دراسات قانونية
سماع دعوى ثبوت الزوجية وإن كانت قاعدة أم استثناء (بحث قانوني)
سماع دعوى ثبوت الزوجية قاعدة أم استثناء؟ ـ قراءة في الفقه والقانون ـ
نص المداخلة التي تقدم بها الدكتور أحمد خرطة
في الندوة التي نظمتها محكمة الإستئناف بالناضور
حول موضوع : سماع دعوى ثبوت الزوجية
بتاريخ 26/04/2013
تقديم:
حرصت وزارة العدل والحريات على إعطاء الأهمية البالغة لمسألة توثيق عقود الزواج قبل نفاذ الفترة الانتقالية المنصوص عليها في المادة 16 من مدونة الأسرة وذلك في الأسبوع الأول من شهر فبراير 2014(1) .
وتنبع هذه الأهمية من كون أن هذا الإثبات يتعلق بالأعراض والأنساب اللذين هما من الكليات الخمس التي تقوم عليها الشريعة الإسلامية. كما أن إثبات عقود الزواج تتحقق به المصلحة الفردية بصفة خاصة ،والمصلحة العامة للمجتمع بصفة عامة، وبالتالي فأين وجدت هذه المصلحة فثمة شرع الله.
لكن الإشكال المطروح هل إثبات عقد الزواج شرط صحة أم شرط تمام؟ و بالتالي سماع دعواه قاعدة أم استثناء ؟
للإجابة عن هذا السؤال ، لابد من القيام بقراءة ـ ولو سريعةـ لمنظور الفقه إلى القضية،ثم رأي القانون في ذلك مع محاولة رصد لبعض الاجتهادات القضائية في الموضوع، لنخلص في النهاية إلى الجواب العريض: هل هي فترة استثنائية ستنتهي بانتهاء مدتها ؟ أم أن المشرع ملزم بالتمديد مرة أخرى وبالتالي ماهي شروط هذا التمديد ؟
المبحث الأول: المنظور الفقهي لإثبات عقد الزواج
بالرجوع إلى المصادر الأساسية للفقه الإسلامي من كتاب وسنة، نجدها تميز ما بين الإشهاد والتوثيق قال تعالى في سورة البقرة :(واستشهدوا شهيدين من رجالكم فان لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء ).
كما أن نفس الآية الكريمة فرقت بين الكاتب والموثق وبين الشاهد قال تعالى:(ولا يضار كاتب ولاشهيد ).
أما السنة النبوية فلقد لحت على إعلان النكاح و ليس الإشهاد عليه وبالأحرى توثيقه قال عليه السلام:”أعلنوا النكاح واضربوا عليه بالدفوف” .
بمعنى أن المطلوب في الزواج هو الإعلان والإشهار وليس الكتابة والتوثيق .
وعلى هذا النهج سار الفقه الإسلامي وخاصة المالكي منه.
يقول ابن رشد:( اتفق الجمهور على أن الشهادة من شرط النكاح، واختلفوا هل هو شرط تمام يؤمر به عند الدخول؟ أو شرط صحة يؤمر به عند العقد؟واتفقوا على أنه لا يجوز نكاح السر(2)).
إذن المطلوب في الزواج هو الإعلان، أما الشهادة فما هي إلا شرط تمام، وليست بشرط صحة، بمعنى إذا تم الدخول بغير عقد، فالزواج صحيح، غير أنه ينبغي الإشهاد عليه عند الدخول.
يقول ابن عاصم في تحفته:
والمهر والصيغة والزوجان *** ثم الولي جملة الأركان
وفي الدخول الحتم في الإشهاد *** وهو مكمل في الانعقاد(3)
يعنى أن الركن المعتبر في الزواج هو الصيغة وليس الإشهاد ولا الكتابة. والصيغة كل لفظ يدل على التأبيد مدة الحياة كأنكحت وزوجت.(4)
كما أن إشهار النكاح مع علم الولي والزوجين يكفي وإن لم يحصل به إشهاد، وهكذا كانت أنكحت السلف كما أفتى بذلك ابن لب.
