دراسات قانونية
آليات حقوق الدفاع في مرحلة المحاكمة (بحث قانوني)
موجز لحقوق الدفاع في مرحلة المحاكمة: الركائز والآليات
الـرحالي يـونـس
باحت بسلك ماستر العلوم الجنائية
كلية العلوم القانونية والسياسية
مراكش – القاضي عياض
مـقـدمـة
لايختلف اثنان في كون أن مرحلة المحاكمة من أهم مراحل الخصومة الجنائية والتي تلي مرحلة إحالة المتهم وملف القضية إما من طرف النيابة العامة أو من طرف قاضي التحقيق إلى هيئة الحكم، من أجل التثبت من صحة الأفعال الجرمية المنسوبة إلى من هو في وضعية الإتهام من عدمها وهي التي تتأتى كنتيجة و تتويج لقرار البراءة أو الإدانة أو الإعفاء.
وحيث أنه قبل النطق بالحكم يقوم قضاء الموضوع بمجموعة من الإجراءات التي تهدف معرفة الحقيقة الإجرامية ومعرفة مدى براءة المتهم من إدانته وهو ما يسمى بالحقيقة القضائية .
والجدير بلفت الانتباه أن القاضي الجنائي وهو في صدد تكوين قناعته الوجدانية يقوم بنوع من الموازنة بين فعل الاتهام و فعل الدفاع وهو في ذلك يتخذ موقف الحياد، و يعتبر الفاصل و الحكم بين إدعاءات النيابة العامة باعتبارها ممثلة المجتمع وبين المتهم الذي يعتبر بريء حتى تثبت إدانته بمقتضى محاكمة عادلة تؤمن له فيها ضمانات الدفاع[1] طبقا للقانون وفق المقولة القائلة ” إن القانون الذي يحقق الاحترام للمتهم إنما يدفع المتهم نفسه لإحترام القانون والقائمين على تمثيله “[2]
بيد أنه لا يمكن أن يتأتى ذلك إلا من خلال الحق في محاكمة عادلة تعتبر بمثابة الدرع الواقي من تلفيق التهم وسياجا منيعا يروض سلطة النيابة العامة في الإدعاء، من منطلق أن الظلم أينما كان يهدد العدل في كل مكان[3].
وبالتالي فعندما يمثل الشخص أمام القاضي الجنائي متهما بارتكاب فعل جرمي يكون قد واجه آلية الدولية بعدتها وعتادها الكامل انطلاقا من الوضع تحت الحراسة النظرية لدى ضباط الشرطة القضائية مرورا بالاستنطاق من طرف ممثل النيابة العامة وصولا إلى الاستنطاق الأولي والتفصيلي لقاضي التحقيق ومن ثمة تبقى الطريقة التي يعامل بها المتهم من طرف المحكمة هي التي تدل على مدى احترام حقوق الدفاع لأنه لا قيمة لحق الدولة في العقاب على مدبح حرية الأفراد ولأن إساءة استخدام العقوبة تشوه أهدافها.
ومن جهة أخرى فإن الاستماع إلى النيابة العامة وحدها ليس كافيا لإدانة المتهم وإنما يلزم فضلا عن ذلك حتى تتحقق القناعة الوجدانية للقاضي الجنائي لابد من تمكين المتهم من الدفاع عن نفسه و إقرار مجموعة من الحقوق لفائدته حتى لا يدان البريء.
إدن فحقوق الدفاع ما هي في نهاية المطاف إلا امتيازات خاصة[4] ومكنات تخول للمتهم الرد على كل ما من شئنه إدانته[5].
وهو ما يجعلنا نقول على أن غياب حقوق الدفاع يؤدي حتما بطريقة لا محيد عنها إلى تزيف الحقائق[6] فالدفاع هو الضرورة المنطقية للاتهام وهناك من يرى بأن حق الدفاع هو حق أصيل ينشأ منذ اللحظة الأولى التي يواجه فيها الشخص ضباط الشرطة القضائية وذلك من خلال تمكينه من درء الاتهام عن نفسه إما بإثبات فساد دليله أو بإقامة الدليل على نقيضه[7].
وبعد هذا التقديم تتأتى لنا مشروعية التساؤل حول ما مدى احترام المشرع المغربي لحقوق الدفاع أثناء مرحلة المحاكمة؟
ولمحاولة الإجابة هذا التساؤل لابد من أن نفرع هذه الإشكالية إلى مجموعة من الأسئلة من قبيل:
ما هي المبادئ العامة المتعارف عليها لحقوق الدفاع أثناء مرحلة المحاكمة؟ وهل الحقوق التي ضمها المشرع المغربي للمتهم كافية لمحاكمته محاكمة عادلة؟
وأين تتجلى مظاهر الإخلال بحقوق الدفاع أثناء مرحلة المحاكمة؟
وماهية الآليات التي وضعها المشرع المغربي لحماية حقوق الدفاع أثناء المحاكمة؟
وسنتناول هذا الموضوع من خلال مبحثين رئيسيين
المبحث الأول: ركائز حقوق أثناء مرحلة محاكمة المتهم
المبحث الثاني: آليات حماية المشرع لحقوق الدفاع خلال مرحلة المحاكمة
وذلك وفق التصميم التالي:
المبحث الأول: الركائز الأساسية لحقوق الدفاع أثناء مرحلة المحاكمة
المطلب الأول: الحقوق غير المباشرة للدفاع أثناء مرحلة المحاكمة
الفقرة الأولى: الحق في علنية وشفوية المحاكمة
الفقرة الثانية: الحق في الحضورية وإعفاء المتهم من إثبات برائته
المطلب الثاني: الحقوق المباشرة للدفاع أثناء مرحلة المحاكمة
الفقرة الأولى: الحقوق المخولة لجميع المتهمين
الفقرة الثانية: الحقوق المخولة للمتهمين في وضعية خاصة
المبحث الثاني: بعض آليات حماية حقوق الدفاع خلال مرحلة المحاكمة
المطلب الأول: تقيد سلطة القاضي الجنائي
الفقرة الأولى: التقيد بحدود الدعوى وتعليل الأحكام
الفقرة الثانية: عدم الاعتداد ببعض وسائل الإثبات
المطلب الثاني: النتائج المترتبة عن الإخلال بحقوق الدفاع أثناء مرحلة المحاكمة
الفقرة الأولى: الحق في الطعن
الفقرة الثانية: البطلان
المبحث الأول: الركائز الأساسية لحقوق الدفاع أثناء مرحلة المحاكمة
ترتكز حقوق الدفاع المخولة للأظناء الماثلين أمام هيئة المحكمة على مجموعة من الدعائم التي تضمن سير إجراءات الدعوى العمومية بصفة سليمة وصحيحة متمثلة في مبادئ عامة مخولة للدفاع ومستمدة من روح قواعد المسطرة الجنائية باعتبارها كما يقال قانونا للشرفاء(المطلب الأول).
ومن حقوق مباشرة تضمن للمتهم الإحاطة والعلم بما اتهم به ويكفل له دفاعه لمواجهة التهمة المنسوبة إليه بشكل يضمن كرامته وإنسانيته لإن المتهم في نهاية المطاف بريء حتى تثبت إدانته بمقتضى حكم حائز لقوة الشيء المقضي به حسب الفصل الأول من قانون المسطرة الجنائية(المطلب الثاني).
المطلب الأول: الحقوق الغير المباشرة للدفاع أثناء مرحلة المحاكمة
الفقرة الأولى: مبدأ علنية المحاكمة و شفويتها
أولا: الحق في محاكمة علنية
بالرجوع إلى المادة 300 من ق.م.ج نجدها تنص على أن إجراءات البحث والمناقشات تتم في جلسة علنية وتحت طائلة البطلان ومن ثمة لا جدال في أن إتاحة الفرصة لعامة الناس حضور إجراءات محاكمة المتهم شيئ يبدد الشك في نفسيته ويولد الاطمئنان لدى العامة بحسن سير العدالة وتحررها من أي قيد يفقد الثقة فيها وتبعث علانية المحاكمة من جهة ثانية الطمأنينة والراحة النفسية للمتهم خصوصا أن كل الإجراءات المتعلقة بمرحلة المحاكمة تتم تحت مسمع وبصر الجمهور[8] الذي يسمح له بدخول قاعة الجلسات لدى مختلف المحاكم الزجرية ويمكنهم الإطلاع على ما يجري من إجراءات وما بدور فيها من مناقشات[9] ومن حق المتهم أيضا أن يسمع الكافة دفاعه و أن تعلن برائته على الملأ.
وفي هذا الإطار هناك قولتين مشهورتين يزكيان مبدأ علنية الجلسات الأولى لخطيب الثورة الفرنسية ميرابو الذي قال ” جيئوني بقاضي كما تشاؤون، مرتشي عدواني إذا شأتم فذلك لا يهم مادام أنه لا يفعل شيئا إلا أمام الجمهور””.
