دراسات قانونية

الرقابة السياسية للمال العام بين الدستور والإصلاح المرتقب للقانون (بحث قانوني)

الرقابة السياسية للمال العام بين الدستور الجديد و الإصلاح المرتقب للقانون التنظيمي للمالية

لبي محمد

طالب باحث في القانون العام
كلية الحقوق فاس

تهدف الرقابة على المالية العامة إلى المحافظة على الأموال العمومية التي تشكل عماد الدولة وركيزتها، فالدولة لا يمكنها أن تستمر وتستقر بدونها، لهذا فإن ضبط الرقابة المالية وزيادة الاهتمام بها واستقلالية الجهة المخول لها ممارستها والحرص على المصلحة العامة والنظرة الشمولية للمال العام، كل ذلك قد يؤدي إلى الاستعمال الأنسب والأمثل للموارد العمومية في ظروف تدبير اقتصاد الندرة، وإلى قاعدة التحكم في النفقات العمومية حسب معايير النجاعة والفعالية وحسن التدبير .

  موضوع هام للقراءة :  رقم هيئة الابتزاز

وفي ظل تعدد النظريات والاتجاهات التي تناولت معنى الرقابة المالية، يقابله التنوع في أشكال الرقابة المالية، حيث نجد أجهزة مكلفة بالرقابة القبلية التنفيذ المالي و أخرى بالرقابة المزامنة والبعدية .

فالرقابة القبلية يسميها البعض بالرقابة الوقائية أو المانعة وهي التي تتخذ صورة الموافقة القبلية من الأجهزة الرقابية على القرارات المتعلقة بالتصرف بالأموال قبل تنفيذها (1)

فهي إذن رقابة تهدف إلى منع وقوع الأخطاء والمخالفات قبل صرف النفقات، وهي ما يعرف برقابة الالتزام بالنفقات العامة، التي تعتبر شكلا من أشكال الرقابة القبلية.

أما بالنسبة للرقابة الموازية وهي رقابة ذاتية تقوم بها الأجهزة داخل الوحدة الإدارية أو الاقتصادية، للتأكد من أن ما يجري عليه العمل داخلها يتم وفقا للخطط و السياسات المرسومة، ويتميز هذا الشكل بالاستمرارية والشمولية، وقدرته على اكتشاف الأخطار والمخالفات فور وقوعها.

ويقصد بالرقابة البعدية فحص العمليات المالية بعد الصرف، أي الكشف عن المخالفات المالية التي وقعت، وتسعى إلى فرض العقوبات على المخالفين لتفادي عيوب الرقابة القبلية، على هذا الأساس يتم الأخذ بكل من الرقابة القبلية و البعدية معا لأنه كل منهما يكمل الأخر، وذلك لتحقيق الغاية المنشودة وهي حماية المال العام.

وهناك من ينظر للرقابة من زواية الجهة التي تمارسها ، وهي إما رقابة مالية داخلية أو من خارج الإدارة ( أي رقابة مالية خارجية) ، هذه الأخيرة تمارس من قبل أجهزة خارجة عن جهاز الحكومة وتتمثل في الرقابة السياسية و الرقابة القضائية التي يمارسها جهاز قضائي متخصص ( المجلس الأعلى للحسابات والمجالس الجهوية للحاسابات).

إذا كان واقع المنظومة الرقابة للمالية العمومية بالمغرب يتميز بتعدد الأجهزة الرقابية وتفاوت فعاليتها وزمن تدخلها، إضافة إلى رغبة مختلف الفعاليات في بلوغ الأهداف المتوخاة من ترشيد الموارد المالية وصرفها بشكل عقلاني، وتدبير الشأن العام، وتغليق الإدارة بالنظر إلى التطورات المالية والإقتصادية والمحاسبية التي يشهدها العالم المعاصر، ولا يتم ذلك إلا في إطار تفعيل الرقابة المالية للبرلمان، وعليه، فأين تتموقع هذه الرقابة في ظل المنظومة الرقابية للمالية العمومية ، وما هي مقوماتها و آلياتها حسب ما هو منصوص عليه في الدستور فاتح يوليوز 2011 . وحسب مشروع القانوني التنظيمي للمالية؟

وللإجابة عن هذه التساؤل ارتأينا تناول الموضوع وفق التصميم الآتي:

المحور الأول : الرقابة السياسية للمالية العمومية وفقا لدستور الجديد.
المحور الثاني : الرقابة البرلمانية وفق تصور الجديد لمشروع القانون التنظيمي للمالية.

تشكل الرقابة الخارجية إلى جانب الرقابة الداخلية التي تقوم بها الأجهزة التابعة لها والمكلفة بتتبع أنشطتها سواء بشكل قبلي أو بعدي، رقابة تضمن الحياد والنزاهة والشفافية في العمل الرقابي، ولا تخضع لأي ضغط من أية جهة إدارية كانت، ويخول لها ذلك بشكل قانوني من خلال الدستور ( أولا) وباعتماد أساليب و آليات تشكل في مجملها مكنات الرقابة السياسية ( ثانيا)

المحور الأول : الرقابة السياسية للمالية العمومية وفقا لدستور فاتح يوليوز 2011

أولا : الوظيفة التشريعية والرقابية للبرلمان

يقوم البرلمان إضافة إلى وظيفة التشريعية بمهمة التتبع والمراقبة لأعمال الجهاز التنفيذي خاصة في مجال المالي، حيث تكتسي مراقبة المالية العامة هنا طابعا سياسيا لأنها تبين إلى أي حد يتمتع هذا الجهاز بالمصداقية المطلوبة، وخصوصا في ظروف بدأ دور البرلمان يعرف في المادة المالية ترجعات واضحة أمام الأشكال الأخرى للمراقبة ، الشيء الذي جعل القوى الوطنية تطالب بإصلاحات نحو تفعيل دور البرلمان في مجال الرقابة حتى يتم تحقيق نوع من التوازن بين السلطتين التشريعية والتنفيذية ،إلا أن الواقع يتجه عكس ذلك، حيث أنه في غياب الممارسة الديمقراطية، يتم توسيع اختصاصات الجهاز النتفيذي والتقليص من سلطات البرلمان وذلك بطرق متعددة ابتداء من الدستور وانتهاء بالمساطر والمناهج التقنية والمتعة.

