دراسات قانونية
مشروعية وطبيعة الحقوق العينية العرفية الملغاة بقانون 39.08 – المغرب (بحث قانوني)
إعداد الطالب : موسى بلعيون ؛ باحث في سلك الماستر , خريج كلية الشريعة والقانون .
جامعة ابن زهر – أكادير –
الحقوق العينية العرفية الملغاة بقانون 39.08 قراءة في المشروعية وطبيعة القواعد والقوانين المؤطرة.
يعتقد الكثير من الباحثين [1] في المادة العقارية , أن الحقوق العينية العرفية؛ هي حقوق مشروعة تستمد أحكامها من الشريعة الإسلامية, وذهب الكثير منهم إلى وصفها بـ “الحقوق الإسلامية” , وهي في واقع الأمر ليست كذلك, بحيث نجد في كثير مما كُتب حول هذه الحقوق عبارات تقطع بصحتها, وتؤكد كونها من عداد المشروع والجائز, في حين أنه يعتريها من الغرر والغبن ما يؤكد مخالفتها لأدلة الشرع وقواعده ومقاصده في تنظيم المعاملات المالية بين الناس.
جاءت هذه الحقوق في التقنين[2] ضمن الفصل (السابع) من ظهير 19 رجب 1333 , الموافق لـ 2 يونيو 1915 . هذا الظهير الذي ركز تطبيق مقتضياته على العقار المحفظ وتطبيق أحكام الفقه الإسلامي على العقار غير المحفظ. وقد أورد المشرع هذه الحقوق في الفصول 197 إلى 201 من الظهير المذكور , ولكن يؤخذ عليه عدم التعريف بها وعدم التعرض لأحكامها ؛ فكان قد اكتفى بذكرها فقط , دون أن يتعرض لأحكامها .
موضوع هام للقراءة : رقم هيئة الابتزاز
والحقوق العينية العرفية هي : حق الهواء والتعلية , حق الجلسة , حق الزينة , وحق الجزاء. ولعل الموضوع الأساس هو عدم إدراج حقي [الجلسة والجزاء] ضمن هذه الحقوق في القانون رقم 39.08 الصادرة بمقتضاه ؛ الكتاب الموسوم بمدونة الحقوق العينية الصادر بتنفيذه الظهير الشريف رقم 1.11.178 بتاريخ 25 ذي الحجة 1432 والموافق لـ 22 نوفمبر 2011, ولا يمكن تفسير عدم التعرض لها إلا بتعمد إلغائها وتوقيف العمل بها , كما صرحت بذلك المادة 9 من القانون المذكور .
فحقي الجلسة والجزاء إذن ؛ من الحقوق العينية العرفية التي جرى بها العمل في المغرب قبل صدور ظهير رجب 1333 ومن تم العمل بها مقننة بعد صدور الظهير المذكور … إلا أن هذين الحقين لم يعد العمل بهما يقره القانون بعد صدور ظهير نوفمبر 2011 .
فما هو الإطار القانوني الخاص بالحقوق العينية العرفية ؟ وما هو مفهومها ؟ وما هي خصائصها ؟ ولماذا سميت ” عرفية “؟ وهل لتلك الملغاة (الجلسة والجزاء) أصلا في الشريعة الإسلامية يقرها؟ أم أنها مخالفة للأصول والقياس , فضلا عن أن يكون لها نص في الشرع ؟ وهل يعد العرف المخالف لقواعد ومقاصد الشريعة صحيحا – بدعوى كونه عرفا متعارفا عليه- ؟ وهل كل الأعراف تحقق المصلحة المطلوبة شرعا؟ وهل أجمع الفقهاء على منع الجلسة والجزاء؟ أم أن هناك خلاف ونقاش في الجواز وعدمه؟ وما هي طبيعة القواعد والقوانين المؤطرة لهذه الحقوق؟ …
هذه الإشكالات وغيرها, ستناولها في هذا المقال المتواضع بشيء من الاختصار والتركيز ووفق الخطة الآتية :
المبحث الأول : الحقوق العينية العرفية ؛ الإطار القانوني والمفهوم والخصائص .
المطلب الأول : الإطار القانوني للحقوق العينية العرفية.
المطلب الثاني : مفهوم الحقوق العينية العرفية وخصائصها.
المبحث الثاني : الحقوق العينية العرفية ( الملغاة )؛ قراءة في المشروعية.
المطلب الأول : إجارة الموقوف بأقل من أجرة المثل وإطالة مدة إجارته.
المطلب الثاني : قراءة في إمكانية التأصيل واستحالته؛ لمشروعية حقي الجلسة والجزاء.
المبحث الثالث : طبيعة القواعد والقوانين المؤطرة للحقوق العينية العرفية.
المطلب الأول : القواعد المستمدة من الفقه المالكي والأعراف المحلية.
المطلب الثاني : القواعد المستمدة من قانون الالتزامات والعقود ومن نتاج العمل القضائي.
المطلب الثالث : القواعد والمفاهيم المستمدة من مدونة الحقوق العينية.
المبحث الأول : الحقوق العينية العرفية ؛ الإطار القانوني, والمفهوم, والخصائص.
المطلب الأول : الإطار القانوني للحقوق العينية العرفية .
تصنف الحقوق بصورة عامة إلى : ( حقوق دولية ) و ( حقوق داخلية ) , وتصنف الحقوق الداخلية بدورها إلى ( حقوق سياسية أو دستورية ) و ( حقوق مدنية أو غير سياسية ) … ” ومعلوم أن الحقوق الدولية هي تلك التي يقررها القانون الدولي العام لأشخاصه الإعتبارية المعنوية , ذلك بهدف تمكينها من القيام بنشاطها داخل الأسرة الدولية…” [3]
أما الحقوق الداخلية فهي تلك القوانين الداخلية للفرد بصفته عضوا في المجتمع وهي صنفين كما تقدم ؛ الحقوق السياسية أو الدستورية : وهي التي تقرر للفرد بصفته عضوا رسميا في الجماعة السياسية للدولة , كحق الانتخاب والترشيح للهيئات النيابية والإدارية والمجالس البلدية والقروية والنقابات المهنية وغير ذلك …
أما الحقوق المدنية أو غير السياسية ؛ فهي التي لا يمكن أبدا الإستغناء عنها ولا تتعلق بتسيير شؤون الدولة , وتصنف هذه الحقوق إلى حقوق عامة وأخرى خاصة .