وحق لجريمي بنتنام أن يقول إن العلنية عنصر أساسي للعدالة ولروحها[10] لأن القضاة يخشون المساس بالحريات والحقوق الشخصية للمتهمين عندما يعملون علانية أمام الجمهور وقد لا يجدون نفس الحرج إذا كانت المحاكمة تجري بصفة سرية دون رقابة الجمهور، وبالتالي فإن العلانية تحمل القضاة على التطبيق السليم للقانون وعدم مخالفة الإجراءات المرسومة قانونا.
إلا أنه لا يعني الفهم أن علانية الجلسات تكون قائمة في جميع المحاكمات وإنما هناك استثناءات واردة عليها حددتها المادتين 301 و302 من قانون المسطرة الجنائية بحيث لا تكون الجلسة علنية بالنسبة للأحداث الجانحين يمكن لرئيس الجلسة أن يمنعهم أو بعضهم من دخول قاعة الجلسات إذا ارتأى أن حضورهم غير مناسب و لا تسري السرية على محامي الحدث أومن له حق في رعايته.
وتكون الجلسة سرية إذا اعتبرت المحكمة أن في علنية الجلسة خطر على الأمن أو على الأخلاق وتصدر مقررا يجعلها تنعقد سرية.
أما بالنسبة لمنطوق الحكم فيكون بجلسة علنية طبقا للمادة 364 التي تنص على أنه يتلى منطوق كل حكم أو قرار أو أمر في جلسة علنية ما لم ينص القانون على خلاف ذلك.
إلا أننا نتنساءل المشرع بخصوص المادة 302 كيف يمكن لعلنية الجلسة أن تكون خطرا على الأمن وخصوصا أن المشرع لم يحدد طبيعة هذا الحصر الذي يهدد الأمن من خلال علنية الجلسة؟
والأمر يبقى على عموميته وأن كان بعض الفقه يقول أن المراد بالأمن في هذه الحالة هو مراعاة النظام العام والذي يتعلق بالمبادئ التي تعبر عن المصالح والقيم العليا للمجتمع و مثال ذلك الجرائم الماسة بأمن الدولة الداخلي أو الخارجي من أجل تفادي ما يؤدي إليه نشر أخبار المحاكمة من تهديد أمن الدولة خشية تأثير الدعايات على نظامها.[11]
أمام الاستثناء الآخر على عينة الجلسات الذي أتى به المشرع لحماية فئة خاصة من التشهير بها وهي فئة الأحداث حيث أن المادة 478 تنص بصريح العبارة يجرى البحث والمناقشات وبصدر الحكم بجلسة سرية ويجب أن يخص الحدث شخصيا ومساعدا بمحاميه وممثله قانوني ما لم تعفي المحكمة الحدث أو ممثله القانوني من الحضور وتأكيدا على استثنائية علنية الجلسات بالنسبة للأحداث تبنت غرفة الجنايات للأحداث أن نسيت في الجنايات والجنح المرتبطة بها المنسوبة للأحداث في جلسة سرية طبقا للمادة 490 من ق.م.ج، إلا أنه في نظرنا المتواضع أن حقوق الدفاع لا تقبل التجزئة أو التبعيض فإما أن تأخذ كلها أو تترك كلها.
وتأكيدا على مبدأ العلنية وعلاقته بحقوق الدفاع جاءت المادة 439 من قانون المسطرة الجنائية بأن لرئيس غرفة الجنايات أن يتحقق من توفر شروط العلنية ويتلوا القرار النهائي الصادر بالإدانة أو البراءة في جلسة علنية.
ثانيا: الحق في شفوية إجراءات المحاكمة
إن مبدأ شفوية إجراءات المحاكمة هو قوام مبدأ المواجهة بين الخصوم في الدعوى الجنائية ووسيلة هامة تفيد القاضي الجنائي في تكوين قناعته الوجدانية وتنير له سبل الوصول إلى الحقيقة القانونية للتهمة المنسوبة إلى الظنين الماثل أمام عدالة المحكمة، بحيث يدلي الشهود والخبراء والمترجمين بأقوالهم أمام القضاء الجنائي ويتم مناقشتهم فيها طبقا لما نصت عليه المادة 287 “لا يمكن للمحكمة أن تبني مقررها إلا على حجج عرضت أثناء الجلسة ونوقشت شفهيا وحضوريا أمامها”.
وبالتالي فمبدأ الشفوية يجد أساسه القانوني في نظرنا إنطلاقا من نص المادة 287 من ق.م.ج
ومن ثمة نخلص إلى القول أن مبدأ شفوية الجلسات يعتبر ركيزة رئيسية لحق الدفاع أثناء مرحلة المحاكمة[12] و أن المحكمة لا تبني حكمها فقط على أوراق الملف من محاضر ضباط الشرطة القضائية ومحاضر الاستنطاق التي يقوم بانجازها عناصر النيابة العامة أو محاضر التحقيق الإعدادي وأن الأمر يستلزم فضلا عن ذلك مناقشة أدلة الإثبات بصفة شفوية مع المتهم و باقي أطراف الخصومة الجنائية.
إذن فشفوية المحاكمة حق لكل متهم وواجب على كل محكمة وهو إجراء جوهري للمحاكمة العادلة من جهة و حق غير مباشر من حقوق الدفاع من جهة ثانية ومن دونه ولا تصح المحاكمة بحيث أن الأهمية من شفوية المحاكمة هي علم المتهم بجميع الأدلة المقدمة ضده والتي تتيح له بسط دفاعه تنفيذا لها بحيث ذهب محكمة التميز الأردنية إلى أنه على المحكمة مجددا في المحاكمة أن تستمع إلى الإفادات والشهادات وتمحص الأدلة الأخرى ولا تكتفي بالإطلاع على أوراق التحقيق أو المحاكمة الجارية في دعوى أخرى.
ورجوعا إلى قانون المسطرة الجنائية المغربي في مادته 337 في فقرتها الأولى يؤدي الشاهد شفويا ويمكنه بصفة استثنائية يستعين بمذكرات كتابية بإذن من رئيس الهيئة وبعد أداء كل شهادة يسأل رئيس الجلسة المتهم عما إذا كان لديه ما يقوله ليرد على ما وقع الإدلاء به ويطرح على الشاهد الأسئلة التي يراها ضرورية وكل ذلك إنما يدل على أهمية شفوية المحاكمة وتكريسها كحق من حقوق الدفاع أثناء مرحلة المحاكمة[13].
الفقرة الثانية: مبدأ الحضورية وإعفاء المتهم من إثبات برائته
1-مبدأ الحضورية
لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يتحقق مبدأ المواجهة بين خصوم الدعوى الجنائية في غياب المتهم وأطراف الدعوى العمومية والمطالب بالحق المدني والمسؤول عن الحقوق المدنية وذلك باستدعائهم حسب الفصول من 308 إلى310 ويتضمن هذا الاستدعاء تحت طائلة البطلان بيان يوم والساعة ومحل انعقاد الجلسة ونوع الجريمة وتاريخ ومحل ارتكابها والمواد القانونية المطبقة بشأنها ويتعرض للإبطال الاستدعاء والحكم إذا لم يفصل بين تاريخ تبلغ الاستدعاء واليوم المحدد للحضور إلى الجلسة أجل 8 أيام وهو وقت معقول من أجل استعداد المتهم لإعداد دفاعه
الشيء الذي يمثل الفرصة الأخيرة للمتهم من الدفاع عن نفسه درءا للإتهام الموجه إليه بحيث أن حضور المتهم مسألة ضرورية و مؤكدة من حيث المبدأ ولا يجوز مخالفتها إلا استنثاء، وهذه الاستثناءات الواردة على مبدأ الحضورية تم التنصيص عليها في :
-المادة 311 ” التي تحيل على المادة 314
° يحظر المتهمون شخصيا مالم تعفهم المحكمة من الحضور وإما أنه يطلب المتهمون شخصيا من المحكمة أو بواسطة محاميهم عدم الحضور حسب الفقرة الأولى من المادة 311
بيد أن حضور المتهم لوحده أمام المحكمة ليس من شأنه أن يعطي لمبدأ الحضورية قيمته وإنما الأمر هو مرتبط بحضور جميع الخصوم حتى يتسنى للمتهم الإحاطة الشاملة بكل عناصر الدعوى والعلم بالأدلة وحجج خصومه بالإضافة إلى أن حضور كل من أطراف الدعوى أمام هيئة المحكمة يمنع الطريق على القاضي الجنائي وينظر في ملف النازلة المعروضة عليه بأن لا يحكم بعلمه الشخصي.
ثانيا:إعفاء المتهم من إثبات برائته
بالرجوع إلى المادة الأولى من قانون المسطرة الجنائية التي تنص على أن كل متهم أو مشتبه فيه يعتبر بريئا حتى تثبت إدانته قانونا بمقرر مكتسب لقوة الشيء المقضي به بناء على محاكمة عادلة تتوفر فيها كل الضمانات القانونية ويفسر الشك لصالح المتهم.
