دراسات قانونية
النظام القضائي في التأديب (بحث قانوني)
النظام القضائي في التأديب
Le régime disciplinaire judiciaire
إعداد الطالب الباحث زهير بلعربي
طالب باحث بماستر القضاء الإداري
جامعة محمد الخامس الرباط كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية سلا
بحث في مادة قضاء التأديب
النظام القضائي في التأديب
مقدمة
يعتبر الموظف العمومي أو العامل في مرافق الدولة في وضعية نظامية[1] اتجاه الإدارة أو المرفق الذي يعمل لديه، ومن تمة تقع عليه عدة التزامات إدارية أو وظيفية منها ما يرتبط بالجانب الأخلاقي ومنها ما يرتبط بأداء الوظيفة المسندة إليه.
فالجانب الأول يوجب على الموظف أن يتحلى بأخلاق مثالية من شأنها أن تصون كرامة الوظيفة أو الجهاز الإداري الذي ينتمي إليه كأن لا يضع نفسه موضع الريبة والشبهات وارتكاب الفواحش، والجانب الثاني من هذه الالتزامات يقتضي القيام بالعمل وفقا للضوابط القانونية المعمول بها، وأن يحترم رؤساءه وألا يفشي الأسرار الوظيفية وأن يحافظ على الأموال العامة[2].
فالوظيفة العمومية هي خدمة وطنية شريفة تناط بالقائم عليها مجموعة من الواجبات يتحملها كمقابل للحقوق المعترف له بها، وهذا ما عملت به نظرية «الوظيفة العمومية ذات البيئة المغلقة[3]»، التي ألزمت الموظفين بالخضوع لهذه الواجبات لاجتناب كل ما من شأنه أن يجعلهم محل العقوبات[4].
وبالتالي تنعقد المسؤولية التأديبية للموظف حين ارتكاب مخالفة إدارية ينجم عنها توقيع الجزاء أو العقوبة التأديبية[5] من طرف سلطة مختصة بالتأديب. فهذه الأخيرة تختلف من بلد إلى آخر باختلاف الإيديولوجية السياسية السائدة في ذلك المجتمع، فالسلطة التأديبية التي تصلح في مجتمع اشتراكي قد لا تصلح في مجتمع ليبرالي، كما أن السلطة التي تصلح في مجتمع ديمقراطي قد لا تصلح في مجتمع بوليسي.إذن فسلطة التأديب هي وليدة البيئة التي تعمل فيها.
ومن هنا كان لزاما إعطاء تعريف للسلطة التأديبية، حيث يمكن القول بأنها تلك السلطة التي يحددها ويعينها المشرع للقيام بمهمة تأديب العاملين سواء في الإدارات أو المصالح الحكومية، أم في وحدات القطاع العام، بحيث تصبح هذه السلطة هي المختصة وحدها دون غيرها بمباشرة تلك المهمة. بمعنى أنه لا تختص أي سلطة أخرى – مهما كان السبب – بأمر تأديب العاملين إلا إذا نص القانون على ذلك. كما لا تملك سلطة التأديب الأصلية أن تفوض في اختصاصها إلى سلطة أخرى إلا في حدود التشريع الذي ينظم مثل هذا التفويض. من هنا فقد قيل بأن سلطة التأديب إنما يحكمها مبدأ الشرعية.
هذه السلطة قد تكون هي ذات جهة الإدارة التي يتبع لها العامل، وهنا يقال أن النظام التأديبي نظام إداري[6]الذي تأخذ به مجموعة من الدول كإنجلترا، أمريكا، كندا، إسبانيا والبرتغال، كما قد تكون جهة قضائية مستقلة، وبعيدة عن الإدارة، فيقال أن النظام التأديبي نظام قضائي، وهو المعمول به فيجمهورية مصرا لعربية، هولندا، النمسا وألمانيا. وقد تجمع سلطة التأديب بين هذا النظام وذاك، فيقال أن نظام التأديب نظام مختلط أو أنه نظام شبه قضائي، وهو المطبق فيفرنسا، المغرب، بلجيكا وإيطاليا.
