دراسات قانونية
الإجابة الدستورية على تفكك الأغلبية الحكومية (بحث قانوني)
الإجابة الدستورية على تفكك الأغلبية الحكومية
ذ جابر لبوع
باحث بسلك الدكتوراه جامعة محمد الخامس السويسي
تقديم
كما هو متعارف عليه في أبجديات علم السياسة والقانون الدستوري، فإن أي نظام ديمقراطي يقتضي وجود مؤسسات منتخبة تقوم بوظيفة التعبير عن الإرادة العامة، ولكي يتم التعبير عنها كان لابد من وجود مؤسسات وهيئات سياسية تقوم بهذه الوظيفة، وتشكل الأحزاب السياسية واسطة للتعبير من خلال هذه المؤسسات، بحيث احتلت مكانة هامة سواء من الناحية الفقهية أو من ناحية التطبيق، فالفقه يكاد يجمع على أنه لا ديمقراطية ولا نظام نيابي ولا حرية بدون وجود الأحزاب وتعددها، فوجود الأحزاب يعد ضرورة تقضي بها طبيعة الأنظمة الديمقراطية النيابية[1].
وعلى هذا الأساس اقتضى الأمر وجود مؤسسات يتم من خلالها اتخاذ القرارات والمواقف من أجل تدبير الشأن العام وتسييره من خلال ضوابط محددة ومتفق عليها بين الحكام والمحكومين تتمثل في وجود دستور ينظم العلاقات بينهما ويضبط مجرى الكفاح السياسي الذي يجري على مستويين، من جهة بين أفراد وفئات وطبقات للحصول على السلطة أو للمشاركة فيها أو للتأثير عليها، ويجري من جهة أخرى بين السلطة التي تحكم والمواطنين الذين يقاومونها. فالسلطة تهيئ للذين يملكونها منافع وامتيازات، لذلك تدور حولها معارك بين أفراد أو جماعات يصارعون من أجل مقعد في المجلس النيابي أو منصب وزير[2] الخ…
إن أي فعل سياسي أو قانوني في ظل أنظمة ديمقراطية توكل فيها الأمة أمرها لممثلين يعبرون عن سيادتها وإرادتها، لا يمكن أن يكون سلوكا عرضيا أو يكون ناتجا عن الصدفة – لان التاريخ لا يصنع الصدف عندما يتعلق الأمر بالقانون والسياسة- حتى ينفلت من عين التأويل والتحليل والتمحيص والنقد.
إذا كان النص الدستوري هو الذي يحدد طبيعة العلاقة بين السلطات والمؤسسات واختصاصاتها[3] وكيفية تشكيلها وانتهائها، فإن أي فعل أو سلوك يتعلق بهما لا يجب أن يخرج عن القواعد الدستورية التي تحكمها وتضبطها.
إن وجود مؤسسات دستورية (البرلمان والحكومة على الخصوص) ما هو إلا نتاج طبيعي للتعاقد السياسي بين الأمة وممثليها، وعلى هذا الأساس اقتضى الأمر لكي تعبر هذه الأمة عن إرادتها وجود قنوات لهذا التعبير وذلك بواسطة اختيار ممثلين “يعبرون عن سيادتها” في المؤسسات عن طريق الاقتراع، ومن خلال نتائج هذا الأخير تتحدد الخريطة السياسية لكل من المؤسسة البرلمانية ومؤسسة رئيس الحكومة، بحيث أن خريطة الأولى بها تتحدد خريطة الثانية، طبقا لما هو معمول به في الدستور ومراعاة لقواعد الممارسة السياسية.
بالرجوع إلى دستور المملكة لسنة 2011 نجده قد حدد كل هذه الضوابط وقنن كل هذه السلوكيات المحتملة، فبعد ما يتم اختيار النواب عن طريق الانتخابات،[4] يتم على هذا الأساس تحديد الحزب الفائز الذي تصدر أغلبية المقاعد النيابية ليقود الحكومة،[5] ولكي يقودها فإن قواعد الممارسة السياسية ومبدأ الاستقرار والتوازن بين المؤسسة البرلمانية والحكومة تفرض على الحزب الفائز في الانتخابات أن يبحث عن تحالفات قبلية ليشكل أغلبية برلمانية في حالة ما إذا لم يتصدر الأغلبية المطلقة للأصوات المعبر عنها، ليتمخض عن هذه التحالفات حكومة ائتلافية وذلك بالتوافق فيما بينهما على برنامج سياسي يتم تنفيذه طيلة مدة الولاية في الحكومة. لكن في ظل نظام يأخذ بالتعددية الحزبية، تبقى الحكومة الائتلافية دائما مهددة بعدم الاستقرار الوزاري.
ولأجل ذلك تفرض علينا الضرورة المنهجية وإشكالية الموضوع أن نطرح العديد من التساؤلات على الشكل التالي: ما هي الآثار المترتبة في حالة تفكك هذه الأغلبية؟ وما هي الحلول الممكنة؟ خصوصا إذا كانت المعارضة البرلمانية قوية؟ وما هي الإجابات الدستورية التي من خلالها يمكن الإحاطة بالموضوع؟ وهل إعلان حزب في التشكيلة الحكومية الانسحاب يعني الاستقالة منها؟ وهل يحق لحزب في الائتلاف الحكومي أن ينسحب الذي كان قد دعم مسبقا البرنامج الحكومي الذي تم التصويت عليه بالأغلبية المطلقة في المؤسسة البرلمانية؟ ما هو التفسير الدستوري السليم لقرار الانسحاب من الحكومة؟ وبصفة عامة كيف يمكن قراءة موضوع تفكك الائتلاف الحكومي في سياق النص الدستوري؟ وما هي الآثار والنتائج السياسية على علاقة التوازن والاستمرارية بين المؤسسات الدستورية؟ هل يحق للملك أن يتدخل في هذه الحالة بناء على الفصل 42 عن طريق التحكيم؟ وما هي الشروط الدستورية لهذا الأخير؟ ما هي الآثار المستقبلية الممكنة على واقع المؤسسات والحياة الدستورية والسياسية؟
وعطفا على ما سلف أن بيناه، سنحاول أن نعالج الموضوع من خلال تبني المحاور التالية:
الأول: جدلية العلاقة بين البرلمان والحكومة
الثاني: النتائج المترتبة عن تفكك الائتلاف الحكومي والتفسير السليم للدستور
المبحث الأول: جدلية العلاقة بين البرلمان والحكومة
إن وجود الحكومة يقتضي وجود البرلمان وأن هذا الأخير لا معنى لوجوده بدون وجود الحكومة، وبالتالي فالمبدأ المتعارف عليه في الأنظمة البرلمانية المعاصرة يكرس انبثاق الحكومة عن البرلمان. هذه العلاقة بين البرلمان والحكومة يتم تحديدها من خلال ما تنص عليه القوانين الأساسية المعمول بها في الدولة سواء في الدستور أو القوانين…، وهكذا تشكل الانتخابات الآلية الرئيسية لهذا النمط من العلاقة (أولا)، وعلى أساس نتائج الانتخابات يحدد الدستور كيفية تشكيل وتعيين الحكومة (ثانيا).
المطلب الأول: الانتخابات كمحدد لنمط العلاقة بين البرلمان والحكومة
إذا انطلقنا من النص الدستوري سيتضح لنا أنه رغم التحديد الوظيفي للعلاقة بين البرلمان والحكومة، فإنهما (أي البرلمان والحكومة) لا يمكن أن يباشرا في صلاحياتهما إلا بموجب قواعد محدد مسبقا، وهكذا إذا ما رجعنا إلى الفصل الثاني من دستور المملكة لسنة 2011، نجده ينص على ما يلي:” السيادة للأمة تمارسها… بصفة غبر مباشرة بواسطة ممثليها.
تختار الأمة ممثليها في المؤسسات المنتخبة بالاقتراع الحر والنزيه والمنتظم”.