الوظيفة التشريعية للبرلمان

تعتبر مجال التشريع من الاختصاصات الأصلية التي نشأ من أجلها البرلمان المغربي بمقتضى دستور 1962 حينما عرف دور البرلمانات العريقة انحصارا ملموسا في مجال الوظيفة التشريعية ، مرد ذلك في نظر أغلب فقهاء القانون إلى الأزمة الاقتصادية التي عرفها العالم سنة 1929، حيث قامت السلطة التنفيذية بما عجز عليه البرلمان في مواجهة التطورات المتصارعة على المستوى الاقتصادي والاجتماعي والتكنولوجي، وتطور العلاقات الإنسانية الأمر الذي حتم على البرلمان تطوير القدرات الفنية والسرعة في اتخاذ القرار.
كما تهدف الوظيفة التشريعية بالأساس إلى تحقيق التوازن بين الصناعة التشريعية والصياغة التشريعية في اتساق تام مع كل من السياسة التشرعية والمنظومة القانونية أي مراعاة توافقهما مع التوجهات السياسية وكذا الدستورية التي تدور حول فلكها السياسات العامة للدولة.
فالصناعة التشريعية تعني إتخاد القرار، وهي التي تترجم في حق التصويت على القوانين الذي يمتلكه النائب البرلماني ، وهي عملية مركبة تنبني على التوفيق بين العديد من البدائل المتوفرة واحترام اختيارات الرأي العام وكذا مراعاة الإمكانات المتاحة لتفعيلها. في حين تعتبر الصياغة التشريعية عملية تقنية تعمل على ضبط تصورات ومتطلبات النائب البرلماني ضمن عبارات مضبوطة وسليمة حتى تصبح قابلة للتنفيذ(2).

إذن فالوظيفة التشريعية للبرلمان لا ينبغي عزلها بأي حال من الأحوال عن المحيط السياسي و السوسيو اقتصادي وكذلك عن نوع العلاقة القائمة بين الحكومة والبرلمان، فالحكومة في ظل ما تستفيد منه من امتيازات العقلنة البرلمانية، قادرة على تشجيع المبادرة البرلمانية في المجال التشريعي، عبر التعامل إيجابيا مع مقترحات القوانين ذات الأصل البرلماني، ومع التعديلات البرلمانية التي تستهدف تقويم مشاريع القوانين و إعادة بناءها.

الوظيفة الرقابية للبرلمان

إضافة إلى الوظيفة التشريعية التي يختص بها البرلمان تعد المراقبة المالية مسألة مهمة بالنسبة لهذا الجهاز،لأن تشكل أحد مهامها الأساسية التي نص عليها دستور 2011 في فصله 75، وتتجسد هذه المراقبة أولا في التصويت على القانون المالي، بحيث يحق دستوريا للبرلمان أن يرخص للحكومة بتحديد طبيعة ومقدار موارد الدولة وتوزيع النفقات العمومية، وتحقيق التوازن بين الموارد والنفقات ، متابعة تنفيذ بنود الميزانية بكيفية مستمرة في الاستخبار حول تدبير المؤسسات العمومية والشبه العمومية(3).
ويمكن تقسيم هذه المراقبة إلى مراقبة سابقة على تنفيذ الميزانية، ومراقبة مزامنة لهذا التنفيذ و أخرى لاحقة له.
فالمراقبة السابقة هي تلك التي يجريها البرلمان على النشاط المالي للحكومة من خلال دراسته ومناقشته لمشروع قانون المالية والتصويت عليه، أما المراقبة المزامنة فتجري عن طريق الأسئلة الكتابية والشفوية، وعن طريق التصويت على القوانين المعدلة لقانون المالية السنوي و إحداث لجان التقصي، أما المراقبة اللاحقة فتجري عن طريق التصويت على مشروع قانون التصفية وفي بعض الحالات إحداث لجن تقصي الحقائق.
ويجب التأكيد على أن مراقبة البرلمان للمالية العمومية هي مراقبة فريدة وخصوصية، وبالتالي لا يمكن تعويضها لأن البرلمان يعبر على إرادة الأمة ومراقبته مراقبة ملحاحة على اعتبار أنه الوحيد الذي يمكن للأمة أن تطلب منه تقديم الحساب على مراقبته، وعلى اعتبار كذلك أنه صاحب سلطة الترخيص لهذا فإن مراقبة البرلمان للمال العام لا يمكن أن تعوض لا من طرف المجلس الأعلى للحسابات، المفتشية العامة للمالية، مديرية المؤسسات العمومية، مراقبة الالتزام بالنفقات(4)
و إعمال الرقابة السياسية لا يتم إلا من خلال الآليات والمكنات التي أقرها الدستور في هذا المجال

ثانيا : آليات الرقابة السياسية للمال العام.

يعتبر البرلمان أغلبية ومعارضة شريكا لا يمكن الاستغناء عنه إلى جانب الحكومة، فاعلا أساسيا في تحقيق التوازن المالي المنصوص عليه في الفقرة الأولى من الفصل 77 من الدستور حيث تنص على أنه ” يستمر البرلمان والحكومة على الحفاظ على توازن مالية الدولة”.
ومن خلال استقراء المقتضيات الدستورية، نجد عدة جوانب عملية من شأنها تعزيز مكانة البرلمان لممارسة رقابته على أعمال الحكومة خصوصا في الشق المرتبط بتنفيذ الميزانية ومدى احترام القواعد القانونية الجارية بها العمل في هذا الجانب وتتمثل في الآتي :

الأسئلة البرلمانية:

في إطار المراقبة السياسية المواكبة تعتبر الأسئلة البرلمانية من الوسائل المهمة لمتابعة السياسة العامة للحكومة، خصوصا في المجال المالي ، وذلك أن الفقرتين 1 و 2 من الفصل 100 من الدستور 2011 تنص على أنه: ” … تخصص بالأسبقية جلسة في كل أسبوع لأسئلة أعضاء مجلس البرلمان و أجوبة الحكومة، تدلي الحكومة بجوابها خلال العشرين يوما التالية لإحالة السؤال إليها .”
و الأسئلة البرلمانية كوسيلة من وسائل المراقبة غير المثيرة للمسؤولية السياسية للحكومة فهي أسئلة كتابية و أخرى شفوية، الهدف منها مطالبة السلطة التنفيذية بتقديم الأجوبة عنها والتي تهم الرأي العام وتمس قصايا وهموم المواطنين طبقا لما تم التنصيص عليه في الفصل 10 من دستور 2011.

