دراسات قانونية
الإشكالات القضائية المتعلقة بوساطة الأم (بحث قانوني)
الإشكالات القضائية المتعلقة بولاية الأم بقلم الدكتور عادل حاميدي
الدكتور عـادل حاميـــدي
رئيس المحكمة الابتدائية بالصويرة
أستاذ زائر بكلية الحقوق – جامعة ابن زهر- أكادير
حرصت الشريعة الغرّاء على حماية الإنسان الضعيف سواء كان ضعفه مصاحبا له منذ ولادته أو طارئا بعد ذلك، وهو ما نلحظه من ترتيب أحكام الولاية([1]) والتي شرعت لحماية حقوق المولى عنه الشخصية والمالية من الضياع حيث تظل نفسه وماله مصونة إلى أن يرشد سويا. فالتربية أساس لبناء مقومات الشخصية السليمة والمال قوام الحياة، وإذا أصلحت النفس بالتربية والتوجيه السليم، والمال بحفظه واستثماره في أوجه الكسب النافعة صلح المجتمع ككل، باعتبار صلاح مقوماته البشرية والمالية، فكان للولاية والحالة ما ذكر ارتباط وثيق بالنظام العام الأسري، فأي خلل فيها يضطرب له نظام الأمة و تنخرم به أسس الأسرة ، لتعلقها بصيانة حقوق فئة عاجزة عن تولي أمرها بسبب خارج عن إرادتها والقيام بشؤونها، وكونها سلطة شرعية تتقاطع مع مجالات عدة، دينية ومالية وأسرية([2]).
فالولاية شرعت للتوجيه السليم وحسن النظر لا للاستغلال والإذلال وهي تتعلق بأهم ما في حياة الإنسان النفس والمال، ولأجله خصت الولاية بتنظيم محكم على كافة الأصعدة شرعا ووضعا، مدنيا و أسريا و زجريا([3])، حيث كان الحرص على إسناد الولاية لمن هو أهل لها ولمن يكون أكثر حرصا على رعاية مصالح المحجور حيث يراعى في ذلك جانب العطف والشفقة ولأجله يتحرى فيها الأقرب فالأقرب. حيث اقتصرت ابتداءً على أخص القرابة أبا وأما وجوزت النيابة الشرعية إيصاء وتقديما حتى من الأباعد ضرورة، قياما بمصالح المحجور، وفي ذلك إشاعة لمعاني التكافل والتساند وفي ذلك يقول الرسول الأكرم: “كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته.”([4]).
وقد عدّ الاعتراف للأم بحقها في الولاية أسوة بالأب وصياغته في النص القانوني الأسري في طليعة المكتسبات المقررة لمصلحة المرأة التزاما بمبدأ المساواة والمشاركة لا المغالبة، وجعل الأسرة تحت مسؤولية ورعاية الزوجين وفق ما كرسته المدونة([5]). فخروج المرأة إلى العمل وانتقالها من شخص مُعال إلى شخص فَعال له دخل قار وقادر على حسن التدبير الاقتصادي، أسوة بالرجل، وكونها الأرحم والأدرى بمصالح أبنائها وحاجاتهم النفسية والمالية والأحرص من غيرها عليها، فضلا عن التحولات الكبرى التي شهدها المجتمع المغربي، حيث عهد للمرأة بكافة الأدوار عدا ما يتنافى مع خصوصيتها غيّر من النظرة الدونية للمرأة([6])،
وحدّ نسبيا من القيود العرفية المفروضة على ولاية الأم الشخصية والمالية على أبنائها القصر، مما حمل المشرع على مواكبة هذه المتغيرات والاعتراف لها قانونا بكونها وليا بعد أن كانت هي نفسها خاضعة لولاية الأب وسطوته([7]) حيث تم التعويل على أحكام الفقه الشافعي لإساغة هذا الأمر، وإلا فإن جمهور الفقهاء لا يعتبرون الأم وليا([8])، لكن الإكراهات الواقعية متمثلة في وجود قواعد عرفية حاكمة ووجود بيروقراطية إدارية متجذِرة ترفض تغيير واقع مكرس سنين عددا، حالت دون بلورة المكتسب المذكور، حيث يقع التفريق بين ولاية الأم والأب وفق تمثلات متجذرة ويقصر أثر ومعاني الولاية على الأب خاصة من لدن الإدارات العامة والخاصة، فغدت ولاية شكلية وهذا الأمر يعد من أبرز تجليات وجود قطيعة بين نصوص القانون المسنونة والواقع([9]). وهو ما يستلزم منا كقيد منهجي بيان ولاية الأم، معنى وصعوبات وآثارا.
