حكومة (لبنان) على اتفاق يرمى إلى إنشاء محكمة ذات طابع دولي Establishing a Tribunal of an International character ، استناداً إلى أعلى المعايير الدولية في مجال العدالة الجنائية.
وقد تم إنشاء المحكمة، ووضع النظام الأساسي لها الذي أكد في المادة الأولي منه المعنونة (الاختصاص القضائي للمحكمة الخاصة) علي أن يكون للمحكمة الخاصة اختصاص على الأشخاص المسئولين عن الهجوم الذي وقع في ١٤ فبراير ٢٠٠٥ وأدى إلى مقتل رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري وإلى مقتل أو إصابة أشخاص آخرين. وإذا رأت المحكمة أن هجمات أخرى وقعت في (لبنان) في الفترة بين ١ أكتوبر ٢٠٠٤ و ١٢ ديسمبر ٢٠٠٥، أو في أي تاريخ لاحق آخر يقرره الطرفان ويوافق عليه مجلس الأمن، هي هجمات متلازمة وفقا لمبادئ العدالة الجنائية وأن طبيعتها وخطورتها مماثلتان لطبيعة وخطورة الهجوم الذي وقع في ١٤ فبراير ٢٠٠٥، فإن المحكمة يكون لها اختصاص على الأشخاص المسئولين عن تلك الهجمات.
وقد أقر النظام الأساسي لمحكمة لبنان في المادة الثالثة منه مبدأ المسئولية الجنائية الفردية. أما عن العقوبات التي يمكن أن توقعها المحكمة، فتنص المادة “٢٤” من نظامها الأساسي والمعنونة “العقوبات” علي أن “تفرض الدائرة الابتدائية عقوبة السجن مدى الحياة أو لسنوات محددة على الشخص المدان. وعند تحديد مدة السجن للجرائم المنصوص عليها في هذا النظام الأساسي، تستأنس الدائرة الابتدائية، حسب الاقتضاء، بالممارسة الدولية فيما يتعلق بأحكام السجن وبالممارسة المتبعة في المحاكم الوطنية اللبنانية” .
ووفقا لذلك يكون النظام الأساسي لمحكمة لبنان قد سار علي النهج الحديث للقضاء الجنائي الدولي في استبعاد عقوبة الإعدام من التطبيق علي مقترفي الجرائم الدولية والاكتفاء بعقوبة السجن.
الخاتمة:
بعد دراسة مستفيضة في واقع عقوبة الإعدام وأبعادها علي المستوي الدولي، بدا جلياً لنا أن هناك توجه دولي نحو إلغاء عقوبة الإعدام أو جعلها في أضيق نطاق، فقد تم إبرام العديد من الاتفاقيات الدولية التي تحث علي إلغاء هذه العقوبة أو قصرها علي جرائم محددة وفي أوقات معينة.
كما أن القضاء الجنائي الدولي بدأ هو الأخرى يحذو ذات النهج، حيث لم يتم تقرير عقوبة الإعدام إلا في محاكمات الحرب العالمية الثانية (نورمبرج – وطوكيو – والقانون رقم “10”)، وقد تم استبعاد هذه العقوبة في محاكمات (يوغسلافيا السابقة ورواندا)، ثم جاءت المحكمة الجنائية الدولية لتقرر هي الأخرى إلغاء عقوبة الإعدام في نظامها الأساسي، وسارت علي ذات النهج المحاكم الجنائية المختلطة في إشارة واضحة نحو رغبة القضاء الجنائي الدولي في عدم الأخذ بهذه العقوبة مهما كانت جسامة الجرائم المرتكبة، وهناك شبة توافق بين الأنظمة الأساسية للمحاكم الجنائية الدولية علي جعل عقوبة السجن مدي الحياة هي أقصى عقوبة مع استبعاد عقوبة الإعدام من عداد العقوبات التي يمكن توقيعها.
ولا مراء في أننا وإذ نشارك هذا التوجه الدولي، إلا أن قناعتنا بالعقوبة – في الوقت ذاته- لا تتجاوز حدها الشرعي الذي يكفل عدم استخدام عقوبة الإعدام إلا في أضيق الحدود وكقصاص شرعي وفق إجراءات قانونية تضمن للقضاء الطمأنينة الكاملة لعدالة الحكم( ).
وفي نهاية الأمر أدعو الله أن أكون قد وفقت في الإحاطة والإلمام ببعض جوانب هذا الموضوع الشائك، ولا يفوتني أن أذكر أن كل عمل بشري لابد أن يوجد فيه من النقص والهفوات التي يسبق القلم إليها أو يذهل الفكر عنها، فإن أحسنت فمن الله فله الحمد والشكر، وإن كانت الأخرى فمن نفسي وسبحان من أبي أن يكون الكمال إلا له، ولا أجد في هذا خيراً من قول العماد الأصفهاني ” إني رأيت أنه لا يكتب إنسان كتاباً في يوم إلا قال في غده لو غير ذلك لكان أحسن، ولو زيد ذلك لكان يستحسن، ولو قدم هذا لكان أفضل، ولو ترك هذا لكان أجمل، وهذا من أعظم العبر، وهذا دليل علي استيلاء النقص في جملة البشر”.
(بقلم المستشار الدكتور/ محمد صلاح أبورجب)