دراسات قانونية
الغرامة التهديدية كأداة من أدوات القاضي الإداري (بحث قانوني)
الغرامة التهديدية كأداة بيد القاضي الإداري لإجبار الإدارة على تنفيذ الأحكام القضائية
ايوب الصافي،
طالب بماستر العلوم الإدارية والمالية – كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية – جامعة محمد الخامس الرباط
مقدمة:
تعني مسألة الخضوع للقانون أن جميع الأشخاص في الدولة سواء كانوا طبيعيين أو اعتباريين، أفرادا أو هيئات، ملزمين بأحكام القانون من جهة، وأن تملك الدولة سلطة تنفيذ الأحكام الصادرة عن جهازها القضائي إذا ما تم الامتناع عن تنفيذها من جهة أخرى.
فلا يمكن الحديث عن دولة الحق والقانون إذا لم تكن الدولة خاضعة للرقابة القضائية في أداء وظائفها، ومحترمة للقوانين والضوابط الجاري بها العمل، فخضوع الدولة للقانون يعني خضوعها للقضاء وإمكانية مقاضاتها أمامه، ومن ثمة لا قيمة للأحكام القضائية دون تنفيذها فهدف الشخص من المطالبة بالبت في نزاع هو طرف فيه إنما الغرض من ذلك هو أخذ حقه لا الحكم لصالحه وبقاء حكمه على رفوف المحكمة دون تنفيذ، ونستحضر في هذا الصدد ما ورد في رسالة عمر بن الخطاب إلى قاضيه أبي موسى الأشعري والتي جاء فيها: “.. و انفذ إذا تبين لك فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له”، وكذلك مقولة الفقيه السنهوري الشهيرة: “أن من كان مظلوماً وكان خصمه قوياً كالإدارة، فلا بد من ملاذ يلوذ إليه ويتقدم إليه بشكواه ولاشيء أكرم للإدارة وأحفظ لمكانتها من أن تنزل مع خصمها إلى ساحة القضاء تنصفه أو تنتصف منه وذلك أدنى إلى الحق والعدل و أبقى للهيبة والاحترام”.
فلما كان تنفيذ الأحكام الصادرة في مواجهة الإدارة يعتبر السبيل الوحيد للمحافظة على مبدأ المشروعية وسيادة القانون في علاقة الفرد بالدولة، فعدم تنفيذ حكم واحد يكفي للقول بوجود ظاهرة غير صحيحة يجب التعامل معها بالشكل الذي يحمي أسس قيام الدولة الديمقراطية، إذ لا قيمة لحكم قضائي لم يعرف طريقه إلى النفاذ.
وقد عرف المغرب استفحال هذه الظاهرة، والتي أدت إلى تراكم الملفات التي لم تعرف طريقها للتنفيذ، ويمكن إرجاع ذلك بالأساس إلى كون القاضي الإداري لا يملك أي سلطة لإكراه الإدارة على التنفيذ، بالإضافة إلى أن المشرع لم يكفل له اتخاذ وسائل التنفيذ المباشر في مواجهة الإدارة الممتنعة عن التنفيذ، وهذا ما جعل هذه الظاهرة تكتسي طابعا مخيفا قد يؤثر على مصداقية العدالة والعمل القضائي عموما بالبلاد.
وإذا كان القاضي الإداري لا يستطيع سلوك طريق المقاصة أو الإكراه البدني ضد الإدارة نظرا لطبيعة شخصيتها الاعتبارية، إلا أنه لم يتوانى في اعتماد بعض الأساليب مستندا في ذلك على قواعد المسطرة المدنية، هذه الأساليب من بينها الغرامة التهديدية، وذلك في إطار سلطته الإنشائية، وبناء على الإحالة المنصوص عليها بالقانون رقم 41.90 والقانون رقم 80.03.