فمن خلال هذه المادة يتبين أن كل من وجه إليه أصبح الاتهام من طرف النيابة العامة أو قاضي التحقيق يعتبر بريئا كأصل ومعنى ذلك هو افتراض البراءة حتى يثبت عكسها، ومن ثمة فإن إلقاء القبض على أي شخص بتهمة معينة يعتبر بريئا منها وسلطة الاتهام هي التي تثبت بمختلف وسائل الإثبات ارتكاب المتهم للجريمة المنسوبة إليه، أي أن سلطة الاتهام تقوم بإثبات عكس البراءة المفترضة في المتهم.
إذن فإثبات ارتكاب المتهم للفعل الجرمي المتابع من أجله يتحمل إثباته من يدعي خلافا هذا الأصل في الإنسان وهو البراءة، فإن النيابة العامة هي سلطة الاتهام فهي التي يقع عليها عبئ الإثبات[14] والمتهم تبعا لذلك هو معفى من إثبات برائته لأنها مفترضة فيه أصلا بمقتضى المادة الأولى من قانون المسطرة الجنائية وكل ما عليه هو مناقشة أدلة الإثبات التي تجتمع حوله لكي يضع فيها بدور الشك حتى يفسر هذا الشك لصالح المتهم بل أن للمتهم حق الصمت ولا يمكن تأويل هذا الصمت ضده[15] طبقا للقاعدة الفقهية القائلة بأن البينة على من يدعى والمدعي في هده الحالة هو النيابة العامة إذن يجب عليها أن تثبت إدعائها وإلا أصبحنا أمام سلطة يمكن أن تتطاول إلى كل من طالته يدها بدون هذا القيد.
وهناك استثناءات محدودة على هذه القاعدة من بينها أولا أن المتهم يعترف بارتكاب الفعل الجرمي تحت وطأة الدليل القاطع المقدم من النيابة العامة ولكن المتهم في ذات الوقت يدفع أنه كان في حالة دفاع شرعي عن النفس وفي هذه الحالة ينتقل عبأ الإثبات من النيابة العامة إلى المتهم مادام أنه أصبح هو المدعي وعليه إثبات ما يدعيه.
وإذا كان هناك اتجاه يقول بأنه على النيابة العامة أن تفند إدعاءات المتهم وإثبات عدم صحة دفوعه من منطلق أن كل ما يبديه المتهم من دفع إنما يريد من ورائه إثارة الشك ،الذي يفسر لصالحه وعلى النيابة العامة إزالة هذا الشك ولا يكون ذلك إلا بإثباتها لعدم صحة هذا المثير للشك.
بالإضافة إلى أن مسألة إعفاء المتهم من إثبات برائته نجد لها خرقا سافرا في قانون المسطرة الجنائية من خلال الفصل 290 الذي ينص على أن المحاضر المنجزة بشأن التثبت من الجنح والمخالفات بوتق بمضمونها إلى أن يثبت العكس وفي نظرنا أن هذه المادة ما هي إلا إهدار لقرينة البراءة بحيث أن المتهم يفترض فيه البراءة إلى أن يثبت عكسها لكن والحالة هذه أن الأصل هو صحة ما هو مضمن بالمحضر إلى أن يقوم المتهم بإثبات عكسه وهو ما لا يتماشى وإعفاء المتهم من إثبات براءته لأنه في هذا الإطار يكون المتهم ملزما بإثبات عكس ما ورد في المحضر و هدا فيه مساس بحقوق الدفاع من طرف المشرع الجنائي المغربي الذي خلق تضاربا عميقا ما بين نص الفصل الأول و الفصل 290 من قانون المسطرة الجنائية.
المطلب الثاني: الحقوق المباشرة للدفاع أثناء مرحلة المحكمة
في إطار هذا المطلب المرتبط بالحقوق المباشرة المخولة للدفاع أمام مرحلة المحاكمة ارتأينا أن نقسمه إلى قسمين أولهما متعلق بالحقوق المخولة لجميع المتهمين بدون استثناء وثانيهما لحقوق الدفاع المخولة للمتهمين في وضعية خاصة.
وبالتالي إن صح لنا القول هناك حقوق للدفاع مباشرة عامة(الفقرة الأولى) وحقوق الدفاع مباشرة تتبث لفئة خاصة من المتهمين(الفقرة الثانية).
الفقرة الأولى: الحقوق المخولة لجميع المتهمين أثناء مرحلة المحاكمة
أولا: حق المتهم في الإحاطة بالتهمة الموجهة إليه
إن حق الدفاع أثناء مرحلة المحاكمة لا يمكن أن يكون فعالا ما لم يكن المتهم على علم بالمنسوب إليه وبكل ما يتعلق باتهامه وإحاطته بالتهمة الموجهة إليه وبدون هذه الإحاطة يبقى حق الدفاع مشوبا بالغموض وفاقدا لقيمته الجوهرية بحيث لا يمكن أن نتصور أي دفع أو دفاع بدون إحاطة المتهم بالمنسوب إليه.
هذا وأن إحاطة المتهم بالتهمة المنسوبة إليه تأتي مباشرة بعد التثبت من هويته وهو ما معناه توجيه الاتهام إلى المتهم وسؤاله عن التهمة لمعرفة أقواله بشأنها ومواجهته بالأدلة القائمة ضده وإعطائه الحرية الكاملة في الإدلاء بما يشاء[16].
ومن ثمة فعدم منح هذه المكنة للمتهم يعد خرقا لمبدأ الحضورية وتصبح حضورية المتهم صورية فقط أثناء مرحلة المحاكمة، إذن فالحكمة من إحاطة المتهم بالتهمة الموجهة إليه ما هو في الأصل إلا تأمين لحق الدفاع[17] من خلال معرفته بكل الأدلة والشبهات القائمة ضده ولهذا كان حق الإطلاع حقا مهما من حقوق الدفاع وإن كان أن المشرع المغربي لم ينص على هذا الحق في المادة 304 من ق.م.ج التي تحدد إجراءات المحاكمة وذلك بقولها يتحقق الرئيس في كل قضية من هوية المتهم وينادي على الشهود ويتأكد من حضور الطرف المدني والمسؤول عن الحقوق المدنية والخبراء والترجمان ويأمر بانسحاب الشهود والخبراء ويشرع في دراسة ملف القضية والتي تشمل البحث و المناقشات دون ذكر لإحاطة المتهم بالمنسوب إليه، التي يجب أن تكون ضرورة كحلقة واصلة ما بين التحقق من هوية المتهم والمناداة على الشهود وهذا نوع من التقصير في حق هذا المبدأ إلا أنه تم تدارك هذا الأمر في المادة 319 من نفس القانون بقولها يستجوب الرئيس المتهم عن هويته ويخبره بالتهمة الموجهة إليه التي لا تستقيم إلا مع ذكر النصوص القانونية المجرمة للسلوك الذي ارتكبه المتهم.
ثانيا: حق المتهم في إبداء أقواله بحرية
إن الوصول إلى الحقيقة الجنائية لا يمكن أن يتأتى لعدالة المحكمة إلا بإعطاء الفرصة للمتهم في الإبداء بأقواله بكل حرية ومن ذلك رده على شهادة الشهود وعلى اتهام النيابة العامة ورده أيضا على أسئلة رئيس الجلسة.
إذن فالمتهم كأصل يمكنه أن يقدم ما يشاء من دفاع شفوي أو كتابي مادام أنه ليس هناك مانع وله أن يقدم مختلف المستندات والوثائق التي تبث براءته والمهم أن تكون لازمة ومنتجة في الدفاع.
إلا أن هناك بعض المتهمين الذين يفضلون الصمت ويرفضون الكلام والإجابة عن الأسئلة الموجهة إليهم وما نريد الإشارة إليه أن صمت المتهم ليس قرينة على ارتكابه للفعل الجرمي المنسوب إليه.
ومع ذلك يجب على المحكمة أن تتأكد من كون أن المتهم قادر على الدفاع عن نفسه بنفسه، وهل سيكون هذا الدفاع فعالا أم لا ؟
إلا أن الأمر هنا متعلق بترك الحرية للمتهم في أن يقول كل ما من شأنه أن يراه ملائما لإثبات براءته وبكل حرية ويمكنه أيضا أن يطلب الحصول على موافقة استدعاء شهود النفي وله أن يطلب الإطلاع على ملف القضية والحصول على نسخ حسب المادة 315 من ق.م.ج وهو ما ذهبت إليه مختلف التشريعات ومن بينها التشريع الجزائري الذي ينص في المادة 271 من قانون الإجراءات الجزائية “يتحقق رئيس الجلسة مما إذا كان قد تلقى المتهم تبليغا بقرار الإحالة فإن لم يكن قد بلغه، سلمت إليه نسخة منه حتى يحاط علما بالتهمة المنسوبة إليه”.