وهكذا وحين يكون النكاح والدخول مشتهرا شائعا يسقط الحد باتفاق ويثبت النكاح حتى يحفظ للزوجين ترابطهما ونسلهما، وتثبت هذه العلاقة ولو بشهادة السماع.
وبالتالي فالإشهاد من شروط كمال النكاح وفضيلته دون نفوذه وصحته وكذلك الإعلان.(5)
يقول الشيخ خليل في مختصره: ”وإشهاد عدلين غير الولي بعقده وفسخ إن دخلا بلاه، ولا حد إن فشا ولو علم’.’
بمعنى أن العقد يفسخ إن تم الدخول بدون إشهاد لكن إذا فشي لا حد فيه.
ويقول في موضع أخر ”وركنه ولي وصداق ومحل وصيغة بأنكحت وزوجت وبصداق وهبت”.
إذن كل هذه الآراء الفقهية تتحدث عن الإشهاد في الزواج وليس عن توثيقه ، وبالتالي فالرأي الراجح أن الإشهاد شرط تمام وليس بشرط صحة .
المبحث الثاني :الرأي القانوني في سماع دعوى ثبوت الزوجية
لكي لا تتصادم المقتضيات القانونية لمدونة الأسرة المغربية مع الثوابت الدينية والاجتهادات الفقهية ثم التشريعات القانونية وحتى الأعراف المتواترة، انتقل المشرع المغربي من مفهوم الإشهاد على عقود الزواج إلى مفهوم التوثيق. ثم انتقل من اعتبار الإشهاد ركنا من أركان العقد إلى عده من جملة الشروط المكملة له، فأخذ بذلك المسلك الفقهي الصحيح كما ذكرنا سلفا. بل إنه بذلك فعل معنى الإشهاد بشكل عملي وواقعي، وموافق في نفس السياق للفقه الإسلامي. إذن ما هو الفرق بين الإشهاد والتوثيق؟ وما هي الآثار المترتبة عن هذا التمييز؟
من أجل تأصيل وبيان هذا الفرق، لابد من الرجوع إلى أصل التشريع الإسلامي وهو القرآن الكريم إذ نجد أن آية المداينة هي المنطلق في تأصيل مفهوم الإشهاد قال تعالى: «… واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء». لقد تواتر عند كثير من الفقهاء أن المقصود بالشاهدين هو نظام العدول الجاري به العمل في المغرب، وهو فهم انتقل إلى عرف مرسخ حتى اعتبر من الدين. مع أن المقصود بالشاهدين أشخاص من عامة الناس، ويؤيدنا في ذلك ما ورد في سورة الطلاق قوله تعالى: «وأشهدوا ذوي عدل منكم»، أي من سائر المسلمين الذين تتوفر فيهم شروط العدالة وهي: اجتناب الكبائر واتقاء في الغالب الصغائر.
وبالرجوع إلى آية المداينة ـ مرة أخرى ـ نجدها تنص على أنه إذا لم يوجد رجلان فرجل واحد وامرأتان، بمعنى آخر أنه يمكن حتى للمرأة أن تشهد وليس الرجل فقط بل إن اشتراط الرضا (ممن ترضون من الشهداء) في إشهاد الشهود قد لا يتحقق في نظام خطة العدالة في كثير من المناسبات. ثم إن كثيراً من الدول الإسلامية إن لم نقل أغلبها تعمل بنظام العدل الكاتب بمعنى تميز بين الشهادة والكتابة وهو ما نبهت إليه الآية الكريمة: (ولا يضار كاتب ولا شهيد) بحيث ميز الله سبحانه وتعالى مابين الكاتب الذي يكتب بالعدل، وبين الشاهد الذي يكون من عامة الناس.
والفقه الإسلامي عموماً، والمالكي خصوصاً يشير إلى التمييز ما بين الكاتب الذي يكتب بالعدل وما بين الشهود الذين يشهدون للمشهود له أو عليه.
والمشرع المغربي في مدونة الأسرة يتوجه هذا التوجه حيث ورد في المادة 13: …سماع العدلين التصريح بالإيجاب والقبول من الزوجين وتوثيقه. كما نصت المادة 65: …يأذن هذا الأخير(المقصود به القاضي المكلف بالزواج) للعدلين بتوثيق عقد الزواج.