وتعتبر هذه الوسيلة أداة قضائية ناجحة في يد القاضي العادي لإلزام الأشخاص الطبيعيين على تنفيذ أحكامه القضائية، وهذا لا يمنع من اعتمادها من قبل القاضي الإداري لفرض احترام الأحكام. كون أن الغرامة التهديدية هي وسيلة غير مباشرة لتنفيذ الأحكام القضائية الإدارية الحائزة لقوة الشيء المقضي به، وفرضها لا يعتبر تدخلا من قبل القاضي في مواجهة الإدارة، أو الحلول محلها في التنفيذ، أو مساسا بمبدأ فصل السلط، بل فقط يهدف من خلالها دفع الإدارة إلى احترام التزاماتها و تحسيسها بواجبها في تنفيذ الحكم (1).
وانطلاقا مما سبق تنجلي لنا الإشكالية المحورية التي مفادها: تطبيق الغرامة التهديدية أمام القضاء الإداري بين الماهية والقواعد الناظمة لها؟
وتتفرع عن الإشكالية المحورية بعض الأسئلة المتفرعة عنها من قبيل: ما ماهية الغرامة التهديدية؟ وما القواعد التي تحكم تطبيقها أمام القضاء الإداري؟
وسنتناول الموضوع وفق مطلبين، أول يرتبط بماهية الغرامة التهديدية، فيما بالمطلب الثاني سنخصصه للقواعد التي تحكم تطبيقها أمام القضاء الإداري.
المطلب الأول: ماهية الغرامة التهديدية
سنتناول في هذا المطلب ماهية الغرامة التهديدية وفق ثلاثة فروع متتالية كلا من التعريف والخصائص والأساس القانوني.
الفرع الأول: تعريف الغرامة التهديدية
من جانب تعريف الغرامة التهديدية يلاحظ أنها نظام أقره القانون منذ العمل بالمسطرة المدنية في سنة 1913، إلا أنه لم يحدد تعريفا لها على الرغم من التعديلات التي لحقته، حيث نجدها واردة في آخر تعديل لقانون المسطرة المدنية (2)، ولكن كمصطلح مشار له بالفصل 448 ضمن الباب الثالث المعنون بالقواعد العامة بشأن التنفيذ الجبري للأحكام في القسم التاسع المتعلق بطرق التنفيذ من قانون المسطرة المدنية، حيث وردت كجزاء لرفض المنفذ عليه أداء التزام بعمل أو خالف إلزاما بالامتناع عن عمل…
ومن ناحية التعريف القضائي ونظرا لأن القضاء الفرنسي من صنع الغرامة التهديدية أول مرة فقد عرفتها محكمة النقض الفرنسية بقولها:
[الغرامة الوقتية، هي وسيلة إكراه مختلفة كل الاختلاف عن التعويض، وهي ليست في الأخير إلا وسيلة لردع الامتناع عن تنفيذ حكم، وليس من أهدافها تعويض الأضرار أو التماطل، وهي عادة تستخلص حسب مدى خطورة غلط المدين الممتنع وحسب إمكانياته أيضا] (3).
وفي المغرب تم تعريفها في عدة أحكام وقرارات، لكن كان السبق في هذا إلى قرار محكمة الاستئناف بالدار البيضاء التي حددت مفهوم الغرامة التهديدية بكونها:
[وسيلة للضغط على المدين لإجباره على تنفيذ التزامه، والقاضي الذي يقوم بتصفية الغرامة التهديدية يتأكد أولا ما إذا كان التنفيذ ممكنا وما إذا كان تدخل المدين ضروريا] (4).
وكان للفقه أيضا إسهامات كثيرة في تعريف الغرامة التهديدية حيث تنوعت واختلفت التعاريف (5) المحددة لمفهوم الغرامة التهديدية.
