دراسات قانونية

التأصيل التاريخي لسياسة التوظيف (بحث قانوني)

التأصيل التاريخي لسياسة التوظيف بالمغرب.

محمد بوكطب : متصرف بوزارة الداخلية؛
باحث في صف الدكتوراه،مخبر العلوم القانونية والسياسة والإدارية بكلية بوجدة، تخصص التدبير الاستراتيجي للموارد البشرية بالإدارة والمقاولات.

مــقـــدمـــة:

لقد تأثرث الوظيفة العمومية بالبعد التاريخي، وبالمرجعية الإسلامية وبالحقبة الاستعمارية. ويتجلى ذلك في فترة ما قبل الحماية، حيث هيمنة العلاقات الشخصية على الوظائف نظرا لقوة السلطان، لكن تلك العلاقات الشخصية رغم أهميتها لم تكن كافية لتحقيق الاستقرار داخل البلاد.
أما في عهد الحماية، فقد كان هناك تحول للمعطيات التقليدية، حيث ظهرت إدارة مزدوجة (إدارة المخزن/المديريات الشريفية)، إذ حاولت السلطة الفرنسية تحديثها عبر تقنين العلاقات الوظيفية،ذلك بإصدار نصوص قانونية وتطبيق معايير موضوعية خاصة في مجال التوظيف في تلك الحقبة، مما جعل السلطة الفرنسية تعمل على تحديث الإدارة خدمة لمصالحها. فأقدمت بذلك على إلغاء العديد من الوزارات الأصلية وخلق بدائل لها، مما أتاح للموظفين الأجانب تقلد وظائف سامية وتقنية،لان الشروط الموضوعية لنيل تلك المناصب كانت لا تتوفر في العناصر الوطنية.

إلى جانب ذلك، فان التعويضات الممنوحة للموظفين والأعوان التابعين لمختلف الإدارات العمومية، ساهمت في جلب الموظفين الأجانب إلى المغرب. إذ عمدت السلطة الفرنسية على إحداث حوافز الغاية منها إغراء الأطر الفرنسية قصد تدعيم التواجد الفرنسي.
إن ذلك التعدد،- وجود موظفين أجانب و موظفين مغاربة- يتجلى من خلال ثلاث مستويات:
– المستوى الأول: ظهور ثلاث أنظمة للوظيفة العمومية بالمغرب:
– وظيفة عمومية تقليدية: يتعلق بأعوان المخزن والتي بقيت خاضعة رغم الإصلاح للأعراف؛
– وظيفة عمومية فرنسية: تشكل امتدادا للنظام المعمول به بالبلد المستعمر، ويخضع لها أساسا الموظفون السياسيون المكلفون بالحكم و المراقبة ، والقضاة الملحقون بالمغرب؛
– وظيفة عمومية شريفية: وهي مجموع النصوص المتعلقة بالتوظيف بأسلاك الإدارات المغربية المحدثة.

– المستوى الثاني: إن ذلك التعدد قد شمل التشريعات الصادرة والمحدثة للأنظمة الأساسية للموظفين. فالفترة الممتدة ما بين 1913و 1920 قد عرفت إصدار عدة نصوص ذات صبغة عامة وغير مشخصة ، تحدد الشروط العامة للتوظيف والترقية و الأجر…والمطبقة على كافة الموظفين المنتمين للإدارة المغربية.
– المستوى الثالث: تواجد أجانب من جنسيات مختلفة عملت الحماية على منحهم تعويضات متميزة. فإلى جانب الموظفين الفرنسيين المنتمين للأطر الفرنسية والملحقين بالمغرب، هناك موظفون فرنسيون معينون في أسلاك الإدارة المغربية، والخاضعون للنصوص المغربية، والمتقاضون أجورهم من ميزانية الدولة الشريفية .
لذلك،أدخلت الحماية عدة إصلاحات وعدة تعديلات على التنظيم الإداري المغربي،وذلك على المستويين المركزي والمحلي،حيث أحدثت عدة مديريات تقنية،ونظام الجهة آو الناحية،في محاولة منها احتواء الوضع الاقتصادي للبلاد وامتصاص خيراته.
فابتداء من سنة 1912،شرعت سلطات الحماية في إصلاح المخزن،وذلك طبقا لمقتضيات الفصل الأول من معاهدة فاس .فالفرمان التشريعي المؤرخ في 31 أكتوبر 1912 أعطى للمخزن وجها جديدا كان يراد منه تحديثه وعصرنته ،حيث أن:
– الصدر الأعظم لم يبق مجرد المساعد الرئيسي للسلطان ،بل أصبح صاحب سلطة تنظيمية عامة مفوضة له من قبل الحماية ؛
– إحداث منصب وزيرين،إلى جانب الصدر الأعظم،احدهما مكلف بالحرب والآخر بالمالية.إلا أن سلطات وزير الحرب سوف تفوض للجنرال قائد القوات الفرنسية،بينما حذفت وزارة المالية سنة 1914 لتحل محلها المديرية الشريفية المكلفة بالمالية.
إلى جانب تلك البنية المخزنية الترابية،أنشأت الحماية بنية إدارية حديثة وعصرية،ويتعلق الأمر بسلطات المراقبة التي تتكون من المندوب المقيم العام، والكاتب العام للحماية،والمندوب العام للإقامة الفرنسية، وهي مصالح يطلق عليها اسم ” مصالح الإقامة” والمقسمة إلى مديرتين:4