أولا: الفرق بين ولايــة الأب والأم
إذا كان كل من الأب والأم وليا بقوة القانون عملا بمقتضيات المادة 230 من المدونة. بما يخوله ذلك من قيام على شخص المولى عليه وعلى ماله، وما يستوجبه ذلك من مسؤولية حال التعدي أو التقصير، فإن هناك فروقا جوهرية بين ولايتهما، وتتمثل في:
أن ولاية الأب محمولة على السداد في الشق المالي إدارة وتصرفا بحكم تمرسه بها بخلاف الأم، خاصة إذا كانت من ذوات الحجاب لا تمارس عملا عاما أو خاصا ولهذه العلة لم يعتبر جمهور الفقهاء الأم وليا، قال ابن تيمية: “لا يجوز أن يولى على مال اليتامى إلا من كان قويا وخبيرا بما يولى عليه، والواجب إذا لم يكن بهذه الصفة أن يستبدل به من يصلح”([10]).
أن ولاية الأب تقتضي اتباع القاصر لدين أبيه المسلم لا أمه ولو كانت وليا وكذا التكني بكنيته، ولأجله اشترط بعض الفقهاء لقبول ولاية الولي الأب اتحاد الدين بينه وبين ولده القاصر، قال الزرقاني:” والولي الأب المسلم الرشيد”([11])، فيشترط إسلام الولي إذا كان المولى عليه مسلما.
أن ولاية الأم خلافا لولاية الأب متوقفة على تحقق شرطين نصت عليهما المادة 238 من المدونة، أولهما أن تكون راشدة، وثانيهما عدم وجود الأب بسبب وفاة أو غيبة أو فقدان للأهلية.
أن ولاية الأم قد تكون مؤقتة أو دائمة، أما ولاية الأب هي في سائر الأحوال دائمة. فللأم أن تمارس الولاية المؤقتة قياما بالمصالح المستجلبة لولدها والتي لا تحتمل انتظار زوال المانع، نظير استخراج أو توقيع وثائق إدارية أو إجراء عملية جراحية أو نحوها من الحالات الطارئة التي مدارها جلب منفعة للولد القاصر أو دفع ضرر محقق عنه([12]).
أن ولاية الأب أصلية وأما ولاية الأم فهي ولاية بديلة أو احتياطية، لا تكون إلا حال عدم وجود الأب لوفاته أو غيبته غيبة اتصال وانقطاع أو كونه غير معروف أو فقد أهليته أو عدم ثبوت نسب الولد القاصر إليه بمقرر قضائي مبرم([13])، كما تنص على ذلك المادة 238 من المدونة، باعتبار أن الزوج هو رب الأسرة وقائد دفتها شرعا([14])، والساهر على مصالحها المادية والمعنوية، وحتى لا يكون هناك تنازع أو تداخل بين جهتين تملكان ذات الاختصاص، فتتعرض حقوق الأبناء المُولى عليهم للضياع، وقد نبه المنشور الصادر عن وزير العدل بتاريخ 2/2/2005 تحت عدد 52 حول تطبيق مقتضيات المواد 231 و240 و250 من مدونة الأسرة على هذا الأمر من خلال اعتباره أن صلاحيات كل نائب شرعي محدّدة بمقتضى القانون، ويجب أن تراعى عند التطبيق والممارسة منعا لكل تنازع.
أن ولاية الأب محمية بمقتضى الفصل 477 من مجموعة القانون الجنائي الذي جرم كل اعتداء على ولايته بخلاف ولاية الأم([15]).