الفرع الثاني: خصائص الغرامة التهديدية
من حيث خصائص الغرامة التهديدية، فيمكن تحديدها في مجموعة من الخصائص (6):
تهديدية تحذيرية: لكونها تنبه المحكوم عليه إلى الجزاءات المالية التي سوف يتعرض لها إن هو استمر في الامتناع عن تنفيذ الحكم الصادر ضده، وهي تحذر المحكوم عليه إلى الالتزامات المالية التي سوف تثقل عاتقه في حالة امتناعه عن تنفيذ الحكم الحائز لقوة الشيء المقضي به؛
تحكيمية: لأنه يؤخذ في تحديدها بمدى تعنت المدين في تنفيذ التزامه الوارد بمنطوق الحكم المعني بالتنفيذ؛
لا يقضى بها تلقائيا بل بناء على المطالبة القضائية لصاحب الشأن، وهي تنقلب في نهاية الأمر إلى تعويض يحدد تبعا لطبيعة الضرر وأهميته ومداه الناتج عن الامتناع عن التنفيذ مع الأخذ بعين الاعتبار تعنت المدين.
الفرع الثالث: الأساس القانوني للغرامة التهديدية
انطلاقا من الاطلاع على القانون المحدث للمحاكم الإدارية، لا نجده ينص على مقتضيات خاصة لمواجهة امتناع الإدارة عن تنفيذ الأحكام الصادرة ضدها، لذا فالمرجع في حل الإشكال المطروح هو المادة السابعة (7) من القانون 90-41 المحدث للمحاكم الإدارية (8) التي تحيل على مقتضيات المسطرة المدنية.
ولا وجود بالمغرب لأي نص صريح يبيح فرض الغرامة التهديدية ضد الإدارة، كما لا يوجد بالمقابل نص يمنع الحكم بها، لذا فالقاضي الإداري المغربي يعتمد في فرضه الغرامة التهديدية على نظام وحدة القضاء، فمن جهة يقتضي تطبيق قواعد المسطرة المدنية على المنازعات الإدارية والمدنية على السواء، ذلك أن وحدة مسطرة التقاضي تؤدي منطقيا إلى وحدة مسطرة التنفيذ، خصوصا وأن المحاكم الإدارية تعتبر محاكم عادية مندرجة في النظام القضائي للمملكة مع تخصصها في المادة الإدارية.
ومن جهة أخرى فبالرجوع إلى الباب الثالث المتعلق بالقواعد العامة للتنفيذ من خلال الفصل 448 حيث نص على أن الغرامة التهديدية وسيلة من وسائل إجبار المحكوم عليه على التنفيذ في غياب أي نص قانوني يستثني الإدارة. والملاحظ أن كلمة المنفذ عليه الواردة بالفصل المذكور جاءت عامة مما يعني جواز إيقاعها سواء تجاه أشخاص القانون العام أو الخاص، وكلما تعلق الأمر بالامتناع عن تنفيذ حكم قضائي حائز لقوة الشيء المقضي به.
المطلب الثاني: القواعد التي تحكم تطبيق الغرامة التهديدية أمام القضاء الإداري
سنجيب في هذا المطلب على التساؤلات التالية: هل تفرض الغرامة التهديدية بالحكم أم أنها تكون بعده بناء على طلب من المحكوم لصالحه؟ هل يمكن أن تفرض الغرامة التهديدية على الإدارة أو المسؤول أم هما معا؟ ما الجهة القضائية المختصة للحكم بالغرامة التهديدية في القضاء الإداري، وكيف تتم تصفيتها أو المصادقة عليها؟
الفرع الأول: توقيت فرض الغرامة التهديدية
كنتيجة مترتبة عن الاطلاع على المقتضيات التي تحكم الغرامة التهديدية في علاقتها بالأحكام، يتبادر إلى الذهن التساؤل الذي مفاده: هل يجوز تحديد الغرامة التهديدية بمنطوق الحكم أم بعد تسجيل امتناع الإدارة عن التنفيذ؟ والجواب هو أن كلتا الفرضيتان معمول بهما قضاء، ففي:
الحالة الأولى تكون الغرامة التهديدية وسيلة تابعة لامتناع الإدارة عن تنفيذ الحكم الحائز لقوة الشيء المقضي به، وكجزاء لتقاعس الإدارة عن تنفيذ حكم صادر ضدها، ومن هنا فالمعني بالأمر الذي يصطدم الحكم الصادر ضده بامتناع الإدارة عن تنفيذه، يمكنه اللجوء مجددا للقضاء الإداري في إطار المسطرة القضائية المنصوص عليها قانونا للمطالبة بالحكم على الإدارة الممتنعة عن التنفيذ بالغرامة التهديدية لحملها على التنفيذ، بعد أن يثبت هذا الامتناع بالوسائل القانونية، لذلك فالغرامة التهديدية هنا تكون لاحقة على الحكم الأصلي لضمان تنفيذه بعد ثبوت امتناعها أو تماطلها في التنفيذ (9).