فأما العامة : فالمقصود بها الحقوق والحريات الشخصية التي يقررها القانون الدستوري . وأما الخاصة : فهي التي تنشأ في إطار القانون الخاص , وتتوفر للأشخاص المتوافرة فيهم شروط اكتسابها , وهي بدورها تنقسم إلى قسمين : حقوق عائلية وحقوق مـالـية .
فالحقوق العائلية, أو ما يسمى بالأحوال الشخصية هي تلك الحقوق التي تثبت للشخص نظرا لمركزه في الأسرة التي ينتمي إليها كحق الزوجة في المهر والنفقة وحق الوارث في الميراث وغير ذلك …
أما الحقوق المالية : فهي التي يقررها القانون المدني للأشخاص , وهي على ثلاثة أنواع : حقوق شخصية , وحقوق معنوية, وحقوق عينية . ( [4] ) والذي يهمنا في هذا كله هي هذه الأخيرة .
“الحق العيني هو سلطة مباشرة على شيء معين يقررها القانون لشخص معين.” [5] فهو إذن حق يُنشئ سلطة مباشرة للشخص على الشيء, وتنقسم هذه الحقوق بدورها إلى : حقوق عينية أصلية , وحقوق عينية تبعية.
ويقصد بالحقوق العينية الأصلية ؛ ” تلك الحقوق القائمة بذاتها دون الإستناذ إلى حق آخر” [6] والحقوق العينية الأصلية حسب المادة 9 من مدونة الحقوق العينية هي : حق الملكية _ حق الإرتفاق _ حق الإنتفاع _ حق العمرى _ حق الإستعمال _ حق السطحية _ حق الكراء الطويل الأمد _ حق الحبس _ حق الزينة _ حق الهواء والتعلية _ الحقوق العرفية المنشأة بوجه صحيح قبل دخول قانون 39.08 حيز التنفيذ ( [7] )
ومقصود المشرع من الحقوق العرفية المنشأة بوجه صحيح قبل دخول المدونة حيز التنفيذ هي حقي: “الجلسة والجزاء” ويلحق بهما “حق الكدك وشد المسكة وغيرهما”, إلا أن الجلسة والجزاء خصهما المشرع بالتقنين دون غيرهما من الحقوق كالكدك وشد المسكة المذكورين.
أما الحقوق العينية التبعية فيقصد بها تلك الحقوق التي لا تقوم بذاتها, وإنما تستند في قيامها على وجود حق شخصي سابق, يكون ضمانا للوفاء به , وهي : – الإمتيازات – الرهن الحيازي – الرهون الرسمية . ( [8] )
ولن نفصل الكلام حول هذه الحقوق جميعا , فالمقصود وضع الحقوق العينية العرفية في إطارها القانوني , وقد تبين مما تقدم , أنها تندرج ضمن الحقوق العينية الأصلية , والحقوق العينية الأصلية هي قسم من أقسام الحقوق العينية , والحقوق العينية من أقسام الحقوق المالية , والحقوق المالية بدورها من أقسام الحقوق الخاصة , وهذه الأخيرة من أقسام الحقوق المدنية غير السياسية .
المطلب الثاني : مفهوم الحقوق العينية العرفية وخصائصها.
الفقرة الأولى: مفهوم الحقوق العينية العرفية.
الحقوق العينية العرفية : هي حقوق بعضها يستمد أحكامه من العرف المحض, وبعضها يستمد أحكامه من الفقه المالكي والعرف معا ([9]) وتقع هذه الحقوق غالبا على العقارات الموقوفة ( الأحباس ) , وعلى أملاك الدولة الخاصة, وهي حقوق قابلة للتفويت بعوض أو بغير عوض[10] , ويستأثر بها صاحبها باعتبار أن هذه الحقوق أغلبها يكون على وجه التأبيد. وهذه الحقوق نجدها كما قدمنا ؛ واردةً في الفصل 7 من ظهير 19 رجب 1333 , الموافق لـ 2 يونيو 1915 , وهي :
حق الجلسة , حق الهواء والتعلية ,حق الزينة وحق الجزاء ؛ وفيما يأتي تعريف وبيان لكل منها :
أولا: حق الجلسة:
حق الجلسة : الجلسة في اللغة هي تلك الهيئة التي يكون عليها الجالس ([11]) وفي اصطلاح الفقهاء لها تعاريف عدة:
– عرفها الإمام عبد القادر الفاسي بأنها : “عقد كراء على شرط متعارف” [12].
– عرفها أبو عبد الله محمد بن أحمد بن محمد التماق الغرناطي بقوله: ” كراء خاص على شرط التبقية على أن يقوم المكتري بالأصل”.[13]
– عرفها القاضي محمد العربي بن أحمد بردلة الفاسي بقوله: ” عقد كراء على شرط ألا يخرج إلا إذا رضي بالخروج أو يخل بالمصلحة التي روعيت في إحداثه”.[14]
من خلال هذه التعاريف يتبين لنا إذن معنى مصطلح (حق الجلسة) فالمقصود بهذا الحق شراء الجلوس والإقامة -بدكان أو حانوت أو فندق أو أي محل تجاري- على الدوام والاستمرار, فكأن المكتري اشترى جلوسه وإقامته على الدوام , وهو بهذه الصفة يصبح كأنه يملك الأصل, فله أن يفوته حينئذ بالبيع أو الهبة , وينتقل لورثته.