فمن خلال هذا الفصل يمكن أن نستخلص نتيجة مؤداها أنه لاستحالة ممارسة الأمة لسيادتها مباشرة تفوض أمرها إلى ممثلين تختارهم عن طريق الاقتراع، وهذه القاعدة هي المعمول بها في مختلف الدول الديمقراطية. ولكي تقوم الأمة باختيارهم كان لابد من وجود أحزاب سياسية كضرورة لابد منها لكل نظام ديمقراطي[6] مادامت الأحزاب ارتبطت بفكرة الاقتراع وأهمية المكانة التي يحتلها البرلمان في حياة الأمة: ذلك أنه كلما شعر أعضاء البرلمان بأهمية دورهم ووظائفهم كلما تلمسوا الحاجة إلى التجمع في “مجموعات” تجمع بين أفراد كل منها ” الأفكار المشتركة” بقصد تنسيق الجهود وتوحيد المواقف. ومن جهة أخرى فإن تطور الاقتراع العام يقتضي تشكيل هيئات انتخابية بقصد تعريف الناخبين بمرشحيهم، وتوجيه أكبر قدر من أصواتهم نحو مرشح أو حزب معين.[7]وعلى هذا الأساس نجد الفصل 7 من الدستور ينص على أن:”تعمل الأحزاب السياسية على تأطير المواطنات والمواطنين وتكوينهم السياسي… وتساهم في التعبير عن إرادة الناخبين،
والمشاركة في ممارسة السلطة على أساس التعددية والتناوب بالوسائل الديمقراطية وفي نطاق المؤسسات الدستورية”،[8]فالأحزاب السياسية إذن أصبحت ضرورة أساسية لتسيير شؤون الأمة، في المؤسسات الدستورية، ولكي تقوم بهذه الوظيفة كان بالضرورة عليها أن تخوض غمار التنافسية بين الأحزاب الأخرى من أجل الحصول على الثقة كي تدبر الشأن العام عبر اللجوء لصناديق الاقتراع، وهذه الأخيرة تبقى هي المحدد الرئيسي لمن وقع عليه اختيار الأمة كي يمثلها في المؤسسات الدستورية (البرلمان والحكومة)، وهي التي تعطي مشروعية التمثيل الديمقراطي.[9]
في نفس السياق كان بالضرورة أن نعود بعض الشيء إلى الوراء للإشارة إلى النقاشات والدراسات والتحاليل الأكاديمية التي انصبت حول التمثيلية النيابية في التجربة الدستورية المغربية، والتي قسمها احد الباحثين إلى مرحلتين مختلفتين: المرحلة الأولى كانت في إطار دستور 1962، والمرحلة الثانية تبتدئ من دستور 31/07/1970 إلى غاية دستور 1996[10]، حيث اعتبر الباحث أن المرحلة الأولى هي مرحلة التمثيلية النيابية الحقيقية، وذلك بربط الفصلين الثاني والثالث بمضمون الفصل 19 الذي لم يكن ينص على أن الملك هو الممثل الأسمى للأمة، وبالتالي فالتمثيلية كان يملكها البرلمان وخاصة مجلس النواب، الذي يستمد نيابته من الأمة مباشرة عن طريق الانتخابات، وتعتبر في هذه الحالة الأحزاب السياسية هي الواسطة بين الشعب والبرلمان.
أما المرحلة الثانية، وهي مرحلة ضعف التمثيلية النيابية مع دستور 1970 الذي أقر التمثيلية السامية للمؤسسة الملكية من خلال تعديل الفصل 19، وأصبحت الأحزاب السياسية ليست هي الوحيدة التي تقوم بوظيفة تمثيل المواطنين حسب ما جاء في الفصل الثالث من دستور 1970، ويضيف الباحث بأن الفصل الثالث يظهر احتمال ارتباطه بالمؤسسة الانتخابية من عدمه، وذلك من خلال مقارنته بالفصل الرابع من الدستور الفرنسي لسنة 1958 الذي ينص على أن: “الأحزاب والهيئات السياسية تساهم في التعبير عن الاقتراع وعليها أن تحترم مبادئ السيادة الوطنية والديمقراطية”، حيث اعتبر الباحث أن هذا الفصل يربط الأحزاب السياسية بشكل مباشر بالمؤسسة الانتخابية،
بينما نظيره في الدستور المغربي لا يربط وجود الأحزاب السياسية بالعملية الانتخابية[11]، إلا أننا لا نساير هذا الموقف الذي ذهب فيه الأستاذ الباحث نظرا لاستحالة قيام انتخابات تشريعية دون وجود أحزاب سياسية، ولعل الصيغة التي جاء بها الفصل الثالث التي تنص على أن “الأحزاب السياسية والمنظمات النقابية والجماعات المحلية والفرق المهنية تساهم في تنظيم المواطنين وتمثيلهم” هي التي جعلت الباحث يعتقد بإمكانية الاستغناء عن الأحزاب السياسية، وهذا الطرح مستبعد في ظل نظام دستوري يقر بالتعددية الحزبية.
وإذا رجعنا إلى دستور المملكة لسنة 2011، فإنه لا يمكن أن تكون هذه القاعدة ثابتة، بحيث يمكن القول بأن الفصل السابع من الدستور قد أعاد الاعتبار للعلاقة بين الأحزاب السياسية وتمثيلية الأمة باعتبارها المعبرة عن إرادة الناخبين في المؤسسات الدستورية ومن ضمنها البرلمان والحكومة. وإذا حاولنا أن نتجاوز القراءة الأحادية للفصل السابع من دستور 2011، وقمنا بربطه بالفصل 42 من الدستور سوف نستخلص النتائج التالية:
أن الملك لم يعد هو الممثل الأسمى للأمة، وهذا يعني أن التمثيلية حق خالص للنواب الذين اختارتهم الأمة عن طريق الاقتراع.
أن الملك أصبح في ظل دستور 2011 فقط رمز لوحدة الأمة وليس ممثلها الأسمى، وهذه العبارة صلاحية مطلقة للتدخل في العملية الانتخابية إذا كانت من شأنها أن تشق وتقسم هذه الوحدة، وذلك صيانة للاختيار الديمقراطي.
لم يعد للملك بناء على هذا الترابط كمعبر أسمى عن هذه الإرادة بل القانون هو أسمى تعبير عن إرادة الأمة[12] الذي يصوت عليه ممثلين اختارتهم الأمة عن طريق الانتخاب.
أن الأحزاب السياسية لها ارتباط بشكل مباشر بالمؤسسة الانتخابية، فيما يخص تمثيلية الأمة في المؤسسات الدستورية.
وعلى هذا الأساس يتضح لنا، بأن سيادة الأمة لا يمكن التعبير عنها إلا بواسطة الانتخابات التي تفرز لنا ممثلين من الأحزاب السياسية التي دخلت غمار الانتخابات، فالتمثيلية يتقاسمها البرلمان مع الحكومة نظرا لأن هذه الأخيرة تنبثق عن الأول(البرلمان)، وبالتالي يتم تشكيل حكومة حزبية منبثقة عن البرلمان وتتحمل المسؤولية أمامه فقط، ونظرا لنمط الاقتراع المعتمد فإن قواعد الممارسة السياسية تفرض أن يكون هناك انسجام بين الأغلبية البرلمانية والحكومة المنبثقة عنها، لكي تستمر المؤسسات الدستورية.
كما أنه بحكم الخريطة الحزبية التي أضحى عليها المشهد الحزبي الآن، أصبح من العسير على أي حزب إحراز الأغلبية المطلقة للأصوات وبالتالي يستدعي ذلك ضبط الأغلبية الحكومية،[13] عن طريق عقد ائتلاف مع أحزاب أخرى وضرورة الرضوخ لمنطق الائتلافات،[14] التي لا تكون دائما منسجمة، مما سيطرح إشكال الاستمرارية والشرعية الملكية كما ذهب الأستاذ محمد معتصم،[15] لكن هذه الأطروحة ربما كانت صحيحة في ظل الدساتير السابقة، لكن مع دستور 2011، لا يمكن اعتبار عدم الانسجام داخل الأغلبية الحكومية يبرر شرعية الملكية ويجعلها في مرتبة أعلى من الشرعية الانتخابية الديمقراطية، ما دامت توجد آليات دستورية أو سياسية للخروج من الأزمة، والتي سنتناولها فيما بعد من هذا الموضوع.
وبناء على ما سبق يمكن القول بأن الانتخابات تلعب دورا مهما في تحديد نمط العلاقة بين البرلمان والحكومة والتي يكون فيها للعامل السياسي دورا رئيسيا في إقرار التوازن بينهما.
المطلب الثاني: نتائج الانتخابات وتشكيل الحكومة
بعدما تتضح نتائج الانتخابات وتوزيع المقاعد النيابية على أساسها، فإن الحزب الفائز بأغلبية المقاعد في مجلس النواب هو الذي يحق له أن يقود الحكومة حسب نص الدستور. فبعد إجراء الانتخابات البرلمانية وفق ما تنص عليه القوانين الانتخابية، فإن الفائز فيها بالأغلبية البرلمانية هو الذي يشكل الحكومة، بحيث أن الحزب السياسي أو الأحزاب السياسية الفائزة بالأغلبية البرلمانية هي التي من المحتمل جدا أن يختار منها رئيس الدولة أو الملك رئيس الحكومة أو الوزير الأول الذي يقترح باقي أعضاء الحكومة المنسجمة سياسيا أو القريبة من لونه السياسي.[16]
وإذا ما انطلقنا من منطوق الفصل 47 من دستور 2011 نجده ينص على ما يلي:” يعين الملك رئيس الحكومة من الحزب السياسي الذي تصدر انتخابات أعضاء مجلس النواب وعلى أساس نتائجها. ويعين أعضاء الحكومة باقتراح من رئيسها”.
