دراسات قانونية
أسس التأهيل السياسي والإداري بالجماعات الترابية (بحث قانوني)
أسس التأهيل السياسي والإداري بالجماعات الترابية المغربية
عبداللطيف زرغيلي
باحث
تخصص “إعداد المجال والتنمية الترابية”، جامعة إبن طفيل كلية الأداب والعلوم الإنسانية، القنيطرة.
الحديث على التأهيل الإداري والسياسي وتحسين العلاقة بين المواطن والإدارة وتقديم الحلول المقترحة، كلها محاور تكون في حد داتها ورشا كبيرا يتطلب وحده مناظرات وبحوث وأيام دراسية. فمحيط الإدارة يعرف تطورا ملحوظا على مستوى متطلبات المواطنين الذين أصبحوا أكثر إلحاحا في طلب خدمات سريعة وذات جودة عالية وقريبة منهم، لذا وجب الإنتقال من “إدارة إدارية” نحو “إدارة مواطنة”. وذلك بتأصيل وإشاعة ثقافة المرفق العام داخل الإدارة وجعل التواصل مع جميع مكونات المجتمع المحلي من الإنشغالات المركزية والدائمة للإدارات العمومية، في إطار سياسة شمولية للإصلاح الإداري قوامها تأهيل الجهاز الإداري وإعداده لربح رهان التحولات الإقتصادية والإجتماعية الراهنة والمستقبلية. وما يقتضيه التأهيل من ترسيخ لسياسة القرب والمواطنة ودمقرطة الهياكل والمؤسسات المنتخبة وتحديث الإدارة. كما يتطلب الأمر إشراك الساكنة المحلية والإنصات إلى مطالبهم وتلبية حاجياتهم والعمل على إدماجهم في كل العمليات التي تهم واقعهم اليومي والمستقبلي وهذا ما سيساعد على استرجاع ثقتهم بالإدارة المحلية.
I- التصور الجديد لدور المجالس المنتخبة:
I-1 السمات الأساسية:
إن التصور الجديد لدور المجلس المنتخب يتميز بالسمات والخصوصيات التالية: توزيع الإختصاصات، المقاربة الجديدة لمحاربة الفقر والإقصاء وأهمية الشراكة والتعاون.
I-1-1 توزيع الإختصصاصات:
إن التحديد التشريعي لميدان تدخل المجلس المنتخب يكتسي أهمية كبرى على مستويات مختلفة.
فالتفصيل في الإختصاصات يساعد المنتخبين المحليين على الإستيعاب المباشر للمهام الإدارية والإجتماعية والإقتصادية الممكن ممارستها والتقنيات والأدوات الممكن اللجوء إليها في هذا الصدد. كما أنه من شأنه أن يلعب دورا بيداغوجيا خصوصا وأن الأمر يتعلق بمنتخبين ليسوا دائما على دراية كافية بالتقنيات الإدارية والتسييرية.
والتدقيق التشريعي للإختصاصات يسمح كذلك ولو بطريقة غير مباشرة بترشيد ممارسة وصاية الملائمة وبالتالي بتحديد نطاق وحدود مراقبة السلطة المركزية. فكلما كانت الإختصاصات مدققة كلما تحددث أكثر معالم الوصاية والعكس صحيح.
فالقانون الحالي357 يعتبر الجماعات كإطار للتنمية الشمولية وميز ما بين الإختصاصات الخاصة والإختصاصات القابلة للنقل من طرف الدولة والإختصاصات الإستشارية.
وتشكل هذه الطريقة مقاربة ديناميكية لأن السلطة المركزية ستشارك في تحديد تدريجي لمضمون اختصاصات المجلس الجماعي مع تكيف كمي وكيفي حسب التطور الإقتصادي والإجتماعي للامركزية الإدارية358. ونستشف من هذه التقنية أن هنالك اعتراف ضمني بوجود مجموعة اختصاصات تمارس على الصعيد الوطني والتي من المستحب نقلها للوحدات المحلية من أجل تحقيق الملائمة والسرعة في التقرير.
I-1-2 المقاربة الجديدة لمحاربة الفقر والإقصاء:
المقاربة التقليدية للامركزية تجاهلت مباشرة مشكل الفقر والنصوص التي صدرت سنة 1960 و1976 لم تولي اهتماما رسميا لدور اللامركزية الإدارية كوسيلة لمحاربة الفقر.
من المؤكد أن النصوص المشار إليها سابقا تشير إلى الفقر لكن بطريقة ضمنية خصوصا من خلال دراسة مخطط التنمية الإقتصادية والإجتماعية. وإذا كانت المقتضيات المتعلقة بالإستمرارية والحياد والفعالية وملائمة المرافق العامة المحلية قليلة أو إستثنائية فإن ميكانيزمات حماية الأقليات بالمعنى الإقتصادي والإجتماعي كالفقراء والمعاقين والرحال والأشخاص ذوي السكن غير اللائق غير منصوص عليها بتاتا359.
من هنا تأتي محدودية المقاربة التقليدية للفقر وبضرورة ملامسة هذه الظاهرة في إطار مقاربة شمولية ترتكز على مفاهيم أساسية جديدة وعصرية في النظام اللامركزي. وذلك من خلال تنمية الوعي الجماعي في المساندة والدعم والتضامن وكل عمل ذي طابع إنساني أو إحساني والمساعدة والإدماج الإجتماعي للأشخاص المعاقين وكل الفئات التي توجد في وضع صعب ومحاربة الأمية.
هذه المقاربة الشمولية تعني ضرورة الإهتمام بكل الحقوق سواء كانت مدنية سياسية أو ثقافية أو إجتماعية واقتصادية وذلك من أجل حماية فعالة وواقعية.