لقد كان النشاط التأديبي، منذ إنشاء القضاء الإداري في مصر سنة 1946، يتبع القضاء الإداري. فحتى سنة 1958، كان التأديب يمارس في صورة قرارات إدارية، سواء صدر القرار التأديبي من الرئيس الإداري الفرد، أو من مجلس تأديبي، ومن ثم فإن الطعن في القرارات الإدارية بنوعيها، كان يتم في صورة دعوى إلغاء عادية[7].
وحينما استحدث المشرع نظام المحاكم التأديبية بمقتضى القانون 117 لسنة 1958، فإنه كان يبغي زيادة الضمان للموظفين في ظل تعسف الإدارة أحيانا في إصدار عقوبات مجحفة، تكون بدافع الانتقام. فقد نص القانون المحدث للمحاكم التأديبية في مادته 32 على أن «أحكام المحاكم التأديبية نهائية، ولا يجوز الطعن فيها إلا أمام المحكمة الإدارية العليا»
فالمشرع المصري بإحداثه للمحاكم التأديبية لم يضف الصبغة القضائية الكاملة على التأديب، فما زال الرؤساء[8] يمارسون اختصاصا في التأديب، وما تزال فئة متعددة من الموظفين تحاكم أمام مجالس التأديب لا أمام محاكم تأديبية[9].
فمجمل القول إذن، أن النظام القضائي في التأديب يقوم على أساس الفصل المطلق بين السلطة الرئاسية –التي ترفع الدعوى التأديبية وتتابعها- وبين هيئات قضائية خاصة مستقلة، تختص بعد درجة معينة من شدة الجزاء بتقدير الخطأ المهني المنسوب إلى الموظف، وبتوقيع الجزاء الذي تراه مناسبا مع الوقائع الثابتة، ويعتبر قرار هذه الهيئات ملزما للسلطة الرئاسية، مما يعني أن نظام التأديب القضائي يتميز باقتراب الدعوى التأديبية من الدعوى الجنائية[10].
وبالتالي، سيكون تركيزنا على النظام القضائي للتأديب في مصر محاولين معرفة تاريخ نشأته وخصائصه وتكوين المحاكم التأديبية واختصاصها، تم الإجراءات التأديبية المتبعة أثناء تحريك الدعوى التأديبية. وذلك للإجابة عن الإشكالية البحثية التالية:
إشكالية البحث: ما هي خصائص النظام القضائي في التأديب والضمانات التي يحققها، ثم ماذا عن تكوين واختصاصات المحاكم التأديبية والإجراءات المتبعة أمامها حين تحريك الدعوى التأديبية.
لذلك نقترح التصميم المنهجي التالي:
المبحث الأول: خصائص النظام القضائي في التأديب والضمانات التي يحققها
المطلب الأول: خصائص النظام القضائي في التأديب
المطلب الثاني: الضمانات القضائية في التأديب
المبحث الثاني: تكوين المحاكم التأديبية واختصاصاتها والإجراءات التأديبية المتبعة
المطلب الأول: تكوين المحاكم التأديبية واختصاصاتها
المطلب الثاني: الإجراءات التأديبية المتبعة
المبحث الأول: خصائص النظام القضائي في التأديب والضمانات التي يحققها
بالإضافة إلىالنظام الإداري في التأديب،وهو المستخدم في الأصل، ويقرر أن الذين يقدرون الأخطاء ويقررون لها العقوبات، إنما هم الرؤساء المختصون في السلم الإداري.فإن النظام القضائي في التأديب بدأ يكسب أرضا جديدة لما يحققه من دواعي الأمن والطمأنينة للموظفين لذلك سنحاول التعرف على خصائص هذا النظام (مطلب أول)، ثم الضمانات التي يحققها في (المطلب الثاني).
المطلب الأول: خصائص النظام القضائي في التأديب
يتميز النظام القضائي في التأديب بمجموعة من الخصائص تميزه عن الأسلوب الإداري والأسلوب الشبه القضائي.
أولا: أنه نظام يحقق مبدأ العدالة والموضوعية في التأديب
حيث تكون السلطة التأديبية في ظله بعيدة عن مساوئ كل من النفوذ السياسي والإداري، الأمر الذي يوفر للموظفين ما يأملون فيه من أمن وطمأنينة. كما أنه نظام كفيل بمنع استبداد أو انحراف السلطات الرئاسية فيما لو باشرت هي ذاتها الاختصاص التأديبي.