تشكيل لجان تقصي الحقائـق

يتم تشكيل لجان تقصي الحقائق طبقا للفقرة الثانية من الفصل 67 من الدستور والتي تنص على ما يلي :” علاوة على اللجان الدائمة المشار إليها في الفقرة السابقة، يجوز أن تشكل بمبادرة من الملك أو بطلب من ثلث أعضاء مجلس النواب، أو ثلث أعضاء مجلس المستشارين ، لجان نيابية لتقصي الحقائق، يناط بها جمع المعلومات المتعلقة بوقائع معنية، أو تدبير المصالح أو المؤسسات أو المقاولات العمومية و إطلاع المجلس الذي شكلها على نتائج أعمالها” ويتم توقيف عملها على الفور بمجرد فتح تحقيق قضائي في الوقائع المراد التحري بشأنها.
ويمكن القول بأن هذه اللجان تلعب دورا كبيرا في تتبع السياسة المالية العامة للحكومة، حيث خول لها المشرع الإطلاع على جميع الوثائق والمستندات التي من شأنها أن تسهل مهمتها، وقد تلعب دورا كبيرا في كشف أهم القضايا نهب المال العام ( قضية القرض العقاري والسياحي وصندوق الضمان الإجتماعي)(5)

المصادقة على القوانين المعدلة لقانون المالية

يعتبر مشروع القانون المعدل لقانون المالية من أهم وسائل المراقبة الموازية على تنفيذ الميزانية، حيث تقوم اللجنة المالية بدراسة القانون المالي المعدل، ومناقشة محتوياته مع الهيئات المعنية والجهات المكلفة والمختصة، لكي تخرج في النهاية بتقرير حول محتوياته، مرفقا بوجهات النظر حول التعديلات المقترحة، ومحددة مواطن الضعف الموجودة في المشروع التعديلي. والأسس والتوجهات اللازمة نهجها لتقويته، بقصد تقديمه للبرلمان لأجل المصادقة والتصويت عليه بنفس الطريقة المتبعة فيما يخص القانون المالي السنوي.
ويتم تقديم القوانين التعديلية في ثلاث فترات من السنة في الصيف والشتاء ثم الربيع وذلك بناء على متغيرات سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية، حيث تعمل السلطة التنفيذية على الاستجابة لهذه الأوضاع من خلال تقديم القوانين التعديلية، ومن خلالها يمكن للبرلمان مطالبة الحكومة بتقديم توضيحات حول ظروف تنفيذ الميزانية ومستويات الإنفاق والجباية وسير المصالح المالية وغير ذلك من البيانات التي تمكن البرلمان من الوقوف على حقيقة الوضعية المالية والتدخل لتكييفها من خلال القانون المالي التعديلي، وفق ما تقتضيه المصلحة العامة.(6)

قانون التصفية

تكمن أهمية قوانين التصفية في تعزيز المهام الرقابية للبرلمان على إستعمال المال العام ونظرا لهذه الأهمية فإن المشرع المغربي خصها في القانون التنظيمي للمجلسين بنصوص تتضمن كيفية مناقشتها والتصويت عليها ، خاصة المادة 47 من القانون التنظيم للمالية رقم 98-7 الذي جاء فيه : ” يثبت في قانون يسمى قانون التصفية، المبلغ النهائي للمداخيل المقبوضة، والنفقات المأمور بصرفها و المتعلقة بنفس السنة المالية، ويحصر فيها حساب نتيجية السنة، ويجب أن يودع مشروع قانون التصفية بمكتب أحد مجلسي البرلمان في نهاية السنة الثانية الموالية لتنفيذ قانون مالية السنة….”
ويمكن القول بأن قانون التصفية هو قانون مالي كباقي القوانين المالية الأخرى فهو يهتم بتصفية حسابات لقانون المالي الأصلي، كما ترد في قانون التصفية كل الجداول بما في ذلك جدول التوازن بين التكاليف والمداخيل أما باقي المقتضيات القانونية الأخرى فلا ترد وذلك لأن المقصود بقانون التصفية هو تصفية الحساب لا غير وعلى هذا الأساس يمكن القول بأن قانون التصفية هو قانون مالية في كل شيء كما أن الأرقام تكون حقيقة عكس قانون المالية الأصلي فتكون الأرقام تقديرية.