ثانيا: حق الجزاء
الجزاء في اللغة : قال ابن منظور : ” الجزاء: المكافأة على الشيء، جزاه به وعليه جزاء وجازاه مجازاة وجزاء؛ وقال الحطيئة: من يفعل الخير لا يعدم جوازيه ” [15]
وفي الاصطلاح الفقهي: يقول عبد القادر الفاسي : الجزاء كراء الأرض للبناء أو الغرس أو للزراعة وهو جار في أرض الأحباس على التبقية وإن لم ينص عليها, وأن لصاحب الجزاء أن يبيع ويهب ويورث عنه [16].
وعرفه محمد بن معجوز بأنه : ” كراء للأراضي الخالية لمن يبني فوقها أو يغرسها، مع اتفاق الطرفين على أن المكتري يبقى فيها دائما ولا يطالب بإفراغها، وإنما يلزم بأن يؤدي كراء المثل كلما تغيرت الظروف” [17].
وسبب تسمية هذا الحق؛ بحق الجزاء يتجلى في أن كل واحد من المتعاقدين يجازي الآخر، المكتري يجازي المكري بصيانة الحبس (الأرض) وإصلاحه وحفظه، والمكري يجازي المكتري بتقديمه عن غيره وإبقائه في المحل، “وبالتالي كانت العادة أن يقبض الحبس جزاء كل عام مقدما في أول محرم” [18].
ويَنْضَمّ إلى الجلسة والجزاء أنواع أخرى لا يكاد يذكرها كثير من الباحثين في هذا المجال؛ وهي: حق الحكر [19] وحق الكدك [20] ومشد المسكة [21] … ويُدخل بعض الباحثين في القانون حق “العمرى” [22] ضمن الحقوق العرفية , وهذا خطأ؛ فهذا الحق له أصل في السنة الصحيحة وجرى عمل الصحابة به, وقرر له الفقهاء شروطه وحددوا أركانه , فالقول بأنه عرف طارئ قول مجانب للصحة.
ثالثا: حق الهواء والتعلية
وهو الحق المقرر لشخص ما في الإفادة من جزء محدد من الفضاء الطليق أو العلو المرتفع فوق بناء قائم, وقد نصت المادة 138 من قانون 39.08 على أن حق الهواء والتعلية حق عيني مفاده تملك الهواء العمودي الذي يعلو بناء قائما يملكه الغير.
وهو من الحقوق العرفية التي جرى بها العمل بالمغرب وهذا الحق لم يلغى بقانون مدونة الحقوق العينية إذ أدرجه ضمن الحقوق العينية الأصلية في المادة 9 من المدونة, والتي نصها :
” الحق العيني الأصلي هو الحق الذي يقوم بذاته من غير حاجة إلى أي حق آخر يستند إليه , والحقوق العينية الاصلية هي : – حق الملكية – حق الإرتفاق والتحملات العقارية – حق الإنتفاع – حق العمرى – حق الاستعمال – حق السطحية – حق الكراء الطويل الامد – حق الحبس – حق الهواء والتعلية – الحقوق العرفية المنشأة بوجه صحيح قبل دخول هذا القانون حيز التنفيذ. ” [23]
وفي آخر المادة تصريح على أن الحقوق العرفية المنشأة قبل تنفيذ هذا القانون حقوق عينية أصلية صحيحة , أما التي قد تنشئ بعد تنفيذه فهي باطلة بالمفهوم. [24]
وينبغي أن نشير إلى شيء مهم وهو أنه “يتعين على صاحب هذا الحق عند المنازعة ضرورة إثباته على أساس أن مالك العقار إن كان يملك ما فوقه وما تحته فإن من يدعي الاستئثار يجب عليه إقامة البينة التي تفيد ذلك” [25]. كما أن هذا الحق يقوم بناء على العقد ويجوز لصاحبه أن يفوته أو يرهنه أو أن يرتب حقوقا وارتفاقات عليه. [26]
رابعا: حق الزينة
حق الزينة : هو حق البناء في أرض الغير, وهو خاص بالبناء دون غيره , بعكس السطحية الذي يشمل البناء والغرس والمنشآت.
يقع حق الزينة على أرض تعتبر من أملاك الدولة الخاصة أو من أملاك الأحباس أو الأفراد. يقيم فيها المكتري بنايات أو يحدث فيها تحسينات تشكل حقا عقاريا يسمى الزينة، ويجعل العقار مبعَّضا بين مالك الرقبة وبين المكتري الذي يتصرف من منفعتها.
وحق السطحية يمتد مدى حياة العقار, أما حق الزينة فينتهي بانتهاء مدة العقد أو أقصى مدة قانونية حددها المشرع في 40 سنة قياسا على الكراء الطويل الأمد.[27]
الفقرة الثانية : خصائص الحقوق العينية العرفية.
لعل أبرز خصائص هذه الحقوق ما يلي :
أولا : هذه الحقوق كما أسلفنا ؛ تستمد أصولها من العرف , على عكس ما يعتقده الكثير من الباحثين في مجال العقار([28]).
ثانيا : تعتبر كلها حقوقا عينية ترد على العقار دون المنقول , كما أنها لا يمكن أن تكون حقوقا مرتبطة بالمنقول والعقار معا, والمقصود بالعقار كما هو معلوم في الفقه: ” كل ما لا يمكن نقله إلا بتغير هيئته , وهو على عكس المنقول الذي هو كل ما ينقل دون تغير هيئته”.[29]
ثالثا : أنها تُلزم صاحبها بوجوب دفع عائدات إما دورية أو دائمة , يقدمها صاحب الحق إلى صاحب العقار الذي يمتلك الرقبة , هذا مع استثناء حق الهواء والتعلية, لأنه تملك لعلو العقار تملكا؛ كاملا إلا في حالة تصرف فيه صاحب الحق بكرائه للغير.
رابعا : أنها حقوق يمكن لأي شخص أن يتمتع بها؛ ما دام ذلك لا يؤدي إلى الإضرار بحق الغير , كأن يكون الملك الذي عليه الحق العيني العرفي ملكا مشاعا؛ فلا يمكن مثلا أن ننشئ عليه حق الزينة .