ثانيا: أنه نظام أقرب في حقيقته إلى الوظيفة القضائية منه إلى الوظيفة الإدارية
خاصة أن قيام السلطة الرئاسية بمباشرة مهام التأديب يبعدها في الواقع عن دورها الحقيقي في إدارة وتسيير المرفق العام، كما يؤدي إلى إضاعة وقت الرؤساء الذي يجب أن يخصص لإنماء العمل بتلك المرافق.
ثالثا: القول بأن هذا النظام يضعف السلطة الرئاسية لا أساس له من الصحة
ذلك أن معظم الدول التي أخذت به تتسم بإدارة جيدة كألمانيا والنمسا.
رابعا: إن السلطة الرئاسية قد لا تكون قادرة على ممارسة سلطة التأديب
تحت ضغط النقابات والهيئات السياسية، مما يؤدي بها إلى الإحجام عن توقيع العقوبات التأديبية خوفا من تكتل العاملين في مواجهتها الأمر الذي يؤدي إلى الصعوبة في التسيير والتنظيم الإداري.
خامسا: يتميز النظام القضائي باقتراب الدعوى التأديبية من الدعوى الجنائية
وهو ما يجعل نظام التأديب نظاما قضائيا بالمعنى الصحيح، وذلك بفضل سلطتي التحقيق والاتهام من جهة، وبين سلطة المحاكمة من جهة أخرى[11]. وفي ذات الوقت وضع عدة قيود للحد من حق السلطات الرئاسية في ممارسة سلطة التأديب، وقصرها على العقوبات البسيطة[12].
المطلب الثاني: الضمانات القضائية في التأديب
يكون الموظف المتهم أكثر احتياجا للضمانات الفعالة في مرحلة التحقيق، حتى يثبت براءته، أو يبين على الأقل الظروف التي أحاطت بارتكاب الخطأ، وهذه الضمانات[13]، تتمثل بالأساس في مواجهة المتهم بما هو منسوب إليه، وحيدة المحكمة.
أولا: المواجهةla procédure contradictoire
يعتبر من المقومات الأساسية في المحاكمات التأديبية، إحاطة المتهم بما هو منسوب إليه، ويكون الإعلان بخطاب موصى عليه، مصحوب بعلم الوصول، وأن يعلن الموظف كذلك بقرار الإحالة وتاريخ الجلسة المحددة لنظر الدعوى، وإلا عد عيبا شكليا في الإجراءات يبطلها، ويبطل الحكم الصادر على أساسها.
إن تمكين المتهم من الدفاع عن نفسه، يعتبر حقا مقدسا ذلك أن المشرع المصري نص على ذلك صراحة في المادة 29 من القانون 117 لسنة 1958 حيث يقول: «للموظف أن يحضر جلسات المحكمة بنفسه أو أن يوكل محاميا مقيدا أمام محكمة الاستئناف،وأن يبدي دفاعه كتابة أو شفهيا، وللمحكمة أن تقرر حضور المتهم بنفسه. وفي جميع الأحوال إذا لم يحضر المتهم بعد إخطاره بذلك يجوز محاكمته والحكم عليه غيابيا»
كما أن من حق الموظف الاطلاع على المستندات وملف التحقيق، ومن حقه طلب التأجيل إذا قامت أسباب قوية تدعو إلى ذلك. كما أن للمحكمة طلب إحضار الشهود تحت طائلة توقيع عقوبتي الإنذار والخصم،وذلك في حالة عدم الحضور في المرة الثانية من الدعوى الموجهة لهم.
ثانيا: الحيدةla neutralité
إن هذا المبدأ مستقر في المجال القضائي، ومؤداه أن من يشترك في التحقيق أو يسبق له الاتصال بمراحل الاتهام، ليس له الحق في أن يجلس لمحاكمة المتهم، وذلك ضمانا لحيدة القاضي. ويتحقق هذا المبدأ بصورة مطلقة في نظام التأديب القضائي حيث يعهد بسلطة توقيع الجزاءات إلى محاكم تأديبية مستقلة عن الإدارة، ويتم تشكيلها على نحو يحول بين سلطة الاتهام والتدخل في سلطة هذه المحاكم، وأن أي إخلال بهذا المبدأ يترتب عليه بطلان الحكم لعيب في الإجراءات[14].
