دراسات قانونية

القوة القاهرة بين التشريع والقضاء (بحث قانوني)

القوة القاهرة بين التشريع والقضاء المغربي والمقارن

بقلم الباحثين بماستر القانون المدني بكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية جامعة ابن زهر أكادير:
– عبد الحكيم حجامي
– مصطفى هرندو
– خالد كيثا

ص : صفحة
م.س : مرجع سابق
ق.ل.ع :قانون الالتزامات والعقود
م.ت : مدونة التجارة

مـقـدمـة:

  موضوع هام للقراءة :  رقم هيئة الابتزاز

تنبني المسؤولية المدنية، بشقيها العقدي والتقصيري، على فكرة تحمل الطرف المسؤول تبعة الخطأ الصادر عنه، عن طريق أدائه لفائدة الطرف المتضرر تعويضا عادلا يتم تقييمه عن طريق مراجعة القضاء المختص. ويشترط لقيام المسؤولية المدنية، سواء كانت عقدية أو تقصيرية، توافر شروط أساسية تتجلى في صدور خطأ من الطرف المسؤول، إلى جانب حصول ضرر للطرف المتضرر أو المطالب بالحق المدني، دون أن ننسى قيام علاقة سببية تربط بشكل منطقي بين هذا الخطأ والضرر الناتج، حيث يثبت آنذاك أن هذا الضرر ما كان ليحدث لولا وجود هذا الخطأ.
وتهدف قواعد المسؤولية المدنية إلى حماية الأفراد وتوفير الأمن لهم من خلال حماية العلاقات التي تربط بينهم أيا كانت مصادر هذه العلاقات، وذلك عن طرق إلزام الطرف المخطئ بجبر الضرر الحاصل منه للغير انطلاقا من تكليفه بأداء التعويضات.
لكن أحيانا يحدث أن يتواجد الأطراف، وخصوصا المتسببون في ضرر للغير، في حالات تجعلهم في أوضاع لا يمكنهم معها تفادي حدوث هذه الأضرار، كما قد تتواجد حالات أخرى تحدث فيها أضرار للأفراد من دون أن يكون من المُستساغ تحميل أحد تبعتها، ومن هنا ظهرت نظرية القوة القاهرة.
وقد نظم المشرع المغربي القوة القاهرة بشكل عام في الفصلين 268 و 269 من قانون الالتزامات والعقود، بالنسبة للمسؤولية العقدية، والفصل 95 من نفس القانون بالنسبة للمسؤولية التقصيرية، كما أنه أشار إلى بعض الآثار الخاصة التي ترتبها القوة القاهرة في نصوص عديدة من قوانين مختلفة.
وتفيد دراسة نظرية القوة القاهرة في معرفة حدود التأثير الذي تُحدثه على قيام المسؤولية المدنية، بُغية التوفيق بين مصالح الطرف المتسبب في الخطأ والطرف المتضرر ضحية هذا الخطأ، وكذلك في توخي إنتاج أحكام وقرارات قضائية عادلة بين الأطراف المتخاصمة.

وباعتبار القوة القاهرة “نظرية”، فإننا من خلال هذه الدراسة سنحاول الإحاطة بمجموع المواضيع المتعلقة بها: انطلاقا من مفهومها وشروطها وأساسها وصولا إلى نتائجها وآثارها، وذلك من خلال النصوص القانونية والاجتهادات الفقهية ثم الاجتهادات القضائية في كل من التجربة القانونية المغربية وبعض التجارب المقارنة،وبالتالي فمنهجنا في هذه الدراسة هو منهج تحليلي مقارن،نقارب به الموضوع وفق التصميم التالي:

المبحث الأول: الأحكام العامة للقوة القاهرة.
المبحث الثاني: آثار القوة القاهرة وإثباتها.

المبحث الأول : الأحكام العامة للقوة القاهرة:

إن الحديث عن الأحكام العامة للقوة القاهرة يقتضي منا الخوض في مفهومها وأساسها القانوني في مطلب أول، على أن نخصص المطلب الثاني للحديث عن الشروط الأساسية لقيامها.

المطلب الأول: مفهوم القوة القاهرة وأساسها القانوني:

سوف نعالج في الفقرة الأولى من هذا المطلب للخوض في المفاهيم المختلفة التي أعطيت للقوة القاهرة سواء على مستوى التشريع أو القضاء أو الفقه، بينما سنحاول في الفقرة الثانية رسم الحدود التي تفصل القوة القاهرة عن بعض المصطلحات التي تتداخل معها، على أن نعالج في الفقرة الثالثة أساسها القانوني.

الفقرة الأولى : مفهوم القوة القاهرة:

لابد، للوصول إلى مفهوم عام وشامل للقوة القاهرة، من الإطلاع على كل المفاهيم التي أنتجها التشريع من جهة أولى، ثم الاجتهاد الفقهي من جهة ثانية، وكذلك الاجتهاد القضائي من جهة ثالثة.

” أولا: مفهوم القوة القاهرة في التشريع: “

بالرجوع إلى القانون المغربي نجد أن المشرع وضع نصين تشريعيين يشكلان الإطار العام لمفهوم القوة القاهرة ضمن ظهير الالتزامات والعقود، ويتعلق الأمر بالفصلين 268 و269 من ق.ل.ع، فبعدما أسقط المشرع الحق في التعويض بسبب تحقق القوة القاهرة و حدد آثارها بموجب الفصل 268 ،عمد في الفصل الموالي لتعريف القوة القاهرة إذ جاء فيه :
“القوة القاهرة هي كل أمر لا يستطيع الإنسان أن يتوقعه (كالظواهر الطبيعية والفيضانات والجفاف؛ والعواصف والحرائق والجراد)وغارات العدو وفعل السلطة، ويكون من شأنه أن يجعل تنفيذ الالتزام مستحيلا.
ولا يعتبر من قبيل القوة القاهرة الأمر الذي كان من الممكن دفعه ما لم يقم الدليل على أنه بذل كل العناية لدرئه.
وكذلك لا يعتبر من قبيل القوة القاهرة السبب الذي ينتج عن خطأ سابق للمدين”.
فمن خلال مقتضيات هذا النص يمكن أن نخلص إلى أن المشرع المغربي يعتبر أن القوة القاهرة متحققة كلما حدث أمر لم يكن في الحسبان،أي ضرورة توفر عنصر المباغتة و الفجأة، إضافة إلى عنصر العجز عن دفع هذا الحادث زيادة على شرط استقلال هذا الأمر عن إرادة المدين،فلا تكون له يد في حدوثه.
ويلاحظ أن هذا التعريف الذي جاء به المشرع المغربي لا يختلف كثيرا عن التعريف الذي نادى به الفقيه الروماني ulpien، حيث عرف القوة القاهرة بأنها: ” كل ما لم يكن في وسع الإدراك الآدمي أن يتوقعه، وإذا أمكن توقعه فإنه لا يمكن مقاومته”[1]
أما إذا عدنا إلى القانون الفرنسي فإن المشرع الفرنسي لم يوضح المقصود من القوة القاهرة و إنما اكتفى بتحديد آثارها فقط، فبالوقوف على مقتضيات الفصل 1148 من القانون المدن الفرنسي نجده ينفي الحق في التعويض إذا اثبت المدين أنه منع من القيام بما التزم به…[2] كما أن الفصول الأخرى التي تعرضت لنظرية القوة القاهرة إنما تناولته بشكل عرضي إما كأثر،أو كعامل مسقط للمسؤولية العقدية [3].
ونفس الشيء يلاحظ بالنسبة للقانون المدني المصري، حيث لم يعرف هو الآخر القوة القاهرة مكتفيا بالإشارة إليها كسبب أجنبي يعفي من المسؤولية فيما نص عليه الفصل 165 من القانون المني.

” ثانيا: مفهوم القوة القاهرة في الفقه القانوني “

لقد أشار الفقه بدوره إلى مجموعة من التعاريف بخصوص القوة القاهرة، ونشير في هذا المقام إلى بعض منها:
فقد عرفها ستارك بأنها (أي القوة القاهرة) تتكون من كل واقعة غير متوقعة ومستحيلة[4].
في حين يعرفها “دوموك” باستحالة التنفيذ الناتجة عن واقعة غير متوقعة الحدوث من غير أن يساهم فيها خطأ المدين.[5]
أما “الأخوان مازو” فيعتبران القوة القاهرة هي الحادث الفجائي غير المتوقع الذي يستحيل دفعه.[6]

والملاحظ على هذه التعريفات أنها لا تشير إلى الشروط [7] الأساسية لقيام القوة القاهرة مجتمعة، في حين حاول البعض الآخر صياغة تعريفات جامعة، نذكر منها على الخصوص:
القوة القاهرة هي “الواقعة التي تنشأ باستقلال عن إرادة المدين ولا يكون باستطاعته توقعها أو منع حدوثها ويترتب عليها أن يستحيل عليه مطلقا الوفاء بالتزامه.[8]
ونضيف تعريفا آخر،
وهو أن القوة القاهرة هي الحدث الذي لا يمكن توقعه ولا مقاومته، والذي ينتج عن قوة أجنبية، مثل العاصفة والصاعقة والزلزال والحرب وقرار السلطة أو فعل الأمير والإضراب[9].