خامسا: من خصائص حق الجزاء أنه يقع على الأراضي للبناء أو الغرس, وهو عكس حق الجلسة, وإن كان شبيها به؛ إذ لا تقع الجلسة إلا على العقارات المبنية والمعدة للعمل التجاري.
سادسا: يمكن أن تكون هذه الحقوق محلا لحق ارتفاق يرد عليها كما يمكن أن يترتب عليها رهن رسمي تتحمله.
المبحث الثاني : الحقوق العينية العرفية ( الملغاة )؛قراءة في المشروعية.
المطلب الأول : إجارة الموقوف بأقل من أجرة المثل وإطالة مدة إجارته.
لابد أولا أن نشير إلى مسألتين مهمتين, اختلف حولها فقهاء الشريعة, وهي ؛ اختلافهم في إجارة الموقوف بأقل من أجرة المثل؟ واختلافهم في مدة إجارته ؟
أولا : حكم إجارة الموقوف بأقل من أجرة المثل :
اتفق الفقهاء على أن العين الموقوفة إذا رغب في إجارتها، فإنها تؤجر بأجرة المثل. ولكنهم اختلفوا في إجارته بأقل من أجرة المثل :
قال الحنفية : لا يجوز لمن له حق إجارة الوقف أن يؤجره بأقل من أجرة المثل حتى لو كان المؤجر هو الناظر في حال كونه المستحق وحده للأجرة كلها. [30]
ويفرق الحنابلة والشافعية بين أن يؤجر المتولي العين الموقوفة على غيره , وبين أن يؤجر العين الموقوفة عليه ؛ ففي الحالة الأولى: لا يجوز له أن يؤجرها بأقل من أجرة المثل , وفي الحالة الثانية : له أن يؤجرها بأقل ما دام وحده هو المستحق للأجرة. [31]
ويرى المالكية أن العين الموقوفة , إذا أكراها الناظر بأقل من أجرة المثل ضمن تمام أجرة المثل , وإلا رجع على المستأجر.[32], بمعنى أن المالكية يمنعون إجارتها بأقل من أجرة المثل حتى لو كان المؤجر هو المستحق الوحيد للأجرة كلها.
ثانيا: حكم الإجارة الطويلة في الأوقاف:
الأصل في الإجارة الطويلة في الأملاك عموما, أنها جائزة لأن المالك يصنع في ملكه ما شاء وقتما شاء . أما في الأوقاف فقد اختلف فيها الفقهاء كالآتي :
فالحنفية : ذهبوا إلى عدم جواز إجارة الموقوف أكثر من سنة واحدة, حيث جاء في الفتاوى الهندية المعبرة عن الفقه الحنفي: ” نقل عن جماعة من مشايخنا أنه لا يجوز أكثر من سنة واحدة, قال الفقيه أبو جعفر: أنا أجوّز في ثلاث سنين ولا أجوز فيما زاد على ذلك … وفي غير الضياع يتفتى بعدم الجواز فيما زاد على سنة واحدة إلا إذا كانت المصلحة في جوازه, وهذا أمر يختلف باختلاف الزمن والموضع. ” [33]
والمالكية؛ منعوها فيما زاد على أربع سنوات. قال الحطاب: “أما الحبس على المساجد والمساكين وشبهها فلا يكريها الناظر لأكثر من أربعة أعوام إن كانت أرضا, ولا أكثر من عام إن كانت دارا, وهو عمل الناس ومضى عليه عمل القضاة.”[34]
وعلة منع المالكية لذلك هو مراعاة مصلحة العين الموقوفة لأن طول مكوثها بيد المكتري لسنوات عدة وبسومة ثابتة ؛ كما هو حال حق الجلسة ؛ ليس في مصلحة المؤسسة الوقفية الخيرية؛ بمعنى أن الأفضل للمستفيد من الوقف الذي يكون في غالب الأمر فقراء أو طلبة مدرسة عتيقة أو غير ذلك .
وفي هذا المعنى يقول ابراهيم بن موسى الحنفي : ” إن المدة إذا طالت تؤدي إلى إبطال الوقف فإن من رآه يتصرف فيها تصرف الملاك على طول الزمن يظنه مالكا له … ” [35]
أما الحنابلة؛ فقد استدل ابن قدامة بقوله تعالى ( قال إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تاجرني ثماني حجج)[36] وقال بأن شرع من قبلنا شرع لنا وما جاز لسنة جاز لأكثر منها. “[37]
وقد عاب ابن القيم إطالة مدة كراء الوقف لكنه مع ذلك لم يقل بمنعها إذ لم يكن الواقف قد اشترط منعها.[38]
والملاحظ من تتبعنا لهذه الآراء الفقهية ؛ نستنتج أن من منع إطالة مدة الكراء؛ منعها مراعاة لإفضاء طول المدة إلى ادعاء تملكها العين المكتراة وعدم سيران نفعها الذي جعلت له, وبالتالي فإن المعتبر في الفقه هو مصلحة الوقف .
وبعد هذه التوطئة الموجزة والعامة؛ ندخل إلى صلب الإشكال, ومحل الدراسة, وقبل ذلك لا حرج أن نتسائل أسئلة من قبيل: هل الجلسة والجزاء محل حضر تام عند جميع الفقهاء؟ أم هي محل خلاف بينهم؟ وهل من إمكانية لتأصيل جواز هذين الحقين في الشرع؟ ومَن هؤلاء الذين حاولوا ذلك؟ وهل محاولتهم هذه مبنية على أسس معقولة ومشروعة؟ أم كلامهم في ذلك مجرد تقرير لواقع يستحيل تغييره بعد أن استفحلت ظاهرتي الجلسة والجزاء في زمنهم وتعلقت بها مصالح الكثير من المستفتين؟…
المطلب الثاني : قراءة في إمكانية التأصيل واستحالته؛ لمشروعية حقي الجلسة والجزاء.