تقنية ملتمس الرقابة

تعتبر تقنية ملتمس الرقابة من آليات المنظومة الرقابية البرلمانية، حيث تمكن المعرضة م الانخراط الفعلي في رقابة الحكومة في مختلف مجالات عملها خصوصا فيما يتعلق بالمجال المالي، فهي إحدى الأدوات الرقابية المثيرة للمسؤولية السياسية للحكومة، فبمجرد التلويح باستعمال ملتمس الرقابة قد يشكل ضغطا على الحكومة بغض النظر عن آثاره في إسقاط الحكومة أو عدمه، مما يدفعها إلى تنفيذ الميزانية بما يتوافق مع ما التزمت به أمام المؤسسة البرلمانية وعليه فالفصل 105 من دستور 2011 ينص على أنه ” لمجلس النواب أن يعارض مواصلة الحكومة تحمل مسؤوليتها، بالتصويت على ملتمس الرقابة ولا يقبل هذا الملتمس إلا إذا وقعه على الأقل خمس الأعضاء الذين يتألف منهم المجلس ولا تصلح الموافقة على ملتمس الرقابة من قبل مجلس النواب إلا بتصويت الأغلبية المطلقة للأعضاء الذين يتألف منهم، ولا يقع التصويت إلا بعد مضي ثلاثة أيام كاملة على إيداع الملتمس وتؤدي الموافقة على ملتمس الرقابة إلى إستقالة جماعية و إذا وقعت موافقة مجلس النواب على ملتمس الرقابة فلا يقبل بعد ذلك تقديم ملتمس رقابة أمامه، طيلة السنة”(7)
ومن خلال ما سبق ذكره إن فعالية الرقابة المالية للبرلمان تقترن باستثمار كل التقنيات المتوفرة سواء المؤدية للمسؤولية السياسية أو عدمه، وليس الاقتصار على الأسئلة فقط التي تؤدي وظيفة إلاعلامية و إخبارية أكثر مما تشكل ضغطا حقيقيا على الحكومة وبالتالي فالرقابة الجيدة تقتضي المضي قدما بإصلاح القانون التنظيمي للمالية حتى يقدم تصورا ورؤية جديدة، لتفعيل المقتضيات الدستورية ذات الصلة وكذلك تصحيح الاختلالات والنواقض التي تطبع العمل الرقابي للبرلمان للمالية العمومية.

المحور الثاني : التصور الجديد لإصلاح القانون التنظيمي للمالية

أولا : مشروع القانون التنظيمي للمالية ومواكبة المستجدات الدستورية.

إن إصلاح المشهد المالي العام رهين بمراجعة القانون التنظيمي المالي وبمدى مواكبته للمستجدات التي تشهدها الساحة المالية لاسيمها بعد إقرار الوثيقة الدستورية لفاتح يوليوز2011، حيث يمكن القول إن هناك ارتباط عضويا بين المرجعيات الدستورية التي شهدها المغرب وتعديل القوانين التنظيمية للمالية.
وعلى هذا الأساس فإن إقرار قانون تنظيمي جديد للمالية أضحى فرضية حتمية يستوجب تحقيقها حتى يشكل ثورة في أسلوب التدابير العمومية إستجابة لثقافة التدبير المالي الجديد التي أرسى أهدافها وضوابطها دستور سنة 2011 من خلال ربط المسؤولية بالمحاسبة

أهداف إصلاح القانون التنظيمي للمالية.

إن الأهداف التي ركز عليها المشروع في ملائمته مع المقتضيات الدستورية الجديدة في ميدان المالية تتمثل في مواكبة الدينامية الجديدة للجهوية الموسعة والمساهمة في تعزيز اللاتمركز الإداري مع تقوية التكامل بين النفقات والمداخيل على المستوى الترابي.
وعليه فإن أهم المقتضيات الدستورية في ميدان المالية العمومية الواجب تفعيلها هي المسؤولية المشتركة للحكومة والبرلمان والتي تتمثل حسب المشروع ” في الحفاظ على التوازن المالي للدولة والربط بين المسؤولية والمحاسبة وتقييم السياسات العمومية ومراعاة تناسق وتكامل مجلسي البرلمان ضمانا لنجاعة العمل البرلماني وخصوصا فيما يتعلق بالمناقشة والتصويت على المشروع قانون المالية ، وإلزام الحكومة بتعليل رفض التعديلات البرلمانية، واعتماد البرمجة المتعددة السنوات والمسطرة الجديدة لدراسته والتصويت على قانون المالية وقانون التصفية وتوسيع مجال قانون المالية الذي أصبح يشمل جميع الأحكام الضريبية والجمركية” (8)
كما يهدف المشروع حسب مسودته إلى تقوية فعالية ونجاعة السياسات العمومية وتعزيز تناسقها والتقائيتها و انسجامها وتحسين جودة خدمات المرفق العمومي المقدمة للمواطن والتحكم في تكلفتها وتقوية مسؤولية المدبرين فيها يخص تحقيق الأهداف المرتبطة بالموارد المالية المرخص بها، إضافة إلى تعزيز التعاون المالي وتقوية شفافية المالية العمومية وتبسيط مقروئية الميزانية واقتراح المشروع أيضا في سبيل تعزيز مبدأ الشفافية في تدبير أملاك الدولة، عددا من الإجراءات على رأسها الزامية طرح طلب عروض للمنافسة في أي تفويت لملك من أملاك الدولة لتحقيق الشفافية لاختيار العروض الأفضل وضمان الموارد المثلى ما عدا في حالات استثناءات منصوص عليها في قانون المالية.

مقومات إصلاح القانون التنظيمي للمالية.

إن اختصاص القانون التنظيمي للمالية يتميثل في تنظيم مختلف جوانب القانون المالي من حيث تعريفه، وتحديد أنواعه، ومحتواه، والسلطة المتخصة بإعداده، وكذا كيفية تقديمه، وإجراءا دراسته والتصويت عليه، وقواعد تنفيذه وتصفيته . فالقانون التنظيمي – الحالي- أصبح متجاوزا مما يتطلب اعتماد اصلاح تترجم مقتضياته مبادئ التبسيط والتحديد والملائمة ، وترصد الأموال العمومية بالأهداف والنتائج، وتربط المسؤولية بالمحاسبة (9) باعتبارها إحدى أهم مقومات الحكامة المالية التي أثرها دستور 2011.
فعلى ضوء هذه المستجدات الدستورية ، وكذلك لتجاوز الاختلالات،في تدبير المالية العامة الراهن، سنقوم برصد متطلبات إصلاح القانون التنظيمي للمالية المرتقب وفق مقومات الحكامة المالية :

2-1 اعتماد إصلاح القانون التنظيمي للمالية بمقاربة تشاركية.