هذه المقاربة الجديدة للامركزية الإدارية في علاقتها مع الفقر والإقصاء ستلعب دورا أساسيا في تقوية الآليات القانونية الأخرى التي أنشئت من طرف الدولة لمحاربة الفقر، والأمر يتعلق أساسا ببعض التقنيات والمؤسسات نذكر من بينها القانون رقم 10.79 المتعلق بالسلفات الصغرى التي تشكل في نفس الوقت وسيلة للإدماج ولمحاربة الفقر والقانون رقم 12.99 المحدث لوكالة التنمية الإجتماعية، والهدف من خلق هذه المؤسسة هو المشاركة في تمويل أنشطة التنمية الإجتماعية في بعض الميادين الأساسية والحيوية مثل التزود بالماء الكهرباء وبناء الطرق وتعليم الأميين…إلخ.
I-1-3 أهمية الشراكة والتعاون:
إن الشراكة والتعاون من شأنها أن تنعش التنمية الإقتصادية والإجتماعية والثقافية للجماعة المحلية وذلك مع الإدارة والأشخاص المعنوية الخاضعة للقانون العام والشركاء الإقتصاديين والإجتماعيين أو مع كل جماعة أو منظمة أجنبية.
فالتعاقد رافعة من رافعات التنمية الإجتماعية والإقتصادية وما يقوي هذا التوجه هو تنامي الظاهرة الجمعوية على المستوى المحلي.
كما للتعاقد علاقة طبيعية مع اللامركزية، لأن الوسيلتين ترتكزان على مبادئ مشتركة مثل الإستقلالية والمسئولية360.
ولتجسيد هذه الشراكات والتعاقدات يجب تغيير مفهوم السلطة العامة من خلال التقليل من القرارات الإدارية الإنفرادية لصالح التقنيات التفاوضية. فالتسيير بالدوريات والأوامر التسلسلية يجب ان يتقلص ليترك المجال للتعاقد. فالتشاور هو قاعدة أساسية في المعاملة الإدارية والسياسية خصوصا وأن التعاقد يشكل الوسيلة الطبيعية لتجسيد الشراكة في إطار تقوية الإختصاصات والمهام.
ومن بين الإيجابيات التي يتسم بها التعاقد في هذا الإطار هو الإمكانية المتاحة للجماعة المحلية بأن تحصل على التمويلات الخارجية لمشاريعها الخاصة.
وتجدر الإشارة إلى أن هذا التوجه يشكل مؤشرا على أن اللامركزية الإدارية يمكن أن تعرف تطورا عميقا من حيث طبيعتها الداخلية إذ نمر من لامركزية تقليدية تتأسس على متدخلين فقط وهما ممثل الدولة المركزية والمنتخب، إلى مفهوم جديد للامركزية عصرية تعتمد على عدة متدخلين: الإدارة، الجماعة المحلية، المجتمع المدني، الخواص والمتدخلون الإقتصاديون…إلخ.
II- دعامات التصور الجديد لدور المجالس المنتخبة:
يمكن القول إن هناك ثلاث دعامات كمرجعية لتحديد تصور جديد لدور المجلس الجماعي: المفهوم الجديد للسلطة، التدبير العمومي المحلي أو المناجمنت ثم تقنية الحكامة.
II-1 المفهوم الجديد للسلطة:
يقتضي المفهوم الجديد للسلطة الأخد بعين الإعتبار حقوق الجماعات المحلية، وبعبارة أدق إن هذا المفهوم يفضي إلى تطبيق مبدأ المساواة في المعاملة بين الحقوق والحريات الفردية والجماعية من جهة وحقوق الجماعات المحلية من جهة أخرى361.
والجدير بالذكر أن حماية الشؤون المحلية هي في الحقيقة تكميلية لحماية الحقوق الفردية والجماعية لأن المواطنين لديهم عدة حقوق يدافعون عنها على المستوى المحلي في مواجهة السلطة المحلية المنتخبة أو المعينة. إن اللامركزية الإدارية تجسد الديمقراطية المحلية التي تعتمد أساسا على الإدارة المجاورة وحماية الحقوق الأساسية كالصحة والسلامة وصيانة الطرق وكل ما يتعلق بالبيئة … وهذا الإعتبار يبرر لوحده توسيع وتدقيق اختصاصات المجلس الجماعي362.
يقتضي المفهوم الجديد للسلطة منطقيا تخفيفا مهما من الوصاية، مما يعني أن الجماعة المحلية يجب أن تتمتع باستقلال إداري ومالي كبير يؤدي إلى ميلاد إستقلال حقيقي وفعلي.
كما أن المفهوم الجديد للسلطة يستلزم كذلك ضرورة تقوية إختصاصات الجماعة المحلية وبالتالي الزيادة في مسؤولياتها..
فالمفهوم الجديد للسلطة ينطوي على مفهوم جديد للدولة يرتكز على مبدأ التفريع Principe de Subsidiarité، بمعنى أن الإقليم يقوم بما لا يمكن للجماعة أن تقوم به، والجهة تقوم بما لا يمكن للجماعات الأخرى أن تقوم به والدولة تمارس الإختصاصات التي لا يمكن إسنادها للجماعات المحلية. سيتم تشييد الدولة من القاعدة إلى القمة ولا يمكن أن تتدخل في المستقبل إلا على أساس تخلفات ونقائص وعجز الجماعات المحلية والمجتمع المدني363.
لكن هذا المفهوم الجديد في تشييد الدولة لا يعني استقالة الدولة على المستوى المحلي، بل على العكس من ذلك إن المستوى المحلي مدعو لكي يصبح أكثر فأكثر الإطار الملائم والمفضل للتدخلات غير المباشرة للدولة عبر التنظيم والتحكيم وإعادة التوازن بين الجماعات المختلفة.
يفضي المفهوم الجديد للسلطة في آخر المطاف إلى تقوية اللامركزية نظرا للإيجابيات التي تنطوي عليها: تقسيم سلطة التقرير، تقوية المبادرة للمسيرين المحليين والمسؤولين المنتخبين تجاه الناخبين، تسهيل المبادرة الإقتصادية المحلية وتوسيع إمكانية تدخلات المجتمع المدني…إلخ.
II-2 التدبير العمومي المحلي “المناجمنت”:
إن تحول الجماعة المحلية إلى مقاولة حقيقية يؤدي حتما إلى إعطاء دلالة جديدة لمفهوم اللامركزية الجماعية. وذلك من خلال إستعمال تقنيات المناجمنت أو التدبير العمومي المحلي في الإختصاصات المنوطة بالمجلس الجماعي.