أولا: حق الجلسة
عند البحث ففيما كتب حول الجلسة نجد أن الفقهاء قد وقفوا منها مواقف مختلفة، فمنهم من منعها, ومنهم من أجازها. وهذه وجهة نظر كل فريق:
الفريق الأول:
سئل الشيخ ميارة الفاسي رحمه الله عن حكمها فقال: ” أما مسألة الجلسة فلم أقف على نص فيها، ولا أظنه يوجد، لأنها محض اصطلاح من المتأخرين وأنها اشتملت على أمور مخالفة للشريعة”[39].
وسئل عنها الشيخ عبد الواحد بن عاشر[40] فقال: ” الجلسة التي حدثت لا أصل لها في الشرع”[41].
ومن المانعين أيضا أبو عبد الله المسناوي[42]، الذي جعل الجلسة من عداد الجهل والتسلط والجور على حقوق العباد فقال فيما نصه : ” وبالجملة فأمر الجلسة مما غص به الناس قديما وحديثا لتحكم العوائد على القواعد وغلبة العامة على الخاصة مع الجهل منهم[43].
وفي نفس السياق ومن نفس المصدر؛ زاد الشيخ الجلالي بأن الجلسة: ” أحدثها أهل الغصوبات من أنواع الجور، وقد وقع التشكي بظلمها أيام حياة العلماء حفاظ المذهب كالحميدي والسرااح، ووقع الاهتمام بقطعها فلم يجدوا معينا ولا ناصرا من أهل الدولة، وتغصب أصحابها بذوي الجور والظلم، وبقي أمرها كذلك إلى أن قدم السلطان أحمد المنصور فرفع إليه أمرها فقطعها واستبد أرباب الأصول بمنفعة رباعهم، واظمحل ذلك الباطل وهكذا كان الحال عام 1013 هـ”[44].
ويقول عبد القادر الفاسي: أن مسأله الجلسة ” فيها للناس اصطلاحات وقوانين قلما يجري ذلك على أصل الشريعة” [45].
وقد ضمن ذلك ابن القاضي في نظمه فقال :
والجلسة التي جرت بفاس…….لدى الحوانيت بلا إلتباس
ليس لها في الشرع أصل يعتبر…. ولا قياس عند كل ذي نظر
ففعلها وبيعها صرام……….عند الجميع قاله الأعلام
الفريق الثاني:
ذهب الفقيه محمد بن أحمد التماق إلى جوازها مطلقا، مصرحا بأنه ليس في ذلك ما يقتضي المنع والتحريم، ورد على من قال بذلك جازما بأن ما ذهب إليه هو الصواب الذي لا يعدل عنه إلى غيره, واعتبره من قبيل العرف ، والأمر إذا اتخذه عرفا وعادة أهل المروءات والجمهور من الناس، لا ينبغي أن يكون حراما، والعرف في الجلسة من هذا النوع (…) سيما وقد أطبق على هذا العرف أهل العلم والدين من قضاة ومفتين ومدرسين وغيرهم، وعلى هذا لم يبق إلا التسليم وجوازها وحليتها”[46].
ثم استدل على ذلك برأي الإمام أبي سعيد بن لب حين قال : ” ما جري به عمل الناس وتقادم في عرفهم وعاداتهم، ينبغي أن يلتمس له مخرج شرعي ما أمكن على خلاف أو وفاق، إذ لا يلزم ارتباط العمل بمذهب معين أو بمشهور من قول قائل”.[47]
وسبب ذهاب التماق إلى هذا هو أن المغرب فيه أو قاف من أراضي ودكاكين وأفران وحمامات ونحو ذلك، معدة للكراء دائما لأنها غالبا حُبست على من ينتفع بخراجها ولا يعمرها بنفسه، وأن كرائها يختلف بحسب فصول السنة من شتاء وصيف، فرأى المسؤولون عن هذه الأوقاف أن الأولى في الحبس أن يكون كراء بهذه الصيغة, ويعمر المدة كلها في وقت الرواج والكساد، ورأى المكتري أنه يطمئن على نفسه ولا يتعرض للخروج إن غلا السوق وارتفعت الأكرية في تلك المدة، ويغتفر ما في ذلك من الضرر ليسارته، والدخول عليه عادة.[48]
ولأجل أن المكتري لهذه الأوقاف يقوم بعمارتها وإصلاحها وترويجها فإن ذلك كان سببا في التسامح معه في الكراء، ولا تسلم لغيره ما دام قائما بمصلحتها ولم يفرط فيها.
وذهب بعض العلماء إلى أن كلا من الجلسة والخلو والزينة والمفتاح شيء واحد؛ كما صرح بذلك أبو العباس الرهوني[49] إلا أن الخلو لغة أهل مصر، والجلسة تعبير المغاربة[50].
وهذا فيه مجانبة للصواب في نظري , فالمفتاح أو “بيع الساروت” وكذلك الخلو والزينة؛ كل هذه لا تقع بالضرورة على الأملاك المحبسة, فالزينة مثلا: تقع أيضا على أملاك الدولة الخاصة وعلى أملاك الأفراد, وبالتالي فإن الفرق الجوهري بين هذه الاصطلاحات؛ أن الجلسة والجزاء يقعان على الأوقاف حصرا.