ثانـيا: الصعوبات الواقعية في تكريس مفهوم ولاية الأم
طرح اعتبار الأم وليا حال وفاة الأب أو فقد أهليته أو غيبته إشكالات حقيقية في تكريس هذا المفهوم دلالة وأثرا على الصعيد الواقعي، وذلك لوجود رواسب عرفية وأحكام قيمة متجذرة تحظر الاعتراف للمرأة بحقها ذاك([16])، وتعتبر مشاركة الأم للأب في الولاية نقضا لمفهوم القوامة([17]) وتسوية فيما لا تجوز التسوية فيه، ويعزى هذا الأمر في مجمله إلى عوامل ثلاثة رئيسة، أولها عدم التعريف بهذا المكتسب التشريعي وفق ما ينبغي، سيما على صعيد الإدارات العامة والقطاعات الخاصة، وثانيهما استحكام قواعد عرفية ومناهضتها للقواعد القانونية والتي لا تكون ملزمة خلافا للمفترض سوى بصفة نظرية، طالما أنها بلا مفاعيل أو جدوى،
وثالثها عدم احتواء القاعدة القانونية الناصة على المكتسب على جزاء رادع حال المخالفة، أو ما يصطلح فقها بالجزاء المؤيّد. وهذه العوامل كفيلة بجعله أي مكتسب في عداد المكتسبات الشكلية التي تبقى حبيسة النصوص القانونية، وهذا الأمر يظهر بجلاء ضعف تأثير القانون وقوة العرف واستحكامه في النفوس، وتمكنه من العقول في مجتمعنا وفي كل مجتمع لا يُحتكم فيه إلى القانون بصفة مطلقة ولا يعتبر الإذعان له أولوية، فتحدث ازدواجية القانون الشكلي والقانون العرفي أو الواقعي، والعبرة تكون دائما بالنتائج المنظورة بمعنى حكم الواقع.
ولعل هذا الأمر كان يتطلب النزوع نحو منهج التدرج في التشريع إلى حين إيجاد الظروف المواتية التي تجعل المجتمع يتقبل هذا الأمر بقبول حسن دون صدود، فيتكرس هذا الأمر ابتداءً في الواقع، فلا يكون إقرار هذا الأمر في نص قانوني سوى تحصيل حاصل وتأكيدا لأمر واقع فعلا، فيكون الواقع سندا وظهيرا للقاعدة القانونية، وفق منطق واجب المراعاة، إذ يفترض في القاعدة القانونية تنظيمها لوقائع حادثة لا محاولتها تكريس وقائع معينة قهرا تعويلا فقط على قوة الإلزام النظرية التي قد لا تتعدى عتبات النصوص القانونية.
ففيما يخص الدلالة يترتب اعتبار الأم وليا بمقتضى المادة 230 من المدونة تخويلها جميع سلطات الولي الشخصية والمالية، شرط كونها راشدة عاقلة([18])، عدا ما تستثنيه القوانين من لزوم خضوع الولي بصفة عامة لمراقبة قاضي شؤون القاصرين إذا تعدت أموال المحجور مائتي ألف درهم، عملا بمقتضيات المادة 240 من مدونة الأسرة، فنظرا لكون المحجور عليهم لا يملكون أهلية أداء بتمامها إذ ينقصهم الإدراك والتمييز أحيانا والخبرة دائما، أجاز الشرع المنيف قيام ولاية الأم لأجل مساعدتهم على اقتضاء حقوقهم وأداء واجباتهم وإدارة أمورهم ضمن شروط معينة تحميهم من أنفسهم ومن الغير أو من جور الأم أو ورعونتها أو خطئها جهلا بأصول الإدارة والتصرف.
ومعنى ذلك أن للأم في مال ولدها القاصر سلطة الإدارة والتصرف، ولها على شخصه حق الرعاية والتربية والتوجيه بما يضمن صلاحه و كمال جسمه و صحة عقله. فالقيام على شخص الولد القاصر يسمى ولاية على النفس وعلى ماله يسمى ولاية على المال([19]). ولأجله عدّ من بين مكتسبات مدونة الأسرة في موضوع النيابة الشرعية تأكيدها الصريح بمقتضى المادة 235 منها على قيام صاحب النيابة الشرعية بالعناية بشؤون المحجور الشخصية من توجيه ديني وتكويني وإعداد للحياة. وقيامه بكل ما يتعلق بأعمال الإدارة العامة لأموال المحجور.
ويترتب على كون الأم وليا من الناحية الشرعية والقانونية طائفة من الأمور:
– عدم حاجة الأم إلى إذن قبلي للتصرف في مال المحجور، إلا في استثناءات ضيقة محددة قانونا على سبيل الحصر الذي يسوغ التوسع فيه مراعاة لمصلحة القاصر المولى عليه.
– اعتبار تصرفاتها محمولة على السداد و الصلاح حتى يعلم خلافه بدليـل فتصدق في جميع ادعاءاتها المتعلقة بالولاية على النفس([20]) أو المال دون حاجة إلـى تقديم الأدلة المعززة أو حساب سنوي إلا أن تنازع في ذلك بخلاف الأوصياء والمقدمين([21]).
– تخويلها الحق في تمثيل المحجور أمام جميع المحاكم مدعيا أو مدعى عليه في جميع القضايا عدا الزجرية([22]).