هذا وتقتضي حصيلة اللامركزية بالمغرب على مستوى التجربة والنخبة والأطر والموارد وعلى مستوى المهارة في تدبير الشؤون المحلية وضع تدبير دقيق وواضح لحقوق وحريات ومسؤوليات الجماعات لأن ذلك سيجنبها القيام بنفس الأعمال والتداخل في الإختصاص والنقل الإعتيادي للأعباء وارتفاع التكاليف المالية، كما يمكنها من توجيه إمكانياتها نحو أهدافها الحيوية فضلا عن تحديد مسؤولياتها والتزاماتها المتبادلة364.
ومن الناحية النوعية يجب نهج أسلوب جديد في التعامل يفضي إلى تحول في طبيعة الجماعة المحلية كوحدة لامركزية. وبمعنى أوضح لا يجب إعطاء الأولوية إلى التسيير الإداري، فالجماعة مدعوة لأن تصبح مقاولة بالمعنى الإقتصادي للكلمة. وفي هذا السياق إن الهدف من ممارسة الإختصاصات هو السعي إلى تحقيق التنمية الإقتصادية والإجتماعية التي من شأنها أن تؤدي إلى خلق مناصب جديدة للشغل.
فالإختصاصات الجماعية تشكل مصدرا لخلق مناصب جديدة لتشغيل العاطلين. ويمكن تحقيق ذلك بطريقة مباشرة بتهييئ الشروط الملائمة والضرورية خصوصا بواسطة برامج التجهيز وإنعاش وتشجيع الإستثمارات الخاصة كإنجاز البنيات التحتية والتجهيزات وإقامة مناطق للأنشطة الإقتصادية وتحسين ظروف المقاولات، أو بطريقة غير مباشرة بواسطة خلق المرافق العامة المحلية.
كما أن التدبير المفوض يشكل طريقة تسييرية من شانها أن تساهم في خلق مناصب شغل، حيث يمكن للجماعة المحلية في حالة العسر أو الضيق أن تتوجه إلى مجموعات خاصة قادرة على تعبئة تكنولوجية متطورة ورؤوس أموال كبرى365.
فهذه الوسيلة تقوي الحس المقاولاتي لدى السلطات المحلية نظرا لبعض إيجابياتها. فهي تسمح للجماعة بأن تتجاوز الإختيار بين التدبير العمومي والتدبير الخاص لأنها تحرر المجلس من الهموم المالية وتمنحه في نفس الوقت القدرة على السيطرة على التسيير. والتدبير المنتدب من شأنه كذلك أن يحقق تسييرا إقتصاديا إيجابيا في التسيير المباشر، كما أن هذه الطريقة تصاحبها عادة إنجاز برامج متعددة للأشغال المرتبطة بالمرفق المراد تسييره366.
وبصفة عامة، فإن التدبير المفوض يعتبر بمثابة استمرارية قانونية لتقنيات الإمتياز والإجارة، كما يمكن أن يعتبر نموذجا مستقبليا لتوحيد أشكال التدبير الغير المباشر.
II-3 الحكامة La Gouvernance:
II-3-1 مفهوم الحكامة:
يعتبر مفهوم الحكامة الجيدة من أكثر المفاهيم المتداولة اليوم في مختلف النقاشات الدائرة بخصوص إصلاح الدولة والمجتمع. فهو يندرج ضمن شبكة مفاهيمية مهمة لكونه يرتبط بالأساس بمجموعة من المفاهيم من قبيل (التنمية، المجتمع المدني، المواطنة، دولة الحق والقانون،… إلخ)، كما ينطوي هذا المفهوم على سيرورة تاريخية خاصة من حيث ارتباطه بكيفية إدارة الحكومات للشأن العام. لذلك أصبح لفظ الحكامة الجيدة يفيد معنى الرقابة والتوصية والتدبير، وأصبح منظرو الليبرالية الجديدة يلحون على أن هذا المفهوم يعني الجمع بين الرقابة من الأعلى (الدولة) والرقابة من الأسفل (المجتمع المدني)367، مما يفرض علينا رصد البعد المفاهيمي للحكامة الجيدة خاصة من حيث اشتقاقها اللغوي أو الإصطلاحي:
ما ينبغي الإشارة إليه، هو أنه من الصعب تقديم تعريف مضبوط ومحدد للحكامة الجيدة يكون شاملا لكل العناصر والمرتكزات المحيطة بهذا المفهوم، كما أنه يلاحظ أيضا غياب مرادف عربي موحد لهذا المصطلح368. إلا أن الحكامة تبقى أكثر هذه المصطلحات ذيوعا واستعمالا في اللغة العربية كاشتقاق لكلمة الحكمة، في إحالة منه على نوع من الجودة والإتقان في التدبير.
لكن الأبحاث المتعلقة بأصل هذا المفهوم في اللغات الأجنبية، تأكد على أن للحكامة أصل يوناني “Kubernan” تم إنتقلت الكلمة إلى اللغة اللاتينية تحت لفظ “Gubernance”، لتستعمل في اللغة الفرنسية القديمة للدلالة على الفن أو طريقة الحكم “كمرادف للحكومة”، على أنها انتقلت فيما بعد ذلك للإستعمال إلى اللغة الإنجليزية في القرن الرابع عشر تحت اسم “Governance”، وبعد ذلك إختفى اللفظ وانتقل إلى عالم القدم والنسيان في اللغة الفرنسية باعتباره شريكا للنظام القديم، غير أنه بقي حيا في اللغة الإنجليزية، ليستعمله النبلاء ورجال السياسة والحكام، ثم ليتناوله بعد ذلك الكتاب والباحثون وغيرهم369.