إن قراءة هذا الفصل يؤدي بنا إلى القول بأنه يشكل تغييرا جذريا إذا ما قارناه مع الدساتير السابقة، فيما يخص تقييد سلطة الملك في تعيين رئيس الحكومة، بحيث لم يعد للملك الحق في اختيار رئيس الحكومة من داخل الشخصيات التكنوقراطية التي ليس لها أي انتماء سياسي،[17] فبموجب هذا الفصل أصبح الملك ملزما باختيار رئيس الحكومة من الحزب السياسي الذي تصدر انتخابات أعضاء مجلس النواب وعلى أساس نتائجها أي على أساس الميولات السياسية للهيئة الناخبة. وهذا خلافا للتجارب الدستورية السابقة، حيث أن أغلب الأشخاص الذين تقلدوا منصب الوزير الأول في المغرب كانوا محايدين مما شكل قاعدة عرفية استقر عليها النظام الدستوري المغربي منذ تأليف حكومة محمد بنهيمة في 11 نونبر 1967.[18]
وفي هذا الصدد يقول الأستاذ محمد قلوش أنه:” بالرجوع إلى الأحكام الدستورية في المغرب نجد أن الملك قبل دستور 1992 كان يعين الوزير الأول والوزراء دون أن يكون مقيدا في هذا الخصوص باستشارة جهة من الجهات، أو أن يكون الاقتراح باختيار أعضاء الحكومة صادرا من هيئة من الهيآت، وكذلك لم يشترط في هذا المضمار أن يكون الوزير الأول بصفة خاصة منتمي إلى الأغلبية البرلمانية، بل ولم يشترط فيه أن يكون عضوا في المجلس النيابي”.[19]
فتعيين الوزير الأول في المغرب كان مجالا خاصا بالملكية، وقد أكد الحسن الثاني هذا الطرح في الكثير من المناسبات،[20] وحتى في ظل دستور 1992 و1996 فإن التغيير الذي طرأ على الفصل 24 قد طرح العديد من الإشكالات، بخصوص تعيين الوزير الأول من الحزب السياسي، إلا أن منطق وروح الاستقرار بين الحكومة والبرلمان يفرض كي تستمر الحكومة في مزاولة مهامها أن تحصل على ثقة مجلس النواب عبر التصويت على البرنامج الحكومي، وبدون الحصول على التنصيب البرلماني الذي تقرر لأول مرة في ظل دستور 1992 تكون الحكومة فاقدة لأساس وجودها ويستحيل عليها الشروع في مباشرة مهامها،[21] إلا أنه حتى مع دخول دستور 1992 حيز التنفيذ لم يلتزم الملك بتعيين الوزير الأول من الحزب السياسي ولم يخضع التعيين لأي مقياس دستوري،[22] إلا ابتداء مع حكومة التناوب التوافقي التي عين فيها الملك الوزير الأول من حزب الإتحاد الإشتراكي. وهذا ما حدث في الحكومة التي أفرزتها الانتخابات التشريعية لسنة 2007، والتي حصل فيها حزب الاستقلال على 52 مقعدا ،[23] ليتم على إثرها تعيين السيد عباس الفاسي وزيرا أولا.
وإذا كانت الأحكام الدستورية في الدساتير السابقة لا تلزم الملك بتعيين الوزير الأول بناء على نتائج الاقتراع، فإنه مع دخول دستور المملكة لسنة 2011 حيز النفاذ قد عدل عن الصيغة السابقة وأصبح الملك مقيدا في تعيين رئيس الحكومة من الحزب المتصدر لأغلبية المقاعد في مجلس النواب، وبناء على ما أفرزته نتائج الانتخابات، وهكذا شكلت انتخابات 25 نونبر أول محطة فعلية لتطبيق الوثيقة الدستورية، حيث كان الهدف تنصيب المؤسسات الدستورية طبقا لمقتضيات الدستور الجديد وعلى رأس هذه المؤسسات بطبيعة الحال البرلمان والحكومة، وفي إطار التفعيل الإيجابي لمقتضيات الدستور،[24]قام الملك بتعيين رئيس الحكومة طبقا لمقتضيات الفصل 47 من الدستور في فقرته الأولى، حيث وقع الاختيار على السيد عبد الإله ابن كيران أمين عام حزب العدالة والتنمية الذي تصدر انتخابات أعضاء مجلس النواب بحصوله على 107 مقعدا من مجموع مقاعد مجلس النواب[25]، وبعد تعيين رئيس الحكومة قام هذا الأخير باقتراح أعضاء الحكومة طبقا للفقرة الثانية من الفصل47 من الدستور، فهذه الفقرة يمكن أن تطرح العديد من التساؤلات نظرا لورودها بصيغة مختصرة وغير مفصلة، فهل هذا يعني أن سلطة الاقتراح المتوفرة لدى رئيس الحكومة لاستكمال مسلسل تشكيل أعضاء الحكومة مطلقة أم تخضع لعوامل سياسية؟ وهل يمكن له أن يختار فقط من ينتمون إلى حزبه بالضرورة الذي حصل على الأغلبية النسبية للمقاعد النيابية، أم يلجأ إلى حلول أخرى؟ وهل يلزم أن يكون كل أعضاء الحكومة يحملون لونا سياسيا معينا؟ خصوصا إذا حاولنا أن نربط قراءة الفصل 47 من الدستور في فقرتيه الأولى والثانية بالفصل 88 من الدستور؟ وبصفة عامة ما هي العوامل المتحكمة والموجهة لاختيار باقي أعضاء الحكومة؟
وللتذكير فإن الملك قبل دستور 1992 كان يتمتع بصلاحيات مطلقة في مجال اختيار أعضاء الحكومة، فكان الفصل 24 من دستور 1972 ينص على أن الملك يعين الوزير الأول والوزراء، فلأول مرة ظهرت كلمة “اقتراح الوزير الأول” في دستور 1992، لذا يتعين حصول الاتفاق بين الملك والوزير الأول في مجال تعيين الوزراء،[26] فسلطة الاقتراح لها بعد كبير فالذي يقرر في النهاية لا يمكن له إلا القبول أو الرفض لكن لا يمكن له اتخاذ المبادرة وهذا بطبيعة الحال تقوية لمركز رئيس الحكومة ومكانته داخل الحكومة،[27]وهكذا نجد أن الفقرة الثانية أعطت صلاحية وسلطة الاقتراح لرئيس الحكومة[28]، بحيث أن سلطة تعيين باقي أعضاء الحكومة للملك مقيدة، ولا يملك في هذا الشأن إلا القبول أو الرفض للائحة المقترحين، إلا أن فهم مسلسل الاختيار في النظام الدستوري المغربي يجب أن تؤخذ فيه مجموعة من الاعتبارات السياسية:[29]
الأول: في حالة ما إذا حصل الحزب على الأغلبية المطلقة للمقاعد النيابية لن تطرح أمامه إشكالية تنصيبه، بحيث سيشرع في اقتراح أعضاء الحكومة من نفس لونه السياسي، ويضمن أغلبية برلمانية تؤيده في برنامجه وهذه النتيجة يصعب تحقيقها نظرا لنظام التعددية الحزبية التي يأخذ بها النظام الدستوري المغربي ونظرا لنمط الاقتراع والتقطيع الانتخابي المعتمدان، حيث استحالة وجود حزب أغلبية.
الثاني: نظرا لصعوبة الحصول على الأغلبية المطلقة للمقاعد، فإن رئيس الحكومة يتم تعيينه بناء على الأغلبية النسبية أي بناء على نتائج الانتخابات التي حصلت عليها الأحزاب السياسية، وهذا ما نصت عليه الفقرة الأولى من الفصل 47 من الدستور.
لكن إذا كان هذا الأمر ينطبق على رئيس الحكومة، فإنه لا يمكن تطبيقه في الفقرة الثالثة من ذات الفصل، أي تعيين باقي أعضاء الحكومة من الحزب الذي حصل على الأغلبية النسبية لأنه سيصطدم مع ما جاء به الفصل 88 من الدستور.