– مديرية الشؤون الشريفية،المكلفة بالعلاقة مع المخزن؛
– مديرية الشؤون الأهلية (تحتوي على مديرتي الشؤون السياسية والداخلية قيل ان توحد سنة 1948 في اسم مديرية الداخلية).
إلا أن الإدارة بقيت طيلة عهد الحماية،خاضعة لمبدأ المركزية،الذي ينسجم مع تقاليد كل من إدارة المخزن وهيمنة المستعمر. فرغم الإصلاحات الفرنسية،فان ضعف مستوى تطور السكان (اللذين ينتمون في غالبيتهم للعالم القروي)،لم يشجع على قيام لامركزية،باستثناء بعض المراكز الحضرية.وبالعكس من ذلك ،عرفت حركة عدم التركيز تطورا واسع النطاق.
إن الحكومة الفرنسية تنكرت للالتزامات التي كانت معاهدة الحماية تتضمنها ،وهي حماية فرضتها بقوة السلاح،وأقامت بالمغرب نظاما للسيطرة الاستعمارية المباشرة.
ويحق لنا،ونحن نقدم هذه الدراسة،التي وفقنا الله إليها،أن نتساءل عن مدى الضمانات الوظيفية الممنوحة لأعوان الدولة خلال تلك المرحلة في ظل إدارة مباشرة؟
إن أول ملاحظة يمكن إبداؤها في هذا الإطار،هي عدم توفر المغرب خلال فترة الحماية على نظام أساسي عام للوظيفة العمومية على غرار ما وقع في تونس.فالقانون المطبق على الموظفين المغاربة،كان ينبثق من نصوص خصوصية تحدد النظام الأساسي لمختلف الفئات أو تضع مقتضيات مشتركة.
إن التمييز الأساسي في هذا المجال ،هو ما بين فئتي الأطر المحظوظة والمختلطة. وهذا ما يدعوا للقول بأن الضمانات الوظيفية سوف تخضع هي الأخرى لعملية انتقائية لن تفيد إلا الطبقة المحظوظة ،وفي مقدمتها العناصر الأجنبية،وتلك الموالية للقوى الاستعمارية،أو المنتمية لمراكز السلطة.
أهمية الموضوع:
تحظى سياسة التوظيف بأهمية قصوى ضمن البحوث الأكاديمية.والحمد لله، فقد وفقنا الله إلى دراسة التوظيف ما يقارب على 100 سنة كدراسة تاريخية لمختلف الخطط و البرامج التي اهتمت بالتوظيف، باعتباره أول عملية تمكن الموظف من ولوج دواليب الإدارة والمساهمة في عملية التنمية.ثم اعتمدنا على المنهج الإحصائي لتطور عدد الموظفين منذ سنة 1912 إلى سنة 2010 وذلك عبر مجموعة من المقالات المنشورة .

الإشكالية المطروحة:
يبقى الأمر الأساسي هو الإقدام على تقنيين العلاقات الوظيفية،وتبني المعايير الموضوعية،خاصة إسناد المناصب العمومية،فكيف تم تكريس ذلك المبدأ تحت الظروف الخاصة التي كان يعرفها المغرب؟ ثم ماهي الضمانات الوظيفية الممنوحة لأعوان الدولة خلال تلك المرحلة في ظل إدارة مباشرة؟
منهجية البحث
اعتمدنا في هذا المقال على المنهج التاريخي، الذي وظفناه للتأصيل التاريخي لعملية التوظيف أثناء فترة الحماية و بعدها ،أي منذ سنة 1912 الفترة التي وقعت فيه على معاهدة الحماية .

خطة البحث:
إن الإجابة عن الإشكالية المطروحة أعلاه، يجعلنا نقسم هذا البحث إلى مبحثين: المبحث الأول خصصناه لقواعد التعين والتوظيف قبل الحماية،ثم خصصنا المبحث الثاني لعملية التوظيف أثناء الحماية.

المبحث الأول: قواعد التعين و التوظيف قبل الحماية

لم تكن السلطة المركزية ممثلة على صعيد كل جهات الدولة المغربية،ولم تكن لها مصالح خارجية تغطي كافة التراب الوطني الخاضع لها على الأقل،لذلك يجب التمييز بداية بين مكونين أساسيين للتراب الوطني هما بلاد المخزن(المطلب الأول)،وبلاد السيبة(المطلب الثاني)،كوضعين ترابيين مختلفين، خاضع كل واحد منها لمنطق خاص في التوظيف.

المطلب الأول: التوظيف في بلاد المخزن

إن المركزية الصارمة التي كانت تستند عليها السلطة في بلاد المخزن، لم تمتد على كل بقاع البلاد، إذ أصبحت سلطتها محل جدل في تلك الأمصار. إضافة إلى غياب نظام أساسي للوظيفة من شأنه تحقيق الانضباط والالتزام، عن طريق تقنين التوظيف والمهام[[1]]url:#_ftn1 .
ولهذه الغاية كان السلطان يعين موظفين يسهرون على تنظيم البلاد وهم:
– الحاجب: يعد أول مسؤول في الدولة بعد السلطان سواء عند الأشراف السعديين أو العلويين، ويشرف على القسم الداخلي من “دار المخزن” أي القصر السلطاني في كل ما يهم الحياة الخاصة للسلطان والعائلة السلطانية. و تلك المكانة جعلت منه صلة وصل بين الخليفة وباقي الوزراء والكتاب ومسؤولي الدولة.
– قائد المشور: موظف يعينه الخليفة ويسهر على أمن “دار المخزن” وبالتحديد القسم الخارجي من هذا الدار، فهو المكلف بالعلاقة بين الحاجب وعموم الزائرين ويمارس مهامه عن طريق المشاورية بالنبقات أو مكاتب الوزراء.
– وزراء الحكومة الشريفة أو “أصحاب الشكارة”: هؤلاء هم أعوان السلطان، يشاركون في تحضير القرارات السلطانية وتبليغ أوامر السلطان للمعنيين بها، وكذا السهر على مراقبة تطبيقها من لدن السلطات غير المتمركزة، وقد يباشرون بعض الاختصاصات بتوظيف من السلطان وتحت مراقبته وهم:
– الصدر الأعظم أو الوزير الأعظم: كان يدعى عند السعديين “بكاتب السر”، ولم يكن له حق التقرير في الأمور السياسية لكونه لم يكن رئيسا للحكومة، ويشرف على نشاط القضاة ونظار الأحباس ونقباء الأشراف، ومراقبة رجال السلطة المحلية من باشوات وقواد وتحرير الظهائر والمراسيم المولوية… وعزل الموظفين، فوظيفته كانت أقرب لوظيفة وزير الداخلية الحالي.
– وزير البحر: ظهر ذلك المنصب في عهد الحسن الأول، وانحصرت وظيفته في جمع وفحص شكاوي الجاليات والوفود الأجنبية.