إن دراسة الإشتقاق اللغوي لمصطلح الحكامة من خلال العديد من القواميس العربية370، لم تسفر على أية نتيجة، ذلك أن هذه الكلمة دخيلة الإستعمال في اللغة العربية فهي ترجمة حرفية للكلمة الفرنسية Gouvernance، ذلك أن العديد من المفاهيم قد لا يكون لها ترجمة حرفية باللغة العربية تعكس نفس المعنى أو الدلالات التي تعكسها باللغة الإنجليزية أو الفرنسية، ويعد مفهوم الحكامة مثالا حيا على هذه المسألة. فالمفهوم باللغة الإنجليزية هو Governance الذي لوحظ عند ترجمته إلى اللغة العربية وجود أكثر من ترجمة لا تعكس بدقة دلالة المفهوم وخريطته والهدف المقصود منه.
وبينما تبنت الأمم المتحدة مفهوم الحكامة الجيدة تعبيرا عن Governance فإنه يمكن القول: إن هذه الترجمة لا تتفق والمقصود بها في اللغة العربية، حيث يعكس مصطلح الحكامة الإطار المرجعي الكلي أو مصدر ومرجع المسلمات المعرفية والفلسفية لسياسة أو توجه ما، ومن ثم فإنه لا يمكن تصور أن أي شخص عندما يذكر أمامه مصطلح “الحكامة” سوف يتعرف على المعنى المراد في مصطلح اﻠ Governance باعتباره سيتحدث عن الدولة والمجتمع والفاعلين الأساسيين بالدلالة سالفة البيان. وبالإضافة إلى ذلك فإن مصطلح “الحكامة” في حد ذاته يحمل صبغة دينية وتاريخية قد تجعل الباحثين في هذا المجال يتوقعون الحديث عن التصور الإسلامي للحكم والدولة، أو نشأة وتفعيل المفهوم في فترة تاريخية معينة371.
ويعود إستعمال الحكامة الجيدة في بادئ الأمر بفرنسا خلال القرن 12م كمرادف لفن وطريقة الحكم، حيث اتخذ حينها معنى تقني محض. وفي بريطانيا فقد اعتمد المؤرخون الإنجليز على مصطلح الحكامة كإحدى الخصائص المميزة للسلطة الفيودالية من خلاله تتحدد آليات تنظيمها372. وقد ولج عالم الإقتصاد خلال القرن 19م مع ظهور المقاولة الصناعية نظرا للحاجة إلى حفظ التوازن الإقتصادي بنهج المراقبة على المستوى الصناعي. وبعد ذلك إختفى مصطلح الحكامة من القاموس السياسي والإقتصادي بأوروبا، ليطفوا إلى السطح من جديد في الخمسينات من القرن الماضي بطرحه من طرف البنك الدولي373. وسيبرز هذا المفهوم بقوة سنة 1989 من خلال تقارير البنك الدولي، كإمكانية يمكن البحث بواسطتها عن ممكنات التنمية الإقتصادية ومحاربة الفساد في الدول النامية وخصوصا الإفريقية منها.
ومنذ أن عاود مفهوم الحكامة الجيدة الظهور من جديد شهد تطورا مفاهيميا مرتبطا بحيثيات بروزه وبحاجات استعماله للتعبير عن أبعاد بعض التصورات والسياسات العامة، شكلت الفضاء المناسب لمعاودة هذا الظهور داخل المقاولة كدلالة على مجموع الترتيبات الرامية إلى التدبير الأمثل للتنسيق الداخلي وللتشارك مع الفاعلين بمحيطها، وابتداء من ثمانينات القرن الماضي، استعملت الحكامة الجيدة في أوساط الأعمال لمقاربة أنماط تدبير وتنظيم المؤسسات العمومية والعلاقات الدولية، خاصة على مستوى المؤسسات المالية الدولية.
والحكامة بصفة عامة هي كفاءة المجتمعات الإنسانية على التوفر على أنظمة تمثيلية ومؤسسات وقواعد وبنيات ومساطر ووسائل التقييم وهيئات اجتماعية قادرة على ممارسة السلطة وتسيير وتدبير الترابطات والروابط بطريقة سليمة374.
وقد توسع استعمال مفهوم الحكامة الجيدة لينتقل إلى مجالات تدبير الفعل العمومي حسب مناهج مختلفة وصيغ متنوعة، لكن ضمن عناصر مشتركة أهمها:
التنسيق بين فاعلين متعددين،
الصيغ التفاعلية المختلفة للمساهمة في صياغة السياسات العامة،
مجموع أنماط تدبير الأعمال المشتركة، والتعاون والتوفيق بين مختلف المصالح والصراعات،
وتلح الحكامة الجيدة من حيث مقاربة تغييرات العمل العمومي على:
إعادة النظر في القطبية الحكومية الأحادية على صعيد تدبير الشؤون العامة وتقديم صيغ جديدة للضبط والمسؤولية واتخاذ القرارات،
تداخل السلط المرتبطة بالعمل العمومي المستوجب لمسلسل التفاعل والتفاوض والمشاركة لمعالجة جماعية للمشاكل وتحقيق أهداف ومشاريع مشتركة.
وبصفة عامة، تنبع مبررات الإنشغالات من الأزمات الحكومية الناتجة عن أنماط التدبير العتيقة، وعن السلطات الزجرية ومن خلال سوء التسيير الذي يميز العمل العمومي. وكذا، على أساس منهج تحليلي متكامل، يقدم مفهوم الحكامة الجيدة إطارا مفاهيميا لمقاربة مسلسلات إدارة وتحديد توجه التغيرات التي يجب إدخالها على تدبير العمليات المتعددة وذات أهداف متنوعة.
هذا الإطار يمكن حصره في حقل تتمثل فيه الحكامة كمنهجية تدبيرية، وفي هذه الحالة يتمحور الإهتمام حول السياسات العامة، وأنماط التنسيق والتشارك بين الفاعلين متعددين، وحول المشاكل التي تبرز من خلال تدبير هذه الجوانب، وكذلك حول إمكانية تحديث الهياكل الحكومية وتغيير أنماط تنظيمها وتدبيرها.