ولصعوبة استمرار حكومة الأقلية، لأنه من المفترض أن يحصل رئيس الحكومة على تأييد للبرنامج الحكومي المعبر عنه بتصويت الأغلبية المطلقة للأعضاء الذين يتشكل منهم مجلس النواب، فالمنطق الدستوري يفترض انبثاق الحكومة من الأغلبية البرلمانية، لتسهيل الميلاد الطبيعي للحكومة الحزبية وتفادي الأزمات المؤسساتية،[30] لذلك فإن الحكومة المنبثقة عن البرلمان وبالأخص الأغلبية البرلمانية، تتوفر على الإمكانيات والقدرات لمزاولة عملها في مجال تحديد السياسات العامة والإشراف عليها انطلاقا من برنامجها المصادق عليه من طرف مجلس النواب كما يمكن لها أن تتجنب الخلافات والمشاكل المحتمل اعتراضها مع نواب الأمة،[31]
وعلى هذا الأساس فإن رئيس الحكومة أو الحزب الحائز على أغلبية نسبية يجب أن يأخذ الفصل 88 [32]بعين الاعتبار، وبالتالي سيلجأ إلى عقد تحالفات مع أحزاب أخرى إما قبل أو بعد إجراء الانتخابات، ليضمن أغلبية برلمانية ويضمن التصويت الإيجابي على البرنامج السياسي، الذي من المفترض أن يتم التوافق على صيغته مع الأحزاب التي ستشكل الائتلاف الحكومي. ولأجل ذلك ففي هذه الحالة يجب على رئيس الحكومة أثناء اقتراحه لأعضاء الحكومة أن يأخذ بعين الاعتبار مسألة التحالفات الحزبية وذلك لضمان التصويت لصالح البرنامج الحكومي لأنه لا يمكن أن نتصور أغلبية برلمانية تصوت ضد البرنامج الذي تقدم به رئيس الحكومة، والذي تم التوافق بشأن صيغته، لأن تأليف الحكومة يجب أن لا يصطدم مع أغلبية برلمانية مضادة لها تستطيع إسقاطها عن طريق التصويت على البرنامج الحكومي بالرفض.
الثالث: وهو المتعلق بحالة رفض الأحزاب السياسية التحالف مع الحزب الذي تصدر نتائج الانتخابات، فما هي الآليات الدستورية الممكن تطبيقها في هذه الحالة؟
إن الدستور المغربي لم يعطي حلولا ولم يتوقع مثل هذه الحالة وترك الأمر للممارسة السياسية، فالفصل 47 لم يعطي مخرجا ولم يوضح بشكل مفصل الاحتمالات والصعوبات التي يمكن أن تواجه تشكيل الحكومة، لكن في هذه الحالة يمكن أن نفترض بعض الحلول:
الحل الأول: وهو مباشرة الملك في تعيين باقي أعضاء الحكومة من الحزب المتصدر لنتائج الانتخاب، أو الائتلاف الحزبي النسبي، وفي هذه الحالة سيصطدم الفصل 47 مع الفصل 88 من الدستور الذي يقتضي التصويت لصالح البرنامج الحكومي حتى تستطيع الحكومة الحصول على ثقة مجلس النواب، ولتفادي عدم استمرارية المؤسسات الدستورية.
الحل الثاني: وهو الوصول إلى عقد تنازلات مع أحزاب المعارضة حول البرنامج الحكومي، وهو أمر مستبعد، ولا يمكن الوصول إليه في ظل نظام يأخذ بالتعددية الحزبية، وفي ظل المشهد الحزبي المبلقن في المغرب.
الحل الثالث: اللجوء إلى تطبيق النصوص الدستورية، أي لجوء الملك إلى تطبيق الفصل 96 من الدستور الذي ينص على ما يلي:”للملك بعد استشارة رئيس المحكمة الدستورية، وإخبار رئيس الحكومة، ورئيس مجلس النواب ورئيس مجلس المستشارين، أن يحل بظهير المجلسين معا أو أحدهما”. وهذه هي الآلية الدستورية الوحيدة التي يمكن من خلالها أن يلجأ الملك إلى استعمال سلاح الحل، وهذا السلوك يبرره عدم توفر أغلبية برلمانية مطلقة لدى الحزب الذي تصدر نتائج الانتخابات، وهو ما يفسره الفصل 98 في المقطع الأخير منه الذي جاء فيه:”…ما عدا في حالة تعذر توفر أغلبية حكومية داخل مجلس النواب …”.
فجوهر النظام البرلماني يقتضي تفادي الأزمات المؤسساتية، وبالتالي فاختيار وتشكيل الحكومة له علاقة جدلية مع نتائج الانتخابات، حيث أن تشكيل الحكومة تتحكم فيه العوامل السياسية بالدرجة الأولى، وبالتالي وجب أن تراعى في ذلك التحالفات وضمان أغلبية برلمانية مريحة تضمن التصويت الإيجابي على البرنامج الحكومي والمشاريع الحكومية.
المبحث الثاني:النتائج المترتبة عن تفكك الأغلبية والتفسير الدستوري السليم
إن منطق ترابط أغلبية البرلمان بالأغلبية الحكومية،[33] لا يمكن أن يكون قانونا ثابتا، بل يتغير بتغير المناخ السياسي، وطبيعة الأزمات السياسية التي تحكم منطق التحالفات الحزبية، وبالتالي تبقى دائما هذه العلاقة الترابطية مهددة بالتفكك والانهيار، مما سينتج عنها نتائج على مستوى العلاقات بين المؤسستين وعلى مستوى الاستمرارية، وعلى هذا الأساس يفرض علينا في هذا السياق البحث على الاحتمالات والتوقعات التي حاول النص الدستوري أن يحيط بها في هذا المجال ( المطلب الأول)، وكذلك التأويل الدستوري السليم للنتائج التي يمكن أن تؤول إليها تلك العلاقة (المطلب الثاني).
المطلب الأول: تعرض الائتلاف الحكومي للفسخ والانحلال
كما هو معلوم فإن ما يميز واقع الحياة السياسية والدستورية في ظل النظام الحزبي التعددي هو إمكانية تعرضها لعدم الاستقرار الحكومي.[34] وإذا حاولنا أن ننطلق من النص الدستوري لنرى مدى إمكانية توقعه لهذا الاحتمال أو إحاطته لهذا المجال، فإننا ما فتئنا نرجع لمضمون الفصل 47 من الدستور في فقراته الثالثة والرابعة والخامسة اللائي جاء فيهم ما يلي:” … للملك بمبادرة منه، بعد استشارة رئيس الحكومة، أن يعفي عضوا أو أكثر من أعضاء الحكومة من مهامهم.
ولرئيس الحكومة أن يطلب من الملك إعفاء عضو أو أكثر، من أعضاء الحكومة.
ولرئيس الحكومة أن يطلب من الملك إعفاء عضو أو أكثر، من أعضاء الحكومة، بناء على استقالتهم، الفردية أو الجماعية”. فمن خلال هذا الفصل يمكن أن نستخلص النتائج التالية:
حق الملك في إعفاء عضو أو أكثر من أعضاء الحكومة حقا مقيدا وليس مطلقا، وهذا على خلاف التجارب الدستورية السابقة[35] التي كان يتمتع فيها الملك بسلطة مطلقة في إعفاء الحكومة،[36] أما في ظل دستور المملكة لسنة 2011 فإن حق الملك في إعفاء الوزراء من مهامهم مقيد بالاستشارة القبلية لرئيس الحكومة، والهدف الدستوري من الاستشارة يكمن في الحفاظ على الاستقرار الحكومي ومراعاة الأغلبية التي تنبثق منها الحكومة، خصوصا إذا كانت الحكومة ائتلافية، وهذه العبارة كذلك يمكن أن تطرح بعض التساؤلات والإشكالات على الشكل التالي: هل هذه الاستشارة ملزمة أم مجرد استشارة اختيارية؟ وما هي النتائج والآثار المحتملة في حالة ما إذا مس الإعفاء الملكي للوزراء طبيعة الائتلاف للحكومة؟ وهل الملك ملزم بأخذ رأي رئيس الحكومة أم غير ملزم بذلك؟
فبالنسبة للسؤال الأول، فإن وضوح النص الدستوري لا يحتاج إلى بيان، لأن الملك لا يمكن له في هذه الحالة أن يقدم على إعفاء الوزراء دون استشارة رئيس الحكومة، لأن هذا الأخير هو الذي يمتلك سلطة اقتراح الوزراء، وبالتالي كان واجبا دستوريا على الملك أن يستشير رئيس الحكومة باعتباره المسؤول عن التشكيلة الحكومية، وله يرجع الأمر في اقتراح من يعين الملك ليحل محل الوزير أو الوزراء الذين تم إعفائهم، وفي هذه الحالة يجب أن تراعى في هذه المسألة طبيعة التحالفات وطبيعة العلاقة التي تربط الحكومة بأغلبيتها البرلمانية، حتى لا يؤدي الإعفاء الملكي للوزراء إلى عدم الاستقرار الحكومي، وهذا بالطبع ما قصدناه من السؤال الثاني، بحيث أن الإعفاء الملكي يجب أن يأخذ بالحسبان الأغلبية الحكومية وبالتالي كان بالضرورة أن يأخذ برأي رئيس الحكومة نظرا لانبثاق هذا الأخير من الأغلبية ومن صناديق الاقتراع، وبالتالي فرأي رئيس الحكومة في هذا السياق هو رأي مطابق ويجب على الملك أن يأخذ به وليس لمجرد رأي استشاري لا يلزم الملك به، مادامت قواعد الممارسة السياسية وقاعدة استمرار المؤسسات الدستورية هي التي تفرض ذلك، اللهم في حالة ما إذا أنتجت لنا الممارسة الدستورية أعرافا مخالفة للمنهجية الديمقراطية لتطبيق الدستور، كأن تضم التشكيلة الحكومية أعضاء غير منبثقين من صناديق الاقتراع ولا يحملون لونا سياسيا معينا، ففي هذه الحالة لا يعدو أن يكون هذا الرأي مجرد رأي استشاري لأنه لا يمكن أن يؤثر على الائتلاف الحكومي.