– إمكان النيابة عن المحجور في جميع الدعاوى المرفوعة ضده، سيما دعوى القسمة المرفوعة من لدن أحد الورثة أمام محكمة الموضوع، وكذا الدفاع عن مصالحه بالمطالبة برفض طلب القسمة، أو الموافقة على إجرائها، سواء تعلق الأمر بالقسمة العينية أو قسمة التصفية بما يحقق مصلحته تلك وفق ما يقدره الولي([23]).
– القيام بواجب الرعاية للمحجور، سواء كانت رعاية صحية أو مدرسية أو اجتماعية أو دينية وإعداد للحياة، وفق ما تتيحه المادة 235 من المدونة.
– إمكان السفر بالمحجور إلى أية وجهة تُقدّر الأم أن فيها مصلحة للمحجور ودون إذن مسبق، ما لم يتعلق بالسفر بالمحضون خارج المغرب، حيث يستلزم الأمر موافقة الأب([24])، أو الحصول على إذن قضائي، حسبما توجبه مقتضيات المادة 179 من مدونة الأسرة([25]).
– تخويل الأم سلطة مراقبة سلوك المحجور وتوجيهه دينيا وأخلاقيا ودراسيا وتأديبه بالمعروف وحفظه والعناية به، في إطار القوانين والأعراف الجاري بها العمل([26]).
– استمرار ولايتها عملا بمقتضيات المادة 233 من المدونة على شخص القاصر وأمواله أسوة بولاية الأب إلى حين بلوغه سن الرشد القانوني، وعلى فاقد العقل إلى أن يرفع عنه الحجر بحكم قضائي.
ثالثا: إهدار مكتسب ولاية الأم على مستوى الإدارات العامة والخاصة
إقرار ولاية الأم بنص قانوني واضح حاسم استجابة لمطالب فقهية وحقوقية ونضالات دامت سنينا عددا، لم يرفع الإشكالات العملية حول فهم معنى ولاية الأم([27])، وهكذا يلاحظ:
أن بعض الإدارات العامة والخاصة في المغرب والخارج لا تعترف بولاية الأم الجارية بقوة القانون، وتشترط صدور حكم قضائي تقريري بذلك في مجافاة واضحة لأحكام القانون الصريحة الواجبة الإذعان ونقض تام لهذا المكتسب([28])، و هذا الأمر يكون ضحيته ابتداءً وانتهاءً القاصر.
أن المحاكم لا تستجيب لذلك ولا تصدر أحكام تقريرية، لأن هذا الأمر يعد تحصيل حاصل وجَارٍ بقوة القانون، ولا يحتاج في ذلك إلى حكم قضائي لعدم وجود منازعة في ذلك، ولانتفت بذلك جدوى إقرار بعض المكتسبات في قاعدة قانونية آمرة واجبة النفاذ([29]).
أن بعض الأمهات تستصدر إشهادات عدلية بالولاية للاستظهار بها أمام الإدارات العامة والخاصة، كدليل إثباتي على كونهن وليات.
أن حقوق الأبناء المالية تتعرض للغمط والهدر بفعل استحكام بيروقراطية إدارية مقيتة، توجب اثبات الأم لولايتها رغم كونها ولاية مقررة بقوة القانون، فلا يحصلون على المورد المالي المستحق لفائدتهم إلا بعد زمن معتبر، وإجراءات مضنية رغم حاجتهم للإعالة على وجه الاستعجال بعد وفاة الأب المعيل.
أن هذا الأمر يحتاج إلى حملات تحسيسية وإلى وجوب توجيه دوريات إلى الإدارات المعنية تكون مشتركة بين وزارة العدل والإدارة المعنية، وكذا عقد اتفاقيات مشتركة مع الدول التي تعرف تواجدا مكثفا للجالية المغربية، تحث على قبول ولاية الأم وترتيب الأثر اللازم على ذلك دون حاجة إلى حكم تقريري، شرط الإدلاء بما يدل على وفاة الأب أو فقد أهليته أو غيبته غيبة انقطاع أو عدم وجوده أصلا.
أن ذلك يظهر أن إقرار المكتسبات في النص القانوني لا يكفي ما لم يصاحب بحملة تحسيسية أو يقرن بآليات تنفيذية، لتجد المكتسبات طريقها إلى النفاذ واقعا بسلاسة ودون كبير إشكال. فلا مانع من تعديل النص القانوني في ضوء التطبيقات العملية والتي تظهر مثالبه، فيحقق دوره في تنظيم الوقائع التي يفترض أنه شرع من أجلها تنظيما محكما، لا يجعلها عرضة للأهواء أو للإرادات تأويلا أو أخذا أو تركا.
(محاماة نت)