وهناك مثال آخر لتطبيق مبدأ الحيدة يتجلى في حق الموظف المحال إلى المحاكمةطلب التنحيةبالنسبة لرئيس المحكمة، أو أحد أعضائها عن النظر في الدعوى. وذلك استنادا إلى نص المادة 26 من القانون 117 لسنة 1958.
وخلاصة القول، أن النظام القضائي في التأديب هو نظام مستقل عن السلطة الرئاسية، يمارس اختصاصه بواسطة محاكم تأديبية يتم إنشاؤها عن طريق المشرع الذي يتولى تحديد تركيبتها ومقارها واختصاصاتها، وهو ما سنتعرف عليه في المبحث الثاني من هذا العرض.
المبحث الثاني: تكوين المحاكم التأديبية واختصاصاتها والإجراءات التأديبية المتبعة
سارت مصر حتى سنة 1958 على الخطة التي تعطي للسلطة الرئاسية حق التأديب بالنسبة لجميع العقوبات المقررة قانونا، سواء تعلق الأمر بالنسبة للسلطة الإدارية العليا التي تتولى توقيع عقوبتين اثنين هما الإنذار والخصم من المرتب في حدود معينة، وخول للمجلس التأديبي سلطة توقيع العقوبات الأخرى، إلا أن المشرع عدل عن هذه الخطة في سنة 1958، حيث تم استبدال نظام المجالس التأديبية بنظام المحاكم التأديبية[15].
من هنا كان لزاما التعرف على تكوين هذه المحاكم واختصاصاتها المحددة وفق القانون المنظم لها 117 لسنة 1958 (مطلب أول)، ثم الإجراءات المتبعة أمامها أثناء تحريك الدعوى التأديبية (المطلب الثاني).
المطلب الأول: تكوين المحاكم التأديبية واختصاصاتها
استنادا لأحكام قانون مجلس الدولة الجديد رقم 47 لسنة 1972 تتشكل المحاكم التأديبية من أعضاء مجلس دون غيرهم، في حين أن التنظيم القديم، كان يطعم المحكمة التأديبية بعناصر غير قضائية، فرئيس المحكمة التأديبية وأحد العضوين هم من أعضاء مجلس الدولة في حين أن العضو الثالث يكون من جهة إدارية هي الجهاز المركزي للمحاسبات أو الجهاز المركزي للتنظيم والإدارة بحسب نوع الجريمة التأديبية التي يعاقب من أجلها الموظف.
أما فيما يخص تحريك الدعوى التأديبية، فقد نصت المادة 9 من القانون 117 لسنة 1958 على أنه: “يتولى أعضاء النيابة الإدارية الإدعاء أمام المحاكم التأديبية”، وبالتالي فالنظام القضائي في التأديب يتميز بوجود جهاز النيابة الإدارية[16] على غرار جهاز النيابة العامة في الدعوى الجنائية.
أولا: تكوين المحاكم التأديبية
في جمهورية مصر العربية قانون 117 لسنة 1958
نص المشرع المصري في المادة 7 من قانون المحاكم التأديبية رقم 117 لسنة 1958 على أن هناك نوعين من المحاكم وهي :
المحاكم التأديبية للعاملين من مستوى الإدارة العليا[17] ومن يعادلهم، والتي يوجد مقارها في القاهرة والإسكندرية، وتتألف مندائرة أو أكثر وتشكل كل منها من ثلاثة مستشارين (المادة الثامنة).
المحاكم التأديبية للعاملين من المستويات الأول والثاني والثالث ومن يعادلهم، وتتألف من دوائر ثلاثة تشكل كل منها برئاسة مستشار مساعد على الأقل وعضوية إثنين من النواب على الأقل ويصدر بالتشكيل قرار من رئيس المجلس. ويكون مقار هذه المحاكم في القاهرة والاسكندرية.
على أن تستأنف الأحكام الصادرة عنها أمام المحكمة الإدارية العليا.
وإذا كان المشرع قد جعل مقار هذه المحاكم بنوعيها في القاهرة والإسكندرية، فإنه قد أجاز« بقرار مجلس الدولة إنشاء محاكم تأديبية في المحافظات الأخرى، ويبين القرار عددها ومقارها ودوائر اختصاصها بعد أخذ رأي مدير النيابة الإدارية»[18]. هذا وإذا شمل اختصاص المحكمة التأديبية أكثر من محافظة، جاز لها أن تنعقد في عاصمة أي محافظة من المحافظات الداخلة في اختصاصها، وذلك بقرار من مجلس الدولة (المادة 8 الفقرة الأخيرة).