” ثالثا: القوة القاهرة في الفقه الإسلامي “

بالنسبة للفقه الإسلامي، فإن الفقهاء المسلمون استعملوا الآفة السماوية للدلالة على النازلة أو الأمر غير المتوقع حصوله والذي لا يمكن تلافيه كالأمطار الغزيرة والزلازل والصاعقة، وهي مرادفة للقوة القاهرة،[10] ومن أمثلتها ما ذكره الحنفية: ” لو وضع أحد جمرة على طريق، فهبت بها الريح، وأزالتها عن مكانها، فأحرقت شيئا لا يضمن الواضع، وكذا لو وضع حجرا في الطريق، فجاء السيل، ودحرجه، فكسر شيئا: لا يضمن الواضع؛ لأن جنايته زالت بالماء والريح”[11] والمشرع الأردني يستعمل مصطلح الآفة السماوية تأثرا منه بالفقه الإسلامي.[12]

” رابعا: مفهوم القوة القاهرة على ضوء القضاء “

على مستوى القضاء المغربي، فإنه يعتبر القوة القاهرة هي كل حدث لا يستطيع الإنسان توقعه ولا رده طبقا للفصل 269 من ق ل ع، والكساد في الحركة التجارية لا يعتبر قوة قاهرة[13].

وجاء في قرار حديث للمحكمة الإدارية بالرباط: إن الأمطار الغزيرة والاستثنائية المسببة للفيضان لا تشكل قوة قاهرة، وإنما قرينة على ترتيب المسؤولية لكون وقوعها في فصل الشتاء من الأمور المتوقعة وليست قوة قاهرة أو سببا أجنبيا للإعفاء من المسؤولية، مما يعطي للقوة القاهرة في حقل القانون والقضاء الإداري مفهوما متميزا وخاصا يتلاءم وطبيعة روابط القانون العام تتحمل آثاره الدولة عن – بخلاف – القانون المدني الذي يتحمله المدين[14].

ويذهب المجلس الأعلى سابقا (محكمة النقض حاليا)، إلى أن القوة القاهرة هي كل أمر لا يستطيع الإنسان أن يتوقعه، ويكون من شأنه أن يجعل تنفيذ الالتزام مستحيلا، ولا يعتبر المرض من القوة القاهرة، ويجب إعلام الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي بالتوقف عن العمل خلال 15 يوما الموالية للتوقف[15].

وبالرجوع للقضاء المقارن فإن محكمة النقض الفرنسية قد أشارت إلى أن القوة القاهرة (أو الحادث الفجائي) هي كل حادث لا شأن لإرادة المدين فيه، ولم يمكن توقعه ولا منعه، ويصبح به تنفيذ الالتزام مستحيلا.[16]

أما القضاء المصري، فلم يبتعد كثيرا عما سار عليه نظيره الفرنسي، إذ جاء في أحد قراراته: إذا كان الحكم المطعون فيه قد أقام قضاءه رفض دعوى الطاعنة على أن الضرر قد نشأ عن قوة قاهرة أو عن خطأ قائد سيارة النقل، في حين أنه يشترط لاعتبار الحادث قوة قاهرة عدم إمكان توقعه واستحالة دفعه أو التحرر منه، ولما كان سقوط الأمطار وآثارها على الطريق الترابي في الظروف والملابسات الذي أدى إلى وقوع الحادث في الدعوى الماثلة، من الأمور المألوفة التي يمكن توقعها ولا يستحيل على قائد السيارة المتبصر التحرز منها، وكان الخطأ المنسوب لفائدة سيارة النقل قد انتفى بحكم جنائي قضى ببراءته، فإن الحكم المطعون فيه إذ قضى برفض دعوى الطاعنة – المضرور- بقوله أن الحادث وقع بسبب أجنبي لا يد لفائدة الأتوبيس، يكون قد أخطأ في تطبيق القانون…[17]

وجاء في نقض آخر: إن مخاطر البحر وإن كانت تصلح في ذاتها سببا للإعفاء من المسؤولية ولو كانت متوقعة الحدوث أو يمكن دفعها، إلا أن هذه المخاطر إذا بلغت من الشدة مدى يجعلها غير متوقعة الحدوث أو غير مستطاع دفعها فإنها تعد من قبيل القوة القاهرة التي تصل سببا قانونيا للإعفاء[18].
وتبعا لذلك يشترط لاعتبار الحادث قوة قاهرة وحسب ما جرى به قضاء هذه المحكمة عدم إمكان توقعه واستحالة رده، فإذا تخلف أحد العنصرين انتفت تبعا لذلك القوة القاهرة.

الفقرة الثانية : تمييز القوة القاهرة عن بعض النظم المشابهة

قد يتداخل مفهوم القوة القاهرة مع بعض المفاهيم المقاربة له، مما قد يسبب بعض اللبس، وهو ما سنحاول استجلاءه في هذه الفقرة عند تمييزنا للقوة القاهرة مع كل من الحادث الفجائي والظروف الطارئة ثم حالة الضرورة.

” أولا: القوة القاهرة والحادث الفجائي “

اختلفت آراء الفقهاء حول وجود فرق بين القوة القاهرة والحادث الفجائي،بين قائل بوجوده وآخر منكر لذلك معتبرا أن كلاهما مترادفان.
فحسب الاتجاه الأول الذي يرى باختلاف القوة القاهرة عن الحادث الفجائي يستند إلى ما يلي :
القوة القاهرة هي الحادث الذي يستحيل دفعه في حين أن الحادث الفجائي هو ما لا يمكن توقعه،إذ ينفي – هذا الجانب من الفقه – توفر أحد العنصرين دون استجماعهما لنكون أمام القوة القاهرة إذا استحال الدفع،ونكون بصدد حادث فجائي إذا لم يكن ممكنا توقعه.[19][20]

والحاصل أن هذه الحجة واهية وضعيفة إذ لقيام القوة القاهرة لابد من استجماع عنصرين معا دون أحدهما طبقا للفصل 269 ق.ل.ع، مع ضرورة التمييز في إطار العنصر الثاني المتعلق باستحالة الدفع،بين ما إذا كانت الاستحالة مطلقة فنكون حينها بصدد قوة قاهرة، وبين الحالة التي تكون فيها هذه الاستحالة نسبية،إذ نكون أمام حادث فجائي وقتئذ.
وهذا الدليل كذلك منتقد لأن الاستحالة يجب أن تكون مطلقة سواء في الحادث الفجائي أو القوة القاهرة[21] على فرضية التمييز بينهما.

القوة القاهرة والحادث الفجائي حادثان مستحيلا الدفع غير ممكني الوقوع،لكن القوة القاهرة ذات مصدر خارجي عن الشيء الذي تتحقق به المسؤولية كالعواصف والزلازل،أما الحادث الفجائي فهو ذو مصدر داخلي ينجم عن الشيء ذاته كانفجار هذا الشيء نفسه أو عطله،ويترتب على ذلك أن القوة القاهرة وحدها هي التي تمنع من تحقق المسؤولية،أما الحادث الفجائي فلا يمنع من قيامها وتحميلها للمدين.

ويقيم البعض آخر التمييز بينهما على أساس أن القوة القاهرة هي ما كانت مستحيلة الدفع بالنسبة للكافة،في حين أن الحادث الفجائي هو ما كان مستحيل الدفع بالنسبة للبعض دون الآخرين.[22]
والحاصل أن هذه الاتجاهات أصبحت منتقدة في ظل الفقه والتشريع الحديثين معا،أما الأول فيذهب إلى اعتبار أن الحادث الفجائي هو مرادف للقوة القاهرة،وأن الأمر لا يتعلق بتمييز بينهما،إذ المسألة لا تعدو أن تكون إطلاق اسمين على مسمى واحد،ولو أن بعض التشريعات تستعمل عبارة ” أو ” في معرض حديثها عن ” القوة القاهرة أو الحادث الفجائي ” وحقيقة الأمر أن المسألة تتعلق بعطف لا بتخيير على النحو التالي ” القوة القاهرة والحادث الفجائي “.في حين أن الثاني –التشريع- كما هو حال المشرع المصري، فقد حاول تلافي هذا الإشكال بتوظيفه لعبارة السبب الأجنبي.[23]
ونرجح هذا الاتجاه الأخير لأنه في تقديرنا الخاص،أن الحقل القانوني هو مجال ضبط المصطلحات بامتياز،وإذا ما سلمنا بالرأي الأول فإن أهمية التمييز بين المصطلحين تنمحي وتزول ‘ذا علمنا أن الآثار هي نفسها واحدة، وما يعضد هذا الرأي ما ذهبت إليه محكمة النقض الفرنسية باعتبارها أن القوة القاهرة أو الحادث الفجائي مصطلحين يدلان من الناحية القانونية على مفهوم واحد.[24]

” ثانيا : القوة القاهرة والظروف الطارئة “

نظرية الظروف الطارئة تتمثل في تواجد المتعاقد المدين في ظروف اقتصادية غالبا ما توصف بالصعبة،تجعل تنفيذ الالتزام العقدي ن طرف المدين لا يتم إلا مقابل خسارة جد فادحة لا يمكن رفعها عنه إلا بمراجعة القضاء،[25] وينحصر نطاقها في المجال التعاقدي أي المسؤولية العقدية دون التقصيرية.
إذا فالقوة القاهرة والظروف الطارئة يلتقيان في شرطي عدم التوقع واستحالة الدفع،غير أنهما يختلفان في كون الأولى تجعل تنفيذ الالتزام مستحيلا بينما الثانية تجعله مرهقا فقط.