ولا يقتصر الأمر على إحاطة المتهم بالتهمة المنسوبة إليه بل يتعداها إلى تنبيه المتهم عند تغير التهمة المنسوبة إليه بحيث أن غرفة الجنايات يمكنها إعادة تكيف الجريمة المحالة عليها طبقا للمادة 432 من ق.م.ج التي تنص على أن غرفة الجنايات لا ترتبط بالتكيف المحال عليها ويجب عليها أن تكيف قانونا الأفعال التي تحال عليها وأن تطبق عليها النصوص القانونية المتلائمة مع نتيجة بحث القضية بالجلسة، ليطرح التساؤل بعد ذلك هل تقوم غرفة الجنايات بإحاطة المتهم علما بالتكيف الجديد للتهمة المنسوبة إليه؟
الجواب يأتي في الفقرة الثانية من المادة 432 فمثلا إذا كان المتهم متابعا من قبل النيابة العامة بجريمة القتل العمد وتبين لغرفة الجنايات أن هناك ظروفا للتشديد كسبق الإصرار والترصد فغرفة الجنايات في هذه الحالة تقوم بتغيير تكيف الجريمة ولا تأخذ بهذه الظروف المشددة بعد الاستماع إلى إيضاحات الدفاع وهذا تصريح ضمني على إحاطة المتهم بالتكيف للجريمة المرتكبة وله الحق في طب إبطال وثائق التحقيق حسب المادة 323 من ق.م.ج. و هو ما يؤكد حق المتهم في إبداء أقواله بكل حرية
ثالثا: حق المتهم في الاستعانة بمحامي
مما لاشك أن للمتهم الحق في أن يكون له محام قبل موعد الجلسة ليتسنى له الحضور لمؤازرته وتحضير دفاعه وهو ما يستوجب أن يكون مركز النيابة العامة كسلطة للاتهام أثناء مرحلة المحاكمة موازي للمركز القانوني للدفاع وبحقوق مماثلة لحقوقها حفاظا على التوازن الطبيعي المفترض بين خصوم الدعوى الجنائية باعتبار المتهم طرفا ضعيفا أمام خصم قوي هو النيابة العامة من منطلق أن المتهم لا يستطيع الدفاع عن نفسه ويدخله الخوف ويكون بحاجة إلى من يساعده.
لذلك يحق للمتهم أن يلتجأ إلى تنصيب محام لمؤازرته في جمع أطوار مسطرة المحاكمة طبقا للفصل 315 من ق.م.ج الذي ينص على أن لكل متهم أو لممثله القانوني أن يعين محاميا وذلك للإطلاع والحصول على نسخ من وثائق ملف النازلة، بحيث أن مؤازرة المحامي تكون بصفة إلزامية في الجنايات أمام غرفة الجنايات، وخيرا فعل المشرع نظرا لخطورة الجريمة المرتكبة والتي يمكن أن ينتج عنها عقوبات قاسية في حق المتهم إذا ثبت إدانته.
أما بالنسبة للجنح فتكون مؤازرة المحامي إلزامية ولكن في حالات محددة منها:
إذا كان المتهم حدثا يقل عمره عن 18 سنة أو بكما أو أعمى أو مصابا بأي عاهة أخرى من شأنها الإخلال بحقه في الدفاع عن نفسه.
وفي الحالة التي يكون فيها المتهم في وضعية صحية يتعذر عليه فيها الحضور إلى الجلسة ووجدت أسباب لا يمكن معها تأجيل الحكم حسب الفقرة 4 من المادة 312.
هذا ويمكن القول على أنه في الحالة التي لم يتم فيها اختيار أي محام من طرف المتهم أو إذا تخلف المحامي المختار أو المعين عن حضور المناقشات أو رفض القيام بمهمته أو وضع حدا لها فإن رئيس الجلسة يعين على الفور محاميا.
ويحق للمحامي أن يتصل بموكله بكل حرية ويمكنه أن يطلعه على جميع محتويات الملف والحصول على نسخ من وثائقه حسب المادة 421 من قانون المسطرة الجنائية
أما بخصوص الاستعانة بالمحامي في حالة ارتكاب جنحة من الجنح التي لم يستلزم فيها المشرع إلزامية المؤازرة أو في حالة ارتكاب المتهم لمخالفة فالحالة هذه هي متروكة لاختيار المتهم في أن يعين محام يؤازره في القضية من عدمه، مادام أن المشرع لم يتطرق للتنصيص على هذه النقطة.
إلا أن الأشكال الذي يثار في حالة ما إذا سلم المحامي بإدانة موكله من خلال الأدلة القاطعة الموجهة من طرف النيابة العامة فهل تلزم المتهم أيضا؟ انطلاقا من القاعدة الفقهية القائلة بأن المتهم ومؤازره شخص واحد؟
من طبيعة الحال لا، فالأصل في الدفاع مخول للمتهم كأصل وللمحامي كاستثناء في إطار كونه وكيلا والوكيل لا يمكنه القيام بشيء يضر بموكله.
ونخلص إلى القول بأن الاستعانة بالمحامي خلال مرحلة المحامي فيه ضمانة لسلامة الإجراءات ولعدم إستعمال الوسائل المحظورة ضد المتهم، الأمر الذي يجعل هذا الأخير مطمئنا إلى حد كبير لأن هناك من يرعى مصالحه ويساعده في إثبات برائته.
الفقرة الثانية: الحقوق المخولة للمتهمين في وضعية خاصة
إن هذا النوع من زمرة الحقوق المخولة للدفاع أثناء مرحلة المحاكمة هو مرتبط بأوضاع خاصة للمتهمين الماثلين أمام عدالة المحكمة ومن ذلك المتهم الذي يقدم في حالة اعتقال أو المتهم الأجنبي أو الأصم والأبكم.
بالإضافة إلى نوع خاص من المتهمين المتابعين في حالة أمراض عقلية.
أولا: الحق في مثول المتهم حرا أمام المحكمة
لتفعيل حق المتهم في الدفاع عن نفسه بكل حرية وطلاقة لا يمكن أن يتأتى ذلك إلا من خلال مثول المتهم في مرحلة المحاكمة حرا طليقا وعدم تكبيل يدي أو أرجل المتهم.
هذا الحق نصت عليه المادة 423 من قانون المسطرة الجنائية، بحيث أنه بعد أن يعلن رئيس الجلسة من اقتناعها بأمر بإدخال المتهم وتحيل المتهم حدا ومرفقا فقط بحراس لمنعه من القرار.
وإن كان قد حضر مكبلا خشية هروبه فيجب ألا يبقى كلك أثناء محاكمته، والحكمة من ذلك تكمن في كون أن المشرع الجنائي المغربي أراد بذلك توفير القدر اللازم من الحرية للمتهم لما يمكنه الدفاع عن نفسه واطمأنانه بأنه برئي إلى أن تتبث إدانته بمقتضى حكم حائز لقوة الشيء المقضي به كما أن هذا الإجراء مهم لحفظ كرامة وإنسانية المتهم.
ذلك أن المتهم لم يتم إدانته بعد وهو ما يجعل المتهم قد يشعر بالإهانة والمذلة و الانحطاط من كرامته أمام جمهور الناس الحاضر في الجلسة طبقا لعلنية الجلسات.
ثانيا: حق المتهم في الاستعانة بمترجم
مما لاشك فيه على أنه يجب أن يتاه لكل متهم الاستعانة بمترجم أثناء مرحلة المحاكمة وخصوصا إذا كان المتهم لا يفهم اللغة المستعملة في المحكمة ونعطي كمثال على ذلك شخص سائح من دولة معينة ضبط متلبسا بجريمة اغتصاب قاصر فالحالة هذه يجب أن تستعين المحكمة بمترجم محلف حتى تتمكن من بسط يدها على مختلف عناصر النازلة وحتى يفهم المتهم دفاعه ويعده على أحسن وجه وهو ما أكدته الفقرة الثانية من المادة 318 من قانون المسطرة الجنائية “إذا كان المتهم يتكلم لغة أو لهجة أو لسان يصعب فهمه على القضاة أو على أطراف الشهود أو إذا اقتضت الضرورة ترجمة مستند أولي به للمناقشة عين الرئيس تلقائيا ترجمانا- تحت طائلة البطلان- بشرط أن يكون الترجمان بالغا من العمر أكثر من 18 سنة وغير مدعو لأداء الشهادة في القضية ” وإذا كان الترجمان غير محلف وجب أن يؤدي اليمين على أن يترجم بأمانة حسب المادة 120 من قانون المسطرة الجنائية ، ويمكن تجريح الترجمان من طرف المتهم أو النيابة العامة أو الطرف المدني أو المسؤول المدني وقت تعينه مع بيان موجب تجريحه وتبث المحكمة في هذا الطلب بمقرر غير قابل لأي الطعن.
أما إذا كان المتهم أصما أو أبكما فإن المحكمة تغير سير الجلسات وتراعي في ذلك مقتضيات المادة 121 من ق.م.ج،بحيث توجه الأسئلة إلى المتهم وترد الأجوبة في هذه الحالة كتابة وإذا كان الأصم أو الأبكم لا يعرف الكتابة وهذا هو الشائع يساعده شخص يحسن التخاطب مع المتهم واعتاد التحدث معه فإن لم يكن من يساعده حاضرا فأي شخص قادر على التفاهم معه.