– وزير الشكايات: هو صاحب المظالم عند السعديين، ويتكلف بتلقي شكاوي الرعايا والقبائل ثم رفعها للسلطان قصد الفصل فيها.
– العلاف الكبير: لم يكن وزير للحرب بل المكلف الأول بتموين الجيش والسرايا والحركات ومنحه الأجور كما كان يشرف على المصاريف الشهرية لمخازنية البلاد الداخليين.

-أمين الأمناء: وظيفته تشبه وظيفة وزير المالية الحالي[[2]]url:#_ftn2 .
إن التنظيم السياسي للدولة الشريفية كان يتوزعه جهازين أساسين: جهاز المخزن، وجهاز الجماعة، حيث تصنف القبائل في بلاد المخزن حسب حجمها بدءا من القرية، فالفخذة، فالعشيرة، فالقبيلة، فالفيدرالية القبلية[[3]]url:#_ftn3 .

لكن الملاحظة الأساسية التي يمكن إبدائها، وهي أن المغرب لم يكن يتوفر قبل الحماية الفرنسية المفروضة عليه سنة 1912 على أية إدارة متطورة بمفهومها الغربي، ولا على أي نظام أساسي خاص بالوظيفة العمومية. وبالتالي كانت جل المفاهيم المعاصرة في المجالين السياسي والإداري غائبة،ولا تحظى بالاهتمام المطلوب[[4]]url:#_ftn4 .
فالمخزن بنية كلاسيكية استبدلت بالإدارة كمفهوم حديث، أي مع تطور الدستورانية أصبح يحتفظ بطابع رمزي في حلة جديدة هي الإدارة[[5]]url:#_ftn5 . تلك الإدارة تسمى المخزن،والتي يتم التعيين في وظائفها على اعتبارات عائلية وقبلية وسياسية أحيانا، بحيث كانوا يتلقون التعليمات والتوجيهات والأوامر من السلطان، وكان تعيينهم يتم بالاختيار (الانتقاء) الدقيق، ليكونوا في المستوى اللائق لتمثيل المخزن[[6]]url:#_ftn6 .

تلك الفئة من الموظفين يشكلون مجموعة موحدة، تعمل في ظل قوانين منسجمة، يشرف على تنظيمها ومراقبتها أجهزة إدارية منظمة، ذلك أن الإدارة المغربية في ذلك العهد على الرغم من كونها كانت مبنية على قاعدة تسلسلية، فإن مجمل نشاطها كان يسير وفق أحكام الشريعة الإسلامية[[7]]url:#_ftn7 .

إن الاختيار اللامركزي والمحلي في تنظيم الإدارة، لم يكن يحتل في تلك الحقب المكانة والحظوة التي يحتلها في تفكيرنا وتعاطينا المعاصر. ولم تسمح الحروب الداخلية والتنافس على السلطة، وطبيعة الثقافة السياسية والإدارية، والعقل الإداري السائد، بإقرار العمل بالأسلوب اللامركزي في تسيير الشؤون العامة، بل إن الانشغال الأساسي للحكام، هيمنت عليه أولوية العناية بحفظ الأمن والاستقرار الداخلي، وتهدئة وإخضاع القبائل في النواحي والمناطق والأقاليم، وضمان جباية الضرائب والمكوس، وهي المهمة التي اضطلع بها الخلفاء والقياد والباشوات والعمال في تلك التقسيمات الإدارية والترابية التي لم تكن تعرف الاستقرار والثبات[[8]]url:#_ftn8 .
وعليه، كان يمثل السلطة اللامركزية في بلاد المخزن أعوان مكلفين بتنفيذ قراراتها. وهم معينون من طرف السلطان، ويتمتعون بتفويض منه. فعلى مستوى المدن نجد العامل أو خليفة السلطان والباشا يساعدهما المحتسب، أما في القرى نجد القواد يساعدهم الشيوخ والمقدمين[[9]]url:#_ftn9 .