وبصفة أوسع، يمتد الإطار المفاهيمي للحكامة الجيدة إلى مقاربة إشكالية توزيع السلط والمسؤوليات، وأنساق اتخاذ القرار، وأدوار مؤسسات النظام الإجتماعي والسياسي. ويتضمن أيضا إشكالات دمقرطة تسيير الدولة والتعبئة المدنية والمبادرات المحلية والمواطنة، لأن الغاية من منهج الحكامة الجيدة في نهاية المطاف هو تحليل كل هذه القضايا في تفاعلاتها، واقتراح الإصلاحات والتغييرات المناسبة لضمان تنمية اجتماعية واقتصادية وتجانس اجتماعي مستديم، وهو أمر جعل منها أحد الأدوات والآليات التنموية المسيطرة في خطابات المؤسسات الدولية.
II-3-2 الحكامة المحلية: المفهوم والمبادئ:
هنالك العديد من الإجتهادات في مسألة تعريف الحكامة المحلية. وأغلب التعريفات ذات بعد سياسي أكثر، فالحكامة المحلية هي عبارة عن حكم محلي يقصد فيه ممارسة السلطة السياسية والإقتصادية والإدارية لتسيير شؤون الجماعات المحلية، وهي تشمل إلى جانب هذا الأخير، على الدولة والقطاع الخاص ومؤسسات المجتمع المدني وتعمل على تفعيل مفهوم المشاركة فيما بينها. فالحكامة المحلية تعبر عن الحالة أو الوضع الذي يعطى فيه حق المشاركة في إتخاذ القرار للمستويات الإدارية المحلية، دون أن يلغي ذلك حق الإدارة المركزية في إتخاذ القرار، فهي إذن أسلوب في العمل يقوم على مبدأ توزيع سلطة صنع القرار والصلاحيات بين المركزية وهيئات أخرى مستقلة تتواجد في الأقاليم والتجمعات السكانية المختلفة375. ويمكن القول بأنها عبارة عن منظومة أو شكل الحكم المحلي الذي يعزز ويدافع ويقوم على توسيع قدرات الشعوب والتنوع في خياراتهم وحرياتهم الإقتصادية والسياسية والإجتماعية ويجب أن يؤدي إلى تحقيق مصلحة المواطنين العامة، ورغم كونية مبادئ الحكامة الجيدة، فإن الأمر بالنسبة للحكامة المحلية يختلف، ذلك أن كل منطقة بل وحتى كل بلد يتطور في إطار سياق سياسي واجتماعي متفرد يحدد مختلف التوجهات والمبادئ التي تحكم مسار تطبيق الحكامة داخله.
أما تحديد المبادئ الأساسية للحكامة الجيدة يتفاوت وفقا لإختلاف وجهات النظر للدارسين لها، ذلك أن تعدد المعايير والتصورات المعتمدة فيها، بين معايير سياسية واقتصادية واجتماعية وإدارية من جهة، وتعدد الفاعلين من جهة اخرى والذي يشمل الدولة ومؤسساتها والإدارة والمجتمع المدني والقطاع الخاص والمواطنين. كلها عناصر تجعل من تحديد مبادئ الحكامة الجيدة والحكامة المحلية ضرورية علمية حتى يتسنى لنا رصد مظاهر الإختلاف المطروحة من خلال العناصر المبينة في الجدول أسفله:
جدول رقم 67: تصنيف معايير الحكامة لدى بعض المؤسسات الدولية
معايير منظمة التعاون الإقتصادي للتنمية معايير البنك الدولي بالنسبة لشمال إفريقيا
دولة الحق والقانون،
إدارة القطاع العام،
خفض النفقات العسكرية،
السيطرة على الفساد.
التضمينية،
المحاسبة،
الإستقرار السياسي،
فعالية الحكومة،
نوعية تنظيم الإقتصاد،
حكم القانون والمعاملة بالمساواة والمشاركة وتأمين فرص متساوية للإستفادة من الخدمات التي توفرها الدولة، والتحكم في الفساد.
المصدر: التقرير الختامي لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، 1997، ص 18. -تركيب شخصي-
ولعل دراسة برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (PNUD) أعطت الموضوع الأهمية في الدراسة والتحليل لتحديد ماهية المبادئ الأساسية للحكامة الجيدة، وفي هذا الصدد يمكن تحديدها على الشكل التالي376:
جدول رقم 68: تصنيف معايير الحكامة الجيدة حسب برنامج الامم المتحدة الإنمائي
المعايير التعريف
المشاركة تعني حق الجميع للمشاركة في إتخاذ القرار، إما مباشرة أو بواسطة مؤسسات شرعية وسيطة تمثل مصالحهم، وتركز المشاركة الرحبة على حرية التجمع وحرية الحديث أو إبداء الرأي وعلى توفر القدرات للمشاركة في بناء الدولة الحديثة.
حكم القانون أي أن القانون هو المرجعية الأساسية وسيادته على الجميع بدون إستثناء، وفصل السلط واستقلالية القضاء. وهو ما يفرض على الأنظمة والقوانين أن تكون عادلة وتنفذ بنزاهة، سيما فيما يتعلق بحقوق الإنسان وضمان مستوى عال من الامن والسلامة العامة في المجتمع.
الشفافية والفعالية وهو ما يساعد في إتخاذ القرارات الصالحة ومن أجل توسيع دائرة المشاركة والرقابة والمحاسبة، وتوفير المعلومات الدقيقة في وقتها وإفساح المجال أمام الجميع للإطلاع على المعلومات الضرورية ومحاصرة الفساد.
الشرعية وهي أن تكون السلطة مشروعة من حيث الإطار التشريعي والمؤسسي والقرارات المحددة من حيث المعايير المرعية في المؤسسة والعمليات والإجراءات التي يجب أن تكون مقبولة لدى العامة.
العدالة والمساءلة والمساواة أي أنه من حق كافة أفراد المجتمع الحصول على الفرص الكافية لتحسين أوضاعهم أو الحفاظ عليها، ويكون متخذو القرارات في القطاعين العام والخاص، وفي تنظيمات المجتمع المدني مسؤولين أمام الجمهور وأمام من يهمهم الأمر ولهم مصلحة في تلك المؤسسات.