وبالتالي فإن حق الاستعانة بمترجم في حالة شخص لا يحسن التخاطب باللغة أو اللهجة المستعملة في المحاكمة أو من يقوم مقامه يحسن التخاطب مع الأشخاص الذين ليس لهم القدرة على الكلام أو السمع،هو حق من الحقوق المهمة المخولة للدفاع أثناء مرحلة المحاكمة لأنه ليس من العدل في شيء أن يتم محاكمة أشخاص لا يمكنهم التواصل مع قضاة الموضوع ولا يمكنهم درء التهمة عن أنفسهم، وهو ما نصت عليه الفقرة الثالثة من المادة 14 من معهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية ” أن من حق كل شخص أن يزود مجانا بترجمان إذا كان لا يفهم أو يتحدث اللغة المستعملة في المحكمة.
و يمكن القول أن الحق في الاستعانة بمترجم مثله في ذلك مثل الاستعانة بالمحامي ودليلنا في ذلك هي الفقرة الأخيرة من المادة 423 من ق.م.ج بقولها “يتأكد رئيس غرفة الجنايات من حضور محامي المتهم وفي حالة تغيبه يعين من يقوم مقامه ويتأكد من حضور الترجمان في الحالة التي يكون من اللازم الاستعانة به”.
ثالثا: الحق في الإيداع بمؤسسة لعلاج الأمراض العقلية
ما من شك أن المحكمة وهي تنظر في ما مدى ثبوت الجريمة من عدمه في حق المتهم الماثل أمامها فإنها تستحضر إنسانية هذا المتهم إيمانا منها بحقوق الدفاع، وأن تتعامل مع بعض المتهمين بنوع خاص من المعاملة ونقصد هنا الأشخاص المرضى عقليا، وفي ذلك تنص المادة 389 من ق.م.ج ففي فقرتها الثالثة على أنه إذا تبين للمحكمة أن المتهم كان وقت ارتكابه للجريمة المنسوبة إليه مصابا بخلل في وقواه العقلية أو أن الخلل قد حصل له أثناء المحاكمة فإنها تطبق حسب الأحوال مقتضيات الفصول 76-78-79 من مجموعة القانون الجنائي.
وهذا فيه ضمانة قوية لحقوق المتهم وهو ما أكدت عليه كذلك المادة 435 من قانون المسطرة الجنائية.
المبحث الثاني: بعض آليات حماية حقوق الدفاع خلال مرحلة المحاكمة
المطلب الأول: تقييد سلطة القاضي الجنائي
إن القاضي الجنائي وهو في صدد تكوين قناعته الشخصية بخصوص النازلة المعروضة عليه فهو يحكم باقتناعه الصميم طبقا للمادة 286 من قانون المسطرة الجنائية، إلا أنه ومع ذلك فإن هذه القناعة الوجدانية ليست مطلقة ليحكم بها القاضي على المتهم الماثل أمامه بكل إطلاقيتها وإنما ترد عليها بعض القيود التي ما هي في حقيقة الأمر إلا آليات لحماية حقوق الدفاع خلال مرحلة المحاكمة ومن ذلك التقيد بحدود الدعوى المحالة على هيئة المحكمة(الفقرة الأولى) بالإضافة إلى ما يجب أم يبرر اقتناع القاضي في المقرر الصادر عنه.
الفقرة الأولى: التقيد بحدود الدعوى وتعليل الأحكام
أولا: التقيد بحدود الدعوى
من المسلم به على أن النيابة العامة هي التي تحرك الدعوى العمومية في حق المتهم بارتكابه لفعل إجرامي إنطلاقا من صك الاتهام أو ما يصطلح عليه بالتكييف القانوني وهو المرحلة التي بعدها يقوم ممثل النيابة العامة بإحالة الملف على قاضي التحقيق أو على هيئة الحكم، فإنه والحالة هذه لا يجب على المحكمة وهي تنظر في ملف النازلة وتبين لها على أن المتهم بريئ من الفعل المنسوب إليه من طرف سلطة الاتهام ولكن اتضح لها من خلال مناقشة المتهم على أنه مرتكب لأفعال إجرامية أخرى غير تلك المتابع من أجلها فلا يمكن للمحكمة وتحت طائلة البطلان أن تدين أو تعفي المتهم ما لم تقم أية متابعة ضده ومهما تبين للمحكمة من علاقة وطيدة للمتهم مع الجريمة الثانية، وهذا ما يمكن أن نستشفه من نص المادة 433 من ق.م.ج “إذا تبين لغرفة الجنايات أثناء المناقشات وجود أدلة ضد المتهم بسبب أفعال أخرى وطلبت النيابة العامة الإشهاد بالاحتفاظ بحقها في المتابعة يأمر الرئيس بتقديم المتهم الحاضر بالجلسة الذي صدر لفائدة حكم بالبراءة أو الإعفاء من التهمة الأولى بواسطة القوة العمومية إلى ممثل النيابة العامة.
وفي ذلك يتبين لنا على أن هناك التزام بحدود الاختصاص الموكل إلى كل من قضاء الحكم وقضاء النيابة العامة بالإضافة أيضا إلى أنه لا يمكن لقضاء الحكم أن يوجه الاتهام إلى المتهم الماثل أمامه بارتكاب لأفعال جرمية أخرى لأن في ذلك خرق لمبدأ حياد قاضي الموضوع الذي لا يمكن له بأي حال من الأحوال أن يكون خصما للمتهم وحكما في نفس الوقت وفي ذلك ضمانة لحماية حقوق الدفاع أثناء مرحلة المحاكمة وهو ما معناه أن المحكمة تلتزم بقرار الإحالة ويبقي لها في نهاية الأمر أن تقتنع أولا تقتنع بقرار الإحالة المتضمن للتهمة المنسوبة إلى الظنين، ونورد مثالا على ذلك- لو أن المتهم اعترف أمام هيئة المحكمة باقترافه لجريمة السرقة المتابع بشأنها من طرف النيابة العامة ولكن بين للمحكمة على أن المتهم كان قد ارتكب جريمة التزوير وحيث أن المحكمة لم تقتنع باعترافه على جريمة السرقة فتبرئه من هذه التهمة ومن ثمة لا يمكنها أن تدينه بجريمة التزوير لأنها تعتبر وقائع مستجدة لم ترد في صك الاتهام، وإن هي فصلت في الجريمة الثانية تكون قد تجاوزت ولايتها وتعرض حكمها للنقص.
إلا أن هناك استثناءا على هذه المسألة و الإستتناء مرتبط بسلطة غرفة الجنايات بإعادة تكييف الوقائع المحالة عليها وذلك طبقا للمادة 432 من ق.م.ج “لا ترتبط غرفة الجنايات بتكييف الجريمة المحالة عليها ويجب عليها أن تكيف قانونيا الأفعال التي تحال إليها وأن تطبق عليها النصوص الجنائية المتلائمة مع نتيجة بحث القضية بالجلسة.
ونتسائل في هذا الإطار،هل يمكن قياس هذا الفصل على غرفة الجنح الابتدائية؟
يمكن القول على أن هناك قرار للمجلس الأعلى رقم 535 الصادر في 84/01/19″” للمحكمة الجنحية مثل محكمة الجنايات حق تكييف الأفعال المحال عليها مقترفوها التكييف القانوني الصحيح وليست مقيدة بالمتابعة في هذا المجال.
ويمكن أيضا لغرفة الجنايات وهي تنظر في ملف النازلة إذا تبين لها وجود ظرف من ظروف التشديد مثلا، كسبق الإصرار والترصد في جريمة القتل العمد، فيمكنها أن تقوم بإعادة التكيف الجريمة مع شرط أساسي هو أنه لا يمكنها أن تأخذ بهذا الظرف المشدد إلا بعد الاستماع لمطالب النيابة العامة ولإيضاحات الدفاع وهو ما يكرس آلية حمائية لضمان حقوق المتهم أثناء مرحلة المحاكمة.
ثانيا :تعليل الأحكام
من القيود الواردة على سلطة القاضي الجنائي في اقتناعه الصميم تعليل الأحكام بالإدانة ضد المتهم وهو ما يشكل في جوهره ضمانة لتحقيق الدفاع أثناء مرحلة المحاكمة لأن تسبيب الأحكام من أعظم الضمانات التي فرضها القانون على القضاة إذ هو مظهر قيامهم بما عليهم من واجب: تدقيق البحث وإمعان النظر للتعرف على الحقيقة التي يعلنونها في أحكامهم.
وبالتعليل يسلم المتهم من الاستبداد في الحكم لأن هذا التعليل يتقدم إلى المتهم نفسه أولا وإلى الجمهور ثانيا.