وبالتالي، تصنف ضمن بلاد المخزن كل القبائل والمناطق الخاضعة للسلطان وتؤدي له الضرائب والمكوس، بالإضافة إلى خضوعها للسلطة الروحية والتبعية الدينية له، ويمثل فيها عن طريق أعوانه وهم الخاضعون له كليا والمعينين من قبله لمزاولة اختصاصات يفوضها لهم وهم:
1- خليفة السلطان: يعينهم السلطان على رأس جهات ومناطق بعدد المدن الكبرى آنذاك كتافيلالت وفاس ومكناس ومراكش، وهم عادة إما أبناؤه أو إخوانه أو أحد أعضاء العائلة المالكة، ويمثلون السلطان رمزيا وسياسيا وإداريا وعسكريا على مستوى مناطقهم، ويساعدهم “مخزن مصغر” على نمط المخزن المركزي، وغالبا ما كان هذا المنصب يؤدي بصاحبه إلى الخلافة والسلطنة، ويتمثل دورهم الأساسي في التحكيم بين القبائل وقيادة الجيوش بتفويض من السلطان.

2- الباشا: هو ممثل السلطان في المدن الكبرى، للحفاظ على النظام، وتطبيق الظهائر الشريفة، وتعليمات المخزن، وممارسة السلطة التنظيمية بتفويض من السلطان، في كل الميادين التي تهم مدينته، ويساعده في مزاولة مهامه عدد من المقدمين للحفاظ على النظام والإعداد والمشاركة في الحركات من أجل تحصيل الضرائب واستقطاب الجند، وقد كان لهم قوة سلاطين صغار أحيانا.

3- القائد: يعين على رأس قبيلة أو فرقة من العائلات ذات النفوذ السياسي من تلك القبيلة أو الفرقة غالبا مقابل قدر كبير من المال يقدم للسلطان، ليعيد استخلاصه واسترداده عن طريق ضريبة “النايبة”، وتتمثل اختصاصات القائد في النظام الجبائي والقضائي وبشكل ثانوي في المجال العسكري، ويساعده مجموعة من الشيوخ والمقدمين الأوفياء له[[10]]url:#_ftn10 .
ونظرا لتكليفهم ومنحهم سلطته عن طريق التفويض، فإن هؤلاء الأعوان يخضعون بصفة تامة لنفوذ السلطة المركزية، إلا أن عددا من العوامل تحد من تطبيق هذا المبدأ النظري، ذلك أن اختيار السلطان لم يكن دائما اختيارا حرا، فالدافع السياسي أو الضرورة قد يقودانه غالبا إلى تعيين أعيان يتمتعون من قبل، بتأثير قوي داخل المجتمع، ويأتي الأمر السلطاني مكرسا لتلك السلطة[[11]]url:#_ftn11 .

ومن العوامل الأخرى مثلا، شراء منصب قائد أو باشا الذي أسس لنظام الزبونية والوراثة في تولي ذلك المنصب، وبالتالي أدى إلى إضعاف علاقة التبعية الرئاسية بين المخزن المركزي وهؤلاء القواد والباشوات بدرجة أكبر في عهد الملوك الضعاف، وكان لهم دور بارز في غياب قيم العدالة وتفشي سوء التدبير الإداري، وكانت تبلغ قوة بعضهم وغناه لدرجة يصعب عندها التفكير في عزله[[12]]url:#_ftn12 .

ونخلص إلى القول، بأن عملية التوظيف اهتم بها جل ملوك المغرب، بحيث كانوا يولونها الاهتمام الكبير، ويعيرونها العناية الفائقة والبالغة، لما لها من أهمية قصوى في تركيز الملك والحفاظ على الأمن والاستقرار من جهة، وكذلك إبراز الهيمنة على المناطق الأخرى.

المطلب الثاني:التوظيف في بلاد السيبة

عرف الاستعماريون القبيلة بأنها وحدة مركبة من أجزاء… تجزءات للبنية المرجع: القبيلة، الفيدراليات القبيلة تشكل لنفسها حصيلة مشكلة لعدد من الوحدات المرجعية أو القبائل[[13]]url:#_ftn13 .
وتعني كذلك القبائل التي تحكم نفسها بنفسها، استنادا لعاداتها، دونما أية مرجعية إلى المخزن، وذلك بواسطة هيئة تسمى الجماعة، وتضم أعيان القبيلة. فهي تقرر في جميع الميادين، وتعين عضوا منفذا لقراراتها[[14]]url:#_ftn14 .
والسيبة هي مرادف لعدم النظام وضعف الضوابط، والقبائل السائبة هي قبائل خارجة عن الجماعة والمخزن، فهي تحكم نفسها بنفسها دونما حاجة لمرجعية المخزن بواسطة جماعة تعين أحد أعضائها “أمغار” ليتكفل بتطبيق قراراتها[[15]]url:#_ftn15 .

وعليه، كانت الوضعية في بلاد السيبة تختلف تماما عن بلاد المخزن، إذ لم يكن الاعتراف بالسلطان إلا كسلطة روحية فقط. وكانت المجموعات القبلية تدير شؤونها بنفسها طبقا لعادات وتقاليد قديمة جدا، بواسطة مؤسسات أو الجماعة[[16]]url:#_ftn16 . الذي اقترن تنظيمها بالنظام القبلي وتطابق معه.
إن استقلالية تلك القبائل هي شبه مطلقة، فهي لا تؤدي أية مساهمة جبائية للمخزن، كما لا تقدم عموما أية مساعدة عسكرية في إطار الحركات التي يقوم بها السلطان داخليا. إضافة إلى أن السلطان لا يتمتع بأية سلطة فعلية نحو بلاد السيبة، إلا في حالة تعيين أحد الأعيان أو القواد من أفرادها قائما على شؤونها[[17]]url:#_ftn17 .
وقد قام ذلك التنظيم في المناطق الجبلية والنواحي الريفية والقروية، وقد استطاعت الجماعة مع ذلك أن تدير شؤون السكان السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدفاعية في بعض المناطق، حيث كانت تتوفر على جهاز تداولي سمي مجلسا، وعلى جهاز تنفيذي سمي في بعض المناطق شيخا، وفي بعضها أمغار،وفي غيرها أنفلوسا.