” ثالثا: القوة القاهرة وحالة الضرورة “

تعني حالة الضرورة الحالة التي يجد فيها الشخص نفسه مضطرا من أجل دفع خطر جسيم إتيان فعل ينتج عنه ضرر أقل جسامة أو مساو للذي كان سيقع لولا تدخله،ويرى الاتجاه الغالب في الفقه والقضاء المعاصرين أن حالة الضرورة سبب من أسباب انتفاء ركن الخطأ ولو بصورة نسبية[26]، وقد تبنى المشرع المصري هذا الموقف في قانونه المدني في المادة 168[27]،أما المشرع المغربي فلم ينظمها في قانون الالتزامات والعقود، لكن ذلك لا يعني استبعادها، فهي وإن ليست سببا للإعفاء من المسؤولية فإنها على الأقل تعتبر سببا للتخفيف منها.[28] وهنا يكمن الاختلاف بينها وبين القوة القاهرة نكون فيها أمام استحالة مطلقة ومن دون مسؤولية ولا تعويض على خلاف حالة الضرورة التي تخفف من حجم المسؤولية مع بقاء الحق في التعويض،كما تختلفان في كون حالة الضرورة لا نكون بددها إلا عندما يكون المضطر أمام ضرورة ارتكاب أحد ضررين، لعجزه عن تفاديهما مع،فيقوم بارتكاب أخفهما،وهذا احد الشروط الضرورية لقيام حالة الضرورة، أما القوة القاهرة فتكون ذات مصدر خارجي عن المسؤول، ولا يكون له أي دخل في إثارته.
وقد نظم المشرع المغربي حالة الضرورة هذه في القانون الجنائي في الفصل 124 من القانون الجنائبي وجعلها من حالات الاباحة والتبرير كلما توفرت شروطها.

الفقرة الثالثة: الأساس القانوني للقوة القاهرة

إن قيام عناصر القوة القاهرة يجعلها مستجمعة لشروطها ويعفي المدين من المسؤولية المدنية عموما، غير أن الفقه غير جمع حول الأساس الذي تبني عليه هذه القوة القاهرة بين قائل بفكرة انتفاء الخطأ (أولا)، وآخر يجعل من انتفاء السببية أساسا للقوة القاهرة (ثانيا).

” أولا: نظرية انتفاء الخطأ “

يبحث هذا الاتجاه الفقهي في عناصر المسؤولية لتبرير القوة القاهرة وأساس اعتبارها سببا معفيا من المسائلة،ولما كانت عناصر المسؤولية المدنية والضرر والعلاقة السببية الناشئة بينهما،فإذا استحال تنفيذ الالتزام على المدين بفعل قوة قاهرة من غير أن يكون له يد في استحالة التنفيذ بفعله أو خطئه،كان غير مسؤول لأنه لم يرتكب أي خطأ أصلا يستتبع بعد ذلك قيام ضرر بفعل علاقة سببية رابطة بينهما.
والملاحظ أن هذا الرأي تعرض لانتقاد لاذع مفاده أنه لا تلازم بين الخطأ والقوة القاهرة،إذ يمكن أن يوجد أحدهما دون الآخر ويمثل جانب من الفقه الفرنسي لذلك بدفع مسؤولية حارس الأشياء،إذ لا يمكنه مطلقا التملص من مسؤوليته على أساس عدم ارتكابه أي خطأ ،ومع ذلك يمكنه دفعها وذلك إذا ما اثبت أن الضرر الذي لحق المضرور كان نتيجة قوة قاهرة أو حادث فجائي.[29]

” ثانيا : نظرية انتفاء السببية “

يؤسِس هذا الاتجاه الفقهي كذلك للقوة القاهرة انطلاقا من أركان المسؤولية المدنية،غير أنه يعتمد على ركن الإسناد أو العلاقة السببية بذل فكرة الخطأ،إذ أن القوة القاهرة تهدم العلاقة السببية بين الضرر الذي لحق الدائن المضرور وبين العمل المباشر للمدين فلا تقوم المسؤولية أصلا، ومن ثمة فإن هذا الاتجاه يجعل القوة القاهرة لا تنفي الخطأ وإنما تهدم العلاقة السببية.[30]

المطلب الثاني: شروط القوة القاهرة

لابد لتحقق القوة القاهرة من أن تتوفر في الواقعة مجموعة من الشروط حددها المشرع بمقتضى الفصل 269 من ق. ل.ع، واستفاض الفقه في تحليلها وتفسير مغزاها.

الفقرة الأولى: أن يكون الحادث غيرممكن توقعه

إن التفصيل في هذا الشرط، يقتضي منا أن نخوض في مفهوم عدم التوقع، وكذلك المعيار الذي نادى به الفقه للقول بوجوده.

” أولا: مفهوم عدم التوقع “

يشترط في الحادث حتى يعتبر قوة قاهرة وبالتالي يعفي من المسؤولية،أن يكون غير متوقع،ولا يخطر في الحسبان حصول مثله عند وقوع الفعل الضار[31]،أي أن يكون حادثا ناذر الوقوع كالفيضانات والزلازل مثلا،فإذا كان المدعى عليه يتوقع حدوث الحادث فلن يعفى من المسائلة [32].
ولا يكون الحادث ممكن التوقع لمجرد أنه سبق وقوعه فيما مضى، فقد يقع حادث في الماضي، ويبقى مع ذلك غير متوقع في المستقبل،إذا كان ناذر الحدوث، بحيث لا يقوم سبب خاص لتوقع حدوثه[33].

فلا يعتبر قوة قاهرة ما كان يمكن توقعه من إجراءات تشريعية كمنع تصدير سلعة،ولا ما يصح في حدود المألوف[34] وقوعه كالمطر في فصل الشتاء،و إنما يعتبر قوة قاهرة ما لا يمكن في حدود المألوف توقعه كالفيضان الشاذ في نهر معد للملاحة [35].
وفي هذا الاتجاه جاء قرار للغرفة التجارية التابعة لمحكمة الاستئناف بالدار البيضاء، والذي جاء فيه : “إن إبحار السفينة في فصل الشتاء يكون من المتوقع معه وجود هيجان في البحر مما ينفي عن الحادثة صفة القوة القاهرة “.[36]
وجاء في قرار آخر صادر عن المحكمة الابتدائية بالدار البيضاء : “إن العاصفة بلغت قوتها عشر درجات،وقعت في شهر دجنبر ،وهي فترة تكثر فيها الزوابع البحرية التي تعترض طريق السفن لا يمكن أن تكون غير متوقعة من طرف الربان…”[37]
لكن ما هو المعيار الذي يمكن الاستناد عليه لتحديد ما إذا كان حادث ما متوقعا أم لا؟ جواب هذا السؤال سيكون موضوع النقطة الموالية :

” ثانيا: معيار عدم التوقع “

يتفق أغلب الفقه[38] على أن معيار عدم التوقع هو معيار موضوعي،يعتمد تقديره على مقياس الرجل العادي الحريص [39]وليس “الرجل شديد الفطنة والذكاء”[40].
وبالتالي فلا يكفي أن يكون الفعل أو الواقعة المكونة للقوة القاهرة مما يمكن لمدين بالذات أن يتوقعه أو أن يتلافاه،وإنما يجب أن يكون عدم التوقع هذا قائما بالنسبة لأي مدين كان؛متى وجد في نفس الظروف التي يوجد فيها المدعى عليه[41]،مع مراعاة الظروف العامة والخارجية التي تخص شخصية المدين وليس الداخلية أو الخاصة به[42].
وعليه فإن شرط عدم التوقع يجب أن يستند إلى معيار موضوعي مع الأخذ بعين الاعتبار الظروف المحيطة بالعقد والتي نشأ في ظلها،إذا تعلق الأمر بمسِؤولية عقدية، وتلك التي حصل فيها الفعل أو الحادث إذا تعلق الأمر بمسؤولية تقصيرية.

