دراسات قانونية
يقينية الدليل الرقمي كقيد للقاضي الجنائي (بحث قانوني)
يقينية الدليل الرقمي كقيد للقاضي الجنائي.
إذا كانت الأدلة المتحصلة من نظم المعالجة الآلية للمعطيات قد تطرح الإشكالات قضائية وفقهية خشية عدم تعبيرها عن الحقيقة نظرا لما يمكن ان تخضع له طرق الحصول عليها من التعرض إلى الإتلاف أو الأخطاء المتعددة ، فإن ذلك قد يتطلب وجود توافر مجموعة من الشروط التي تضفي علىيها المصداقية أو اليقينية .
المطلب الأول: محددات قبول الدليل الرقمي كحجية أمام القاضي الجنائي.
تهدف المسطرة الجنائية إلى وصول القاضي إلى الحقيقة في حكمه سواء بالإدانة أو البراءة ، وهذا لا يتأتى إلا من خلال وصله إلى الحقيقة المؤكدة لكن هذه الحقيقة تدور في نسق به من اليقين ما يؤكد حدوث الفعل وبالتالي الإقتناع .
موضوع هام للقراءة : رقم هيئة الابتزاز
فالحقيقة القضائية لا يمكن التسليم بوجودها ما لم يكن اليقين بها قد أصبح موجودا.
الفقرة الأولى: ماهية اليقين[1] وعلاقته بإقتناع القاضي الجنائي.
يقصد باليقين : ” كشف المعلوم انكشافا لا يبقى معه ريب، ولا يقارنه إمكان الغلط والوهم، ولا يتسع القلب لتقدير ذلك، بل الأمان من الخطإ ينبغي أن يكون مقارنا لليقين “.
ويقصد باليقين في القوانين الإجرائية الجنائية حالة ذهنية تؤكد وجود حقيقة أو تقترب على نحو الحقيقة الواقعية قدر الإمكان .ويمكن الوصول إلى اليقين عن طريق ما تستنتجه وسائل الإدراك المختلفة للقاضي [2]من خلال ما يعرض عليه من وقائع الدعوى ، وما يترسخ في ذهنه من إحتمالات تحمل التأكيد .أما في المادة الجنائية يرى بعض الفقه أن اليقين هو :
” حالة تتشكل في نفس القاضي مسترشدا بعدة أساليب منطقية خالصة وهي:
ما يستخلص من الواقعة من ممكنات – شىء ممكن –ومثال ذلك الصورة التي تنقلها الحواس إلى الإنسان والتي تتفق مع الأفكار الممكنة ويزداد تأكيدها عن طريق الخبرة الإنسانية المكتسبة ، في هذه الحالة ينظر مثلا الى هذه لصور كحقيقة متجسدة في الواقع .
وقد تتعارض مع الحواس والإدراك ظاهرة معينة مما يجعل الأمر يلفه الغموض.
الإستدلال المستمد من تقييم الواقع وهذا يتطلب قدرا من التطابق والتشابه بين شيئين ، وعلى أساس هذا الإتلاف أو التطابق يتم تحليل وإستنباط الأشياء التي يمكن التوصل إليها باستخدام الأسباب الصحيحة المقنعة .
تأتي المرحة الثالثة وهي عبارة عن إستناجات تكون مستمدة من الظروف المرتبطة بالواقعة ،فإذا مثلا دخل شخص إلى نظام المعالجة الآلية للمعطيات لمؤسسة ما وذلك النظام لا يملك قن دخوله ولا يعرفها سوى الموظف المسؤول على حماية نظام المعطيات كمهندس حماية نظام المعالجة الآلية فإن أول ما قد يتبادر الى الذهن بأن هذا الموظف قد ساهم في هذا الدخول غير المشروع الى كل أو جزء نظام المعالجة الآلية للمعطيات .
فهل يمكن القول إعمال الحواس والإستنتاجات في جريمة يحكمها مبدأ العلم الذي تجتمع فيه عدة علوم كالعلوم التقنية والهندسة الرقمية والتحليل للأنظمة المعلوماتية ؟.فهل يمكن القول بأن القاضي عن طريق التحليل والإستنتاج يمكنه التوصل الى الكيفية التي تمت بها الجريمة والأداة التي استخدمت والآثار التي تدل على مرتكب الفعل ومراحل تنفيذها من قبل فاعلها كما حدث على أرض الواقع ،
رغم أن جرائم المس بنظم المعالجة الآلية تتم في مكان لا مادي بالنسبة لرجال القانون ، فنقص معرفة لدى القاضي الجنائي بالعلوم الرقمية وما يحكمها من معادلات حسابيةتجعلهيجهل بكل ما يدور حول هذه الجريمة وبالتالي يصعب عليه وضع استنتاجاتمن أشياء يجهلها ، فالقاضي مثلا ليس له العلم بآخر التطورات التي تحدث في عالم البرامج التخريبية الى غير ذلك من التحولات التي تجعله في حقيقة الأمر مقيدا ولا يمكنه التحدث عن شيء يسمى باليقين – وهذا ما نتناوله بالتفصيل في الفقرة الموالية -.
فاليقين الذي يصل إلى القاضي في النظم الإجرائية المختلفة يقين يتسم بالذاتية لأنه إنتاج ضمير يتأثر بمدى قابلية الشخص واستجابته للدوافع والبواعث المختلفة [3].