وكان مجلس الجماعة يتكون من أعيان القبيلة أو الفخذة أو الدوار، طبقا لشروط مطابقة للقواعد والقيم القبيلة السائدة، ومنها الجاه والبطولة والشجاعة والقدرة على القتال والكمال البدني. وكانت تلك الأوليغاريشية القبلية التي تقوم بإدارة شؤون الجماعة، تختار عن طريق التوافق والتعيين التلقائي، بناء على معايير تتصل بحلاقات الدم والنفوذ والقوة والغنى[[18]]url:#_ftn18 .

فبلاد السيبة هي مجموعات بشرية مستقرة بالأماكن النائية، والتي لا تدخل ضمن التقسيم الإداري. فالسيبة هنا لا تعني الفوضى في معناها الأنتروبولوجي الاستعماري، بل هي وسيلة دفاعية من خلالها ترفض تلك القبائل التهميش السياسي واحتكار السلطة من قبل المخزن[[19]]url:#_ftn19 .
غير أن وجود بلاد السيبة في مغرب ما قبل الحماية هو تعبير عن حقيقتين اثنتين: الأولى هي قوة الطابع القبلي في المجتمع المغربي، والثانية هي الميل والسعي التلقائي لمكونات المجتمع المغربي نحو الاستقلالية. لكن ذلك لم يمس بتاتا وحدة المغرب كدولة وشعب تتجسد فوريا وتلقائيا عند وجود أخطار خارجية[[20]]url:#_ftn20 .

وعليه نستنتج، بأن التوظيف أو التعيين في بلاد السيبة، هو مختلف تماما عن بلاد المخزن، الذي كان يخضع لتنظيم إداري محكم، مبني على الخضوع المباشر لسلطة الحاكم أو السلطان أو الخليفة، والذي يبرز فيه التسلسل في التنظيم الهيكلي للإدارة، بخلاف ما هو موجود في بلاد السيبة الذي تبرز فيه علاقة القرابة والمصاهرة والقوة والغنى كآليات للتدبير، وأسلوب أو معيار لانتقاء أجود المرشحين لتحمل بعض المسؤوليات داخل الجماعة.
المبحث الثاني: التوظيف أثناء الحماية

كان النظام الإداري والسياسي المغربي قبل الحماية في وضعية من الضعف، مقارنة بالأنظمة الأوربية آنذاك (المطلب الأول)، لذلك كان فرض الحماية على المغرب بدعوى تحديث نظام الإدراة العامة له عموما، ظهور فئة متنوعة من الموظفين في تاريخ المغرب، منها ما هو خاضع للنظام الفرنسي، ومنها ما هو خاضع للنظام المغربي (المطلب الثاني).

المطلب الأول: التوظيف في مرحلة 1913-1938

لقد كان من نتائج فرض الحماية على المغرب، أن عمدت السلطات الفرنسية على إدخال بعض الإصلاحات على البنية الإدارية التي كان معمولا بها[[21]]url:#_ftn21 ،وذلك طبقا لمعاهدة الحماية في جميع المستويات، حيث شمل الحقل القانوني والإداري نصيبه من تلك الإصلاحات الجوهرية المهمة[[22]]url:#_ftn22 ، بغية بسط نفوذها السياسي، وبالتالي الإداري على سائر التراب الوطني. حيث قسمت المملكة إلى جهات مدنية، وأخرى عسكرية، روعي فيها الاعتبار السياسي والأمني أكثر من الاعتبار الإداري[[23]]url:#_ftn23 .

إلى جانب تلك البنية المخزنية الترابية، أنشأت الحماية بنية إدارية حديثة وعصرية، ويتعلق الأمر بسلطات المراقبة التي تتكون من المندوب المقيم العام، والكاتب العام للحماية، والمندوب العام للإقامة الفرنسية، وهي مصالح يطلق عليها إسم “مصالح الإقامة” والمقسمة إلى مديرتين:

– مديرية الشؤون الشريفية، المكلفة بالعلاقة مع المخزن؛
– مديرية الشؤون الأهلية (تحتوي مديرتي الشؤون السياسية والداخلية قبل أن توحد سنة 1948 في إسم مديرية الداخلية)[[24]]url:#_ftn24 .
لقد شكل إحداث إدارات جديدة سميت بالإدارات الشريفية، قطيعة مع الإدارة التقليدية، بحيث عملت الإدارة الفرنسية على تقسيم السلطة بين المخزن والإدارة الفرنسية، وخلق إدارة جديدة على منوالها. وبالتالي لم يبدأ الاهتمام الحقيقي بالمجال الهيكلي للوظيفة العمومية إلا بعد تطبيق نظام الحماية الفرنسية سنة 1912، التي تقرر إدخال بعض الإصلاحات الإدارية والتي تهم قطاع الوظيفة العمومية[[25]]url:#_ftn25 .
وعليه، فإن البنية الهيكلية للوظيفة العمومية في تلك الحقبة كانت بالغة التعقيد، تم وضعها بطريقة مخططة ومنسجمة لحاجيات الدولة الحامية. وهكذا، لم يراعى فيها لا الواقع، ولا الخصوصية المغربية. بقدر ما روعيت فيها الرغبة في جعل وضعية الموظفين الفرنسيين المقيمين بالمغرب، أحسن من وضعية زملائهم بفرنسا.