اللامركزية تعتبر جزءا مكملا لمنطق الديمقراطية المحلية، التي تعني قوة الجمهور في إختيار نظام وأشكال الحكم بواسطة الجماعات المحلية، وتمثيلهم فيها، وسياساتها وخدماتها، حيث من الضرورة بمكان عند تصميم السياسات العامة على الصعيد المحلي التأكيد على توفير عمليات المساءلة، الشفافية، والإستجابة من خلال الفعاليات المجتمعية لمختلف الشروط الديمقراطية والتنمية المحلية.
الرؤية الإستراتيجية تتخذ من قبل مؤسسات المجتمع والدولة من خلال منظور بعيد المدى لعملية التطوير المجتمعي والتنمية البشرية المستدامة، مع توفير الوضوح في رسم البدائل تأخذ بالإعتبار المتغيرات المحلية والدولية الحالية والمستقبلية.
المصدر: التقرير الختامي لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، 1997، ص 19 –تركيب شخصي-
فالحكامة المحلية هي مختلف الإمكانات والآليات التي من خلالها يمكن للمنتخبين المحليين ترشيد وعقلنة تدبيرهم للشأن العام المحلي بشكل جيد، وكذا مأسسة الفعل والقرار الإداريين وتدبير الموارد البشرية المحلية بشكل خاص.
وتتعلق الحكامة المحلية، إذن، بمجموع التقنيات والأدوات التدبيرية التي تسعى إلى ترشيد النظام الإداري والمالي والبشري بهدف تحقيق أقصى النتائج من خلال التركيز على مبادئ المرونة والشمولية والمصداقية والشفافية…377. وهكذا، فالحكامة المحلية تمكن المنتخبين المحليين من إعادة بناء مفهوم السلطة والحكم على أسس ومبادئ النجاعة والمأسسة والمسؤولية … وتمكنهم من إستثمار مختلف الإمكانات التواصلية والتدبيرية من أجل بلورة فعل إداري لصالح مرتفقي الجماعات المحلية. وفي هذا الإطار يمكن للمنتخبين المحليين إعتماد الأسلوب التعاقدي الذي يمتاز بمرونته وفعاليته باعتباره أداة تساعد على التخفيف من ضغط الرقابة، كما تمكن من تحقيق تخطيط إستراتيجي للفعل العمومي المحلي378.
وعلى هذا الأساس لا يمكن أن تقوم الوحدات المحلية بهذا الدور إلا باعتماد مقاربة تنموية في بعدها الشمولي، والتي ترتكز على مختلف المبادئ والمقومات الأساسية التي تقوم عليها الحكامة المحلية، وتلخص العديد من الدراسات التي قام بها العديد من الباحثين379 في مجال الحكامة المحلية هذه المبادئ فيما يلي:
مبدأ المقاربة الترابية:
أصبح التراب المحلي يشكل حجر الزاوية للحكامة المحلية حيث أن كل تنمية اقتصادية واجتماعية تدعمها دينامية ترابية محلية.
لتسيير الموارد البشرية والشراكة ولسوق الشغل وللعطاء المضاد ولخلق علاقات الثقة380. ويجد هذا العنصر أساسه في العناصر التالية:
يشكل التراب المحلي الفضاء الأكثر اندماجية للمستويات الموضوعية والإنسانية والإجتماعية،
يشكل التراب المحلي الإطار الأكثر إجرائية لتنفيذ السياسات العمومية ومتابعتها (سواء في المجال الإقتصادي أو الإجتماعي أو الإيكولوجي…إلخ)،
يمثل التراب المحلي المرجعية الأكثر تجديدية لتطوير منظومة الحكامة نفسها في ارتباطها بالخصوصيات المجتمعية المحلية في ضوء مبدأ المقاربة الترابية، ويجعلها ترتكز أكثر على مفهوم تدبير الشأن الحضري.
وبناء على هذا التوجه فإن المقاربة الترابية تفرض نفسها من خلال كون التراب يشكل المستوى الذي يمكننا من تقدير وتقييم التنمية الإقتصادية والإجتماعية، وفي علاقتها بالمحيط والمجتمعات الأخرى انطلاقا من الشراكة والمسئولية على المستوى المحلي بشكل واقعي381.
مبدأ الثانوية الفاعلة:
إن سمو المقاربة الترابية هو جزء لا يتجزأ من مبدأ الثانوية الفاعلة، حيث أن الحكامة المحلية تنبني على اللامركزية واللاتمركز لصالح الجماعات المحلية التي تنبع منها السلطة عن طريق السكان وممثليهم المحليين382. يقوم هذا المبدأ على قاعدة أن كل مستوى ترابي من مستويات الحكامة، يلزمه إعطاء أجوبة نوعية ومحددة لتساؤلات وقضايا مشتركة، بمعنى آخر ينطلق ذات المبدأ من أن الوحدات الأدنى هي صاحبة الإختصاص ولا تتدخل الدولة إلا عند عجز هذه الوحدات. فالمقاربة الثانوية أو مبدأ الثانوية (مبدأ التفريع)، مؤداه ضرورة تجاوز التعارض التقليدي بين التداخل في الإختصاص الذي يحد من فعالية ونجاعة التدخلات العمومية، أي أن ذات المبدأ يقضي بضرورة توضيح الإختصاص بين مستويات الحكامة وتعبئة العلاقات بينها، كما أن التعاون بين هذه المستويات يصبح أساسيا ومركزيا في تشكيل هندسة الحكامة383.
تنظيم التعاون بين الفاعلين المحليين:
تعطي الحكامة المحلية الصبغة الجماعية للمجموعة البشرية من خلال بلورة الحوار والشراكة بين كل محفزي العمل الجماعي، وهذا يستلزم تغييرا ثقافيا جذريا لدى الحكام والإداريين والموظفين وتغييرا كذلك في المساطر384، ويتأتى هذا التنظيم التعاوني في إطار نهج المقاربة التشاركية كآلية لتدبير الشأن العام المحلي، باعتبارها إحدى منهجيات العمل المرتبطة بتدبير الشأن العام المحلي والوطني، فهو عمل تشاركي يتضمن عنصر الحوار وعنصر الإلتزام كنتيجة للتواصل والحوار، وعنصر الإعتماد على المعنيين المباشرين في تحديد الإحتياجات والأهداف إضافة إلى عنصر وضوح القرارات ودقتها385.