فقد تكون هنالك أحداث ممكنة التوقع في فترة زمنية معينة أو في مكان معين لكن لن تكون كذلك في المستقبل أو في جهة أخرى،كما قد لا يكون الحادث متوقعا ولكن توجد عناصر جدية أخرى ترتبط بالزمان أو بالمكان أو بالشخص المتعاقد أو نشاطه المهني توحي بتوقعه [43].

الفقرة الثانية : استحالة دفع الضرر الناشئ عن القوة القاهرة

إن التفصيل في هذا الشرط كذلك، يقتضي منا أن نبحث عن مفهوم عدم القدرة على الدفع، وكذلك المعيار الذي نادى به الفقه للقول بوجوده.

” أولا: مفهوم عدم القدرة على الدفع “

ليكون الحادث قوة قاهرة معفيا منن المسؤولية،لابد أن يكون –زيادة على شرط عدم التوقع- مستحيل الدفع والمقاومة،أي لا يكون في طاقة المدين دفع وقوعه ولا تلافيه، ولا التغلب على نتائج الحادث عقب وقوعه، فلا يستطيع المدين التخلص من تلك النتائج [44]؛وبالتالي يجعل تنفي الالتزام مستحيلا،ويشترط في تلك الاستحالة أن تكون مطلقة، فلا تكون استحالة بالنسبة إلى المدين وحده،بل استحالة بالنسبة إلى أي شخص يكون في موقف المدين.[45]
فإذا كان بإمكان المدين تفادي تأثير الواقعة على تنفيذ الالتزام التعاقدي وذلك ببذله بعض الجهد والمشقة،فإن القوة القاهرة لا تقوم من الناحية القانونية حتى ولو كانت تلك الواقعة مما لا يستطيع المدين العادي توقعه سواء أثناء إبرام العقد أو بعده أو وقت تنفيذه [46]؛وهذا ما قضت به المحكمة الابتدائية بالدار البيضاء،حيث اعتبرت أنه :

“لا يمكن أن توصف القوة القاهرة سوى الأفعال التي تجعل تنفيذ الاتفاقية مستحيلا دون الأحداث التي تجعل تنفيذها صعبا “.[47]
وفي نفس الاتجاه سارت محكمة الاستئناف بالرباط في أحد قراراتها، والذي جاء فيه:
“هيجان البحر بسبب رداءة الطقس لا يشكل القوة القاهرة التي تسمح لربان الباخرة بالتمسك بعدم مسؤوليته عن الأضرار التي أصابت البضاعة المشحونة على ظهر الباخرة،لأن هيجان البحر مما يمكن التغلب عليه والحيلولة دون وقوع الأضرار الحاصلة بسببه.[48]
وقد تبنى المشرع المغربي شرط استحالة الدفع بموجب الفقرة الثانية من الفصل 269 من قانون الالتزامات والعقود.[49]
بقي أن نشير إلى أنه لا يشترط هنا أن تكون الاستحالة مادية، بل يمكن أن تكون أيضا معنوية.[50]

” ثانيا: معيار استحالة الدفع “

بخلاف ما مر معنا بخصوص معيار التوقع-حيث اتفق أغلب الفقه على معيار واحد هو معيار الشخص العادي الحريص- اختلف الفقهاء حول المعيار الواجب الإتباع فيما يخص شرط استحالة الدفع.
هكذا نجد فريقا منهم يدعو إلى تبني معيار شخصي قائم على الأخذ بعين الاعتبار الظروف الشخصية لكل من وجد في موقف المدعى عليه.

وفريق آخر من الفقهاء أكد على وجوب تطبيق معيار موضوعي محض،أي يجب ان تكون عدم القدرة على الدفع مطلقة،لا نسبية تقتصر على شخص المدعى عليه وحده،وإنما يجب أن تطال هذه الاستحالة كل شخص وجد في نفس الظروف في تبريره لموقفه على مقتضيات الفقرة الثانية من الفصل 269 من ق ل ع ،حيث يعتبر أن اشتراط المشرع إقامة الدليل من قبل المدين ببذل كل العناية اشتراط يعني إثبات بذل العناية التي تتلاءم مع الشخص المعتاد من نفس الفئة التي ينتمي إليها المدين.[51]

غير أننا نعتقد أن اعتماد أي نمن المعيارين السالفين-كما ذهب إلى ذلك بعض الفقه[52]- فيه ظلم بين :
فالمعيار الأول يجعلنا أمام حلول متعددة،فظروف عمر ليست هي نفسها ظروف زيد،فما قد يستحيل دفعه بالنسبة لعمرو قد يكون هين الدفع بالنسبة لزيد.
أما المعيار الثاني-المعيار الموضوعي- فيترتب عليه عمليا إسقاط جميع الظروف الخاصة بالمدين والتي يكون لها دور في تلك الاستحالة.
لهذه الأسباب نادى بعض الفقهاء بتطبيق معيار وسط هو معيار الشخص العادي؛ فما يعجز عن دفعه الشخص العادي الذي ينتمي إلى أواسط الناس يعتبر مستحيلا.
ونحن بدورنا نميل إلى هذا المعيار الوسط باعتباره يجمع بين المعيار الموضوعي والشخصي، وينبني على ضوابط ثابتة،غير مرتبطة لا بشخص المدين ولا بالظروف المحيطة بالحادث فقط،وإنما يجمع بين كل ذلك.

أما بخصوص موقف المشرع المغربي،فإن الفقيه محمد الكشبور اعتبر أنه أخذ بمعيار الشخص العادي؛حيث قال :
“الظاهر أن المشرع المغربي قد أخذ بدوره بهذا الحل الوسط،فقد قرر من جهة أولى أنه لا يعد من قبيل القوة القاهرة كلما كان باستطاعة المدين دفعه،وقد قرر من جهة ثانية : ما لم يقم الدليل على أنه بذل كل العناية لدرئه عن نفسه “.[53]

الفقرة الثالثة : ألا يكون للمدين دخل في إثارة القوة القاهرة

لا يمكن للمدين الذي ثبت تورطه في إثارة القوة القاهرة،سواء بفعله أو مشاركته أو مساهمته،أن يتمتع بمقتضيات الفصل 268 من ق.ل.ع وبالتالي يجب ألا تكون لإرادة المدين أي دخل في وقوع الحادث،وفي هذا الإطار اعتبرت محكمة النقض الفرنسية في أحد قراراتها أن الواقعة التي من المفروض أن تكون قوة قاهرة يجب أن تكون أجنبية عن المدين عن كل الأشخاص الذين يسأل قانونيا عنهم من الناحية المدنية في إطار مسؤولية المتبوع عن أعمال تابعه،وأن محكمة النقض تسهر على حسن تطبيق هذا الشرط.[54]

وقد نص المشرع المغربي صراحة على هذا الشرط من خلال الفقرة الأخيرة من الفصل 269 من ق.ل.ع التي جاء فيها :
“…وكذلك لا يعتبر من قبيل القوة القاهرة السبب الذي ينتج عن خطأ سابق للمدين.”
ورغم هذا التنصيص الصريح إلا أن هذا الشرط يبقى من المبادئ العامة المفترضة،على اعتبار أن الشخص لا يمكنه أن يستفيد من الخطأ الصادر عنه[55]،أو أن يصنع دليل إعفاء لنفسه.
فمن غادر محل إقامته وترك مفتاح الدولاب فيه‘حيث كانت السندات المسروقة موجودة في حراسة خادم صغير،فإنه يكون قد أخطأ أو على الأقل أهمل إهمالا لا يبعد فكرة الحادث القهري عن النظر.
ومن التطبيقات الخاصة في المجال التعاقدي لهذا الشرط ما نص عليه الفصل 266 من ق.ل.ع :
“المدين الموجود في حالة مطل يكون مسؤولا عن الحادث الفجائي..”