لقد تميز إقرار القوانين التنظيمية للمالية عبر التاريخ التشريعي بالمغرب بغياب إعمال المقاربة التشاركية، حيث صدرت قوانين 1963 و 1970 و 1972 في فترات ” فراغ برلماني” ، وكانت مستوحاة من المرسوم الذي أصدره الجنرال ديغول في فرنسا سنة 1959 دون الرجوع إلى البرلمان الفرنسي و أول قانون قامت بإعداده حكومة وقدمته للبرلمان قصد إقراره تمثل في القانون التنظيمي للمالية لسنة 1998(10).
ولتفعيل مبدأ المشاركة المنصوص عليه في دستور 2011 كان من الضروري تضمين مقتضيات إصلاح القانون التنظيمي للمالية المرتقب عدد من الإصلاحات المترجمة للمشاركة الفعالة والفاعلة لممثلي الأمة، وكذا جمعيات المجتمع المدني ومراكز الأبحاث والدراسات الاستراتيجية في صناعة السياسة المالية للدولة، كما نذكر منها:

اعتماد ميكانزمات مالية جديدة من أجل مشاركة البرلمان في المحافظة على توازن مالية الدولة إلى جانب الحكومة وفقا للفصل 77 من دستور فاتح يوليوز 2011.
إحداث هيئة تشاورية اقتراحية، قصد إشراك مختلف الفاعلين الاجتماعين والاقتصادين في إعداد وتقييم تنفيذ قانون المالية والمخططات التنموية الاستراتيجية والبرامج المتعددة السنوات.

2-2 اعتماد مقوم الشفافية المالية.

يركز مقوم الشفافية في إعلام المواطنين و المواطنات على المعلومات المتعلقة بالأنشطة المالية للحكومة، حيث تكون هذه المعلومات شاملة كاملة، وواضحة وبسيطة، وسليمة من أجل عدم تعارض مضامينها مع تعدد الجهات الرسمية التي تشتغل في مجالات متقاربة ، قابلة للمقاربة على المستوى الدولي باعتمادها معايير عالمية، ولن يتأتى ذلك إلا بضمان لولوج إلى المعلومة في الوقت المناسب والملائم.
وإذا كان مشروع قانون المالية، يعمل على عرض توقعات الحكومة لصرف النفقات، واستخلاص الموارد، مع إبراز توضيحات عن كيفية مساهمة مفترحاتها في تحقيق أهدافها، التي تشكل جوهر المعلومات التي يحتاج إليها ممثلوا الأمة لدراسة وتمحيص و مقارنة مضمون المقترحات مع الأهداف المعلنة والاحتياجات الملحة للمواطنات والمواطنينن، لقياس مدى شفافية خطاب و أهداف الحكومة.
وتنزيلا لمبدأ الشفافية عهد دستور 2011 للقانون التنظيمي للمالية – المرتقب- ” تحديد طبيعة المعلومات والوثائق والمعطيات الضرورية لتعزيز المناقشة البرلمانية حول مشروع قانون المالية”(11)
وعلى الرغم من تحديد المادة 33 من القانون التنظيمي للمالية 7-98 فإن الحكومات عملت منذ سنة 1998 على إعداد ونشر عدد من التقارير والوثائق الغير منصوص عليها في المادة أعلاه، والتي تعتبر مكتسبات حقيقية فيما يتعلق بالشفافية ونذكر منها :

تقرير النوع الاجتماعي ( مشروع قانون المالية 2007)
كتيب حول قانون المالية ( مشروع قانون المالية 2010)
التقرير حول المقاصة ( مشروع قانون المالية 2013)
مداخيل الميزانية العامة( مشروع قانون المالية 2010)
نفقات الميزانية العامة ( مشروع قانون المالية 2010)
موارد ونفقات الدولة ( مشروع قانون المالية 2011)
جدول توازن موارد وتكاليف الدولة ( مشروع قانون المالية 2012)

وفي نفس السياق تم إعداد ونشر ميزانية المواطن، التي عرضت مقتضيات قانون المالية لسنة 2013، وتعتبر عمل يتحقق معه التثقيف المالي للمواطن والرفع من وعيه وتمكينه من ممارسة حقه في الولوج إلى المعلومات المالية، لذا ينبغي إقرارها ضمن الوثائق المرفقة لمشروع قانون المالية السنوي، والعمل على إيصالها لكل مواطن عن طريق الإعلام السمعي البصري.

3-2 مقوم المحاسبة والمساءلة.

لقد اعتبرها قانون التصفية آلية لمراقبة تنفيذ الحكومة لقانون المالية، لكن يقابل هذا القانون بالتجميد من طرف الجهاز التنفيذي، خاصة كون الممارسة الحكومية المتبعة في هذا الشأن، لا يتم تقديم قوانين التصفية الا بعد مضي مدة طويلة على سنة تنفيذ الميزانيات المتعلقة بها، وقد تصل المدة إلى 8 أو 9 سنوات في حين أن أجل التقديم القانوني هو السنة الثانية الموالية لسنة تنفيذ القانون المالي على أبعد تقدير . وهذا التأخير يتعارض مع مقتضيات الفصل 47 من القانون التنظيمي رقم 7-98.
كما أهتم دستور 2011 بهذا النوع من المراقبة بدسترة أجل تقديم الحكومة لمشروع قانون التصفية فحددها في السنة الثانية التي تلي سنة تنفيذ قانون المالية حسب الفصل 75 من الدستور.
وحسب التصور الجديد لمشروع القانون التنظيمي للمالية المرتقب، لابد من تكثيف جهود المسؤولين لفتح فضاء للمناقشات المستفيضة والهادفة، للوصول إلى بلورة مقتضيات قانونية شاملة، تعكس متطلبات الفاعلين في هذا المجال، ومن شأنها تحقيق تدبير للمالية العامة مؤسس بمقاربة تشاركية، وقائم على الوضوح و الشفافية وربط بين المسؤولية والمحاسبة.