هذا ويمكن القول على أن تسبيب الأحكام له أهمية بالغة وتتمثل فإن القاضي يكون ملزما بتبرير ما وصل إليه في قراره وهو شيء يخدم حقوق الدفاع لأنه بطريقة ضمنية يتجاوز القاضي النظرة السطحية لقضية المتهم ويقدم الحجج في منطوق حكمه انطلاقا من تحديد الأدلة التي تم الاعتماد عليها لبناء الحكم بالإدانة والرد على دفوع المتهم
وهذا الأمر هو ما نصت عليه المادة 286 من قانون المسطرة الجنائية” ويحكم القاضي بإقناعه الصميم ويجب أن يتضمن المقرر ما يبرر اقتناع القاضي وفقا للبند رقم 8 من المادة 365 بعده” ونصت عنه كذلك المادة 364 “بقولها ت”كون الأحكام والقرارات والأوامر الصادرة عن هيآت الحكم محررة ومعللة بأسباب.
وحيث أنه بدون هذا التعليل يبطل هذا الحكم طبقا للفقرة 1 من المادة 370 التي تنص على أنه تبطل الأحكام والقرارات أو الأوامر إذا لم تكن تحمل الصيغة المنصوص عليها في المادة 365.
الفقرة الثانية: عدم الإعتداد ببعض وسائل الإثبات
لا جدال في كون أن آليات حماية حقوق الدفاع هي متواجدة في مختلف نصوص قانون المسطرة الجنائية ومن بينها عدم الاعتداد ببعض وسائل الإثبات التي تعتبر في جوهرها سياجا يقيد سلطة القاضي الجنائي من جهة وضمانة لحقوق الدفاع من جهة ثانية، لأنها في حقيقة الأمر تشكل استثناءا على حرية الإثبات بمختلف وسائله ومنها عدم الاعتداد ببعض الوثائق الكتابية واستبعاد نوع خاص من الشهادة والاعتراف.
أولا: عدم الاعتداد ببعض الوثائق الكتابية
إن النيابة العامة وهي توجه صك الاتهام إلى المتهم يتعين عليها تقديم وسائل الإثبات لتبرر إدعائها بما يصل إليها من أدلة، إلا أن المشرع الجنائي وإذا كان قد نص على حرية إثبات الجرائم بمختلف وسائل الإثبات فإنه قد منع الاعتماد على بعض وسائل الإثبات ومنها على الخصوص ما نص عليه في المادة 294 من قانون المسطرة الجنائية بحيث لا يمكن أن ينتج الدليل الكتابي من الرسائل المتبادلة بين المتهم ومحاميه وهذا فيه ما فيه من ضمانة لحقوق الدفاع وفيه حماية لسرية التواصل ما بين المحامي وموكله، إذن فهمما كانت الرسائل المتبادلة بين المحامي والمتهم تحمل من الاعتراف والأدلة ضد المتهم لا يمكن للمحكمة بأي حال من الأحوال أن تعتمد عليها وذلك بصراحة الفصل أعلاه وهو ما يدخل ضمنه الاعتراف الصادر عن المتهم في المكاتيب والأوراق لإثبات الخيانة الزوجية والفساد طبقا للفصل 493 الشيء الذي يجعلنا نفهم على أن المشرع وضع ضمانة مهمة لحماية حقوق الدفاع لتفعيل حق الاستعانة بالمحامي
كذلك هو الأمر بالنسبة لبعض المحاضر كيف ما كانت نوعيتها سواء محاضر يوثق بمضمونها إلى أن يتبث العكس أو محاضر لا يطعن فيها إلا بالزور أو المحاضر التي لا تعتبر إلا مجرد معلومات وبيانات لا يعتد بها ويمنع على القاضي الجنائي الأخذ بها في الحالة التي لا تكون فيها هذه المحاضر صحيحة من حيث الشكل وضمن فيها محررها وهو يمارس مهام وظيفة من خلال ما عاينه أو تلقاه شخصيا في مجال اختصاصه طبقا للمادة289 من قانون المسطرة الجنائية ومن بين الوثائق الكتابية التي يتم استبعادها الأخذ بها ضد المتهم وثائق الإجراءات التي أبطلت من ملف التحقيق التي تحفظ في كتابة الضبط بمحكمة الاستئناف ويمنع الرجوع إليها لاستخلاص أدلة ضد الأطراف وضد المتهم تحت طائلة متابعات تأديبية في حق القضاة وللمحامين حسب 213 من قانون المسطرة الجنائية ومن ثمة فإن تنصيص المشرع على عدم الاعتداد بمثل هذه الوسائل للإثبات يشكل ضمانات وآليات حمائية لحقوق الدفاع أثناء مرحلة المحاكمة .
ثانيا: استبعاد نوع خاص من الشهادة والاعتراف
إذا كانت الشهادة والاعتراف وسيلتين من وسائل الإثبات في المادة الزجرية والتي يمكن من خلالها إثبات ارتكاب الجريمة من عدمه من طرف المتهم إلا أن المشرع جعل كل من الشهادة والاعتراف يخضع للسلطة التقدير لقاضي الموضوع إن هو اطمئن لهذه الأدلة يحكم بإدانة المتهم وإن هو لم يطمئن إليها حكم ببراءة هذا الأخير إلا أن هذه القاعدة العامة يرد عليها استثناء.
فبالنسبة للشهادة لا يمكن بأي حال من الأحوال سماع شهادة المحامي على موكله بما يعلمه عن القضية ولو في أخطر الجرائم لأن حق الدفاع هو حق مقدس.
وبالرجوع إلى المادة 334 من ق.م.ج نجدها تقول بالحرف “لا يمكن سماع شهادة محامي المتهم بما علمه بهذه الصفة”.
إذن فالمادة 334 تكرس لعدم الاعتداد ببعض الوسائل الإثباتية ضمانا لحق المتهم في محاكمة عادلة ولأن شهادة المحامي على موكله خرق وإخلال بحقوق المتهم وضرب سافر لمعادلة الحقيقة الجنائية التي تستوجب فعل الاتهام وفعل الدفاع وإن أقر المشرع شهادة المحامي على موكله إنما يثقل كاهل المتهم ويصبح المحامي خصما وهذا غير منطقي لأن المتهم في نهاية المطاف يثق بالمحامي فيفصح له بكل ملابسات القضية لأنه يرى فيه اطمئنان نفسه وإحساسه بوجود شخص إلى جانبه يدافع عنه وهذا هو مضمون حق الدفاع الذي هو مؤازرة المتهم.
والأكثر من ذلك يذهب الفقه إلى القول بأن المتهم ومحاميه شخص واحد وبالتالي لا يمكن للمحامي أن يشهد ضد نفسه بحسب هذا الرأي.
المطلب الثاني: آثار الإخلال بحقوق الدفاع أثناء مرحلة المحاكمة
إن قواعد قانون المسطرة الجنائية وهي تقرر حقوق دفاع المتهم أثناء مرحلة محاكمة لا تكفي وحدها للقول بتكريس هذه الحقوق وإنما يلزم فضلا عن ذلك وجود ضمانات قوية كفيلة بتفعيل هذه الحقوق على أرض الواقع ابتداء من الحق في التمسك بقرينة البراءة في الإجراءات المسطرية وكل إخلال بأي حق من حقوق الدفاع يجب أن يرتب عنه المشرع الجنائي أثرا معينا لأن قانون المسطرة الجنائية عندما لا يضمن حقوق المتهم باعتباره الطرف الضعيف تصبح قواعده جامدة ونوعا من العبث.
وبالتالي فإن مختلف الآثار المترتبة عن خرق حقوق الدفاع يترتب إما الحق في الطعن وإما البطلان.
الفقرة الأولى: حق المتهم في الطعن
يكفل المشرع في قانون المسطرة الجنائية للمتهم الحق في الطعن بمقتضى الفقرة الأخيرة من المادة 323 بقولها “يبقى حق الطعن محفوظا ليستعمل في آن واحد مع الطعن في الحكم الذي يصدر في جوهر الدعوى” ومن ثمة فإن الطعن في نظرنا ما هو إلا تلك الرخصة المقررة للمتهم ولأطراف الدعوى لاستظهار عيوب الحكم ومن هذه العيوب كل إخلال بحقوق الدفاع من طرف المحكمة وذلك إما بغرض إلغاء الحكم أو تعديله على الوجه الذي يزيل هذه العيوب ويعطي للمتهم فرصة أخرى لإظهار برائته عن طريق الحقوق والضمانات التي تم خرقها عبر مجموعة من الإجراءات التي تستهدف إعادة موضوع النازلة على القضاء وتقدير قيمة الحكم[18].
أولا: أثر الطعن في الأحكام
مما لاشك فيه أن الطعن في الأحكام يعد ضمانة رئيسية من ضمانات حقوق الدفاع أثناء مرحلة المحاكمة، فإن افتراض إخلال قضاء الموضوع بخرق لأحد مقتضيات حقوق الدفاع هو أمر وارد مادام أن القاضي بشر وكل بني البشر خطاء لذلك تقرر الطعن في الأحكام للحصول على البراءة أو تعديل الحكم لمصلحة المتهم ومن ثمة فإن الطعن في الأحكام يوقف تنفيذ الحكم الصادر ضد المتهم في المرحلة الابتدائية لأن المتهم إلى حدود هذه اللحظة يعتبر بريئا إلى أن تبت إدانته بمقتضى حكم حائز لقوة الشيء المقضي والذي يستفد جميع طرق الطعن و إذا لم يمنح المتهم هذه المكنة فإنه يعتبر مدانا بحسب حكم محكمة الدرجة الأولى المصدرة بالإدانة وهذا ما حددته المادة 597 من قانون المسطرة الجنائية في فقرتها الثانية “يقع تنفيذ المقررات الصادرة عن هيآت الحكم بطلب من النيابة العامة عندما يصبح المقرر غير قابل لأي طريقة من طرق الطعن العادية أو للطعن بالنقض”.