الفقرة الرابعة: شرط الخارجية

من بين الشروط التي ينادي بها بعض الفقه، وتبناها القضاء الأجنبي، ضرورة أن تكون القوة القاهرة ذات مصدر أجنبي خارجي عن المدين.
ويعد هذا العنصر – عنصر الخارجية – من بين أبرز العناصر التي عرفت جدلا فقهيا حول مدى أهميته، فالفقيه “روديير” يرى أن عنصر الخارجية لا يعد شرطا من شروط القوة القاهرة.[56] أما الفقيه “تانك” فيرى أن هذا العنصر يعد أبرز وأوضح شرط بالنسبة إليها. كما ترى الأستاذة “فيني” إلى أن اصطلاح السبب الأجنبي يحتوي في حد ذاته على معنى الخارجية إضافة إلى كونه عنصرا لازما لتكييف الحدث بأنه قوة قاهرة، فهو مفروض بمقتضى المضمون لهذه القوة القاهرة.[57]
أما بالنسبة للقضاء الفرنسي، فإنه يميل إلى اعتبار هذا الشرط، سواء تعلق الأمر بالمسؤولية التقصيرية أو العقدية. وهو ما يستفاد من عديد الاجتهادات الصادرة عن القضاء الفرنسي، منها ما جاء في أحد قرارات محكمة النقض سنة 1896، حيث اعتبرت أن العيب الخفي في الشيء. والذي كان سببا في إحداث الضرر لا يعتبر أمرا معفيا من المسؤولية المدنية، ما دام أنه داخلي وليس خارجيا عن الشيء محل الحراسة، وبالتالي من محيط الحارس[58].
وفي مجال المسؤولية التقصيرية عن فعل الغير، أصبح القضاء يتطلب ضرورة توفر عنصر الخارجية بالنسبة للأشخاص الذين يسأل عنهم المدعى عليه، حيث يجب أن يكون السبب الذي أحدث الضرر خارجيا عنه[59].

وقد سار الفقه والقضاء المصريين على نهج نظيريهما الفرنسيين، حيث أكد على ضرورة توفر عنصر الخارجية حتى تقوم القوة القاهرة، وهذا الحكم يستفاد من خلال المقتضيات التشريعية التي تقضي بأن الإعفاء من المسؤولية المدنية عموما، يجب أن يكون بسبب أجنبي لا يد للمدين فيه[60].
غير أننا نعتقد – كما أكد على ذلك الفقيه محمد الكشبور[61] – أن شرط الخارجية لا يعدو أن يكون ترديد للشروط التشريعية التي ذكرناها سالفا، وبالتالي فإن توفر تلك الشروط الثلاثة يكفي لقيام القوة القاهرة كسبب معفي من المسؤولية، وهو ما دفع اغلب المراجع الفقهية لتجاهله ما دام أن ما ضمن بالفصل 269 من ق ل ع يُغني عنه من الناحية القانونية.

المبحث الثاني: آثار القوة القاهرة وإثباتها

إن قيام القوة القاهرة عن طريق توفر شروطها التي سبق ذكرها، ينتج عنه آثار مهمة (مطلب أول)، ولابد هنا من الإشارة إلى مسألة الطرف الملقى عليه عبئ إثباتها (مطلب ثاني).

المطلب الأول : آثار القوة القاهرة على المسؤولية المدنية

نظم المشرع المغربي آثار القوة القاهرة على الالتزام التعاقدي بمقتضى الفصل268 من ق.ل.ع (الفقرة الأولى)،وآثارها بالنسبة للالتزام التقصيري بموجب الفصل 95 من ق.ل. (الفقرة الثانية).

” الفقرة الأولى:آثار القوة القاهرة في إطار المسؤولية العقدية “

بعد تحقق القوة القاهرة مستجمعة لكافة شروطها،تترتب عنها مجموعة من الآثار تنسحب إلى الالتزام التعاقدي،حيث تجعله مستحيل التنفيذ (أولا)هذه الاستحالة رتب عليها القانون آثارا مهمة أهمها إعفاء المدين الذي استحال عليه تنفيذ الالتزام من المسؤولية (ثانيا).

” أولا : استحالة تنفيذ الالتزام “

يترتب عن تحقق واقعة القوة القاهرة أن يصبح تنفيذ الالتزام مستحيلا [62]، ونميز من داخل هذه الأثر بين الاستحالة المطلقة والاستحالة الجزئية.

1) الاستحالة المطلقة

إذا استحال على المدين في التزام تعاقدي تنفيذ التزامه لسبب خارج عن إرادته يعزى إلى قوة قاهرة،فإن ذلك يشفع له في التحلل من مسؤوليته العقدية، ويشترط في هذه الاستحالة أن تكون مطلقة[63].
وتطبيقا لهذا المقتضى،صدر قرار عن المجلس الأعلى (محكمة النقض حاليا) جاء فيه :
“…تكون المحكمة قد عللت قضاءها بما فيه الكفاية حين صرحت بأن النقصان الواقع في المحصول الفلاحي راجع إلى حالة الجفاف التي أصابت السنة الفلاحية وأن هذا السبب الأجنبي الذي لم يكن في الوسع دفعه ولا توقعه يكون قوة قاهرة تعفي من تنفيذ الإلتزام بتمامه..”[64]
هكذا فإن عدم قدرة المدين على الوفاء بالتزام ناتج عن علاقة تعاقدية بسبب قوة قاهرة،ينتج عنه تحلل الملتزم من جميع الالتزام،إذا كانت الاستحالة مطلقة،فلا حق للدائن في أن يجبره على التنفيذ ولو ببذل.
وتفريعا على هذا فإن هلكت العين المؤجرة بسبب قوة قاهرة،انفسخ عقد الكراء ولا يحل للمستأجر أن يطالب المؤجر بتشييدها،ولا أن يشيدها المستأجر بنفسه على حساب المِؤجر،حتى ولو كانت العين المكراة مؤمنا عليها لدى إحدى شركات التأمين،وكان المالك قد تلقى تعويضا من قبل الشركة عن هلاك العين المكتراة.[65]

وتطبيقا لمبدإ العقد شريعة المتعاقدين،يمكن للمتعاقدين أن يتفقا على قصر الأثر على اجل تنفيذ العقد،وذلك بتمديد أجل تنفيذه بحيث لا يصبح العقد نافذا إلا بعد حلول الأجل الجديد،أو إبرام عقد جديد مكانه،[66] يضع المتعاقدان في الحسبان عند إبرامه ما استجد من ظروف ووقائع.
كما يمكن للمدين في حالات خاصة أن يطلب من قاضي الموضوع أن يمهله مدة من الزمن من أجل تنفيذ التزامه،وذلك تطبيقا للفصل 243 من ق.ل.ع [67]،وهو ما يعرف بمهلة الميسرة[68].

ويترتب من الناحية القانونية على استحالة تنفيذ الالتزام العقدي، مجموعة من الآثار التابعة لتلك الاستحالة نوجزها كالآتي:
بانقضاء الالتزامات الأصلية يتحلل المدين من الالتزامات المتفرعة عن التزامه الأصلي :فالالتزام التابع يتبع الالتزام الأصلي جودا وعدما،فإذا كان الالتزام العقدي مضمونا بكفالة شخصية أو عينية انقضت الكفالة وبرئت ذمة الكفيل.[69]
انتقال الحقوق ودعاوى المدين إلى دائنه في أصول معينة عند الاقتضاء: ويستفاد هذا الحكم من مضمون الفصل 337 من ق.ل.ع الذي جاء فيه :
“إذا انقضى الالتزام لاستحالة تنفيذه، بغير خطأ المدين فإن الحقوق والدعاوى المتعلقة بالشيء المستحق والعائدة للمدين تنتقل منه للدائن”[70].
تطبيق قواعد الإثراء بلا سبب بخصوص ما تم دفعه من أحد الطرفين،بعد أن أصبح غير مستحق لانقضاء الالتزام بدون تنفيذه بسبب قوة قاهرة.[71]وهذا الحكم يستفاد من نص الفصل 338 من ق.ل.ع .[72]

2) الاستحالة الجزئية

تطرقنا في النقطة السابقة لاستحالة تنفيذ الالتزام بشكل مطلق بسبب القوة القاهرة،لكن هناك حالات قد يقتصر فيها أثر القوة القوة القاهرة على جزء من الالتزام فقط،حيث تظل إمكانية تنفيذ الجزء الآخر قائمة،وتبرأ ذمة المدين في الوفاء فقط في الجزء الجزء الذي طالته القوة القاهرة،لكن قد لا يحقق التنفيذ الجزئي للالتزام الغاية المرجوة من التعاقد في عموميته،والأمر هنا متروك لتقدير قاضي الموضوع الذي قد يرى أن استحالة الوفاء بالجزء الآخر من الالتزام يبرر انقضاء الالتزام كله فيقضي بفسخ العقد إذا كان غير قابل للانقسام[73] وإذا كان ما استحال تنفيذه هو الجزء الأهم من الالتزام،مع مراعاة كون الالتزام أصليا أم تبعيا وما يكون لكل منهما من أهمية في كيان العقد حسبما يرى القاضي في كل حالة بذاتها،وفيما يحقق إرادة المتعاقدين التي تتضح من العقد أو تبين من تفسيره الصحيح بغير إهدار لتلك الإرادة.[74]
والاستحالة الجزئي تكون جزئية إما بالنظر لمدة الانتفاع،أي زمنية،وقد تكون متعلقة بمدى هذا الانتفاع.