ثانيا : تأهيل الرقابة السياسية للمالية العمومية وفقا للتصور الجديد لمشروع القانوني التنظيمي للمالية

لقد ركز مغرب ما بعد الإستقلال على العمل لإرساء دعائم نظام مالي مغربي بكل المقاييس من خلال وضع ميزانية موحدة تغطي جميع ربوع المملكة بدون تمييز، وفي هذا الإطار تم إنشاء أول وزارة للمالية في تاريخ المغرب كبديل للمديرية العامة للمالية عهد إليها إصدار القانون التنظيمي في 9 نونبر 1963 (12) الذي حل محله الظهير الصادر بتاريخ 9 أكتوبر 1970 قبل تعوضه بالظهير الصادر بتاريخ 18 شتنبر 1972، وأخيرا ثم إصدار القانون التنظيمي المتمثل في القانون رقم 98-7 كما وقع تغييره وتتمينه بالظهير رقم 195.00.1 الصادر في 19 أبريل 200 الذي يجري به العمل في الوقت الحالي .
ونظرا للظرفية الراهنة التي يعيشها المغرب من الأوراش الكبرى والمشاريع الإصلاحية والهيكلية والتنموية التي أعطى انطلاقتها جلالة الملك محمد السادس وبحكم الواقع العملي والتطبيق التشريعي أبان القانون التنظيمي عن وجود عدة تغرات ، فكان من اللازم إعادة النظر فيه بشكل يتماشى مع الظرفية الراهنة.
وعليه، فقد عملت وزارة المالية على إعداد تصور جديد يتوخى تحديد المحاور الأساسية الرامية إلى إصلاح القانون التنظيمي للمالية الحالي ثم تتويجه في نهاية المطاف بإصدار تقرير خاص حول المسألة مؤرخ في 12 يونيو 2012 يضم الأفكار الأساسية المعتمد عليها لبلورة الإصلاح المرتقب والتي ترتكز أساسا على تقوية الدور الرقابي للبرلمان للمالية العامة كحجر الزاوية في هذا الإصلاح والذي لا يمكن أن يتم إلا من خلال إبداء ملاحظات واستنتاجات مركزة على ضوء المستجدات الدستورية، الغاية منها بيان مكامن الخلل والغموض والنقص التي من المحتمل أن تعتري مشروع القانون التنظيمي للمالية في صيغته المقترحة كالآتي:

التكريس الدستوري لضعف الرقابة المالية للبرلمان.

يعتبر الفصل 77 من الدستور بمثابة المقتضى الذي يتوخى في طياته الحفاظ على توازن مالية الدولة ، حيث ينص على أن ” للحكومة أن ترفض بعد بيان الأسباب، المقترحات والتعديلات التي يتقدم بها أعضاء البرلمان إذا كان قبولها يؤدي بالنسبة لقانون المالية إلى تخفيض الموارد العمومية، أو إلى إحداث تكليف عمومي، أو الزيادة في تكليف موجود”.
والتأويل غير الديمقراطي لهذا الفصل الدستوري يستعمل في الواقع التشريعي كمطبة لتمرير القانون المالي السنوي بكل سهولة بالنسبة للسلطة التنفيذية مما يشكل تعسفا صارخا في حق المبادرة التشرعية البرلمانية وبالتالي يفرغ الفصل 83 من محتواه تماما حيث تنص الفقرة الأولى منه على أن ” لأعضاء مجلس النواب والحكومة حق التعديل. وللحكومة بعد افتتاح المناقشة، أن تعارض في بحث كل تعديل لم يعرض من قبل اللجنة التي يعنيها الأمر”.
كما أن هذا التنصيص الدستوري في الفصل 77 بالغ التقييد لسلطة البرلمان كما كان واردا في دستور 1996 في الفصل 51 منه وتم الإبقاء عليه في الفصل 77 من الدستور الحالي لسنة 2011 والتمسك الصارم بهذا الفصل يؤدي إلى شل المبادرة التشريعية للنواب، لأن كل المقترحات والتعديلات البرلمانية ينجم عنها الزيادة في تكليف موجود أو احداث تكليف عمومي.
بذلك يعتبر الفصل 77 من دستور 2011، بمثابة فيتو تستعمله الحكومة من خلال وزير الاقتصاد والمالية في وجه ممثلي الأمة بمجرد الإعلان عن مقترح لهؤلاء قد يزيد في تكاليف عمومية أو يخفظه في موارد أخرى.
وعلى هذا الأساس يبقى الفصل 77 من الدستور أحد آليات التقييد الرئيسية للمؤسسة التشريعية في اقرار مشروع قانون المالية، وما يزيد من تقل هذا النص أنه لا يقتصر تطبيقه فقط على مشاريع قوانين المالية، بل يمتد إلى مناقشة مختلف مقترحات مشاريع القوانين
واعتبارا للوقت الراهن، أصبح دور البرلمان يركز على تحديد الأهداف وثمن التكلفة و مقارنة الوسائل بالأهداف المحددة ومردودية ما تم إنجازه سابقا، وليس المطلوب منه المصادقة على حجم المصاريف وهو الدور المنتظر تفعيله من خلال مشروع إصلاح القانون التنظيمي للمالية حتى يتمكن البرلمان من القيام بدور فعال في الرقابة على المال العام.

التحكم المطلق للسلطة التنفيذية في التشريع المالي

لقد أقر دستور 2011 – و كقاعدة عامة- صلاحيات إصدار القوانين للسلطة البرلمانية و بشكل صريح في الفصل 70 الذي ينص على ما يلي : ” يمارس البرلمان السلطة التشريعية – يصوت البرلمان على القوانين…”
وبالمقابل نجد الفصل 75 من الدستور الذي يؤكد عل أنه ” يصدر قانون المالية … بالتصويت من قبل البرلمان وذلك وفق الشروط المنصوص عليها في قانون تنظيمي، يحدد هذا القانون التنظيمي طبيعة المعلوماتة الوثائق والمعطيات الضرورية لتعزيز المناقشة البرلمانية حول مشروع قانون المالية …”
ومن خلال هذا التوجه الذي سار عليه المشرع المغربي والقانون التنظيمي للمالية العمومية، فإنه يرسخ احتكار التشريع المالي من قبل السلطة التنفيذية بطريقة منفردة دون إشراك أي جهة أخرى كيفما كان نوعها خصوصا على مستوى إعداد القانون المالي السنوي الشيء الذي يؤدي إلى القول بأن الفصل 75 من الدستور أعلاه يوسع من نطاق أهلية الحكومة للتشريع مكان البرلمان (13)
وبناءا على ذلك فإن الإصلاح المزمع إطلاقه قريبا يقتضي حتما العمل على التخفيف من حدة احتكار وزارة المالية لهذه المسألة من خلال اعتماد المقاربة التشاركية وتجنب تهميش البرلمان وذلك بالتركيز على مرحلة المناقشة لتعزيز الدور الرقابي عبر إغناء المعلومات المقدمة إليه من طرف الحكومة ( المذكرة التقديمية والتقارير القطاعية العامة والخاصة).
فالتعتيم والسرية في العمل الحكومي خاصة في المجال المالي كبحث إدارة البرلمان في ممارسة رقابة فعلية على القوانين المالية ، ففي كثير من الأحيان يجد البرلمان الأبواب الحكومية موصدة في وجهه للإطلاع على مجموعة من الوثائق التي تعنيه في عمله الرقابي سواء أثناء المناقشة داخل لجنة المالية أو مناقشة الميزانيات القطاعية داخل اللجن القطاعية.