ونستنج من هذه المادة على أن الأحكام الجنائية الصادرة عن المحاكم الزجرية التي يتم الطعن فيها لا تنفذ إلا بعد اكتسابها الحجية القطعية باستنفاد طرق الطعن أو بفوات أجل الطعن.
ونخلص للقول بأن عدم تنفيذ قرار الإدانة على المتهم إلا بعد الطعن فيه أمر يكرس حقوق الدفاع ويعطي للمتهم الذي تم الإخلال بحقوق دفاعه أن يطعن في هذا الحكم ويفند الأدلة القائمة ضده، ولعل أهمها التعرض على الأحكام الغيابية فإجراء محاكمة المتهم في غيبته يضيع ضمانات محاكمته[19] أما الاستئناف فيعطي للمتهم الحق في عرض قضية على هيئة قضائية أعلى درجة من أجل مناقشة النازلة من جديد بما فيها حقوق الدفاع.
ثانيا :عدم جواز الإضرار بالمتهم نتيجة طعنه
مادام أن الحكمة من الطعن هي التركيز على حقوق الدفاع من خلال إصلاح ما يسمى بالخطأ القضائي أو أي عيب يشوب الحكم[20] فيه تحقيق للعدل ورفع للظلم عن المتهم وفق القاعدة الفقهية القائلة”إن تبرئة المتهم خير من إدانة البريء” وبذلك فإن حق الطعن كآلية لحماية حقوق دفاع المتهم أتناء مرحلة المحاكمة مقرون بقاعدة مهمة وهي أنه لا يجوز أن يضار الطاعن بسبب طعنه، والحكمة من هذه القاعدة هي أن تظلم المتهم لا ينبغي أن يكون وبالا عليه لأنه والحالة هذه فالمحكوم عليه سيقبل بالحكم الابتدائي ولا يطعن فيه لأن الطاعن إذا لم يستفيد من طعنه لا ينبغي أن يضار به[21].
ولكن إذا ما قامت النيابة العامة بالطعن في القرار الصادر عن الهيئة الابتدائية فإن هذا المبدأ لا يتم العمل به.
الفقرة الثانية: البطلان
إن الأصل في إبطال الإجراءات الغير المشروعة وما يستتبعها من إهدار للدليل المنبعث منها خير جزاء في مواجهة الجهة التي قامت بهذا الإجراء الغير المشروع.
لذلك فالبطلان هو ذلك الجزاء المترتب عن الإجراء المخالف لما هو منصوص عليه قانونا[22] والذي يقرره قانون المسطرة الجنائية كأثر للإخلال بأي حق من حقوق الدفاع إما صراحة بنص خاص وإما بصفة عامة كما هو محدد في نص الفصل 751 من قانون المسطرة الجنائية
فما هي إذن أسباب البطلان؟ وما هي آثاره
أولا :أسباب البطلان
للبطلان أسباب متعددة إذا توافرت إحداها تكون نتيجة العمل الإجرائي هي البطلان وهذه الأسباب ما هي في حقيقة الأمر إلى مظاهر للإخلال بحقوق الدفاع.
إذن فالبطلان يترتب على مخالفة كل قاعدة إجرائية مخولة كحق للدفاع ومن خلاله يمكن إبطال الإجراءات الغير المشروعة[23]المضرة بالمتهم.
ومن أمثلة أسباب البطلان في التشريع الإجرائي المغربي طرد المتهم أو محاميه من الجلسة وحرمانه تبعا لذلك من الدفاع عن نفسه في حالة ما إذا أحدت اضطرابا أو حرض على الضوضاء بوسيلة ما بقاعة الجلسة أو بأي مكان يباشر فيه علينا تحقيق قضائي وذلك بغض النظر عن المتابعات التي يتعرضون إليها عملا بمقتضات المواد من 359 إلى 361 المتعلقة لجرائم الجلسات ويأمر رئيس المحكمة بطرد المتهم من الجلسة ويتابع المناقشات في غيبته حسب مقتضيات المادة 358.
ومن أسباب البطلان عدم تسبيب الحكم أو عدم التنصيص على المقتضيات الواردة في المادة 365 أو الاستماع إلى شهادة المحامي على موكله حول ما يعلمه بهذه الصفة أو الحكم على شخص أجنبي أو أصم أو أبكم بدون الاستعانة بمترجم أو من يحسن التخاطب مع المتهم في الحالة التي يكون فيها المتهم أصما أو أبكم، أو الاعتماد على محاضر غير صحيحة من حيث الشكل ولم يضمن فيها محررها وهو بصفته وفي مجال اختصاصه.
كما أن أسباب البطلان تتعلق أيضا بإلزامية تعيين محام للمتهم في حالة ارتكاب جناية فإذا قامت المحكمة بمحاكمة المتهم بجناية دون حضور من يؤازره يكون مصير هذا الإجراء البطلان أو حتى الاستماع إلى الشهود بدون أداء اليمين القانونية وبدون التأكد من حياد الشاهد بنفي أواصل القرابة أو العداوة بين الشاهد والمتهم.
ومن أسباب البطلان أيضا أن تحكم المحكمة على المتهم بجرم برئ من أجله ويتبين لها من خلال المناقشات أن المتهم ثابتة في حقه جريمة أخرى لم ترد في قرار الإحالة واللائحة طويلة…
وعموما يمكن القول على أن أسباب البطلان هي متعددة والتي ما هي إلا خرق لحقوق الدفاع وكل خرق لهذه الحقوق ما هو إلا إجراء لم ينص عليه القانون.
ثانيا: آثار البطلان
للبطلان في قانون المسطرة الجنائية أترين أساسيين أحدهما متعلق ببطلان الإجراءات المعيبة والآخر متعلق ببطلان الأحكام.
فبالنسبة لبطلان الإجراءات المعيبة : نميز في هذا الإطار بين البطلان العام ‘أو الإنعدام كما يسطلح عليه بعض الفقه ‘ المنصوص عليه في المادة 751 من قانون المسطرة الجنائية بقولها كل إجراء يأمر به هذا القانون ولم يثبت إنجازه على الوجه القانوني يعد كأنه لم ينجز، ومعنى ذلك أن كل إجراء فيه حق من حقوق الدفاع ولم يتم إنجازه على الوجه المنصوص عليه يعتبر وكأنه لم ينجز وعن تأصيل كلمة كأنه لم ينجز يدل معناها على العدم وغياب الوجود، ومن ثمة يتم استبعاد هذا الإجراء لأنه في نظر القانون منعدم ولا يصح لإنتاج أية آ ثار قانونية ضد المتهم كما لا يصح الاعتماد على ما نتج عنه من أدلة.
وللإشارة فقط فإن هذا النوع من البطلان يسري بأثر رجعي علي كل الإجراءات التي شملها القانون ولم يتم إنجازها وفق الوجه القانوني ولذلك يقال على أن للبطلان أثر كاشف وليس منشأ أي أنه موجود من اللحظة التي تم خرقه فيها أي إجراء من الإجراءات التي تنص على حماية حقوق الدفاع وهذا الإخلال يوجب البطلان.
هذا من جانب أما من جانب آخر فإن هناك بطلان خاص ببعض الإجراءات المعينة ونورد كمثال على ذلك إجراء الجلسات بصفة علنية فالمادة 300 من ق.م.ج تنص على أنه يجب تحت طائلة البطلان أن تتم إجراءات البحث والمناقشات في جلسة علنية، فالمشرع في هذه الحالة رتب البطلان مباشرة على عدم التقيد بهذا الإجراء لأن عدم التقيد به عبث بحقوق الدفاع من غير الاستثناءات الواردة عليه.
أيضا هناك إجراء مرتبط بحقوق الدفاع وهو الاستعانة بمترجم تحت طائلة البطلان فحسب المادة 318 في فقرتها الثانية إذا كان المتهم يتكلم لغة أو لهجة أو لسان يصعب فهمه على القضاة أو على الأطراف أو الشهود يعين الرئيس تلقائيا ترجمانا وإلا ترتب عن ذلك الإخلال البطلان.
إذن يمكن أن نستنج أن البطلان العام المنصوص عليه في المادة 751 أو البطلان الخاص الذي أقرنه المشرع ببعض الإجراءات يشكل ضمانة أساسية لبطلان الإجراءات المعيبة وعدم الاعتداد بها لأن فيها خرقا سافرا لحقوق المتهم.