وجريا على نفس مذهب الرهوني في عدم التمييز بين الجلسة والمفتاح والزينة يقول التماق معرفا للجلسة : ” هي قرار مستمر مع عقد كراء على التبقية بماعون”.[51] وهو تعريف غير مكتمل المعنى, يستدعي طرح أسئلة من قبيل: على ماذا يقع هذا الكراء ؟ هل على العقار أم على المنقول ؟ وإن كان عقارا فما نوعه؟ هل من الأبنية أم من الأراضي؟ وإن كان من أحدهما فهل هو من أملاك الدولة أم من أملاك الخواص؟ وإن كان من أحدهما, فهل هو وقف أم مجرد عقار؟
وفي نفس السياق -أي سياق الجواز- يقول الدكتور محمد الصوفي: “… وخلاصة الأمر أن نظام الجلسة قد حظي باهتمام الفقهاء … وذلك لكونها كانت عند أهل فاس من الأعراف المقررة والعوائد المستحسنة. وقد ورد للجلسة عدة تعاريف اختلفت في ألفاظها ولم تختلف في معناها، ومرد هذا الاختلاف هو الجانب أو الشيء الذي يعتقد أنه هو الذي حمل المكتري على التعاقد بشأنها هل هو المكان للجلوس، أو ما تحتويه الجلسة من آلات وأشياء ترغب في التعاقد بشأنها، أو تملك منفعة أصل العقار”[52].
بالإضافة إلى تقرير الدكتور محمد الصوفي لجواز الجلسة فإنه من خلال هذا النص نستنتج كذلك أنه نحى منحى اعتبار الألفاظ المذكورة شيئا واحدا, وهو الأمر الذي قررنا سلفا أنه من المغالطات الاصطلاحية, والتي يجب التنبيه عليها متى دعت الحاجة العلمية إلى ذلك.
ثانيا: حق الجزاء.
لعل الكلام الذي قيل في الجلسة هو نفسه الذي يقال أيضا في الجزاء إذ لا فرق بينهما في السبب والحكم, وإنما يختلفون فقط في الصورة؛ فإذا كانت الجلسة تقع على المحلات التجارية على اختلافها فإن الجزاء يقع على الأراضي الفلاحية حصرا.
وتقدم معنا أن وجه التسمية بالجزاء يتمثل في أن كل واحد من المتعاقدين – المحبس والمكتري- يجازي الآخر، المكتري بصيانة الحبس وحفظه، والمحبس بتقديمه عن غيره وإبقائه في المحل[53].
ويسمى الجزاء عند المصريين بالحكر, وقد أطال الفقهاء رحمهم الله في بحثه ودراسته, وتفرقوا في ذلك إلى مجيز ومانع. فمن المجيزين لحق الجزاء ؛ ابن منظور رحمه الله والعلامة أبو عبد الله محمد بن القاسم السجلماسي الرباطي في شرحه على نظم العمل, حيث قال:
وهكذا الجلسة والجزاء …. جرى على التبقية القضاء
وأما المانعون له فهم نفس المانعين أيضا للجلسة ([54]) وقد قدمنا أنه لا فرق بينهما لا في السبب ولا في الحكم, فسبب قيام كل من الجلسة والجزاء واحد وبالتالي فحكمهما واحد بالبداهة.
ويلاحظ بأنه توجد في كثير من المدن المغربية أحياء يطلق عليها ( الجزاء) كشارع الجزاء بالرباط وحي جزاء ابن عامر وجزاء بن زاكور بفاس، لأن أراضيها كانت في الأصل ملكا للدولة وأذنت للناس بالبناء عليها مقابل ” جزاء” يؤدونه على ما بنوه، لذلك دعيت بالجزاء[55].
لكن السؤال ؛ هل يكفي إفتاء بعض العلماء بتجويز أمر من الأمور الذي درج عليه الناس , لإضفاء صفة المشروعية عليه وعدّه من أمور الشريعة الإسلامية ؟..
الجواب : لا؛ فما أقرته الشريعة أو نصت عليه لن يماثل في المرتبة اجتهاد عالم أو عالمين أو أكثر . فعدم التمييز بين الأمور الإجتهادية وبين المسائل التي أقرها الشارع أو نص عليها ؛ يوقع في كثير من الخلط والخبط المنهجي في التعامل مع الأمور الفقهية كمثل هذه.
فالأصل في الانتفاع بالوقف , أن تستغل عينه بما يعود بالانتفاع منها , سواء لصالح الجهة الموقوف عليها أو للوقف على حد سواء , وإذا نظرنا إلى واقع حق الجزاء نرى أن تلك المدة الطويلة تؤدي في كثير من الأحيان إلى إبطال الوقف, لأن تصرف الأجير في العين الموقوفة بأي طريقة شاء, وعلى طول الزمن, يظنه غيره مالكا أصليا للعين المستأجرة , ويتعامل معه على أساس ملكيته للأصل , كأن يفوت له ذلك الأجير صاحب حق الجلسة ؛ حق الاستغلال ويظن المشتري أنه اشترى الرقبة.
وبالتالي فإن مخالفة هذا الأصل المقرر مخالفة لمقصود الشارع في اعتبار مصلحة الوقف, فاعتبار مصلحة الوقف في أي إجراء يخص الأملاك الوقفية؛ هو في الحقيقة ركن لا يجب أن تقوم أي معاملة مالية تهم الأوقاف إلا به.
ولعل الكلام الذي تقدم في إجارة الوقف ينطبق إلى حد بعيد على هذا الحق أيضا إذ هو كراء على التبقية أجلا طويلا أو مؤبدا . ومن خلال البحث في هذا الأمر يظهر أن معظم من أجاز حق الجزاء أجازه عندما يكون الانتفاع بأرض الوقف متعذرا, ولا سبيل للانتفاع به وإحياءه إلا بهذا النوع من المعاملات.
المبحث الثالث : طبيعة القواعد والقوانين المؤطرة للحقوق العينية العرفية.
المطلب الأول : القواعد المستمدة من الفقه المالكي والأعراف المحلية :
مما لا يختلف فيه البيان؛ أنه منذ أن دخل الإسلام إلى المغرب, كان الفقه الإسلامي هو الذي يطبق في جميع الميادين، ومنه تستمد جميع القواعد التي تنظم العلاقات الإنسانية، ما عدا بعض الاستثناءات التي تخص الأحوال الشخصية لليهود المغاربة[56].