النتيجة الثانية التي يمكن أن نستخلصها من الفصل 47 من الدستور، تتعلق بالدور الذي أصبح يحتله رئيس الحكومة في الهندسة الدستورية، حيث أصبح له الحق في المبادرة بإعفاء عضو أو أكثر من أعضاء الحكومة، وهذا على خلاف جل التجارب الدستورية المغربية السابقة[37] التي كان فيها موقع الوزير الأول موقعا تابعا، حيث أن مؤسسة الوزير الأول لم تكن تشكل قوة داخل السلطة التنفيذية إذ لم يكن من المكن الحديث عن ثنائية السلطة التنفيذية كما هو الحال في فرنسا، وهو ما يرجعه الباحثين إلى سمو المؤسسة الملكية في الدستور المغربي،[38] إلا أن حضور سلطة الملك ملازم دائما لأي قرار يمكن أن يتخذه رئيس الحكومة في حالة ما إذا رغب في وضع حد لمهام الوزراء حيث يتوجب عليه أن يقدم طلب إلى الملك يلتمس فيه باعتباره جزءا مكونا من السلطة التنفيذية أن يعفي عضوا أو أكثر من الحكومة من مهامهم.
وهذا التقييد يجد تبريره فيما نصت عليه الفقرة الرابعة من الفصل 42 التي تنص على ما يلي:” …توقع الظهائر بالعطف من قبل رئيس الحكومة، ماعدا تلك المنصوص عليها في الفصول …47( الفقرتان الأولى والسادسة)…”، لأن تعيين الملك لأعضاء الحكومة باقتراح من رئيسها يتم بموجب ظهير يوقع بالعطف من طرف رئيس الحكومة، حتى يتحمل فيه المسؤولية،[39] ومادام الأمر كذلك فلا يجب أن يتجاوز رئيس الحكومة المكانة التي يمتلكها الملك، والظهير الذي اتخذه في تعيين الوزراء نظرا لحمولته الدستورية،[40] وبالتالي حتى يتم إعفاء الوزراء بمبادرة من رئيس الحكومة كان بالضرورة الرجوع للقرار الملكي في هذا الشأن أخذا بعين الاعتبار المكانة التي يحتلها الظهير. والتساؤل المطروح هنا، هو ما هي الصيغة القانونية التي يتم بها إعفاء الوزراء بمبادرة من رئيس الحكومة؟ هل يتم ذلك بموجب مرسوم.
أم بموجب ظهير؟ فإذا انطلقنا من الفقرة الرابعة من الفصل 47 نجدها لا تعطي الحق لرئيس الحكومة إلا في المبادرة، أي له حق تسمية الوزراء الذين يرغب في أن يضع الملك حدا لمهامهم، وهذا التصرف أي الإعفاء، لا يتم إلا بموجب ظهير[41] يتخذه الملك ويوقعه بالعطف رئيس الحكومة حتى يتحمل فيه المسؤولية، ونظرا كذلك لأن رئيس الحكومة هو الذي لديه الحق الدستوري في اقتراح من يحل محله.
ويتضح لنا من النتيجة الأولى والثانية، أن النص الدستوري لا يوضح الأسباب التي قد تدعوا لوضع حد لمهام عضو أو أكثر من أعضاء الحكومة، سواء بمبادرة ملكية أو بمبادرة من رئيس الحكومة. وقد أشارت في هذا السياق الأستاذة أمينة المسعودي على أنه من خلال رصد الممارسة السياسية والدستورية بالمغرب فقد اتضح وجود أسباب سياسية مختلفة لوضع حد لمهام الوزراء بصفة جماعية،[42] وتضيف الباحثة أنه قد تم رصد ثلاثة أسباب سياسية لإقالة الحكومات، فقد أقيلت حكومات نتيجة لطلبها الاستقالة كما أقبلت حكومات أخرى نتيجة إقالة رئيسها أو وزيرها الأول وأقيلت حكومات أخرى نتيجة ابتداء تجربة برلمانية، لكننا إذا تمعنا النظر فيما قامت الأستاذة بتحديده، فسنجد أنها لا تتحدث عن الأسباب السياسية بقدر ما تتحدث هنا عن الإطار الدستوري المنظم للاستقالة[43] أو بمعنى آخر التحديد الدستوري لحق الاستقالة والإقالة.
ومن جهتنا إذا ما حاولنا أن نبحث في الأسباب السياسية التي قد تؤدي إلى إقالة الحكومة بمبادرة من الملك أو رئيس الحكومة ، فلا بد من أن نقوم بتحليل بعض النصوص الدستورية التي يمكن أن ترشدنا لفهم الأسباب التي قد تؤدي إلى إعفاء عضو أو أكثر من أعضاء الحكومة وذلك على الشكل التالي:
ينص الفصل 42 من الدستور على ما يلي: “الملك رئيس الدولة، وممثلها الأسمى”.
الفصل 48 من الدستور ينص:” يرأس الملك المجلس الوزاري، الذي يتألف من رئيس الحكومة والوزراء”.
الفصل 49 من الدستور ينص:” يتداول المجلس الوزاري في القضايا والنصوص التالية:
التوجهات الإستراتيجية لسياسة الدولة”.
الفصل 89 من الدستور ينص:” … تعمل الحكومة تحت سلطة رئيسها، على تنفيذ البرنامج الحكومي وعلى ضمان تنفيذ القوانين”.
الفصل 92 من الدستور ينص:” يتداول مجلس الحكومة، تحت رئاسة رئيس الحكومة، في القضايا والنصوص التالية:
السياسة العامة للدولة قبل عرضها على المجلس الوزاري”.
الفصل 93 من الدستور ينص:” الوزراء مسؤولون عن تنفيذ السياسة الحكومية ،كل في القطاع المكلف به، في إطار التضامن الحكومي.
يقوم الوزراء بأداء المهام المسندة إليهم من قبل رئيس الحكومة، ويطلعون مجلس الحكومة على ذلك”.
فمن خلال ربط هذه الفصول فيما بينها يمكن أن نستنبط الأسباب السياسية التي يمكن لها أن تؤدي بالملك أو رئيس الحكومة إلى وضع حد لمهام الوزراء، حيث يتضح لنا من خلال هذا الربط مستويين من المسؤولية:
المستوى الأول: مسؤولية أعضاء الحكومة أمام الملك، باعتباره أحد رؤوس السلطة التنفيذية، وكرئيس للدولة وممثلها الأسمى، عن تنفيذ سياسة الدولة التي يصادق عليها الملك في المجلس الوزاري ويحدد توجهاتها الإستراتيجية، وبالتالي ففي حالة عدم قدرة أو كفاءة أو عدم التزام الوزراء بهذه التوجيهات يشكل سببا رئيسا ليقوم الملك بتوظيف حق الإعفاء ويضع حدا لمهام الوزير أو الوزراء الذين لم يتحملوا المسؤولية.
على المستوى الثاني: وهي مسؤولية أعضاء الحكومة أمام رئيس الحكومة، عن السياسة العامة للدولة التي يحدد توجهاتها الإستراتيجية في مجلس الوزراء، ومسؤوليتهم عن تنفيذ البرنامج الحكومي، وكذلك مسؤوليتهم عن تنفيذ السياسة الحكومية القطاعية.