وكمثال على ذلك نستحضر حكم المحكمة الإدارية بالدار البيضاء بفرض غرامة تهديدية على رئيس المجلس الجماعي لبلدية برشيد من جراء امتناعه عن تنفيذ حكم قضائي صادر عن نفس المحكمة يقضي بأداء الجماعة لمبلغ مالي لشركة خاصة كمقابل للأشغال التي أنجزتها لفائدة هذه الجماعة (10).
أما الحالة الثانية فقد سار العمل القضائي بمختلف المحاكم الإدارية على تحديد الغرامة التهديدية في منطوق الحكم الذي أصدره وأن مجموع هاته الأحكام صدر الأمر فيها بإيقاف الأشغال تحت طائلة غرامة تهديدية قدرها… عن كل يوم تأخير عن التنفيذ.
وفي هاته الحالة لم يقرر القاضي الإداري الغرامة التهديدية لمواجهة رفض التنفيذ الحاصل فعلا ولم ينظر واقع عدم التنفيذ للحكم بالغرامة التهديدية، بل إن الأمر يتعلق باحتمال وقوع امتناع عن التنفيذ، فالقاضي هنا يتحسب اصطدام حكمه بمقاومة الإدارة وامتناعها عن التنفيذ. وتفرض الغرامة التهديدية كوسيلة احتياطية وسابقة لضمان التنفيذ و هاته الوسيلة التهديدية و الإكراهية يستعملها القاضي ليبين للإدارة ما سوف تتعرض له من جزاءات مالية في حالة امتناعها عن التنفيذ، ومؤدى ذلك فتحديد الغرامة التهديدية بمنطوق الحكم وبمعزل عن تسجيل الامتناع عن التنفيذ أمر جائز مادام أنه لا وجود لأي نص يمنعه، والغاية من تحديد تلك الغرامة التهديدية التي تعتبر ملازمة لمنطوق الحكم وأحد عناصره الأساسية أنها تحذر الإدارة من الالتزامات المالية التي سوف تتحملها إن هي امتنعت عن التنفيذ وهي وسيلة فعلية وذات أهمية (11).
و يجدر التأكيد على أنها وسيلة تضمن التنفيذ بشكل سريع وتغني عن اللجوء مجددا للقضاء للمطالبة بتحديد الغرامة التهديدية في إطار المسطرة الإجرائية التي يحكم على أساسها بالغرامة التهديدية باللجوء مجددا للقضاء الإداري كما رأينا بالحالة الأولى.
الفرع الثاني: تحديد الغرامة التهديدية بين الإدارة و المسؤول عن عدم التنفيذ
سنعمد في هذا الفرع مقاربة ثلاثة عناصر أساسية منها مسألة إيقاع الغرامة التهديدية على الإدارة وعلى المسؤول ثم إمكانية الحكم بها عليهما معا في نفس الآن.
الفقرة الأولى: إيقاع الغرامة التهديدية على الإدارة
صدرت مجموعة من الأحكام سارت فيها المحاكم الإدارية على الاتجاه نحو إيقاع الغرامة التهديدية، وأبانت بذلك رغبة القاضي الإداري في فرض احترام سلطته (12).