لقد استطاعت الدولة أن تهيكل المجتمع، وذلك من خلال شرائح اجتماعية جديدة ترتبط بها وتعيش الدولة من خلالها. وتتمثل تلك الشرائح خاصة في فئات الموظفين التي ظهرت لأول مرة في التاريخ الاجتماعي بالمغرب.

وقد برزت تلك الظاهرة بالأخص في فترة الحماية مع إدخال دواليب الإدارة الاستعمارية، بحيث تطلب خلق إدارة مركزية بالرباط توظيف مجموعة من الأطر لتسيير مصالح تلك الإدارة، وتنفيذ قرارات المقيم العام. وبتفرع تلك الإدارة المركزية إلى عدة إدارات، وتفرع هذه الأخيرة إلى عدة مصالح خارجية، بدأ عدد الموظفين يرتفع باطراد:
– ففي سنة1914 بلغ عدد الموظفين281، وعدد الأعوان التقنيين والإداريين 1288؛
– ليرتفع في سنة 1925 إلى 6051 موظفا نتيجة لانفجار في عدد المصالح الخارجية.

وقد استمر ذلك الارتفاع بشكل متواصل بتنامي مصالح الإدارة الاستعمارية، وانتشار مؤسساتها نتيجة لعاملين رئيسيين:
– تدخل الإدارة الاستعمارية في عدة قطاعات اقتصادية واجتماعية…؛
– تبني النموذج أللامركزي للدولة الفرنسية[[26]]url:#_ftn26 .
ولقد امتازت تلك الحقبة بخاصيتين أساسيتين: الازدواجية التي طبعت النظام الإداري المغربي، وتعدد النصوص والأطر العاملة بالوظيفة العمومية.
ففيما يخص الخاصية الأولى، فإنها كانت تتجلى بالأساس في كل من الإدارة الشريفية وإدارة المخزن. فهذه الازدواجية كان لها الأثر الكبير على الوضعية القانونية لأعوان الدولة،فانعكست تلك الحالة على وضعية الأطر التي كانت مقسمة إلى أطر عامة،وأخرى خاصة[[27]]url:#_ftn27 .
فالأطر العامة، كانت مقصورة على الفرنسيين وحدهم، حيث كانوا يتمتعون بنظام الأفضلية في الرواتب، وبأنظمة خصوصية تضمن لهم حقوقهم وتحدد واجباتهم، وقواعد تنظيم وتسيير لحياتهم الإدارية.

أما الأطر الخاصة، فهي مجموعة الوظائف المخصصة للمغاربة أو للأهالي كما كان يطلق عليهم. وتشمل موظفوا إدارة المخزن (الخليفة، أعوان المصالح، دار المخزن، القضاة…)، وكذلك بعض المناصب الأخرى بالإدارة الفرنسية كالأعوان العموميين (شاوش، رئيس شاوش، أمين أملاك المخزن، العدول…). فتلك الفئة كانت تخضع لقانون خاص يحدد لها بعض الامتيازات أقل بكثير من النظام الخاص بالأطر العامة، لا من حيث الرواتب، ولا من حيث الامتيازات[[28]]url:#_ftn28 .

أما فيما يخص الخاصية الثانية، والمتعلقة بتعدد الأطر والنصوص القانونية المطبقة عليها، فقد بلغت غاية التعدد. ذلك أن بعض الأطر كانت تنقل إلى المغرب بعد إحداثها بفرنسا، حيث كانت لا تستجيب إلا لمطالب سياسية أو نقابية فرنسية محضة دون أي مبرر لها. الشيء الذي جعل الإدارة المغربية إبان تلك الحقبة يبلغ عدد الأسلاك بها ما يناهز 240 إطار بما فيها إطار خاص. كان لكل إطار من هذه الأطر خاصيته القانونية، سواء من حيث شغل الوظائف، أو من حيث الترقي، أو من حيث التأديب[[29]]url:#_ftn29 .
إن تلك الحقبة، تميزت بضعف انخراط المغاربة بمن فيهم الذين تلقوا تكوينا، حيث إذا كان التوظيف في تلك المرحلة يقوم على أساس المساواة في تولي الوظائف العامة[[30]]url:#_ftn30 . فإن مشاركة المرشحين المغاربة كانت تصطدم بالمتطلبات التي فرضها النظام القانوني للتوظيف[[31]]url:#_ftn31 ، والذي لا يتماشى بدوره مع وضعية المغاربة. لأن أغلبيتهم لا يتوفرون على الشهادة التي تفرضها قوانين المباراة[[32]]url:#_ftn32 . فمن بين 20492 من الوظائف العمومية، كان 5492 من المغاربة فقط موظفين، يوجد من بينهم 771 في وظائف غير ثانونية[[33]]url:#_ftn33 .