فاليقين الذي يصل إليه القاضي ليس مطلقا بل يقينا نسبيا ، وعليه فالنتائج التي يمكن التوصل إليها تكون عرضة للتنوع والإختلاف في التقدير من قاض لآخر، فالتأثير يختلف من قاضي لأخر نظرا لاختلاف الأسباب المؤثرة والتي تكون أساسا لبناء تقييم يؤدي بالقاضي الوصول إلى اقتناع يبني عليه حكمه ، حيث اختلف الفقه بين من يرى ضرورة خلو ذهن القاضي من أي موضوع قد يؤثر عليه وأن يتجه الى المحكمة خالي الذهن [4]وهذا ما لا يمكن تطبيقه حيث يرى الإتجاه الثاني[5] أن اليقين مهما كان ذاتيا ونسبيا إلا انه مع ذلك مرضيا للذهن فكل ما تطمح إليه العدالة الجنائية هي يقين معقول يبني القاضي عليه أسسا لإصدار حكمه.
وعليه نرى أنه من أجل بناء يقين سليم بعيد عن أي تأثير قد يتخذه القاضي مسبقا نظرا لتأثره بموقف ما ، يجب على القضاة أن يتسموا بالثبات [6].
الفقرة الثانية: ضوابط مبدأ اليقين في النظام الإجرائي .
يتسم مبدأ اليقين كونه نتيجة عمل في صورة إنتاج الضمير الذي عنده تقديره للوقائع المطروحة على بساط لا يتأثر بمدى قابلية الفرد واستجابته للدوافع والبواعث المختلفة [7].
واليقين يختلف من قاضي لآخر ، فان عرضنا نفس القضية على عدة قضاء ، فان درجة يقينهم تختلف من قاضي لآخر ، وهكذا فاليقين ليس مطلقا في غالب الحالات المعروضة على القضاء بل هو نسبي نظرا لإختلاف التقدير من قاضي لآخر .
فالشخصية تختلف من قاضي لاخر وهذا يتعكس على تحليل وتقييم الوقائع المعروضة من اجل الوصول إلى اقتناع كافي ، نظرا للخبرات والتجارب التي مرت على القاضي والتي تساعده في تكوسن رأي مقنع بناء على مبدا يقيني ، وهذا ما قد لا نجده في قضاء عصرنا الحالي فقد يرفض القاضي في بعض الأحيان الرضوخ ومحاولة مواكبه معلومات قد لا تتفق مع خبراته السابقة خصوصا في مجال جرائم المس بنظم المعالجة الآلية للحاسوب .
للإطلاع المسبق وتكوين فكره من أوراق ملق القضية المطروحة عليه ، ومن ثم يحاول القاضي ان يوجه مسار التحقيقات وتفسير الوقائع من الفكرة المسبقة المكونة لديه فيزداد الإقناع يقينا في إتجاه غير صحيح .
وعليه يمكن تقسيم مبدأ اليقين الى :
اليقين البديهي [8] وهو يقين يعتمد على البديهيات أو المسلمات المقبولة عامة في الضمير الإنساني ، ولعل من الأمثلة اليقين المتعلق الرياضيات .
اليقين الإستقرائي وهو الذي يعتمد على الإستدلال بالقياس لإثبات شيء معين
اليقين الميتافيزيقي وهو يقين غيبي يستنبط من أمور غيبية .
اليقين الفيزيقي.وهو طبيعي يستنبط من إدراك الحواس البشرية .
لكن الفقه القانوني الإجرائي الحالي أصبح يعتمد بشك كبير على يقين قانوني ويعني تلك الحالة الناجمة عن القيمة التي يضفيها القانون على الأدلة ويفرضها على القاضي بمقتضى ما يصدره من قواعد قانونية محددة ، وهو نوع من اليقين يتلقاه القاضي عن إرادة المشرع.
من خلال ما سبق ذكره نستنتج أن اليقين والإقتناع والحقيقة عبارة عن سلسلة واحدة تدور في نسق واحد ذات علاقة تكامل فكل نوع يحتفظ بخاصيته واستقلاله في مواجهة الآخرين فوصول القاضي الى درجة اليقين يتولد عنه قناعته الشخصية بالحقيقة فاليقين يعتبر اللبنة الأولى التي تتولد وتنبثق عنها اليقين الذي يتدرج من الضعف غلى القوة مع تقدم إجراءات الدعوى الجنائية مع العلم أن هذا التدرج الذي يصاحب الإقتناع ينشا عنه ما يسمى بالإقتناع اليقيني من أجل الوصول إلى الحقيقة القضائية .وعليه هذه العناصر هي مترابطة فيما بينها ولا يمكن التخلي عن واحدة منها .
يقينية الدليل الرقمي كقيد للقاضي الجنائي.
وبالتالي يمكن القول أن القاضي إذا استطاع الوصول إلى اليقين بحيث اذا استطاع إدراك الأدلة الرقمية أو المخرجات فان حالة الذهن تتطابق مع العقل وحالة الواقع والوصول الى الحقيقة ، أما إذا تشكك القاضي وعدم قدرة الأدلة الرقمية الناتجة عن الأنظمة المعلوماتية توصيل القاضي إلى مرحلة اليقين فانه يمكن القول بعدم قيام عنصر اليقين – هذا الأخير يتباعد ويقصى وبالتالي تكون قناعة القاضي الشخصية بعيدة عن الحقيقة في بعض الأحيان – ، لكن هذا لا يعني البتة التحكم القضائي ، فلا يجوز للقاضي ان يقضي وفقا لشعوره وتحليله وإنما هو ملتزم بأن يتحرى المنطق الدقيق في تفكيره الذي قاده الى اقتناعه وتقييده بالأدلة اليقينية يستوجب ان تقترب الأدلة نحو الحقيقة الواقعية حيث لا تقبل الشك وأن تبتعد عن التخمينات والشكوك وبالتالي يكون أمام القاضي قيود أطرها له القانون يجب عليه إحترامها .
(محاماه نت)