و نفس القانون لم يعتبر الإشهاد ركناً من أركان الزواج كما فعلت مدونة الأحوال الشخصية الملغاة ،بل اعتبره إلى حد ما شرطا من شروطه؛ وتكريساً لهذا التوجه أباحت للمغاربة المقيمين في الخارج توثيق عقود زيجاتهم أمام ضابط الحالة المدنية لدول الإقامة وإن كان ذلك بشروط.
وبالرجوع إلى المادة 16 موضوع المداخلة فإنها لا تطرح قضية الإشهاد بقدر ما تتحدث على الأسباب القاهرة التي حالت دون التوثيق.
إذن اللجوء إلى المحكمة ليس من أجل الإشهاد على العلاقة الزوجية الذي هو الركن ـ إذا ذهبنا مع بعض الفقه القائل بذلك ـ بل من أجل الإثبات والتوثيق ، لكون مرحلة الإشهاد على الدخول قد فاتت بوقوعه.
وبالتالي على المحكمة أن تتثبت من الأسباب القاهرة التي حالت دون التوثيق في إبانه وليس الإشهاد.
وهنا سنكون أمام تصادم واضح ما بين القواعد الفقهية و القواعد القانونية، بمعنى آخر :من تزوج بغير توثيق مع الإشهاد والإشهار فزواجه صحيح، ولكن لكي يكتمل ينبغي أن يوثق. إذن كيف تعامل الاجتهاد القضائي مع هذا الإشكال ؟ وما هي الحلول المقترحة ؟
المبحث الثالث: مفهوم السبب القاهر من خلال الاجتهاد القضائي
الإجتهاد القضائي الأسري لم يستقر على رأي موحد في ما يتعلق بمفهوم السبب القاهر الحائل دون توثيق عقد الزواج في إبانه.
وصعوبة التحديد ناتجة في الأصل عن الاختلاف الجوهري بين مفهوم السبب القاهر في القانون الأسري والقوانين الأخرى كقانون الالتزامات والعقود وحتى القانون الجنائي والتي تنعت السبب القاهر بما لايمكن توقعه ، وإذا وقع لايمكن تفاديه ،فهو بهذا المفهوم لن يتحقق أبدا في إثبات العلاقة الزوجية.
زيادة على ذلك فالمادة16 من المدونة قيدت القضاء عند النظر في دعوى ثبوت الزوجية بمراعاة وجود الأطفال أو حمل ناتج عن العلاقة الزوجية.
كما أن وجود أو انعدام السبب القاهر يخضع للسلطة التقديرية للمحكمة ولارقابة لمحكمة النقض عليها إلا من حيث التعليل.
وهكذا فسرت محكمة النقص حالة الاستثناء : بازدياد الأولاد في بيت الوالدين وتاريخ الازدياد وما يقع من الحفلات في تلك المناسبة وسن الأولاد … ومدة الحياة الزوجية المشتركة …” . (6)
ونحن نعتقد أن هذا الإجتهاد ذهب بعيدا حيث اعتبر حالة الاستثناء ولادة الأولاد في بيت الزوجية ، مع أن ذلك من آثار الزواج الصحيح.
وعلى نفس الاجتهاد سارت محكمة الاستئناف بوجدة حيث اعتبرت أن وجود الأطفال سببا قاهرا يستوجب الحكم بإثبات الزوجية بين الطرفين بناء على البينة.(7)
كما ذهبت إلى ذلك محكمة الناضور في إحدى قراراتها.(8)
كما أن محكمة النقض ـ مرة أخرى ـ اعتبرت عدم حصول الزوج (وهو جندي ) على رخصة الزواج ظرفا قاهرا يستوجب إثبات الزوجية .(9)
أما محكمة الأسرة بوجدة ففسرت السبب القاهرالمبرر لسماع دعوى الزوجية: كون الزوج جزائري ولم يتمكن من الحصول على الإذن بالزواج المختلط. (10)
ونفس المحكمة رأت في قرارها الصادر بتاريخ 2012.02.27 ملف عدد 10.1008 أن عدم الحصول على الإذن بالتعدد سببا قاهرا يبرر سماع دعوى ثبوت الزوجية.