في ألمانيا الأتحادية: قانون 21 نونبر 1997
يقر النظام التأديبي الألماني[19]، خمس عقوبات مرتبة حسب درجة الخطورة. ويقوم القضاء التأديبي في ألمانيا على درجتين:
دوائر التأديب الاتحادية: chambres disciplinaires fédérales وهي تعتبر محاكم أول درجة في التقاضي.
المحكمة التأديبية الاتحادية[20]: la cour disciplinaire fédéraleتم استحداثها بمقتضى قانون 23 سبتمبر 1952 وكان مقرها ببرلين، لكن بعد ذلك سيتم نقلها إلى leipzig 1997 بمقتضى القانون 21 نونبر 1997، وتتشكل من 14 غرفة[21] من بينها الغرفة التأديبية. هذه الأخيرة تتكون من 4 قضاة مختصين. أما مجموع القضاة في المحكمة التأديبية الفدرالية فيصل إلى 64 قاضي مختص.وهذه المحكمة تعد كدرجة استئنافية للأحكام التي تصدرها الدوائر التأديبية الاتحادية، وتتولى توحيد المبادئ القانونية في مواد التأديب.
وتحقيقا لحيدة قضاء هذه المحاكم يستبعد من تشكيلها المحقق والمدعى التأديبي وممثل الهيئة الرئاسية باعتباره مدعيا عاما.
هذا وتجدر الإشارة إلى أن المشرع الألماني، حسب القانون المتعلق بالوظيفة العمومية ل 31 مارس 1999 قد أعطى للسلطة الرئاسية للموظف الحق في توقيع العقوبات التالية : التوبيخ، الغرامة، التخفيض من الراتب ومن تقاعد المعاش بالنسبة للمتقاعدين[22]، معتبرا ذلك بمثابة قرار إداري يجوز الطعن فيه بالإلغاء. أما عقوبتي الانحدار من الطبقة la rétrogradation والعزل la révocation أو سحب معاش التقاعد بالنسبة للمتقاعدين فجعل الاختصاص ينعقد للمحاكم التأديبية.
ثانيا: اختصاصات المحاكم التأديبية
تمارس المحاكم التأديبية نوعين من الاختصاصات بصدد تأـديب الموظفين: اختصاصا يتعلق بتوقيع العقوبة المناسبة (الاختصاص القضائي)، واختصاصا بتعلق ببعض الأمور المتفرعة عن التأديب بمعناه الفني (الاختصاص الولائي).
الاختصاص القضائي للمحاكم التأديبية
وبمقتضى هذا النوع من الاختصاص تملك المحاكم التأديبية توقيع مختلف العقوبات التأديبية ولا سيما تلك التي لا يملك توقيعها الرؤساء الإداريون. ويلاحظ في هذا الصدد أن المشرع قد ميز في هذا الاختصاص بين العاملين الحكوميين وبين العاملين في القطاع العام.
بالنسبة للعاملين الحكوميين الخاضعين لقانون رقم 47 سنة 1978
وهم فريقان:
الفريق الأول: شاغلوا الوظائف العليا، وقد أصبح من اختصاص السلطة المختصة وفقا للقانون الجديد أن توقع عليهم عقوبتا التنبيه واللوم. أما عقوبتا الإحالة على المعاش والفصل من الخدمة؛ فلا توقعها إلا المحكمة التأديبية المختصة.
الفريق الثاني: العاملون غير شاغلي الوظائف العليا: وهم يخضعون للاختصاص التأديبي لرؤسائهم (توقيع عقوبات محددة)، وللمحاكم التأديبية (تملك توقيع أي من الجزاءات المنصوص عليها في المادة 80 من قانون العاملين المدنيين الجديد.[23]
بالنسبة للعاملين في القطاع العام[24]
وهؤلاء إما أن توقع عليهم المحاكم التأديبية العقوبات التأديبية ابتداء، وإما أن تعقب على العقوبات التأديبية التي توقع عليهم من جهات أخرى ( تعقب على قرارات الرؤساء الإداريين في حالات أخرى).