وإذا كان البطلان ينصب على الإجراء المعيب فإنه لا يمكنه أن يتجاوزه لينصب على الإجراءات التي تم انجازها قبله لأنها مستقلة عنه وتبقى صحيحة مادام أنها احترمت وأنجزت طبقا للقانون.
فإذا ما تم إبطال الشهادة لعدم تأدية اليمين فتبقى الإجراءات الأخرى صحيحة كالاستماع إلى الخبراء والمترجم، إلا أن الإجراءات التالية لهذا الإجراء المعيب الذي تم إبطاله يؤثر بالدرجة الأولى على الإجراءات اللاحقة له ومنها الحكم القضائي المبني على إجراءات باطلة مادام أن الإجراء التالي بني حكمه على الإجراء الأول التي تم إبطاله وعليه فالإجراءات اللاحقة للإجراء الباطل تكون صحيحة في حالة معينة وهي إذا لم تكن مترتبة عليه[24].
بطلان الحكم
مما لاشك فيه على أن الغاية من الأحكام هي تنفيذها لأنها تشكل حقيقة اقتنع بها قضاء الموضوع بشأن وقائع جرمية معينة منسوبة إلى المتهم وهذا حق الدولة في العقاب إلا أنه ومع ذلك هناك حق آخر هو حق المتهم في الدفاع عن نفسه ومن أواخر الحقوق التي يمكن للمتهم المطالبة بها هي إبطال الحكم في حالات معينة، وهي الحالات التي نصت عليها المادة 370 من قانون المسطرة الجنائية “تبطل الأحكام والقرارات القضائية إذا لم تكن تحمل الصيغة المنصوص عليها في المادة 365 ومن بينها
-عدم دكر الأسباب الواقعية والقانونية التي إنبنى عليها الحكم أو القرار أو الأوامر ولو في حالة البراءة.
-إذا لم تكن هيئة الحكم مشكلة طبقا للقانون المنظم لها أو صدر الحكم عن قضاة لم يحضروا في جميع الجلسات التي درست فيها الدعوى.
-إذا لم تكن الأحكام معللة أو كانت هناك تعليلات متناقضة
ويمكن القول على أن الإخلال بأحد هذه الإجراءات التي ينبني عليها الحكم تؤدي مباشرة إلى إبطال هذا الحكم وفقا للقاعدة الفقهية ما بني على باطل فهو باطل.
لائحة المراجع
/.العلمي(عبد الواحد)، شروح في القانون الجديد المتعلق بالمسطرة الجنائية، الجزء الثاني، مطبعة النجاح الجديدة
./الكيلاني(فاروق)، محاضرات في قانون أصول المحاكمات الجزائية الأردني والمقارن، الجزء الثاني، دار المروج، بيروت، 1990
/ سعيد (عبدالله)،شرح قانون أصول المحاكمات الجزائية، دار الحكمة الموصل 1990
. /طاهر معروف(محمد)، المبادئ الأولية في أصول الإجراءات الجنائية، دار الطبع والنشر بغداد 1972
/ فتحي سرور(أحمد)، القانون الجنائي الدستوري، دار الشروق، الطبعة الرابعة، القاهرة، سنة 2006
/ بكار(حاتم)، حماية حق المتهم في محاكمة عادلة، دراسة تحليلية تأصيلية إنتقادية (في ضوء التشريعات الجنائية: المصرية الليبية، الفرنسية، الانجليزية، الأمريكية والشريعة الإسلامية)، منشأة المعارف الإسكندرية بدون سنة طبع
/ فخري الحديثي(عمر)، حق المتهم في محاكمة عادلة، دراسة مقارنة، دار الثقافة للنشر والتوزيع، طبعة 2005
/بسيوني أبو الروس(أحمد)، المتهم، المكتب الجامعي الحديث، القاهرة، 1990
/صالح محمد العادلي(محمود)، حق الدفاع والفقه الإسلامي، أمام القضاء الجنائية، دراسة مقارنة في القانون الوضعي والفقه الإسلامي، رسالة دكتوراه، نوقشت بجامعة القاهرة سنة1991
/بازي(محمد)، الاعتراف الجنائي في القانون المغربي، دراسة مقارنة، أطروحة لنيل دكتوراه الدولة في القانون الخاص، جامعة الحسن الثاني، 2007.
/رجب عبد الغني(حمدي): نظام الاتهام وحق الفرد والمجتمع في الخصومة الجنائية، أطروحة لنيل شهادة الدكتوراه ، نوقشت بكلية الشريعة والقانون بالقانون 1986
/القحطاني بن عبد الله(سعود)، ضمانات المتهم في نظام الإجراءات الجزائية السعودي في مرحلة المحاكمة، دراسة تأصيلية، طبعة مقارنة بالمواثيق الدولية، رسالة ماجستير، جامعة نايف العربية للعلوم الأمنية، 2006
/بوليحة شهير “حق المتهم في الدفاع أمام القضاء الجنائي” مجلة المنتدى القانوني، العدد الخامس، الجزائر
الهوامش
[1] – أنظر الفقرة الأولى من المادة 11 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة سنة 1948.
[2] -عوض محمد عوض) المر(” حقوق المتهم وفقا لقضاء المحكمة العليا الأمريكية في ضوء الدستور الأمريكي” مجلة العدالة الصادرة عن وزارة العدل، الإمارات العربية المتحدة، أبوظبي 1979، عدد 19، ص 178.
[4]-هلالي عبد الله(أحمد): المركز القانوني للمتهم في مرحلة التحقيق الابتدائي، دراسة مقارنة في الفكر الجنائي الإسلامي، طبعة الأولى، دار النهضة العربية، القاهرة، 1989، ص 138.
[5] صالح محمد العادلي(محمود): حق الدفاع أمام القضاء الجنائي،دراسة مقارنة في القانون الوضعي و الفقه الإسلامي،رسالة دكتوراه،نوقشت بجامعة القاهرة 1991،ص 23
[6] بوليحة (شهيرة)” حق المتهم في الدفاع أمام القضاء الجنائي، مجلة المنتدى القانوني، العدد الخامس، الجزائر، ص91.
[7] رجب عبد الغني(حمدي): نظام الاتهام وحق الفرد والمجتمع في الخصومة الجنائية، رسالة دكتوراه نوقشت بكلية الشريعة والقانون بالقانون 1986، ص 304.
[8]العلمي(عبد الواحد)، شروح في القانون الجديد المتعلق بالمسطرة الجنائية، الجزء الثاني، مطبعة النجاح الجديدة، ص 292.
[9]طاهر معروف(محمد)، المبادئ الأولية في أصول الإجراءات الجنائية، دار الطبع والنشر بغداد 1972، ص 135.
[10] -بكار(حاتم) حماية حق المتهم فيي محاكمة عادلة، المرجع السابق، ص 184.
[11]فخري عبد الرزاق الحدثي(عمر)، المرجع السابق، ص 125.
[12]بكار (حاكم)، المرجع السابق، ص 207.
[13] -قرار صادر عن محكمة التمييز الأردنية رقم 2453/جنايات 72 بتاريخ 1972/10/22 النشرة القضائية ع4، س 3 الصفحة 248 أورده الأستاذ فخري عبد الرزاق الحديثي (عمر) مرجع سابق، ص 129.
[14]العلمي(عبد الواحد)، المرجع السابق، ص 382.
[15]
عبد المنعم أحمد(فؤاد)، “نقل عبء الإثبات بين الشريعة والقانون
www.Alukah.net(17/12/2011);(20h35min)taille du fichier3Mo
[16]بيسوني أبو الروس(أحمد)، المتهم المكتب الجامعي الحديث، القاهرة، 1990، ص 407.
[17] فتحي سرور(أحمد)، القانون الجنائي الدستوري، دار الشروق، الطبعة الرابعة، القاهرة، سنة 2006، ص 507.
[18] -ضاري خليل(محمود)، مجموعة قوانين الإجراءات الجنائية العربية، الجزء الأول، مطبعة البرموك بعداد 1984، ص 65 إلى 66.
[19] -الحديثي عبد الرزاق(محمد)، حق المتهم في محاكمة عادلة، مرجع سابق، ص 184.
[20] -القحطاني بنعبد الله(سعود)، المرجع السابق، ص 201.
[21] -عوض محمد(عوض)، المبادئ العامة في القانون الإجراءات الجنائية، الإسكندرية، دار المطبوعات الجامعية، 1999، ص 782.
[22] -فتحي سرور(أحمد)، نظرية البطلان في قانون لإجراءات الجنائية، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، 1959، ص 111.
[23] -البراك(عبد الله) حق المتهم في الدفاع في نظام الإجراءات الجزائية السعودي والمواثيق الدولية، دراسة تأصيلية، مقارنة ومطبعة أطروحة لنيل شهادة الدكتوراه في فلسفة العلوم الأمنية، جامعة نايف، الرياض 2007، ص 612.
[24] -فتحي سرور(أحمد)، نظرية البطلان، المرجع السابق، ص 374.
(محاماه نت)