المطلب الثاني:التوظيف في مرحلة 1939- 1956

لقد كان حق تولي الوظائف العمومية من طرف المواطنين المغاربة مهدورا،وذلك لقساوة وصرامة شروط التوظيف، وخاصة شرطي الكفاءة والدبلوم المعتمدين لاجتياز مباراة التوظيف التي أقرتها السلطة الحامية، حيث إن أغلب المواطنين المغاربة لم تكن تتوفر فيهم تلك الشروط والمواصفات لتولي تلك المناصب. علاوة على أن شهادة الدروس الثانوية الإسلامية التي حصلوا عليها، والتي كانت تسلمها لهم المدارس المغربية، لم يعترف بها من طرف المستعمر بنفس القيمة العلمية التي كانت لشهادة الباكالوريا الفرنسية.
فأمام اصطدام المغاربة بالمتطلبات التي فرضها النظام القانوني للتوظيف، ورغبة في تسهيل وتمكين المغاربة من ولوج الوظائف العامة، صدر ظهير 14 مارس 1939 [[34]]url:#_ftn34 ، الذي أخذ بقاعدة معادلة الشهادات حيث تم التنصيص في قرارات المباريات على تخصيص مجموعة من المناصب لصالح المغاربة دون تمييز. لكن إعلان الحرب العالمية الثانية حال دون تحقيق ذلك[[35]]url:#_ftn35 .
إن الملاحظة الأساسية من خلال دراسة مختلف الظهائر الصادرة إبان الحماية، خاصة في مجال الوظيفة العمومية، أنها أصبحت تتبنى إصلاحات بناءة وموضوعية ابتداء من سنة 1939/1940، وذلك بفتح الإدارة أمام المغاربة، بغية التقليص من حدة الفوارق الوظيفية[[36]]url:#_ftn36 .
ورغم أن ظهير 14 مارس 1939 فرض تخصيص نسبة من المناصب المتبارى عليها لولوج الوظيفة العمومية إلى المواطنين المغاربة، فإن ذلك الإصلاح لم يتحقق، وذلك نظرا للحرب العالمية الثانية، لكن مباشرة بعد انتهائها تقرر الرجوع إلى تحديد نسبة من المناصب المتبارى عليها في نسبة %25[[37]]url:#_ftn37 .

ومباشرة، وتحت ضغط المقيم العام جيرائيل بيو، تكونت لجنة مغربية فرنسية سنة 1944 خرجت بقرارين:
– إنشاء المدرسة الوطنية للإدارة (E.N.A ) سنة 1948؛
– إصدار نظام خاص بالتوظيف في مناصب الدولة في نفس السنة يرتكز على الدبلوم[[38]]url:#_ftn38 (5).
لقد تميزت تلك المرحلة بمرونة سياسة التوظيف نتيجة للتطور الذي عرفه قطاع التعليم، بحيث تمكن المغاربة من ولوج المناصب الإدارية سواء طبقا للقواعد التنظيمية أو العرفية، أو عن طريق المدرسة الوطنية الإدارة التي لعبت دورا مهما في إعداد أفواجا مهمة من الأطر. وإمداد الإدارة بمختلف مستوياتها بالعناصر البشرية، والتي توفر على تكوين هام يؤهلها لمزاولة مختلف المهام.
وبعد حصولنا على الاستقلال السياسي سنة 1956، كان لابد من بلورة مخطط يهدف إلى سد الفراغ الذي تركه انسحاب الموظفين الأجانب بأعداد كبيرة. ولتجاوز تلك الوضعية، سلكت الدولة مبدأ التوظيف المباشر وذلك بصفة استثنائية.

وفي هذا الإطار، تقلدت مناصب المسؤولية في جميع المستويات الإدارية العناصر المنتمية للحركة الوطنية طبقا لمبدأ سياسة المغربة، التي اعتبرت إجراءا ظرفيا ساهم في فتح الباب أمام المواطنين المغاربة لولوج الوظائف الشاغرة، ووقف العمل بمبدأ التوظيف على أساس المباراة أو الكفاءة[[39]]url:#_ftn39 .
وقد نتج عن ذلك مجموعة من النتائج ذات الطابع السلبي والسيئ على المدى القريب والبعيد، حيث تميزت المصالح المركزية باستئثار تلك العناصر التي استفادت من التوظيف المباشر بالمناصب القيادية بحكم أقدميتها، وتميزت تلك العناصر بالتحفظ الشديد، وعدم تقبلها للأساليب والإجراءات الحديثة في ميدان التسيير. لأن تلك العناصر تمثل الجيل القديم وتعيش في صراع وتناقض دائم مع الجيل الجديد، سواء من حيث الأهداف أو الأساليب.
إن مبدأ المغربة نتج عنه تضخم تمثل في ارتفاع أعداد الموظفين من حيث الحجم، دون أن يوازي ذلك تطور من حيث التكوين والمهارة ورفع مستوى الأداء.
ومن الآثار المترتبة عليه، كون عملية إحداث الوظائف أو سياسة التوظيف، لم تتم على أسس ومعايير دقيقة وعلمية، حيث إن الاجتهادات والانطباعات الشخصية كانت هي السائدة، خاصة بالنسبة للوظائف العليا. مما أدى إلى ضعف القيادات التي تم اختيارها في كثير من الحالات على أسس شخصية محضة، وقد استتبع ذلك التوسع إحداث وظائف بشكل كبير تحقيقا لأغراض اجتماعية، حيث اعتبرت الوظيفة العمومية المشغل الأول، وتعمل على امتصاص جزء من البطالة[[40]]url:#_ftn40 .

وبعد الاستقلال، واجهت السلطات التي أخذت على عاتقها مسؤولية الإدارة سنة 1956 صعوبة مزدوجة: فقد كانت مدعوة للحفاظ على سير عجلة الإدارة والمرافق العامة، ثم تفادي أي حل يكون امتدادا للوضعية السابقة[[41]]url:#_ftn41 .
غير أن الدولة وجدت نفسها أمام اختيار صعب، إما الإبقاء على الجهاز الإداري الموروث عن عهد الحماية بالرغم من طابعه الاستبدادي والتسلطي، وإما اقتلاع واجتثاث ذلك الجهاز من جذوره، وبناء نظام إداري وطني يعبر عن البعد الحضاري والسياسي لواقع الدولة الحديثة.