الاختصاص الولائي للمحاكم التأديبية
بالإضافة إلى الاختصاص الأصيل للمحاكم التأديبية بتوقيع العقوبات التأديبية التي تدخل في اختصاصها على النحو السابق، خولها المشرع اختصاصا تبعيا في موضوعين يتصلان بالتأديب وهما :
وقف العاملين أو مد وقفهم: خول المشرع الوزير و المحافظ ورئيس مجلس إدارة الهيئة كل في دائرة اختصاصه، أن يوقف العامل احتياطيا لمدة لا تجاوز 3 أشهر إذا اقتضت المصلحة ذلك[25].
ولا يجوز مد هذه المدة إلا بقرار من المحكمة التأديبية المختصة، وللمدة التي تحددها، ومعنى هذا أن اختصاص المحاكم التأديبية إنما يأتي في أعقاب ممارسة السلطات الرئاسية لحقها في التوقيف، فهي لا تمارس هذا الاختصاص ابتداء.
النظر في إيقاف جزء من مرتب العامل: بغية حماية العامل وأسرته في حقه في الراتب باعتباره الدخل الوحيد بالنسبة إلى معظم العاملين. فقد استحدث المشرع تغييرا جذريا منذ سنة 1964 بمقتضاه حمى المشرع نصف مرتب العاملين من جميع الفئات في حالة وقف العامل عن عمله، وترك مصير النصف الآخر للمحكمة التأديبية بحيث يتعين أن يعرض الأمر عليها في ميعاد 10 أيام. كما أن المشرع في قانون العاملين الجديد، قد وضع للمحكمة حدا أقصى قدره 20 يوما لتبث في مصير نصف المرتب الموقوف، وإلا صرف العامل الموقوف أجره كاملا بالرغم من وقفه عن عمله[26].
المطلب الثاني: الإجراءات التأديبية المتبعة
من منطلق أن جوهر و أساس تأديب العاملين يتراوح بين اعتبارين متلازمين هما: منطق الضمانوالرعاية بالنسبة للموظف، ومقتضى فاعلية العمل الإداري. فإن الإجراءات التأديبية تشكل إحدى أهم الموضوعات في مجال التأديب[27]، وأكثر الجوانب التي يتعرض لها القضاء الإداري، وذلك نظرا لطابعها العملي الملموس، بحيث أن الضمانات الحقيقية للموظف في مجال التأديب تكمن بالأساس في سلامة الإجراءات، انطلاقا من مرحلة التحقيق (أولا) ومرورا بمرحلة الإحالة إلى المحكمة التأديبية (ثانيا) وصولا إلى مرحلة الحكم في الدعوى التأديبية (ثالثا).
أولا: إجراءات التحقيق
يتولى التحقيق مع العاملين إحدى الجهتين:
الجهة الرئاسية التي يتبعها العامل المحال إلى التحقيق: وهي الجهة ذات الاختصاص الأصيل في هذا الشأن، على أساس أن التأديب هو امتداد للسلطة الرئاسية. وتستطيع الجهة الرئاسية أن تمارس التحقيق بأحد الأسلوبين، الأولأن تقوم به بنفسها عن طريق تكليف أحد الرؤساء المباشرين للموظف المتهم بالتحقيق معه، ويتم ذلك عادة إذا أحاطت بالاتهام ظروف معينة تقتضي حصره في نطاق ضيق. ومثال ذلك عندما تلجأ الجامعات عادة إذا أريد التحقيق مع أحد أعضاء هيئة التدريس، إذ يكلف به أحد أعضاء هيئة التدريس بكلية الحقوق، أو المستشار القانوني للجامعة، وهو أحد أعضاء هيئة التدريس بكلية الحقوق. و أسلوب ثاني وهو الغالب عندما تقوم بالتحقيق إدارة متخصصة ملحقة بالجهة الرئاسية هي إدارة الشؤون القانونية أو إدارة التحقيقات بحسب التسمية المستعملة[28].