فمن خلال هذه النتائج، تتضح لنا الأسباب المباشرة التي يمكن أن تؤدي بالملك إلى إعفاء عضو أو أكثر من أعضاء الحكومة، كما يمكن كذلك لرئيس الحكومة باعتباره مسؤولا عن ضمان تنفيذ سياسة الدولة أن يطلب من الملك إعفاء عضو أو أكثر من أعضاء الحكومة.
النتيجة الثالثة التي يمكن أن نستخلصها من الفصل 47 في فقرته الخامسة، وهي المتعلقة، بطلب رئيس الحكومة من الملك إعفاء عضو أو أكثر بناء على استقالتهم بصفتهم الفردية أو الجماعية، وفي هذه الحالة يعتبر رئيس الحكومة واسطة بين أعضاء الحكومة باعتبارهم جزءا من التشكيلة الحكومية، والملك، وحيث أنه لا يمكن لأعضاء الحكومة أن يطلبوا بصفة مباشرة من الملك إعفائهم لأنهم يتحملون مسؤوليتهم أمام رئيس الحكومة، ويعملون تحت سلطته، وهذا خلافا لكل التجارب الدستورية المغربية التي لم يكن فيها الوزير الأول واسطة بين أعضاء الحكومة والملك، حيث كان للملك سلطة مباشرة في إعفائهم، كما كان لأعضاء الحكومة الحق في أن يطلبوا الاستقالة مباشرة من الملك، لكن مع دخول دستور 2011 يمكن القول بأنه شكل خطوة جد متقدمة بالمقارنة مع ما كان معمولا به في ظل الدساتير السابقة، حيث أنه أصبح الآن من الممكن الحديث عن ثنائية السلطة التنفيذية، كما هو معمولا به في الأنظمة البرلمانية المقارنة،[44] كما يمكن القول أن الحكومة أصبحت تشكل مؤسسة منافسة للمؤسسة الملكية، وأصبح من الممكن القول “بمؤسسة رئيس الحكومة”، وليس كما كان عليه الأمر سابقا حيث أن الحكومة كانت “حكومة جلالة الملك”، وليست حكومة الوزير الأول.[45]
وترتيبا على كل ما سبق أن استنتجناه يتضح لنا بأن النص الدستوري لم يتحدث بشكل مباشر عن تعرض الائتلاف الحكومي للتفكك، إلا أنه من خلال هذه التفسيرات التي أوضحناها ، يمكن أن تكون سببا في تعريض التحالف الحكومي للفسخ والانحلال، مما يعني: تحريك وانتعاش الآليات الدستورية، وآليات المسؤولية السياسية وبالتالي سيادة ظاهرة عدم الاستقرار الحكومي كلما حصل انشقاق وخلافا داخل صفوف الأغلبية الحكومية.[46] وبالتالي يستدعي الأمر توظيف الآليات الدستورية الممكنة.
المطلب الثاني: تحريك الآليات الدستورية
إذا كنا قد أشرنا إلى الآليات الدستورية التي يمكن أن تؤدي إلى تفكك الأغلبية الحكومية، سواء كان ذلك عن طريق الإعفاء الملكي أو عن طريق تقديم الاستقالة، أو رغبة حزب في التحالف الحكومي الانسحاب من الأغلبية، فإن انحلال وتفسخ الائتلاف الحكومي[47]، يؤدي بالضرورة إلى تفعيل الآليات الدستورية الممكنة.
أولا: على مستوى الحكومة والبرلمان
إن رغبة حزب في التحالف الحكومي الانسحاب منه، يؤدي بنا أولا، إلى تحديد معنى الانسحاب في هذا السياق؟ وما هو الحل؟ فالمقصود هنا بالانسحاب هو تقديم الاستقالة، أي استقالة وزراء الحزب من التشكيلة الحكومية، لأن الانسحاب بدون تقديم الاستقالة، أمر لا يمكن أن يقبله منطق تحمل المسؤولية ومنطق التمثيلية. والانسحاب يكون دائما نتيجة التحالفات الهشة غير المبنية على توافقات واسعة حول المطالب التي يمكن أن يطرحها كل حزب، وكذلك يدل على غياب توافق حول البرنامج الحكومي الذي على أساسه نالت الحكومة الائتلافية ثقة الأغلبية البرلمانية.
أما إذا قرر طرف في الحكومة الانسحاب فما عليه إلا أن يلتجئ إلا تطبيق مقتضيات الدستور، طالما أن هذا الأخير يحظى في الدول والمجتمعات المتحضرة بقداسة مطلقة باعتباره القانون الأسمى الذي ينظم العلاقة بين الحكام والمحكومين، فهو مصدر شرعية ومشروعية كل الإنتاجات القانونية وكل القرارات الصادرة عن الهيئات السياسية الفاعلة باسم الدولة[48]، وهو ما يعني في هذا السياق اللجوء إلى تفعيل مقتضى الفصل 47 من الدستور.
وفي هذا السياق يفرض على رئيس الحكومة على أن يقوم باقتراح الأعضاء الذين سيحلون محل الأعضاء الذين تم إعفائهم من مهامهم. كما أنه لا يمكن للوزراء الذين استقالوا أن ينسحبوا مباشرة بعد إعفائهم، نظرا لأن مبدأ الاستمرارية يفرض عليهم أن يقوموا بتصريف الأمور إلى غاية تعيين الأعضاء الآخرين مكانهم، رغم أن الدستور المغربي لا ينص على هذه الإمكانية، بشكل صريح إلا أنه يمكن استنباطها عن طريق القياس من خلال ما ينص عليه الفصل 87 من الدستور في فقرته الثالثة التي جاء فيها ما يلي:” ويحدد القانون التنظيمي… القواعد الخاصة بتصريف الحكومة المنتهية مهامها للأمور الجارية”، وهو ما يعني قيام أعضاء الحكومة الذين وضع حد لمهامهم بتصريف الأمور إلى غاية تعيين من يحل محلهم، أما إذا رجعنا إلى التجربة المقارنة فسنجد أن الدستور الاسباني قد كان صريحا في هذا المجال حيث نص في المادة 101 الفقرة الثانية على ما يلي:” تستمر الحكومة المستقلة في ممارسة وظائفها إلى أن تتسلمها حكومة جديدة”.
وبناء على ما قلناه أعلاه، فإن قواعد الممارسة السياسية تستدعي من رئيس الحكومة إذا باعتباره مسؤولا عن تشكيل الحكومة، أن يبحث عن تحالفات جديدة، يضمن بها أغلبية تسانده في البرلمان حتى يكون هناك انسجام فيما بينها، أما إذا لم يتم هذا التحالف، فإنه سيضطر إلى تشكيل حكومة أقلية[49]، وهو ما سينتج المعادلة التالية: معارضة قوية غير مساندة/ أغلبية حكومية ضعيفة مدعمة، النتيجة إذن هي عرقلة عمل الحكومة/انتعاش آليات المسؤولية السياسية/ عدم التوازن بين البرلمان والحكومة/ عدم استمرارية المؤسستين.
إذا في هذا السياق سيكون هناك إحدى الآليات التالية: فإما أن يلجأ رئيس الحكومة إلى الفصل 104 من الدستور الذي ينص على أنه :” يمكن لرئيس الحكومة حل مجلي النواب، بعد استشارة الملك ورئيس المجلس…بمرسوم يتخذ في مجلس وزاري. يقدم رئيس الحكومة أمام مجلس النواب تصريحا يتضمن بصفة خاصة دوافع قرار الحل وأهدافه”. وإما أن يلجأ رئيس الحكومة إلى طرح مسألة الثقة لدى مجلس النواب بناءً على الفصل 103 من الدستور، وفي هذه الحالة يستدعي الأمر تصويت الأغلبية المطلقة للأعضاء الذين يتكون منهم المجلس لسحب الثقة منها واستقالة الحكومة. والحالة الأخيرة، أن يلجأ البرلمان إلى معارضة الحكومة تحمل مسؤوليتها عن طريق ملتمس الرقابة المنصوص عليه في الفصل 105 من الدستور، الذي يستدعي موافقة الأغلبية المطلقة للأعضاء الذين يتألف منهم مجلس النواب حتى يؤدي إلى استقالة الحكومة استقالة جماعية.