في مقابلة جرأة هذه المحاكم في تبرير هذه الأحكام نجد محاكم أخرى لا تلتفت أصلا إلى السبب القاهر ،إما لكونه غير موجود أصلا، أو سببا غير جدي ، وهي غير ملزمة في البحث عنه أو مطالبة الأطراف ببيانه .
بل إن بعض المحاكم التي رفضت سماع دعوى ثبوت الزوجية لتحايل الزوج على مسطرة التعدد.(11)أضافت إلى حيثياتها عدم وجود الأطفال أو الحمل الناتج عن هذه العلاقة.
وبمفهوم المخالفة كلما عجز الطرفان عن إثبات السبب أو الأسباب القاهرة المانعة من توثيق عقد الزواج في إبانه ، أو استندا إلى أسباب غير جدية ، والتي أسفرت علاقتهما على ازدياد الأولاد أو وحمل إلا وحكمت المحكمة بسماع هذه الدعوى والحكم بإثباتها.
وبالمقابل كلما عجزالطرفان عن إثبات السبب القاهر مع عدم وجود الأولاد أو الحمل الناتج عن هذه العلاقة إلا ورفض طلبهما.( 12)
إذن الخلاصة أن محاكم الموضوع كلما وجد الأطفال أو الحمل إلا وتساهلت في الأخذ بالأسباب القاهرة التي تسعفها و قد لا تسعفها، والتي قد يكون فيها خرق واضح للقواعد القانونية.
وبالتأكيد أن هذه الأسباب ليس فيها مخالفة للقواعد الفقهية ولكن فيها مخالفة صريحة للقواعد القانونية التي شرعت من أجل تطبيقها لما فيها من المصلحة للفرد والمجتمع.
واستنتاجا مما قيل ، يتبين بأن سماع دعوى الزوجية ، أصبحت قاعدة وليس استثناء ، ويكفي أن نستحضر أن (فترة الإستثناء ) مفتوحة منذ1957 تاريخ الشروع في تطبيق مدونة الأحوال الشخصية الملغاة وليس من سنة 2004 تاريخ تشريع مدونة الأسرة.
ولهذا ، فالمشرع المغربي سيلجأ مرة أخرى إلى تمديد فترة سماع دعوى الزوجية ،وهي فرصة لنقترح عليه ما يلي:
1/إعادة صياغة المادة 16 من مدونة الأسرة بما يسمح للقضاء من التعامل بليونة مع حالة الاستثناء ودون فتح الباب بشكل كلي للتحايل على المساطر القانونية ولهذا نقترح صياغته الفقرة الثانية كما يلي :
( يمكن للمحكمة ـ وبصفة استثنائية ـ سماع دعوى ثبوت الزوجية ـ واعتماد جميع الوسائل في إثباتها بما في ذلك ازدياد الأطفال على فراش الزوجية أو ظهور حمل على الزوجة)؛
2/ في المقابل ينبغي سن قواعد زجرية في حالة مخالفة بعض نصوص مدونة الأسرة من قبل تزويج قاصر من غير إذن القاضي المكلف بالزواج، والتعدد من غير الحصول على الإذن…بصفة عامة كل إجراء يتوقف على إذن خاص من القضاء الأسري؛
3/وتخفيفا على أقسام قضاء الأسرة ، ينبغي السماح للقاضي المكلف بالتوثيق بالإذن للسادة العدول بتلقي تلقية الإشهاد بثبوت الزوجية بدلا من الإستماع إلى الشهود بمجلس الحكم، وذلك على غرار ما هو معمول به لدى الجالية المغربية المقيمة بالمهجر.
هذه اقتراحات نسعى من خلالها إلى المساهمة في التخفيف عن أقسام قضاء الأسرة ـ التي تشتغل بجد وتفان ـ والتي تعاني ـ في نفس الوقت ـ من عدة إكراهات ومع ذلك تقدم الشيء الكثير من أجل تحقيق العدل الأسري والحفاظ بالتالي على تماسك الأسرة المغربية.
(محاماه نت)