وتعد تعد قضية ورثة “العشيري” في الأمر الاستعجالي عدد 134 الصادر في 6 مارس 1997، بين ورثة عبد القادر العشيري والدولة المغربية، وتتخلص القضية في امتناع وزارة التربية الوطنية عن تنفيذ الأمر الاستعجالي الصادر ضدها في 20 دجنبر 1995 لفائدة ورثة العشيري والقاضي بإيقاف أشغال البناء الجارية على القطعة الأرضية المسماة “النوادر الهبطية” الواقعة بطنجة، حيث تقدم المحكوم لفائدتهم على إثر هذا الامتناع بمقال افتتاحي أمام نفس المحكمة يؤكدون فيه بأن عملية البناء مازالت مستمرة، مما ألحق بهم ضررا بليغا ويلتمسون لهذه الغاية الحكم على المدعى عليهم بأدائهم غرامة تهديدية يومية ابتداء من تاريخ الامتناع عن التنفيذ (13).
وتعد هذه القضية أول مبادرة شجاعة من القضاء الإداري المغربي، بعد إنشاء المحاكم الإدارية، قضت من خلالها المحكمة الإدارية بالرباط بفرض غرامة تهديدية على الإدارة بسبب عدم امتثالها للأمر الاستعجالي الموجه لها، ولقد أبان القاضي الإداري من خلال هذا الحكم على واقعية كبيرة تجلت في تفسيره الواسع لمقتضيات المادة 7 من القانون المحدث للمحاكم الإدارية، وتطبيقها تطبيقا يتماشى وروح القانون (14).
وقد تلا حكم قضية ورثة “العشيري” هذا العديد من الأحكام الأخرى الصادرة عن مختلف المحاكم الإدارية بمختلف درجاتها والتي حرصت بدورها على السير على نهج المحكمة الإدارية بالرباط (15).
الفقرة الثانية: إيقاع الغرامة التهديدية على المسؤول عن عدم التنفيذ
شكل تزايد عدد الأحكام الإدارية غير المنفذة خصوصا بعد إحداث المحاكم الإدارية، مما جعل رؤساء هذه المحاكم الموكول إليهم تصريف قضايا التنفيذ يبحثون عن الوسائل الممكنة للتخفيف من هذه الظاهرة، ومن بين الحلول التي تم التوصل إليها هو الحكم بالغرامة التهديدية ضد الموظف الممتنع عن التنفيذ من بعد ابتكار الغرامة التهديدية تجاه الإدارة.
و يعد حكم إدارية مكناس في قضية “العطاوي” مبادرة جريئة، أجازت الحكم بالغرامة التهديدية ضد رئيس الجماعة الحضرية لتونفيت أثناء امتناعه عن تنفيذ حكم بإلغاء قرار العزل من وظيفة جماعية (16).
و قد علل القاضي الإداري حكمه هذا، بكون قانون المسطرة المدنية المطبق أمام المحاكم يشير إلى الغرامة التهديدية كوسيلة من وسائل إجبار المحكوم عليه على التنفيذ، ولم يستثني المشرع أي طرف محكوم عليه من هذه الوسيلة، وبالتالي فإنه لا شيء يمنع من إقرار الغرامة التهديدية في مواجهة الإدارة أو المسؤول الإداري نتيجة امتناعهما الغير مبرر عن التنفيذ.
وقد عارضت الغرفة الإدارية بالمجلس الأعلى سنة 1999 فرض الغرامة التهديدية وقضت بإلغاء الحكم القاضي على المسؤول الإداري شخصيا (17)، و تعرض موقف المجلس الأعلى هذا إلى العديد من الانتقادات، بل إن بعض الكتابات اعتبرت أن المجس الأعلى في قرار “العطاوي” السالف الذكر قد تخلى عن فكرة الغرامة التهديدية (18)، لولا أن العمل القضائي اللاحق للمجلس الأعلى أثبت غير ذلك، إذ أيد فيما بعد بواسطة قرار آخر بتاريخ 22 أبريل 1999 في الأمر الاستعجالي الصادر عن المحكمة الإدارية بوجدة تحت طائلة غرامة تهديدية (19)، في مواجهة رئيس جماعة محلية ممتنعة عن التنفيذ. وأيدت فيما بعد المحاكم الإدارية توجهه في عديد من أحكامها وقراراتها.