فالاستحالة الجزئية زمنيا بالشيء هي التي لا تطال مدة الانتفاع بكاملها،وإنما بمرحلة منها،كما في حالة عقد الإيجار ،حيث لا تستغرق الاستحالة مدة الإيجار بكاملها،وإنما في مرحلة زمنية فقط؛كمصادرة المأجور خلال فترة معينة من مراحل الكراء[75]، ففي هذه الحالة لا يعفى المدين من تنفيذ الالتزام،وإنما يبقى ملزما بذلك بعد زوال أثر القوة القاهرة.
أما الاستحالة الجزئية كميا بالشيء فهي التي تتناول الانتفاع من عين الشيء كما لو تمت مصادرة أو احتلال جزء أو مساحة من العقار دون أن يؤدي ذلك إلى استحالة كلية من الانتفاع بالمأجور وفقا للغرض الذي أعد له.[76]

وفي ميدان نقل الأشياء قرر المشرع المغربي أن انقطاع عقد النقل بسبب حادث فجائي أو قوة قاهرة لا تنسب لأحد الأطراف لا يستحق الناقل ثمن النقل إلا عن المسافة المقطوعة فضلا عما أداه من مصاريف وتسبيقات لازمة.[77]
نفس الأمر طبقه المشرع المغربي بخصوص نقل الأشخاص وذلك بمقتضى الفقرة الثالثة من المادة 478 من مدونة التجارة،[78]
وتترتب عن استحالة تنفيذ الالتزام بسبب قوة قاهرة عديد الآثار،وهي التي ستكون موضوع النقطة التالية من بحثنا.

” ثانيا: الإعفاء من المسؤولية “

رأينا فيما مر معنا أن القوة القاهرة تجعل تنفيذ الالتزام مستحيلا،وبالتالي ينقضي بسبب هذه الاستحالة،لكن هذا الأثر لا يعدو أن يكون أثرا تبعيا مرتبط منطقيا بشرط الاستحالة الذي تقتضيه القوة القاهرة لقيامها،ويبقى أهم أثر للقوة القاهرة هو أنها تعفي المدين من كل مسؤولية عن عدم التنفيذ (1)،وفي أحوال أخرى ينعدم فيها أي أثر للقوة القاهرة على الالتزام (2)،وسنرى هل يمكن أن يكون هذا الإعفاء جزئيا فقط (3).

1) الإعفاء الكلي من المسؤولية

قرر المشرع المغربي قاعدة الإعفاء الكلي من المسؤولية العقدية بموجب 269 من ق.ل.ع.
حيث أعفى المدين من التعويض إذا كان عدم التنفيذ أو التأخير فيه يرجع إلى قوة قاهرة لا يد له في تحريكها،حيث لا التزام بمستحيل،ولا يكلف الشخص فوق طاقته،ولا يلزمه أن يكون خارقا حتى يتجاوز تلك الاستحالة.
لكن إذا كان سبب الاستحالة قد ساهم فيه المدين،فإنه لا يستفيذ من الإعفاء لأن العقد شريعة المتعاقدين[79]،ولا يمكن نقضه إلا برضاهما، كما لا يسوغ للشخص أن يصنع سبب إعفاء يستفيذ منه.

وقد تكون القوة القاهرة سببا قانونيا في انتهاء العقد دون ترتيب أدنى مسؤولية في ذمة أي من طرفيه،كما في عقد الوكالة التجارية الذي ينتهي بقوة القانون بفعل القوة القاهرة،وهذا حسب ما جاءت به الفقرة الأخيرة من المادة 396 من مدونة التجارة.[80]
وفي إطار عقد التأمين لم يخول المشرع المغربي للمؤمن التمسك بسقوط حقوق المؤمن له الناتجة عن أحد شروط العقد إذا أثبت هذا الأخير أن عدم إدلائه بالتصريح بالخطر داخل الآجال القانونية كان بسبب قوة قاهرة أو حادث فجائي،وذلك استنادا على ما جاء في المادة 20[81] من مدونة التأمينات.وبالتالي فالمشرع المغربي أعفى المؤمن له من كامل المسؤولية المترتبة عن الإخلال بالتصريح بالحادث[82] داخل أجل 5 أيام.[83]

هذا فيما يخص الإعفاء الكلي من المسؤولية،لكن هل يمكن أن نتصور إعفاء جزئيا فقط منها؟

2) الإعفاء الجزئي من لمسؤولية

قبل سنة 1982 كان القضاء الفرنسي يأخذ بالإعفاء الجزئي من المسؤولية المدنية كلها،وذلك كلما انعدمت في واقعة إحدى شروط القوة القاهرة أو كلها، حيث كان يعفي المدين جزئيا عن الضرر الناتج عن الواقعة التي لم ترقى لمصاف القوة القاهرة،بل كان ينقصها فقط،فكان القضاء الفرنسي يعتبر أن ربان السفينة التي غرقت نتيجة رياح عاتية تشبه الإعصار لم تعف المدين كلية من المسؤولية وإنما يتم تخفيضها،وهذا الاتجاه وجذ تأييدا له من لدن محكمة النقض التي أكدت هي الأخرى أن القوة القاهرة في مثل هذه الحالة لا تعفي المدين من المسؤولية إلا بكيفية جزئية فقط.[84]
لكن بعد سنة 1982 تراجع القضاء الفرنسي عن هذا التوجه،حيث أصدرت الغرفة الثانية بمحكمة النقض الفرنسية قرارا هاما قررت فيه أن القوة القاهرة إما أن تتحقق كافة شروطها فتعفي كلية من المسؤولية،وإما أن تنعدم هذه الشروط أو بعضها وبالتالي لا يكون للواقعة أي أثر على المسؤولية.[85]
أما بالنسبة لموقف القضاء المغربي والمصري،فإن الفقيه الكشبور اعتبر أنهما سايرا القضاء الفرنسي في توجهه الأخير حيث قال :
” والظاهر أن هذا الموقف الأخير الصادر عن محكمة النقض الفرنسية هو السائد على ما يبدو في كل من القضائين المصري والمغربي،بحيث ليست هناك حلول وسطى تتصل بالإعفاء الجزئي من المسؤولية في حالات الادعاء أو التمسك بالقوة القاهرة.”
وهناك حالات خاصة لا يكون فيها للقوة القاهرة أدنى أثر على الالتزام، وهو ما سنتعرف عليه في النقطة الموالية.

3) عدم تأثير القوة القاهرة على الالتزام

إذا كان المبدأ هو أن القوة القاهرة بتحققها تعفي المدين من كامل المسؤولية عن عدم تنفيذ الالتزام، فإن هناك حالات لا تسعف فيها القوة القاهرة المدين في التحلل من التزاماته، وإنما يبقى مسؤولا رغم تحققها، نذكر منها:

أ) إذا كان المدين وراء تحريك واقعة القوة القاهرة

يستفاد هذا الحكم من القواعد العامة التي تمنع الشخص من أن ينتفع من أخطائه.وكذلك بإعمال مفهوم المخالفة[86] لما جاء به الفصل 335 من ق.ل.ع،[87]التي أكدت على أن الالتزام ينقضي إذا أصبح مستحيلا استحالة طبيعية أو قانونية بغير فعل المدين أو خطإه.وقد أكد المشرع صراحة على هذا الحكم من خلال الفقرة الأخيرة من الفصل 269 من ق.ل.ع التي جاء فيها :
“وكذلك لايعتبر من قبيل القوة القاهرة السبب الذي ينتج عن خطأ سابق للمدين.”

ب) إذا كان المدين في حالة مطل قبل تحقق القوة القاهرة

إن من بين النتائج المترتبة عن دخول المدين في حالة مطل،[88]بسبب عدم تنفيذه الالتزام الذي حل أجل تنفيذه هو تحمله لعواقب ما يمكن أن يطرأ من صعوبات وظروف بعد ذلك قد تجعل تنفيذ الالتزام مستحيلا؛كقوة قاهرة،فحالة المطل تجرد المدين من حقه في الاستفادة من حالة الإعفاء التي ترتبها القوة القاهرة في الحالات العادية،بحيث لو انتفت حالة المطل وتوفرت شروط القوة القاهرة لانقضى الالتزام وأعفي من كامل المسؤولية،وقد نص المشرع المغربي صراحة على هذا المقتضى بموجب الفصل 266 من ق.ل.ع الذي جاء فيه :
“المدين الموجود في حالة مطل يكون مسؤولا عن الحادث الفجائي والقوة القاهرة.”
كما يستفاذ الأمر نفسه بإعمال مفهوم المخالفة لما جاء في الفصل 335 من ق.ل.ع السالف الذكر: “…وقبل أن يصير في حالة مطل.” بمعنى أنه لو أصبح المدين في حالة مطل فإن الملتزم لا يعفى من المسؤولية حتى لو أصبح التنفيذ مستحيلا بسبب قوة قاهرة.