وعرف المذهب المالكي ازدهارا في المغرب على يد الفقهاء والقضاة، ولما فرضت الحماية الفرنسية على المغرب سنة 1912 عملت القوى الاستعمارية على إصدار مجموعة من القوانين لضبط المستعمرة المغربية بما يسير وفق النظام الفرنسي وكذا الاسباني ومن هذه القوانين؛ ظهير 1913 (قانون الالتزامات والعقود) وقامت حينئذ السلطات الاستعمارية بإدخال نظام جديد من المحاكم وهو ما نص عليه الفصل الأول من ظهير 12 غشت 1913 ” وذلك بإحداث محاكم محلية ومحاكم ابتدائية ومجلس استئناف بالإيالة المغربية…”
وبخصوص المجال العقاري ونظرا لأهميته الكبرى لدى المستعمر؛ فإنه قام بإصدار ظهير 1913 / 08 / 12 المتعلق بالتحفيظ العقاري وظهير 1915 / 6 / 2 المتعلق بالتشريع المطبق على العقارات المحفظة. وبذلك تم خلق نظام قانوني جديد لضبط المجال العقاري وهو التحفيظ العقاري الذي يتم عبر مسطرة طويلة تتوج بتأسيس رسم عقاري لكل عقار هو بمثابة حالة مدنية لكل عقار تقيد فيه كل التصرفات الواقعة عليه .
في حين بقي مجال العقار غير المحفظ وفي طور التحفيظ والحقوق العينية الواردة على العقار بصفة عامة تخضع للفقه المالكي.
” … وبذلك أصبح مجال العقار يخضع لازدواجية قانونية طيلة فترة الاستعمار ثم انتهت بعد الاستقلال بصدور ظهير 26/ يناير/ 1965 المتعلق بالمغربة والتوحيد والتعريب والتي أرخت بظلالها على واقع العقار بالمغرب انعكست سلبا على الاجتهاد القضائي التي ظلت متراوحة بين تطبيق الفقه المالكي وقوانين العقار خصوصا فيما يتعلق، بالحقوق العينية…”([57])
وهذا الأمر أدى بالمشرع المغربي إلى السعي نحو تقنين نظام الحقوق العينية الواردة على العقار, وبعد النقاش الطويل حول المرجعية المعتمدة في وضع المقتضيات المنظمة لتلك الحقوق أفضى الأمر إلى الاتفاق على وضع مدونة للحقوق العينية تسري مقتضياتها على الملكية العقارية والحقوق العينية, وقد تمت الإشارة إلى شيء من هذا في مقدمة المقال.
ولأن المذهب المالكي غني بالقواعد والأحكام اللذين تظهر تجلياتهما في كثرة المؤلفات في النوازل والفتاوى والأحكام التي كانت تنظم العلاقات بين الأفراد في كل مناحي الحياة؛ فإن واضعوا القوانين منذ الحماية الفرنسية والاسبانية إلى اليوم؛ ما انفكوا عن هذا التراث الذي كان عندهم من أوائل الأساسيات التي وجب استحضارها ومراعاتها والأخذ منها في كل محاولة منهم لوضع مشروع قانون مهما كان.
وبذلك جاءت جل القوانين المغربية غنية بقواعد فقهية من الفقه المالكي, ويعد مجال العقار بشكل عام أهم المجالات التي عرفت اجتهادات فقهية منقطعة النظير. والحقوق العينية عرفت في الفقه المالكي عدة أحكام وقواعد كانت تطبق من قبل القضاء في كل القضايا المتعلقة بالحقوق العينية وبالعقار غير المحفظ. وبقي الفقه المالكي هو المطبق على العقارات غير المحفظة وعلى الحقوق العينية. والقواعد المستمدة من الفقه المالكي كثيرة, ويمكن القول أن مدونة الحقوق العينية ما هي إلا تجميع وتوحيد للقواعد الفقهية والأصولية الغنية بالأحكام.
والحقوق العينية –غير الملغاة- لها أصول وأحكام تطرق لها الفقهاء ومورس بعضها منذ عصر السلف من الصحابة؛ فحق العمرى مثلا له مستند شرعي قوي وجرى عمل الصحابة به, فلا يمكن أبدا أن تتم مقارنته بحق الجلسة أو الجزاء واللذان استحدثتا فيما بعد ولا أصل لهما سوى عادة الناس التي جرت على الأخذ بهما, وقد تمت مناقشة هذه المسألة فيما تقدم من صفحات المقال.
ومقصودي من التطرق لهذه النقطة –أعني الحديث عن قواعد الفقه المالكي فيما له علاقة بتنظيم الحقوق العينية العرفية عموما وحقي الجلسة والجزاء خصوصا- التأكيد على أن حقي الجلسة والجزاء لا وجود لإطار تقعيدي يشرع لها في المذهب المالكي وإن كان غيرها لها أصول في ذلك.
المطلب الثاني : القواعد المستمدة من قانون الالتزامات والعقود ومن نتاج العمل القضائي
لا شك أن القانون المدني يعد الشريعة العامة لباقي القوانين التي تدخل ضمن التشريع الخاص, فهو بمثابة العمود الفقري لها وترجع لمبادئه في حالة وجود فراغ في القوانين التي تفرعت عنه.
ويمكن القول أن القواعد المدنية أخذت حيزا كبيرا ولها تطبيقات متعددة في مدونة الحقوق العينية وذلك من أجل ضمان الحقوق والحفاظ على استقرار المعاملات وكذا الحد من النزاعات القضائية في مجال العقار.
وبالنسبة للعمل القضائي فإن معظم التشريعات تجعل منه عملية منظمة قانونا للحسم في النزاعات التي تثار بين الأفراد سواء في ما يتعلق بإجراءات تقديم الدعوة أو فيما يتعلق بطرق تحقق من وسائل الإثبات أو طرف الطعن في الأحكام الصادر بشأنها.