ومما لاشك فيه، أن للظروف التاريخية وللعوامل الاجتماعية أثرها في تحديد موقف الدولة أو السلطة السياسية من الجهاز الإداري الموروث عن الاستعمار[[42]]url:#_ftn42 . وعموما، فإن الفراغ الإداري الذي عرفه المغرب غداة الاستقلال، خاصة من حيث النقص في الهياكل والكفاءات شكل هاجسا، دفع بالدولة إلى الاحتفاظ بنفس النظام البيروقراطي، والعمل على تخليصه من الشوائب التي علقت به أثناء فترة الاستعمار[[43]]url:#_ftn43 .

وبعد انسحاب المستعمر، كان من الضروري وضع مخطط يهدف إلى ملئ الفراغ الناتج عن مغادرة الفرنسيين بصورة جماعية للإدارة، وبما أن الإدارة الحامية كانت مفتوحة بمصراعيها في وجه الفرنسيين والأجانب، فقد كان وجود بعض المغاربة يقتصر على مناصب محدودة[[44]]url:#_ftn44 .
وبالتالي،لم تعد الضرورة تقضي الاحتفاظ بمبدأ التوظيف على أساس اجتياز المباراة نظرا لقلة الوقت، كما لم يعد الاهتمام بالمستوى الثقافي مسألة مطلوبة عند التوظيف نظرا لقلة المرشحين.
وعليه، وجدت السلطات الإدارية المغربية نفسها أمام كثرة المناصب، وقلة المرشحين خاصة بالنسبة لحملة شهادات معينة[[45]]url:#_ftn45 . ذلك الوضع جعل الادارة تتخذ تقنيتين اثنتين:

أولهما: اللجوء إلى ابتداع أشكال وإجراءات تنظيمية تمكنها من استيعاب أكبر عدد ممكن من الطاقات الوظيفية لسد الفراغ والقضاء على العجز الحاصل في التأطير. ومن ذلك لجوؤها إلى تقنية رسالة الالتزام lettre d’engagement La قصد توظيف عدد كبير من الأعوان بصفتهم مساعدين des auxiliaires، أو مؤقتين temporaires أو تقنية عقود الحق العام contrats de droit public، أو تقنية العقود الوظيفية les contrats fonctionnels ، قصد تمكين جملة من الأعوان من شغل وظائف لا يتوفرون على الشروط النظامية القارة والمؤهلات المفروضة لولوجها[[46]]url:#_ftn46 .

ثانيهما: اللجوء إلى استصدار عدد كبير من النصوص التنظيمية الانتقالية التي تمكن من جهة المغاربة من ولوج أسلاك الوظيفة العمومية، رغم عدم توفرهم على الشروط النظامية اللازمة لذلك، خاصة منها ما يتعلق بالمؤهلات العلمية، وتخول من جهة أخرى للأطر المغربية العاملة الإستفادة من إمكانيات الترقية إلى رتبة أو درجة أو طبقة أعلى دون احترام المدة اللازمة نظاميا لولوجها[[47]]url:#_ftn47 .
إن تلك الإجراءات الانتقالية، سمحت بقدر ما بتحقيق الاستمرارية في العمل الحكومي، وبتمكين الإدارة من تقديم الخدمات الأساسية للجمهور. إلا أن أغلبية العناصر البشرية التي استفادت من تلك الفترة الانتقالية لم تكن تتوفر على الكفاءة والخبرة المطلوبة، مما كان له على المدى القريب والبعيد انعكاس سلبي على قدرة الإدارة العامة في تحمل أعباء التنمية الاقتصادية والاجتماعية[[48]]url:#_ftn48 .

خــــــــــاتـــــــمـــــــة:

من خلال ما سبق شرحه،يتضح أن معاهدة الحماية تعني في مدلولها وكذا من خلال بنودها ،مساندة الدولة الحامية لمحميتها،وذلك بتقديم الدعم التقني والإداري حتى يكسب النظام المناعة اللازمة،وتمتلك العناصر الوطنية الخبرة الكافية لتسيير دواليب الحكم .فوظيفة الدولة الحامية تنحصر في التوجيه والمساعدة التقنية،دون أن تصل إلى المشاركة في التسيير ضمن إطار إدارة مزدوجة:المخزن/الإقامة.
إن الطريقة المستعملة في السيطرة الاستعمارية على المغرب،هي عملية متميزة،لأنها كانت فضلا عن استعمالها للعنف،سعت إلى ضبط البلاد عن طريق الفئات الاجتماعية الداخلية،والبنيات الأساسية والإدارية الموجودة من قبل. وهكذا سنوجد أمام إدارتين متعايشتين:إدارة الدولة الاستعمارية،صاحبة القرار،والإدارة المحلية،التي يتلخص دورها في التطبيق والتنفيذ.

ومع ذلك،كانت هناك نزعة إلى احترام بعض المبادئ الواردة بالمعاهدة،رغم محاولة استعمال المستعمر لتقنيات/الحماية المطبقة في الدول القريبة منا( كالجزائر/تونس)،حيث أن مجموع المصالح العاملة وقتها بالمغرب،سواء منها المشكلة من العناصر الفرنسية آو الأهالي كانت تعتبر إدارة شريفية.وهي الصفة التي تم تأكيدها في حق المديرية العامة للمالية،وذلك بمقتضى قرار محكمة الاستئناف بالرباط في 19 أكتوبر 1923 الذي منحها صفة إدارة شريفية.
إن تعدد الوضعيات الإدارية،أدى منطقيا إلى تعدد التعويضات التي كانت تتسم بالتعقيد،وعدم المساواة بين الموظفين،وذلك لاعتبارات سياسية ناتجة عن ضغوط فئات،أو قطاعات معنية،ارتكزت في مطالبها على خصوصياتها الوظيفية.

 

(محاماه نت)

إغلاق