ففي الحالة الأولى يتوقف الأمر على القرار الملكي وعلى ما سيفرزه المجلس الوزاري المنعقد برئاسة الملك، أما في الحالة الثانية والثالثة فالأمر يتوقف على توفر النصاب القانوني لإسقاط الحكومة، والتساؤل المطروح، هل ستتوحد الأحزاب المعارضة في البرلمان من أجل التصويت على سحب الثقة من الحكومة أو التصويت بالموافقة على ملتمس الرقابة؟ وهل لديها نفس الرؤى ونفس الأسباب التي تراها فرصة مناسبة لإسقاط الحكومة؟ إذ أن اختزال المعارضة في كونها تعارض الحكومة وتعرقل عملها، يعتبر اختزالا لا يأخذ بعين الاعتبار طبيعة المعارضة، وكيفية تعامل المعارضة مع الحكومة، ففي النظم الديمقراطية النيابية تعتبر المعارضة مكمل ضروري لها ودورها لا يتمثل في اكتشاف أخطاء الحكومة وتقديمها للرأي العام فقط، بل أكثر من ذلك، العمل سوياً مع باقي مكونات النظام الديمقراطي النيابي والسعي إلى المشاركة في هندسة مشروع حكم “يحضى بالموافقة من قبل الناخبين”[50]، وعلى هذا الأساس قد يكون هناك حزب أو بعض الأحزاب التي قد لا ترى مصلحة في التصويت على ملتمس الرقابة ضد الحكومة، رغبة منها في المشاركة في الحكم وفي منافسة الحكومة، وبالتالي قد يصعب إسقاط الحكومة في هذه الحالة. وذلك على خلاف التجربة الدستورية الايطالية باعتبارها غنية من حيث تفعيل وتنشيط المسؤولية السياسية، ويؤدي ذلك في العديد من الأحيان إلى عدم الاستقرار، حيث أن الشروط الدستورية غير المعقلنة بالشكل المطلوب لتنظيم العلاقة بين البرلمان والحكومة أثرت بالملموس على عدم استقرار الحكومات الايطالية[51].
وفي كل الأحوال يظهر بأن النظام الحزبي وطبيعة الأحزاب هو الذي يحدد ويساهم في الاستقرار الحكومي من عدمه، وإذا كانت آلية المسؤولية السياسية تلعب دورا مهما في عدم الاستقرار الحكومي والمؤسساتي فهذا لا يعني أنه يشكل أمراً سلبياً بقدر ما يساهم في دمقرطة الممارسات البرلمانية وحل العديد من الأزمات المؤسساتية والسياسية[52].
ثانيا: على مستوى الملك
إن تعرض الحياة المؤسساتية لعدم الاستقرار والتوازن تطرح فرضية إمكانية التدخل الملكي لإعادة مجرى الأمور إلى السير الطبيعي، فإذا كانت العلاقة بين المؤسسة البرلمانية ومؤسسة رئيس الحكومة يجب أن تطبعها روح التعاون والاشتغال معا في تدبير السياسات العامة، فإن أي عائق يمكن له أن يحول دون ذلك، يمكن أن يؤدي إلى نتائج سلبية على مستوى تدبير الشأن العام الوطني وعلى مستوى الاستمرارية. وعلى هذا الأساس، فإن الدستور قد أرسى آليات يمكن الاحتكام إليها للوصول إلى حلول تؤدي إما إلى إعادة الأمور إلى سيرها العادي وإما إلى شل حركة المؤسسات بشكل مؤقت.
وعليه فإذا كان الملك يمثل جزءا مهما في الحياة السياسية والدستورية في المغرب وباعتباره رئيسا للدولة كان بالضرورة أن يكون من شأنه التدخل في تهدئة الأوضاع وإعادتها إلى نصابها، ولكن كيف يتم ذلك؟ ولماذا؟ ففي سياق حديثنا حول تفكك الأغلبية الحكومية، فقد أشرنا إلى عدة أجوبة دستورية وسياسية ممكنة، إلا أنها في آخر المطاف لا يمكن أن تؤدي إلى الحلول. وفي هذا السياق قد منح المشرع الدستوري إمكانيتين في يد الملك يمكن اللجوء إليها كلما كانت هناك أزمة مؤسساتية، فإما أن يلجأ إلى سلاح الحل وإما أن يلجا إلى تطبيق مضمون الفصل 42 من الدستور باعتباره رئيسا للدولة.
وضع حد لولاية مجلسي البرلمان أو أحدهما
بالرجوع إلى الدستور المغربي لسنة 2011 نجده ينص في الفصل 51 منه على ما يلي:” للملك حق حل مجلسي البرلمان أو أحدهما بظهير، طبق الشروط المبينة في الفصول 96 و 97 و 98….”، يتضح ظاهريا من خلال هذا الفصل بأن للملك سلطة واسعة في تجاوز التمثيلية البرلمانية، حيث يتدخل مباشرة لكي يضع حدا لمهام أحد مجلسي البرلمان أو هما معا، فسلاح الحل البرلماني لا يمكن اعتباره تجاوزا لسلطة البرلمان بل يعتبر وسيلة لتجاوز نتائج تعطيل المؤسسات[53]، وبالتالي فاستعماله من طرف رئيس الدولة (الملك) لا يمكن اللجوء إليه إلا في حالات خاصة مؤسساتية، وقد أكد في هذا الشأن الأستاذ مصطفى قلوش قائلا: “بأن الحق في حل البرلمان يستعمل لغايات متعددة منها:[54] تأمين استقرار الحكومة والنأي بها عن تقديم الاستقالة ويمكن أن يستعمل كوسيلة لحسم الخلاف بين الأحزاب التي لها تمثيل داخل البرلمان بقصد تحقيق أغلبية متجانسة قارة لم تكن متوافرة كما يلتجأ إليه كوسيلة يدافع بها رئيس الدولة عن آرائه التي يعتقد أنها تحقق المصلحة العامة وأن الشعب يؤيده فيها”.
فالحل البرلماني إذن لا يأخذ معناه الحقيقي إلا انطلاقا من الظرفية السياسية التي فرضته[55]، فهو من ناحية الفلسفة الديمقراطية أهون وأخف وأسلم من اللجوء إلى الاستثناء، وبالتالي فالملك في النظام الدستوري المغربي أو رئيس الدولة في الأنظمة الأخرى[56] يمتلكون حق الحل في الحالة التي يستحيل معها تحقيق أي انسجام أو تجانس في علاقة الحكومة بالبرلمان، أو علاقة الأغلبية البرلمانية بالحكومة المنبثقة عنها، أو في حالة عدم الاستقرار السياسي الذي يمكن أن يحدث من جراء تصدع الأغلبية البرلمانية أو سحب دعمها للحكومة أو حدوث تغيير في الخريطة السياسية من شأنه أن يفقد الحكومة أغلبية برلمانية منسجمة داعمة لها.[57] وهو ما يسمح للملك في هذا المجال لكي يستعمل حق الحل الذي يؤدي بالضرورة إلى إجراء انتخابات برلمانية جديدة لصالح التوازن المؤسساتي، وهو ما يعني كذلك الاحتكام إلى الشعب للحسم في الأمر عن طريق الاقتراع، وفي هذا الصدد، تظهر الأهمية الكامنة لحق الحل لا كسلطة مطلقة للملك بل كسلطة تقريرية للإرادة العامة.[58]
فحق الحل إذن هو سلاح ووسيلة بيد الملك لإعادة بناء أغلبية جديدة منسجمة ومساندة للحكومة تفاديا لعدم الاستقرار والتوازن في العلاقة بين البرلمان والحكومة وهو ما يمكن أن نستشفه من منطوق الفصل 98 الذي ينص على أنه:” إذا وقع حل أحد المجلسين فلا يمكن حل المجلس الذي يليه إلا بعد مضي سنة على انتخابه، ما عدا في حالة تعذر توفر أغلبية حكومية داخل مجلس النواب الجديد”.
استعمال الفصل 42 من الدستور
انطلاقا من هذا الفصل [59] نجد أن الملك يتمتع من خلاله بالعديد من الاختصاصات التي جاءت عامة، ويمكن أن مختلف جميع الميادين والمجالات. وفي هذا السياق كان لابد أن نعود بعض الشيء إلى الوراء للتذكير بالمكانة التي كان يحتلها الفصل 19 في الدساتير السابقة الذي طالما خضع لعدة تأويلات فقهية وقانونية، حيث يقول في هذا الصدد الأستاذ مصطفى قلوش بشأن هذه التأويلات التي حاولت رصد أهمية ومكانة الفصل 19 من الدستور المغربي ما يلي: ” اللافت للنظر هو أن الباحثين الذين تناولوا هذا الفصل بشيء غير قليل من البيان، انتهى الأمر بهم إلى إعطاء الفصل 19 بعدا يكاد يهمش الوثيقة الدستورية بما تتضمنها من مقتضيات وأحكام، كما أن البعض من جراء عدم تبين حقيقة وأهمية الفصل 19 قرر دون روية أن النص الدستوري يتميز فقط بقيمة رمزية.[60] وحسب أحد الباحثين فإن الفصل 19 كان له مخزون عام يمكن اقتصاده في العناصر التالية[61]:
المخزون الديني: إمارة المؤمنين وحماية الدين
المخزون الوطني باعتباره الضامن لاستقلال البلاد وحوزة المملكة في دائرة حدودها الحقة
المخزون الرمزي المتعلق بالتمثيلية الأسمى للأمة ورمز وحدتها
المخزون السياسي والقانوني ويتجلى في حماية الدستور وصيانة حقوق وحريات المواطنين والجماعات والهيئات.