والعمل القضائي باعتباره وسيلة للحسم في النزاعات يلعب دورا كبيرا في مجال العقار المحفظ أو الغير محفظ وبخصوص الحقوق العينية، فبالرجوع للقرارات الصادرة من محكمة النقض والمحاكم المغربية بشكل عام في مجال الحقوق العينية نجد أن العمل القضائي كان له دور بارز في حل مجموعة من القضايا التي لم يشر لها الفقه المالكي أو تعد مسائل جديدة لم يعرفها الفقهاء المالكيين أو يوجد اختلاف حولها ومن بين هذه القضايا نجد اضطراب العمل القضائي حول توفر الحوز في الهبة والصدقة في العقار خصوصا المحفظ وبقية الخلاف حول “هل يكتفي بالحيازة القانونية أم لابد من الحيازة المادية؟”, وبذلك كان للعمل القضائي دور حاسم في مثل هذه الحالات حتى استقر العمل القضائي على اعتبار التسجيل بالرسم العقاري يعني الحيازة الفعلية وهذا ما ذهبت إليه مدونة الحقوق العينية في المادة 274 في ما يخص الهبة ” بغنى التقيد بالسجلات العقارية عن الحيازة الفعلية للملك الموهوب وعن إخلائه من طرف الواهب إذا كان محفظ أو في طور التحفيظ. وإذ كان غير محفظ فإن إدراج مطلب لتحفيظه يغني عن حيازته الفعلية وإخلائه.
وهذا المبدأ استقر عليه العمل القضائي بالمغرب منذ صدور القرار رقم 555 ([58]) الصادر في 08/12/2003 بجميع غرف المجلس الأعلى التي كانت بداية الاستقرار حول المجلس الأعلى والمحاكم المغربية بأن السجل بالمحافظة يغني عن معاينة الحوز بعدلين وهو ما أقرته المدونة في المادة 274 المذكورة أعلاه التي حسمت في إشكالية الحوز واعتبرت أن الحيازة القانونية تغني عن الحيازة المادية ([59])
من خلال ما سبق يمكن القول أن المشرع أثناء وضعه لمدونة الحقوق العينية قام بالاعتماد على الفقه المالكي وقانون الالتزامات والعقود وما استقر عليه العمل القضائي مع إضافة وتقنين بعض القواعد الجديدة وذلك من أجل جعل العقار والحقوق العينية الواردة عليه أداة من أدوات التنمية.
المطلب الثالث : القواعد والمفاهيم المستمدة من مدونة الحقوق العينية.
مما لا شك فيه أن جل المصطلحات والمفاهيم الواردة بالمدونة يرجعها أصلها للفقه المالكي ومنها على سبيل المثال: المغارسة، حق الحبس، الرهن، إحياء الأراضي الموات، ، الهبة ..الخ.
بالإضافة إلى الاعتماد على مفاهيم فقهية ومنها ما ورد في المادة ( 105) بشأن تعريف حق العمري ” حق عيني قوامه تمليك منفعة عقار بغير عوض يقرر طوال حياة المعطى له أو المعطي أو لمدة معينة”
وقد عرفها الإمام الباجي رحمه الله [60] بأن العمرى ” هبة منافع المالك عمر الموهوب له”.
وعرفها ابن عرفة رحمه الله [61] بأنها ” تملك منفعة الحياة المعطي بغير عوض”.
وبمقارنة هذين التعريفين بالتعريف الوارد في المادة ( 105) من المدونة نجده موضوع من التعريفين المالكيين.
وانطلاقا مما سبق يمكن القول أن المدونة اعتمدت بشكل كبير في المصطلحات والمفاهيم على المرجعية المالكية وحاولت جمع كل ذلك في نسق قانوني محكم.[62]
ويمكن القول أن مدونة الحقوق العينية استمدت غالبية نصوصها من الفقه المالكي نظرا لأن الفقه الإسلامي غني بالمؤلفات والكتب في مجال الملكية والحقوق العينية كما تقدم وذكرناه في ما تقدم من المقال.
ولا غرو أن نجد مصطلحات كحق الجلسة والجزاء؛ غريبة على دارسي القانون, وذلك لابتعادهم عن الاهتمام بالثراث الفقهي على غرار التشريع الوضعي, ولسنا هنا للإقرار بأن الجلسة والجزاء من التراث, وليس مقصود اعتبارنا لها من التراث كونها من الفقه الصحيح ذو الأصول القوية شرعا, فليس كل فقه صحيحا, فمنه ما بني على أسس وأدلة ضعيفة ومنه ما بني على ما هو أوهى وأكثر من الضعف, ونحن نعلم أن من أدلة التأصيل “الأخذ بالعرف”, ونحن إذ قررنا أن الحقين المذكورين لا أصل لهما إلا دلالة العادة والعرف, فإنه لا بدأن نعلم أن من ضوابط الأخذ بالعرف؛ ألا يكون مخالفا لأصول وقواعد ومقاصد الشريعة, وقد تعارف أهل الجاهلية قبل الإسلام على أمور كثيرة قد يستحسنها العقل وقد لا يستحسنها –لكنها عوائد مقبولة بينهم- لكن الشريعة المحمدية أقرت من أعراف وعوائد الجاهلية أشياء ومنعت أشياءأخرى, فمن جملة ما منعته: عادة توريث زوجة الأب للإبن, وعادة التعامل بالربا …إلخ. ومن جملة ما أقرته : تعارفهم وتعاهدهم على نصرة المظلوم وغير ذلك…
فالإسلام لم يأتي لينسخ كل ما كان من عوائد وطرق تنظيم الحياة قبله, بل جاء ليتمم ويكمل محاسنها, ويطرح عنها كل ما هو منبوذ في ميزانه وعدله, وقد قال عليه الصلاة والسلام مبينا غاية بعتثه ومنه بيان غاية نزول الشريعة “إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق”.[63]
وحيث أن حقي الجلسة والجزاء من العوائد المتعارف عليها زما من الأزمنة فإن كونها عرفا لا يكفي لاعتبارها معاملات مشروعة لأسباب تقدم ذكرها في المقال
(محاماه نت)