ويرتبط كذلك التنظيم التعاوني أكثر بطبيعة القدرات التي يتمتع بها الفاعل المحلي خاصة في مستواه الرسمي. فالحكامة المحلية، ووفق هذا المبدأ تتطلب من السلطات العمومية أن تعرف كيف تدخل في حوار وشراكة مع الفاعلين الآخرين، أي القدرة على بناء علاقات تواصلية وتعاونية مع مختلف المتدخلين. وقد يكون من الأفيد الإقرار بأن الدول التي نجحت في قيادة التنمية، هي تلك الدول التي تتوفر على القدرة والكفاءة في تنظيم وتعبئة كل الفاعلين حول مشروع مشترك. والحكامة في ظل مبدأ التعاون والتعاضد، ستفيد العمل الجماعي والإشراك في تدخل وأدوار مختلف الفاعلين المحليين386.
وداخل هذا التصور، يحتاج التنظيم التعاوني بين الفاعلين المحليين في بعض الحالات إلى تعميق وتنظيم وتأطير أكبر من أجل الرفع من نجاعتها وحسن أدائها، وإن ضرورة تعميق التفاعلات تفرض نفسها بحدة أكبر كلما كانت الموارد (البشرية والمالية والمادية) قليلة. وهناك عوامل عديدة تتحكم في خلق الشراكات ومنها ظهور نمط من التدبير الذي يعتمد على التشارك وعلى الجهود الجماعية، بل إن هناك الكثيرين ممن يرون أن ذلك يقوم أيضا على تقوية الشراكات المحلية بين الجماعات المحلية والمصالح اللامتركزة (الإدارة والمؤسسات العمومية اللامتمركزة) والشركاء النشيطين في الوسط الإنتاجي (القطاع الخاص)، والجمعوي (المنظمات غير الحكومية والمنظمات النسائية وجمعيات الساكنة) المحلية.
تطبيق الشرعية والمشروعية:
إن الحكامة الشرعية تتجسد في ممارسة سلطة تنظمها مجموع القواعد والمبادئ النابعة من التقاليد أو المسجلة في الدستور والقوانين المكتوبة، أما الحكامة المشروعية تمارس فيها السلطة السياسية والإدارية من طرف بعض أشخاص صلحاء في تحقيق المصلحة المشتركة من خلال الإنخراط العميق للساكنة وللمجتمع بأكمله في الطريقة التي تسير بها الشؤون العامة387.
المبدأ الشامل للمسؤولية:
إن مبدأ المسؤولية بالإمكان إعتباره “المبدأ الإستراتيجي” في مجال الحكامة المحلية، خاصة في ظل تنامي آلة الفساد وما تحمله من تأثيرات سلبية ومن إضعاف لشروط ووسائل تحقيق التنمية المجتمعية في مستواها المحلي. ولقياس المقومات العامة للمسؤولية توجد ثلاثة عناصر توليفية ومتكاملة بهذا الخصوص388:
ترتبط المسؤولية بالتأثير الإرادي أو غير الإرادي المتوقع أو غير المتوقع عن الأعمال والتصرفات،
لا تعني المسؤولية أن الإنسان يمكن أن يختبئ وراء شعوره بالعجز أو بجهله للأشياء أو وراء واجب الطاعة،
ترتبط المسؤولية بدرجة القدرة والإستطاعة والمعرفة، والحكامة الجيدة في ظل المبدأ العام أو الشامل للمسؤولية تقابل كمفهوم بتوليفة تركيبية العناصر ذات حمولة تعتد بتحمل تبعات الفعل الإيجابي المقرونة بشرطي السلطة والمعرفة.
ومبدأ المسؤولية يهم جميع ميادين الحكامة المحلية وينطوي على بعد أخلاقي وبعد قانوني، حيث ان السلطة التي يمارسها الحكام والإدارات العمومية والجماعات المحلية تنطوي على مسؤولية الشخص الذي يمارسها أمام كل شخص يمكن أن يتأثر من ممارسة هذه السلطة في المجتمع.
وبناء على هذه المبادئ، يمكننا إعتبار الحكامة المحلية إطارا عاما لإعادة تحديد الأنماط الجديدة لأسلوب الحكم والتدبير المحلي، من خلال إعادة تحديد العلاقات بين السياسي والإقتصادي، السياسي والإجتماعي، الخاص والعام، الدولة وشركاءها المحليون والدوليون. وفي جانب آخر منها، تعد مجالا للإبداع والتجديد، فمن أجل ترشيد تدبير الشأن العام المحلي وتحسين شروط رفاهية المواطن يجب أن يبرهن المنتخب المحلي عن قدرته على الإبداع، أي ابتكار مشاريع جديدة، وإيجاد أفكار حديثة لحل مختلف المشاكل المطروحة على الصعيد المحلي. وبالتالي القدرة على تغيير الحياة المحلية والتحكم في التطورات المتسارعة وتدبير الأزمات الطارئة من خلال إجراءات إدارية تعكس القدرة على التحرك بفعالية، وإبداع مشاريع تنموية.
إن إستحضار مبادئ الحكامة المحلية يتم في سياق إخراج الجماعة المحلية من ازمتها ومشاكلها المختلفة، وكعلاج لمختلف “الأمراض” التي تعاني منها الجماعة الترابية، وكوسيلة لمعالجة صلابة أنماط الفعل الإداري المحلي من خلال التجديد على مستوى القيادة من خلال توفر الدينامية والمرونة والكفاءة والإبداع والمصداقية. هذه العناصر الأخيرة التي تقوم على مفهومي المأسسة والشرعية389.