كما يضيف نفس الباحث[62] بأن الفصل 19 يمكن أن يخضع لتأويل عرضي أو مناسباتي، والذي ينصب حول حل إشكالات قانونية أو سياسية لا يؤطرها الدستور إما نتيجة لغموض وعمومية وتردد النص الدستوري، وإما نتيجة للطابع الاختزالي للدستور المغربي ككل. حيث أن التفاعلات والحاجات التي يفرزها الحقل السياسي، تستوجب تدخل رئيس الدولة أحيانا كملك دستوري وأحيانا كأمير المؤمنين، إما من أجل حل خلافات دستورية وسياسية عبر استعماله لسلطة التحكيم وإما من أجل مراقبته لمختلف التفاعلات عبر استقرائه لتحركات الحقل السياسي المغربي وللفاعلين فيه.
وعموما إذا كان للملك صلاحيات واسعة بموجب الفصل 19 من الدساتير السابقة وخضع لتأويلات عدة نظرا لاستحالة الفصل بين تمثيليته كرئيس الدولة وتمثيليته كأمير المؤمنين، فإنه بعد دخول دستور المملكة لسنة 2011 نجده قد حاول أن يخفف من تلك الحمولة التي كان يحملها الفصل، ونمت تجزئته إلى فصلين، فصل يتعلق بمهام إمارة المؤمنين وهو الفصل 41، وفصل يتعلق بمهام الملك باعتباره رئيسا للدولة، وبالتالي يتضح بأن المشرع الدستوري في دستور 2011 كان أكثر ليبرالية[63] من نظيره في الدساتير السابقة، عندما حاول أن يفصل بين المهام والصلاحيات التي يتمتع بها الملك. وفي نفس السياق كان لابد من أن نجيب على التساؤلات التالية: هل يمكن ويحق للملك أن يتدخل من تلقاء نفسه لحل الأزمة بناء على الفصل 42؟ وهل يحق لحزب في التحالف الحكومي أن يطلب التدخل الملكي بناء على نفس الفصل؟
إذا حاولنا أن نستخرج العناصر الأساسية الواردة في مضمون الفصل 42 من الدستور والتي يمكن من خلالها للملك كرئيس دولة (وليس كأمير المؤمنين كما كان الأمر عليه سابقا)[64] أن يتدخل لحل الخلاف فسوف نحددها على الشكل التالي:
الملك كضامن لدوام الدولة واستمرارها
الملك الحكم الأسمى بين مؤسسات الدولة
الملك كساهر على احترام الدستور وحسن سير المؤسسات.
فالملك هنا يظهر بأنه يتمسك بخيوط الحلول الأساسية خاصة في حالة الأزمات ويظهر فاعلا عاديا متوازنا مع الفاعلين الآخرين في الحالات التي يكون التوافق سائدا وغير مثير لمركزه[65] فهو الضامن لدوام الدولة واستمرارها إذا ما كان هنالك عائق داخلي أو خارجي يتهددها، ويظهر كحكم[66] أسمى بين المؤسسات في الدولة في حالة الخلاف بينهما، كما يقوم بوظيفة السهر على احترام الدستور في حالة ما إذا تم تجاوزه أو مخالفته، ويسهر على حسن سير المؤسسات في حالة تقاعسها.
وإذا كنا نتحدث في سياق موضوعنا عن الخلاف داخل صفوف الأغلبية الحكومية فهل يعتبر هذا خلافا بين المؤسسات يعطي للملك الحق في التحكيم؟ حيث اعتبر البعض بأن الملك لا يمكن أن يتدخل عن طريق التحكيم إذا ما طلب منه ذلك في حالة الخلاف بين أحزاب في الائتلاف الحكومي.
لكننا إذا تمعنا جيدا في مضمون الفصل 42 في مقطعه المتعلق بالتحكيم الأسمى بين المؤسسات، فلا يسعنا إلا أن نستخلص النتائج التالية:
الملك يعتبر حكما أسمى بين مؤسسات الدولة، وهو ما يعني في حالة الخلاف بين البرلمان والحكومة، حول أمور توجد لها مخارج وحلول أخرى دستورية، فإنه يتم اللجوء إلى الآليات الدستورية أولا لحل الخلاف، وثم الآليات التوافقية وآليات التراضي والتنازلات السياسية حول مكامن الخلاف باعتبارها آليات للتحكيم الأدنى.
أنه يمكن أن يحتكم إلى الملك في الخلافات التي تنشب بين الأحزاب السياسية، وهنا يثار الجدل، وقد يقول قائل بأن الملك يمارس التحكيم بين المؤسسات وليس بين الأحزاب، لكن هذا القول مردود عليه وتبقى نظرة محدودة في التفسير، إذ أن الصراعات والأزمات التي يمكن أن تحدث في التحالف الحكومي يكون لها أبعاد سياسية ومؤسساتية، فعلاقة التأثير والتأثر يجب استحضارها لفهم علاقة الأحزاب بالمؤسسات خصوصا إذا كانت لهذه الأحزاب تمثيلية داخل المؤسسات. وبالتالي يحق أن تلجأ الأحزاب لطلب التحكيم الملكي لكن ليس مباشرة وإنما بعد استنفاذ الآليات التوافقية وفي غياب نص دستوري يحتكم إليه.
إن التحكيم الملكي لا يجب أن يفهم على أنه تكريس لسلطة مطلقة ولسمو الملك على باقي المؤسسات الأخرى بل باعتباره رئيسا للدولة وليس كأمير المؤمنين كما كان عليه الأمر سابقا[67]، وهذا معمول به في معظم الأنظمة البرلمانية المقارنة.
خاتمة
إن العلاقة بين المؤسسات السياسية يجب كما هو معلوم أن تكون علاقة استقرار وتوازن واستمرار، وهو ما يحاول المشرع الدستوري دائما أن يحدد ضوابطها ويقيد مداها، وما دامت الحياة السياسية مطبوعة بالحركة والتطور وعدم الثبات فإنه لا يمكن أن يحتمل أو يتوقع جميع الحوادث التي يمكن أن تقع في المستقبل. وهو ما يستدعي البحث عن حلول ومخارج دستورية للحؤول دون قصور النص الدستوري. وعلى هذا الأساس يتضح لنا من خلال ما تناولناه أن المشرع الدستوري رغم تطرقه إلى كيفية تشكيل الحكومة والعلاقة بينها وبين البرلمان بشكل صريح، إلا أنه ظل صامتا أو غامضا في ما يخص تقنين حالة الأزمة التي يمكن أن تحدث بين صفوف الأغلبية الحكومية في ظل المشهد السياسي والحزبي بالمغرب الذي لا يساعد على تشكيل حزب أغلبي، مما يجعل العلاقة بين المؤسسات دائما عرضة لعدم التوازن وعدم الاستقرار الوزاري، وهو ما يفتح المجال للاجتهاد في السبل الدستورية الممكنة الصريحة منها والضمنية. انطلاقا من كل ما عالجناه في هذا الموضوع يمكن أن نستخلص النتائج التالية:
أنه لا يمكن أن قراءة قرار الانسحاب من الحكومة إلا من خلال النص الدستوري ككتلة نصية واحدة.
استحالة تشكيل حكومة من طرف حزب واحد نظرا لاستحالة الحصول على الأغلبية المطلقة للأصوات في ظل التعددية الحزبية.
الدور الأساسي لنمط الاقتراع في تحديد الخريطة السياسية للبرلمان والحكومة.
الدستور الجديد للمملكة حاول أن يرتقي بمكانة مؤسسة الحكومة.
بروز ثنائية السلطة التنفيذية.
التمثيلية أصبح يمتلكها البرلمان.
تقييد بعض صلاحيات الملك.
لا يمكن أن يطلب من الملك التحكيم إلا بعد استنفاذ الآليات الدستورية باعتباره الحكم الأسمى.
ضرورة تطوير الأحزاب لممارستها والخروج من منطق المساومات إلى منطق التوافقات خدمة للصالح العام.
الصراع داخل الأغلبية دليل على غياب برنامج توافقي على المستوى الوطني.
(محاماه نت)