وفي هذا الإطار يقترح مشروع إصلاح القانون التنظيمي المالية إعداد الحكومة لـ14 تقرير يرافق مشروع قانون المالية للسنة ويتعلق الأمر بمذكرة تقديمية و بتقارير حول قطاع المؤسسات والمنشأت العامة والنفقات الجبائية والإستثمار وتقرير حول الحسابات المجمعة للقطاع العمومي وميزانية النوع ودين الخزينة والحسابات الخصوصية للخزينة ومرافق الدولة المسيرة وبصورة مستقلة و المساعدات العمومية والمقاصة وكتلة الأجور ومالية الجماعات الترابية وكذا التقرير الاقتصادي والمالي، بالإضافة إلى التقارير المرفقة للوزارة مشروع قانون المالية معدة على أساس توقعات النفقات على المدى المتوسط(14)
كما أن التوسيع في عدد الوثائق التي يمكن للبرلمان الاطلاع عليها يشكل دعامة إسنادية للبرلمان في ممارسة الرقابة المالية على أحسن وجه، فتسعفه في القيام لفحص والتدقيق في مجمل مراحل اعتماد قوانين المالية.

تأهيل آليات الرقابة البرلمانية وفق التصور الجديد للقانون التنظيمي للمالية

3-1 على مستوى مرحلتي الإعداد والدراسة.

إذا كان إعداد مشاريع قوانين يستأثر باحتكار الحكومة وتهميش البرلمان فإن مشروع إصلاح القانون التنظيمي للمالية يؤسس لمرحلة تشاورية جديدة بين الحكومة والبرلمان ، وذلك عبر التعزيز الفعلي لدور البرلمان في مرحلة الإعدادية لمشروع قانون المالية من خلال إدراج البرلمان في الأجندة الحكومية المتعلقة بإعداد مشروع قانون المالية التي تبتدأ في فبراير وتنتهي بإيداع مشروع قانون المالية بالبرلمان 70 يوما قبل نهاية السنة المالية.
ومن الملاحظ أن اقتراحات مشروع إصلاح القانون التنظيمي للمالية فيما يتعلق بمدة دراسته واعتماد قانون المالية أبقت على مدة 70 يوم المعمول بها في القانون التنظيمي للمالية السابق رقم 7-98 كما أن هذه المدة كانت مثار انتقاذ، وذلك أنه كلما كانت كافية ومعقولة إلا ومنحت الفرصة أكثر للبرلمان في إبراز قدراته في مجال الرقابة والتدقيق والتتبع لمضامين مشروع قانون المالي ، وما يزيد من انحصار هده المدة هي عدم التزام الحكومة في حالات كثيرة بإيداع مشروع قانون المالية في وقته المحدد قانونيا.

3-2 على مستوى القوانين المالية التعديلية

و لإعطاء فعالية أكثر ومصداقية للقوانين التعديلية فيقترح المشروع تقليص الجدول الزمني المخصص لدراسة والمصادقة عليه من طرف البرلمان في آجال معقولة لا تتعدى15 يوما، وذلك للأخد بعين الاعتبار الطبيعة الاستعجالية التي يتميز بها هذا النوع من قوانين المالية والتي تنقسم إلى الدراسة والتصويت من طرف مجلس النواب والمستشارين في 12 يوما ومصادقة مجلس النواب بعد دراسته تعديلات مجلس المستشارين في 3 أيام .(15)
ومن الملاحظ أيضا على هذا المستوى إن مشروع الإصلاح فيما يتعلق بالقيد الزمني لمناقشة واعتماد القوانين المالية التعديلية يرتكز على مبدأ تغليب كفة مجلس النواب ومنحه الأسبقية وذلك من خلال منحه صلاحية مناقشة التعديلات الواردة من مجلس المستشارين.