ويعتبر هذا التوجه بإقرار الغرامة التهديدية اتجاه المسؤول الإداري شخصيا والذي امتنع عن تنفيذ حكم قضائي مسألة إيجابية وتخفف العبء على المال العمومي، كما أنها تضفي واقعية أكثر على الأحكام القضائية (20).
الفقرة الثالثة: إيقاع الغرامة التهديدية على الإدارة و المسؤول عن التنفيذ
راهن القضاء الإداري المغربي فيما مضى وتحديدا سنة 2007 على فعالية هذه الوسيلة لضمان تنفيذ الأحكام الصادرة في مواجهة الإدارة، وقد ذهب إلى فرض الغرامة التهديدية ضد الموظف والإدارة معا في حالة الامتناع وذلك في نفس الحكم، وهذا ما قضت به المحكمة الإدارية بالرباط، إذ صرحت بالغرامة التهديدية في مواجهة وزارة الداخلية وقائد قيادة “تاغرامت” وحددت المبلغ في 1000,00 درهم لكل واحد منهما عن كل يوم تأخير عن التنفيذ. وذلك في إطار إمكانية الجمع بين الخطأ الشخصي والخطأ المرفقي (21).
الفرع الثالث: الجهة القضائية المختصة للحكم بالغرامة التهديدية في القضاء الإداري
يقصد بالجهة القضائية المختصة الجهة التي لها صلاحية البت في فرض الغرامة التهديدية والحكم بتحديدها وتصفيتها. وتختص المحاكم الإدارية ومحاكم الاستئناف الإدارية في الحكم بالغرامة التهديدية سواء من قبل قضاء الموضوع بالحكم و التحديد و التصفية، أو في شخص رئيس المحكمة (22) ما لم يكن سبق وحكم بها من طرف قضاء الموضوع في الحكم الجاري تنفيذه، كما يملك صلاحية الزيادة فيها عند استمرار تعنت المدين ورفض الانصياع لتنفيذ الحكم، إلا أنهم لا يملكون تصفيتها لأن ذلك من اختصاص قضاء الموضوع وحده (23). وهذه المحاكم عندما تأمر بالغرامة التهديدية فإنها تأمر بها بمقتضى سلطتها الولائية لا بمقتضى سلطتها القضائية.
الفرع الرابع: تصفية الغرامة التهديدية
هنالك اتجاهين متعارضين في تصفية الغرامة التهديدية، اتجاه يعني بالتصفية إنهاء الغرامة التهديدية وإزالتها وتحويلها إلى مجرد تعويض، واتجاه آخر يرى أنها وسيلة للإجبار على التنفيذ وأن الغاية لا يمكن إدراكها إلا بتطبيق الغرامة وتنفيذها.
ونرى على أن القضاء في بعض الدول الأجنبية يأخذ بالاتجاه القائل بإنهاء الغرامة التهديدية، وتصفية ما يجمع منها من وحدات طيلة المدة الزمنية المستغرقة منذ فرضها، والحكم بها عن طريق تحويلها إلى تعويض. ويجد هذا الاتجاه سنده في قوانين هذه الدول التي جاءت واضحة وصريحة، وكمثال على ذلك القضاء المصري، فيما الاتجاه الآخر والذي يقضي بفصل الغرامة التهديدية عن التعويض، كونه لا يمكن تحويلها إلى مجرد تعويض لأن التعويض أمر عادي يستطيع المتضرر من عدم التنفيذ الحصول عليه متى توفرت شروطه.
وفيما يتعلق بالتشريع المغربي فإنه لم ينظم الحكم بالغرامة التهديدية، لذلك فإنه من الصعب وفي مسألة استثنائية كهذه قبول الاعتماد على الاقتباس ومحاكاة اتجاهات القضاء الأجنبي الذي يجد سندا في تشريعاته فيطبقها.
وفي هذا الصدد أصدر المجلس الأعلى سابقا عدة قرارات تفيد شرط وضرورة توفر الضرر لتصفية الغرامة وتحويلها إلى تعويض، بل إلى أبعد من ذلك أن عدم وجود ضرر ناتج عن عدم التنفيذ يكون الحكم بها ناقص التعليل الموازي لانعدامه.