ج) إذا اتفق الطرفان على تحمل المدين للقوة القاهرة

يجوز للطرفين أن يعدلا باتفاقهما من أثر القوة القاهرة أو الحادث الفجائي،ويترتب على ذلك أن يجوز لهما أن يتفقا على أن القوة القاهرة أو الحادث الفجائي لا يعفي المدين من التزامه،[89]فيعتبر صحيحا الشرط الذي يقضي بإلزام الأب بدفع كافة المصاريف المدرسية ولو تعذر على التلميذ مواصلة الدراسة والإقامة طول السنة بسبب قوة قاهرة،وقد أكد المشرع المصري هذه الإمكانية بموجب المادة 217 من القانون المدني التي جاء فيها :
“يجوز الاتفاق على أن يتحمل المدين تبعة الحادث المفاجئ والقوة القاهرة…”

” بعض الآثار الفرعية للقوة القاهرة “

يعد كل من استحالة تنفيذ الالتزام العقدي والإعفاء من المسؤولية العقدية أثرين مباشرين للقوة القاهرة،لكن مع ذلك فهناك آثار فرعية للقوة القاهرة، وسنتناول في هذه الفقرة أثرها على الشرط الجزائي ثم على التقادم.

أولا: أثر القوة القاهرة على الشرط الجزائي

يمكن تعريف الشرط الجزائي بأنه” ” اتفاق سابق على تقدير التعويض الذي يستحقه الدائن في حالة عدم تنفيذ المدين لالتزامه الأصلي أو لمجرد التأخر في تنفيذه”[90]
ويمكن تكييف الشرط الجزائي بأنه جزاء المسؤولية العقدية من جهة، ومن جهة أخرى هو التزام تابع لالتزام أصلي ناشئ عن العقد،وبما أنه كذلك فوجوده يرتبط بوجود الالتزام الأصلي،فإذا أعفي المدين من المسؤولية العقدية بسبب قوة قاهرة فيترتب عن ذلك كذلك رفع الشرط الجزائي وسقوطه.[91]

ثانيا: أثر القوة القاهرة على تقادم الالتزام العقدي

عرف قانون الالتزامات والعقود التقادم في الفصل 371 بنصه على أن:
“التقادم خلال المدة التي يحددها القانون يسقط الدعوى الناشئة عن الالتزام”
ومدة التقادم[92] قد تنقطع [93]وقد تتوقف[94] للأسباب المحددة قانونا.
والقوة القاهرة يمكن اعتبارها من أسباب وقف التقادم، وهو ما يستفاد من الفصل 380 الذي ينص على أنه:

” لا يسري التقادم بالنسبة للحقوق إلا من يوم اكتسابها،وبناء على ذلك لا يكون للتقادم محل:
5) إذا وجد الدائن بالفعل في ظروف تجعل من المستحيل عليه المطالبة بحقوقه خلال الأجل المقرر للتقادم؛”
وعليه إذا كانت هناك ظروف خارجية اضطرارية مستقلة عن شخص الدائن وغير متصلة به كالحرب والأسر وقطع المواصلات، وترتب عن ذلك أن استحال على صاحب الحق أن يقوم بإجراءات المطالبة بحقه، كنا بصدد قوة قاهرة، وبالتالي تتوقف مدة التقادم عن السريان إلى حين زوال تلك الظروف.

الفقرة الثانية: آثار القوة القاهرة على المسؤولية التقصيرية

بالنسبة للالتزام التقصيري فبدوره نص المشرع على إعفاء المسؤول إذا كان الضرر قد نشأ عن قوة قاهرة،وذلك من خلال الفصل 95 من ق.ل.ع[95]ونضرب مثالا على ذلك بنزول صاعقة أحرقت الأجهزة الكهربائية في المستشفى،مما أدى إلى تعطيلها أثناء قيام الطبيب بإجراء عملية جراحية،مما نتج عنه نزيف حاد للمريض أدى إلى إصابته بعاهة أو وفاة؛ففي هذه الحالة لا يسأل الطبيب عن الضرر،لأن القوة القاهرة قطعت علاقة السببية بين الضرر الحاصل للمريض والخطأ الطبي الذي ليس للطبيب شأن فيه.
فإذا كانت القوة القاهرة أو الحادث الفجائي السبب الوحيد في وقوع الضرر فإن علاقة السببية بين الخطأ والضرر تنعدم، ومعها تنعدم المسؤولية، كما لو عاصفة فقلبت السيارة على أحد المارة فأصابته،فهنا لم يقترن الضرر بفعل يؤاخذ عليه المسؤول.
أما إذا اشتركت القوة القاهرة أو الحادث الفجائي مع خطأ المدعى عليه في إحداث الضرر كان المدعى عليه مسؤولا مسؤولية كاملة عن الضرر، كما لو أن سائق السيارة مثلا يسير بسرعة جنونية تفوق الحد المسموح به، ثم هبت ريح شديدة فاقتلعت شجرة وألقت بها أمام السيارة فترتب على ذلك أن جنحت السيارة وانقلبت على المارة فأصابته بجروح، كان السائق مسؤولا تجاه المصاب والتزم بالتعويض عليه تعويضا كاملا.[96]
والملاحظ أن القضاء المغربي يتشدد في الأخذ بالقوة القاهرة للإعفاء من المسؤولية في إطار حراسة الأشياء،لأنه لا يكتفي بتوفر شروط القوة القاهرة من أجل ترتيب آثارها،بل لابد من توافر شروط أخرى أثارها الفصل 88 من ق.ل.ع، ويتعلق الأمر بضرورة أن يثبت الحارس أنه قام بما هو ضروري لمنع الضرر؛ وهو ما أكده القضاء المغربي في العديد من قراراته؛ حيث أشار في أحدها:

“لا يكفي للإعفاء من المسؤولية إلى جانب إثبات خطأ الضحية تصريح المحكمة بأن المسؤول قد فعل كل ما كان ضروريا لتجنب الضرر”[97].
كما صدر حكم عن المحكمة التجارية بأكادير [98] قضت فيه بإجراء خبرة قضائية قصد تحديد التعويض المستحق لأصحاب مراكب الصيد الصغيرة.
وتتلخص وقائع النازلة في أن عاصفة اجتاحت ميناء أكادير في شتاء 2010، أدت إلى اجتياح المياه للميناء مما أدى بدوره إلى جنوح مراكب شركة صونارب بعد افتكاك رباطها، وقد صدمت هذه الأخيرة مراكب الصيد التقليدي الصغيرة لمجموعة من الصيادين التقليديين، وقد باشر هؤلاء دعواهم أمام المحكمة التجارية بأكادير في إطار المسؤولية عن الشيء قصد الحكم على مالكة البواخر (شركة صونارب) بتعويضهم عن الضرر الحاصل لهم (فقدان الربح بالإضافة إلى الضرر المادي).
ومما تمسكت به المدعى عليها شركة صونارب “أن الحادث ناتج عن قوة قاهرة، وأن سبب الحادث غير متوقع والعاصفة كانت قوية ووصلت إلى علم الرأي العام الوطني، وأن أصحاب المراكب التقليدي تم تعويضهم من طرف الدولة بمراكب جديدة. والمحكمة بعد إجراء بحث في النازلة اقتضى نظرها على إصدار أحكام تمهيدية وتعيين خبراء قصد تحديد الضرر الحاصل للمراكب، ما يفيد أنها تجاوزت دفع المدعى عليها بالقوة القاهرة، واستبعدت قيامها .

وبالتالي فالمحكمة تجاوزت دفع المدعى عليها بإعفائها من المسؤولية لتوفر شروط القوة القاهرة،وذلك بتعيينها للخبراء لأجل تحديد مقدار التعويض.
واعتبارا لكون الأحكام النهائية هي التي تكون محل تعليل وإجابة عن الدفوع، فإن علل المحكمة في استبعاد القوة القاهرة تظل مجهولة، لكن يمكن أن تكون المحكمة قد استندت على أن المدعى عليها لم توضح أنها قامت بما يجب لتفادي وقوع الضرر.

ونختم هذه الفقرة بالقول أنه في المسؤولية عن الأفعال الشخصية يستطيع أن ينفي عن نفسه الخطأ لكي يتخلص من مسؤوليته،وبالتالي فإنه قلما يلجأ إلى التمسك بالسبب الأجنبي،اللهم إذا تعذر عليه نفي خطئه،أما في المسؤولية عن فعل الغير أو عن فعل الشيء فإن اللجوء إلى التمسك بالسبب الأجنبي هو الكثير في العمل.[99]

المطلب الثاني: بعض تطبيقات القوة القاهرة وإثباتها

سنتناول في هذا المطلب بعض تطبيقات القوة القاهرة(الفقرة الأولى) لنتناول بعدها في (الفقرة الثانية) على من يقع عبء إثباتها.