ولتحقيق أقصى مردودية على المستوى الإداري المحلي يمكن للمنتخب المحلي أن يستعمل بعض التقنيات كالتدبير بالأهداف وكذا التدبير بالنتائج، هذا إلى جانب اعتماد التسويق الإداري الذي يمكن أن يسهم في تحسين الخدمات المقدمة للزبناء والمرتفقين بالمدينة. بالإضافة إلى ذلك، فالتدبير الإداري للمنتخب المحلي يقتضي منه الإنصات لطموحات وانتظارات وحاجات المواطنين عن طريق التواصل معهم عن قرب، والسعي بالتزام ومسؤولية لتحقيق حاجاتهم بفعالية. وذلك لن يتم إلا باعتماد الشفافية التي تستلزم أولا، تحويل الإنتظارات إلى أهداف دقيقة وواضحة، وثانيا اختيار الطرق والأساليب لتنفيذ تلك الأهداف، وبعد ذلك تقديم النتائج في شكل مصطلحات قابلة للملاحظة والقياس. هكذا فاختيار الشفافية لا يقتصر فقط على مساطر التدبير العمومي بل يتعداه إلى وضوح وملائمة الأهداف للسياق الإجتماعي والإقتصادي والسياسي، ذلك ان امتحان الشفافية يمكن أن يصبح من اختصاص مؤسسة مستقلة تعمل على مراقبة العمل المحلي.
III- مشاركة المواطنين في التهيئة والتأهيل المحلي:
تقتضي فاعلية العمل الإداري ودمقرطته السند والمشاركة الفاعلة من طرف الجمعيات والنقابات وبصفة عامة المؤسسات الخاصة ذات المنفعة العامة. ولذلك تكتسي المشاركة الشعبية أهمية كبيرة وخصوصيات متميزة لسببين مرتبطين:
إن السياسة المعمارية أصبحت معطى أساسي منذ تبني القوانين المتعلقة بالتعمير والتجزئات العقارية والمجموعات السكنية وتقسيم العمارات. كما أنه بسبب تعقد التهيئة والاعداد الترابي لا يمكن للدولة أن تستعمل الطرق التقليدية في عملها ومن بينها القرارات الإدارية الإنفرادية.
من المؤكد أن التعمير بطبيعته يستلزم اللجوء إلى التقنيات التحكيمية أو السلطوية لأن الدولة هي الشخص الوحيد الذي يتوفر على الوسائل الضرورية لإنشاء وتأسيس وتنظيم المدن مثلا. لكن تعقد المشاكل المطروحة وقوة العلاقات والترابط بين جميع الأطراف تحتم على السلطات أن تبحث عن موافقة الأشخاص والجماعات المعنية بالأمر390.
وعلى ضوء كل النواقص المختلفة التي تشوب عملية مشاركة الساكنة المحلية يبدو من الضروري تحسين مسطرة التشاور والإستشارة، وفي هذا الإطار يمكن الربط بين الإستشارة والتشاور بإصلاحين: تحسين الإستشارة وتنظيم التشاور في تهييئ المشاريع.
III-1 تحسين الإستشارة:
على المستوى الإداري يمكن للإدارة المحلية أن تتبنى تقنية البحث بالإصغاء أو الإستماع Enquête-Audition. هذه التقنية الإستشارية تطبق في بعض النظم الأجنبية مثل إسبانيا والبرتغال والدول الأنجلوسكسونية. وعرفت هذه التقنية تطبيقات متتالية ومتكررة بطريقة تجريبية في الميدان العقاري والمعماري خصوصا في بريطانيا العظمى والولايات المتحدة391. ففي هذه الدول أصبح اللجوء إلى المسطرة مبدئيا لأنه يفضي إلى فتح نقاش حقيقي مؤطر بشكليات ومساطر قضائية.
وعلى المستوى السوسيولوجي يبدو أن البحث الميداني المبني على المشاركة Enquête-Participation جدير بالإهتمام في ميدان التهيئة والإعداد الترابي. فالتحسينات المسطرية غير قادرة على حذف وإنهاء العقبات السيكولوجية التي تنتج عن البحث كاستشارة. ولذا من الضروري تقوية التقنيات القانونية بالمناهج التجريبية قصد تعبئة السكان وتسهيل تعرف هؤلاء عن حاجياتهم الجماعية والبحث عن الحلول.
III-2 تنظيم التشاور: إداري يمكن للإدارة
لا ينبغي أن تنحصر مشاركة المواطنين في مرحلة الموافقة على المشاريع. فعلى هذا المستوى يمكن الإكتفاء بتحسين المسطرة الإستشارية. وفي الواقع من الضروري إرساء المشاركة من بداية مرحلة الإعداد إلى نهايتها392.
وفي هذا الصدد لا يمكن تنظيم التشاور الفعال والحقيقي إلا على مستوى الجماعات المحلية.
إن المشرع قد خول الجماعات مهمة إشباع حاجيات السكان فيما يخص التجهيزات، في حين أن الإتصالات عرفت نوعا من الإرتخاء خصوصا مع السكان الذين أصبحو أكثر فأكثر بمثابة مستهلكين. ويمكن إيعاز هذا التحول إلى التمدين المستمر حيث أصبحت الساكنة المكونة من المواطنين عبارة عن مجموعة من مستهلكي المرافق العمومية.
يجب إذن تعزيز مشاركة المواطن من أجل تكييف عمل الجماعات مع هذا التغيير في وضعية المدار وإشباع حاجياته، وهذا التعزيز يجد تبريرا مباشرا في عدم جدوى الديمقراطية التمثيلية على المستوى المحلي في ميدان قرارات التعمير مثلا.
من المحقق أن البلديات في المغرب غير مندمجة بطريقة كافية في مسلسل القرار المتعلق بتنظيم المدن ولكي يكون التشاور فعالا يجب إصلاح وتغيير البنيات الجماعية نفسها.
ويمكن للمغرب أن يستفيد من تجارب الدول الاجنبية خصوصا تلك التي ترتكز على التشاور باللجوء إلى تمثيل السكان داخل البلديات أو خارجها بخلق أجهزة تشكل إطارا للتحاور والنقاش.
ومن بين الطرق المعروفة والمستعملة في فرنسا وفي دول أخرى هي تلك التي تشجع الإتصالات الدائمة بين المنتخبين والمدارين ومن المفيد ان ينظم هذا الأسلوب بمنظور شمولي وهذا ما يمكن أن نسميه بالتشاور عبر التمثيل داخل البلديات393.
(محاماه نت)