3-3 تأهيل الرقابة على مستوى قانون التصفية

فالمادة 47 من القانون التنظيمي للمالية تنص على أنه ” يثبت في قانون يسمى ( قانون التصفية) المبلغ النهائي للمداخيل المقبوضة والنفقات المأمور بصرفها والمتعلقة بنفس السنة المالية ويحصر فيه حساب نتيجة السنة، ويجب أن يودع مشروع القانون المذكور بمكتب أحد مجلسي البرلمان في نهاية السنة الثانية الموالية لسنة تنفيذ قانون المالية على أبعد تقدير . يرفق مشروع القانون المذكور بتقرير يعده المجلس الأعلى للحسابات حول تنفيذ قانون المالية وبالتصريح العام بمطابقة الحسابات المحاسبين الفردية للحساب العام للمملكة.(16)
وعليه فقانون التصفية يكتسي أهمية بالغة على اعتبار أنه وسيلة لتحسين طرق التقدير والتنبؤ وتقليص هامش الخطأ في إعداد القوانين المالية اللاحقة والتأكد من تنفيذ القانون المالي السنوي، إلا انه على المستوى العملي يتم إفراغ قانون التصفية من مضمونه و أهدافه الرقابية لكونه لا يلقى الإهتمام الكبير من قبل البرلمان والبرلمانيين خلافا للاهتمام الذي يلقاه القانون المالي ، ومرد ذلك التماطل الحكومي وعدم احترام آجال إيداعه للمناقشته، وهذا من شأنه أن يضعف المهمة الرقابية للبرلمان الذي لن يتمكن من فحص نتائج تنفيذ الميزانية من طرف الحكومة.
و إذا كانت المادة 47 من القانون التنظيمي 7-98، نص على وجوب إيداع مشروع قانون التصفية بمكتب أحد مجلسي البرلمان في النهاية السنة التالية الموالية على أبعد تقدير، فإن مشروع الاصلاح يقترح إعداد و إيداعه لدى مجلس النواب من طرف الحكومة سنويا في نهاية الربع الأول من السنة الثانية التي تلي سنة تنفيذ قانون المالية المعني كما يقترح حصر مدة التصويت على المشروع من طرف البرلمان في 6 أشهر على أبعد تقدير من تاريخ إيداعه لدى مجلس النواب.(17)
وعلى هذا الأساس يستوجب الأمر تعديل المادة 47 من القانون التنظيمي للمالية بما يستوجب إلزام الحكومة على إيداع مشروع قانون التصفية في الوقت المحدد ووقف الصيغة المقترحة، حتى يكون وسيلة ناجعة في يد البرلمان لمراقبة السياسة المالية للحكومة.

3-4 تفعيل دور لجان تقصي الحقائق

إن مسألة تشكيل لجان تقصي الحقائق غلب عليها منطق التحقيق في دستور 2011 في فصل 67 خلافا للفصل 42 من دستور 1996 كان يشترط الأغلبية على مستوى المجلسين.
وعليه فإن إحداث لجان تقصي الحقائق بمبادرة من ثلث أعضاء المجلسين من شأنه أن يساهم في تفعيل هذا النوع من الرقابة مما يشكل ضغطا حقيقيا على الحكومة في الانضباط لما أقره الترخيص البرلماني بخصوص قانون المالية السنوي.
.كما أن أهمية هذه اللجان تتمثل في كون تقريرها تناقش في الجلسات العامة مما يفسح المجال لفتح نقاشات مستفيضة قد تمتد إلى مناقشة السياسة المالية للحكومة بمجملها ومما يعزز من مصداقيتها الرقابية هي كونها تحظى بمتابعة إعلامية واسعة وتحظى باهتمام الرأي العام مما يمكن قوله أنها تعتبر بمثابة سيف رقابي مسلط على الحكومة وبالتالي يجب الانتقال من حالة الاستثناء في تشكيل لجان تقصي الحقائق إلى اعتمادها كقاعدة مما سيساهم حتما في فعاليتها كأداة رقابية في المجال المالي.
وتأسيسا على ما سبق فأن الرقابة الفعلية للبرلمان تقتضي استثمار كل ” مكنات الرقابة البرلمانية” سواء المثيرة للمسؤولية أو غير المثيرة للمسؤولية السياسية للحكومة خصوصا و أن المقتضى الدستوري الجديد يخفف من إجراءاتها المسطرية بخصوص تحريكها مقارنة بدستور 1996.
فالأسئلة البرلمانية بصنفيها الشفوية والكتابية مثلا تعتبر من الوسائل الرقابية التي تحظى بالاهتمام الوافر و الأمثل من طرف البرلمانيين فباستقراء مضامينها نجد ضعف الاهتمام بالمجال المالي مقابل تزايد الاهتمام بالمشاكل التي تكتسي البعد المحلي لأسباب مرتبطة من جهة بحرص العديد من البرلمانيين على إرضاء ناخبيهم على مستوى الدائرة الانتخابية.
غير أنه يمكن للأسئلة البرلمانية أن تساهم في اعوجاج الحكومة في التدبير المالي للسياسات العامة وتعيدها إلى جادة الصواب كلما انزاحت عن الطريق الصحيح والسليمة، ويمكن أن تساهم في إعادة نوع من التوازن بين الحكومة والبرلمان في ظل سيادة الهيمنة الحكومية على الاختصاص المالي في مختلف مراحله، إضافة إلى ذلك توجد الأسئلة الموجهة إلى رئيس الحكومة التي تخصص لها جلسة واحدة كل شهر، وتقدم الأجوبة عنها أمام المجلس الذي يعنيه الأمر وذلك طبقا للفصل 100 من دستور 2011، وتمكن هذه الآلية البرلمان من التحري عن مدى تنفيذ مقتضيات القانون المالي للسنة للوقوف على مكامن الخلل و أوجه القصور الحكومي خصوصا و أنها تأتي في شكل نقاش بين رئيس الحكومة و أعضاء البرلمان و بالتحديد الدور الذي تلعبه المعارضة في هذا الجانب حيث تسعى إلى لعب دور المدقق و المراقب للسياسة الحكومية بصفة عامة ولمجال تدبيرها المالي في شتى المجالات الإدارية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.

ففي ظل المتغيرات الحديثة سواء على المستوى الداخلي أو خارجي أصبح التفكير في إصلاح القانون التنظيمي للمالية مطلبا ملحا من أجل تكييف المنظومة القانونية مع قيم الشفافية والحكامة والترشيد العقلانية في التدبير المالي والتي كرسها دستور 2011، فلم يعد من الممكن أن يظل البرلمان خارج السيرورة في اعتماد القوانين المالية فمطلب المقاربة التشاركية فرض صيغ التعاون والتكامل بين الحكومة والبرلمان دون استقواء طرف على الأخر.
فالتوجه الجديد يذهب في اتجاه تعزيز القدرة البرلمانية في المجال المالي واعتبار البرلمان كفاعل أساسي وجوهري إلى جانب الحكومة في ممارسة وظيفته التشريعية والرقابية على المالية العمومية. والتي لا تجعل من دور البرلمان يتمثل في المتتبع والمنتقد بل فاعلا مركزيا في انتاج التشريع المالي من خلال تعزيز تموضعة في سيرورة المراقبة الفعلية والانتقال من الرقابة السياسية إلى السياسة الرقابية على المال العام.

 

(محاماه نت)

إغلاق