الفقرة الأولى: بعض تطبيقات القوة القاهرة

سنحاول من خلال هذه الفقرة بحث أحد أهم تطبيقات القوة القاهرة، ثم نناقش بعدها هل الإضراب يعد من قبيل الوقائع التي تنزل منزلة القوة القاهرة.

” أولا: الحرب كأحد أهم تطبيقات القوة القاهرة “

تعتبر الحرب أحد أهم تطبيقات القوة القاهرة، وذلك لما ينجم عنها من أحداث وأضرار مادية وأزمات اقتصادية،[100] فإذا توفر في الحرب شرطا عدم التوقع واستحالة الدفع وكان لها تأثير على الالتزام اعتبرت قوة قاهرة،أما الشرط الثالث-أي خطأ المدين- فلا يتصور من الناحية الواقعية ولا القانونية أن يكون للمدين دخل في قيام الحرب، لأن الحرب أصبحت من أعمال الدول لا الأفراد.[101]
والذي يجب أن يستحيل دفعه وتوقعه ليس الحرب بذاتها،وإنما ما خلفته من أحداث واضطرابات،فإذا دخل العدو بلدا فطرد سكانها كان هذا قوة قاهرة تعفي المكتري من التزاماته المترتبة عن عقد الكراء، والمودع لديه من التزامه بالمحافظة على الوديعة، وقد تكون الحرب سببا في تقلب سعر العملة وانقطاع المواصلات وغلاء الحاجيات والمواد الأولية، فتكون قوة قاهرة ترفع المسؤولية عن المدين في هذه الأحوال.[102]
وبالنسبة للمشرع المغربي فإنه بتوظيفه لمصطلح “غارات العدو” في الفصل 269 فإن الأمر يمكن أن يقرأ على أنه يقصد به جانبا من جوانب الحرب وليست الحرب في مفهومها الشمولي،فالدولة قد تكون معتدية وقد تكون معتدى عليها، ومبدئيا قد يتمخض الوضع في الحالتين معا عن قوة قاهرة بالنسبة للمدين.[103]
والقضاء الفرنسي من خلال محكمة النقض لم يتعامل بمرونة مع واقعة الحرب، واعتبر أن الحرب في حد ذاتها لا تعتبر قوة قاهرة إلا إذا استجمعت شروطها بالنسبة للمدين،[104]وعليه فظروف الحرب ونتائجها هي التي تشكل قوة قاهرة.

” ثانيا: الإضراب “

قد يحدث أن يدخل تاجر في صعوبات اقتصادية بسبب ممارسة العمال حقهم في الإضراب،وهو الأمر الذي قد ينتج عنه عجزه على تنفيذ التزاماته بسبب ذلك الإضراب،هنا يطرح التساؤل: هل يشكل هذا الإضراب قوة قاهرة يتمسك بها التاجر العاجز عن تنفيذ التزاماته من أجل إعفاءه من تلك الالتزامات؟
كقاعدة عامة فإن الإضراب لا يشكل قوة قاهرة تعفي من المسؤولية، خصوصا عندما يكون رب العمل قد ساهم بشكل ما في تحريكه،أو أنه كانت له القدرة في توقيفه ولكنه لم يفعل،[105] كما لو تعنت رب العمل في الاستجابة لمطالب العمال المشروعة وغير التعسفية، ولو فعل لتم فض الإضراب ولما دخلت مقاولته في تلك الصعوبات.
غير أنه استثناء يمكن اعتبار الإضراب قوة قاهرة تعفي من المسؤولية، كما في الحالة التي تكون فيها مطالب العمال خارجة عن اختصاصات المشغل،كما لو أضرب العمال عن العمل من أجل الزيادة في الأجور، ولكن المشغل لم يستطع الاستجابة لتلك المطالب لوجود قانون سار يمنع أرباب العمل من الزيادة في الأجور.[106]

الفقرة الثانية: إثبات القوة القاهرة

إن القاعدة العامة في مجال الالتزام، أن البينة على المدعي[107] واليمين على من أنكر، أي أن من يدعي حقا على الغير أو على شيء ما، يجب عليه أن يقيم الحجة الدامغة على ادعائه، ويبقى للمدعى عليه إثبات عكس هذا الادعاء بالحجة أيضا.
وفي المجال التعاقدي، فإن الدائن يقيم دعوى يطالب فيها المدين بالوفاء بالتزامه انطلاقا من إثباته لوجود العقد وعدم قيام المدين بتنفيذ هذا الالتزام، ومن ثم يكون للمدين الذي تعذر عليه تنفيذ التزامه بسبب قوة قاهرة أو حادث فجائي أن يثبت وجود هذه القوة القاهرة أو الحادث الفجائي حتى يتحلل من التزامه وأيضا حتى يدفع مسؤوليته العقدية. ونفس الشيء في مجال المسؤولية التقصيرية، حيث يكون للمدعى عليه إثبات وجود القوة القاهرة أو الحادث الفجائي حتى يتحلل من التزامه التقصيري، وبالتالي عدم أدائه للتعويض[108].

وقد أشار الفصل 269 من قانون الالتزامات والعقود إلى بعض الحالات التي تدخل في إطار القوة القاهرة وبالتالي فإن مجرد إثبات الطرف المحتج بالقوة القاهرة وجود إحدى هذه الحالات، يفرض على القاضي الإقرار بثبوتها وترتيب آثارها، دون أن يحق له أن يبحث في مدى اعتبار هذه الحالة تدخل في إطار القوة القاهرة أم لا لأن تكييف هذه الحالات هو تكييف تشريعي للواقع.
أما بخصوص الحالات الأخرى المماثلة أو المستوفية لشروط القوة القاهرة، على اعتبار أن الإشارة إلى هذه الحالات في الفصل 269 من قانون الالتزامات والعقود جاءت على سبيل المثال لا الحصر، فإن القاضي هو الذي يستقل بتقديرها لأنها مسألة من مسائل الواقع.
وبما أن الإثبات في هذا الجانب يتعلق بالوقائع المادية، فإن هذا الإثبات يتم بكافة الوسائل الممكنة كالقرائن وشهادة الشهود. وفيما يخص الوقائع التي نالت من الشهرة حد علم الجميع تقريبا بها كالحروب العالمية والأحداث البارزة والشهيرة، فإن المحتج بها لا يكون ملزما بإثباتها، بل يفترض بالمحكمة العلم بها لأنها تنزل منزلة النص القانوني الذي لا يكون القاضي معذورا بجهله[109].

خاتـمـة

حاولنا من خلال هذه الدراسة رفع اللبس عن أحد أهم أسباب انتفاء المسؤولية المدنية-بشقيها التقصيري والعقدي- الذي هو القوة القاهرة.
وتوصلنا خلالها إلى أن المشرع المغربي وضع تعريفا لهذا السبب من خلال الفصل 269 من ق.ل.ع، عكس نظيره الفرنسي، كما تشدد في شروط قيام القوة القاهرة، حيث أكد على ضرورة استجماع الحادث شروطا ثلاثة حتى يعتبر قوة قاهرة، وهي شرط عدم التوقع وعدم القدرة على الدفع، وأن لا يكون للمدين دخل في إثارة الحادث. واعتبرنا أن الشرطين الأولين كافيين لتحقق القوة القاهرة،لأن الشرط الثالث مرتبط بهما، على اعتبار أن ما كان غير متوقع وغير ممكن دفعه لا يمكن إلا أن يكون خارجا عن إرادة المدين.
وقد حاول بعض الفقه إقامة تميز بين القوة القاهرة والحادث الفجائي،غير أن الأمر-كما رأينا- ليس كذلك، حيث أن الحادث الفجائي والقوة القاهرة تسميتان لمسمى واحد، وقد حاولت التشريعات الحديثة تجاوز ذلك التمييز.
وتشدد التشريعات في شروط قيام القوة القاهرة قابله القضاء بتشدد أقوى، حيث استلزم ضرورة توفر شرط رابع إلى جانب باقي الشروط للقول بالقوة القاهرة وهو شرط الخارجية.
وتترتب عن تحقق القوة القاهرة آثار مهمة أهمها انقضاء الالتزام وعدم ترتيب أدنى مسؤولية على عاتق المدين كونها أعدمت الرابطة السببية بين خطأ المسؤول والضرر اللاحق بالطرف المتضرر، ما لم يكن للمدين دخل إطار الواقعة المكونة للقوة القاهرة.

وفي الختام نعتقد أنه من اللازم على المشرع إعادة النظر في النصوص المنظمة للقوة القاهرة في اتجاه توسيع نطاقها، مع ضرورة أن يتعامل القضاء بصرامة فيما يخص تحقق شروطها في الحادث من عدمه، نظرا للآثار الكبيرة التي تنجم عن تحققها وذلك ضمانا لاستقرار المعاملات.

 

(محاماه نت)

إغلاق