وجاء في قرار المجلس الأعلى صادر تحت عدد 531 بتاريخ 22/02/89 في الملف المدني عدد 85/3725 ما يلي: [لما اقتصرت المحكمة في تحديد التعويض على مبلغ الغرامة مضروبا في أيام الامتناع عن التنفيذ دون بيان الضرر ونوعه ومقداره ودليل ثبوته تكون قد جانبت الصواب (24).
وعلى هذا الأساس، تكون المحاكم ملزمة بتطبيق الاجتهادات بموجب مقتضيات الفصل 369 من قانون المسطرة المدنية الذي تقول إحدى فقراته: “إذا بت المجلس الأعلى (محكمة النقض حاليا) في قراره في نقطة قانونية تعين على المحكمة التي أحيل عليها الملف أن تتقيد بقرار المجلس الأعلى (محكمة النقض حاليا) في هذه النقطة”. فتحول الغرامة التهديدية إلى مجرد تعويض هو رأي مخالف للنص التشريعي (25).
خاتمة
يمكن الخلوص في الأخير إلى أن القاضي الإداري بدل مجهودا لا يستهان به من خلال الاستناد على قواعد المسطرة المدنية وتحديدا أداة الغرامة التهديدية التي تناولناها إضافة إلى الحجز سواء منه التنفيذي أو لدى الغير، وكذلك من خلال انفتاح القاضي الإداري على آلية جديدة وهي الاتفاقيات الثنائية بين الإدارة والمحكمة الإدارية بموجبها تلتزم الإدارة بضرورة تنفيذ الأحكام الصادرة عن تلك المحكمة، وتجعل هذه الأخيرة ملزمة بمنح مهلة معقولة يكون للإدارة من خلالها الفرصة في تنفيذ الحكم بما لا يضر بالمصلحة العامة، إلا أنها تعتبر تنازلا عن مكتسب قانوني يمنحه الدستور في الفصل 126.
لكن على الرغم من المجهود الكبير و الجريء للقاضي الإداري من استلهامه و استنباطه لقواعد التنفيذ المعمول بها في القانون الخاص، فإنه لم يستطع إعطاء الفعالية الكاملة و المطلوبة لأحكامه الصادرة ضد الإدارة، كما أن المجهودات الحكومية المبذولة بهذا الخصوص لم تفلح في توعية و حث الإدارة على احترام مقتضيات الأحكام القضائية.
لكن رغم كل ما ذكر بخصوص إشكالية تنفيذ الأحكام القضائية الصادرة ضد الإدارة يلاحظ تطور نسبة تنفيذ الأحكام القضائية حيث بلغت نسبة تنفيذ الأحكام وفقا لقول وزير العدل خلال التسعة أشهر الأولى من سنة 2016 ل %53,45 بحيث لم تكن تتجاوز سنة 2006 نسبة % 29,26، و ذلك راجع للمجهودات التي بدلها القاضي الإداري، إضافة لمواكبة المشرع المغربي وتحديدا ما جاء به القانون التنظيمي للمالية و القوانين التنظيمية للجماعات الترابية، حيث أصبحت كل من الدولة و الجماعات الترابية تتوفر في ميزانيتها على بند يضم نفقات الأحكام و القرارات القضائية.
وفي انتظار دخول التعديلات التي جاءت بها مسودة قانون المسطرة المدنية إلى حيز التنفيذ الأمر الذي من شأنه أن يحد من ظاهرة امتناع الإدارة عن تنفيذ الأحكام أكثر فأكثر، خاصة و أنه تم وضع باب خاص بتنفيذ الأحكام الصادرة في مواجهة أشخاص القانون العام مما سيحد من حدة اللجوء لوسيلة الغرامة التهديدية من جهة و تحقيق الفعالية المرجوة منها من جهة أخرى وبالتالي تحقيق الفعالية في الحكم بها كما في القانون الخاص.
(محاماه نت)