النيابة الإدارية، كجهة معاونة في إجراء التحقيق:
من الناحية النظرية، تعتبر النيابة العامة جهازا معاونا في مجال التحقيق، وبالتالي فقد حدد المشرع الحالات التي تمارس فيها النيابة الإدارية التحقيق على سبيل الحصر، وذلك بمقتضى المادة الثالثة من القانون رقم 117 لسنة 1958، وهي كالتالي:
فحص الشكوى التي تحال إلى النيابة الإدارية من الرؤساء المختصين، أو من أي جهة رسمية عن مخالفة القانون أو الإهمال في أداء واجبات الوظيفة. فإذا كانت الجهة الإدارية هي الجهة صاحبة الاختصاص الأصيل فيما يتصل بالتحقيق، فإن لها مطلق الحق في أن تعهد بالتحقيق إلى النيابة الإدارية، كما أن للإدارة أن تحيل التحقيق إلى النيابة الإدارية إذا أحاطت به ظروف شائكة، واتصل بموظفين من مستويات عالية.
إجراء التحقيق في المخالفات الإدارية والمالية التي يكشف عنها إجراء الرقابة. فدور الرقابة الإدارية ينحصر في كشف الانحرافات والتثبت من جديتها. وقد نصت الفقرة الثانية من المادة الثانية من القانون رقم 54 لسنة 1964 على أنه ” إذا أسفرت التحريات أو المراقبة عن أمور تستوجب التحقيق، أحيلت الأوراق إلى النيابة الإدارية أو النيابة العامة حسب الأحوالبإذن من رئيس الرقابة الإدارية أونائبه. وعلى النيابة الإدارية أو النيابة العامة إفادة الرقابة الإدارية بما انتهى إليه التحقيق”.
وتقوم النيابة الإدارية بالتحقيق أيضا إذا ما تبث لها من الفحص جدية شكاوى الأفراد والهيئات التي ترسل إليها رأسا. وهذه الحالة تتضمن اختصاصا مبتدأ للنيابة الإدارية في مجال التحقيق بعكس الحالتين الأوليين، وفيهما لا تقوم النيابة الإدارية بالتحقيق إلا بناءا على طلب.
ثانيا: الإحالة إلى المحكمة التأديبية
إن إجراء إحالة العامل إلى المحاكمة التأديبية هو إجراء تملكه النيابة الإدارية لوحدها، وذلك إعمالا لنص المادة 12 من قانون النيابة الإدارية رقم 117 لسنة 1958 والمعدل بالقانون رقم 12 لسنة 1989. والقرار الصادر بالإحالة إلى المحاكمة التأديبية هو من إجراءات الدعوى التأديبية وبالتالي لا يرقى إلى مرتبة القرار الإداري النهائي الذي يختص القضاء الإداري بالفصل في طلب إلغائه مستقلا عن الدعوى التأديبية. وقد تقوم النيابة الإدارية بإحالة العامل إلى المحاكمة التأديبية من تلقاء نفسها، أو بناء على طلب جهة الإدارة، أو رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات على النحو التالي[29]:
إحالة النيابة الإدارية العامل للمحاكمة التأديبية من تلقاء نفسها، ذلك إذا رأت النيابة الإدارية في ضوء ما أجرته من تحقيقات أن الواقعة محل التحقيق تكتسي من الجسامة ما تستأهل معه توقيع جزاء يفوق ما تملك جهة الإدارة سلطة توقيعه، فإن لها إحالة العامل إلى المحاكمة التأديبية المختصة بحسب الدرجة الوظيفية التي يشغلها. وبالنتيجة فالمشرع لا يلزم النيابة الإدارية بالإحالة على المحاكمة التأديبية إلا بالنسبة لطائفة معينة من المخالفات التأديبية وهي تلك التي لا تملك جهة الإدارة فيها توقيع جزائي الفصل أو الإحالة على المعاش بالنسبة لها.
الإحالة إلى المحاكمة التأديبية بناء على طلب جهة الإدارة، يستوي في ذلك أن يكون طلب جهة الإدارة استنادا إلى تحقيق أجرته مع العامل ثبت لديها منه مدى جسامة جرمه الإداري الذي يستوجب توقيع جزاء لاتملك اختصاص توقيعه كالفصل من الخدمة والإحالة على المعاش. أو كان طلبها من النيابة الإدارية إحالة العامل إلى المحاكمة التأديبية ردا على اقتراح النيابة الإدارية الموجه إليها مجازاته أو حفظ التحقيق معه بمناسبة ما أجرته معه من تحقيقات، حيث تكون النيابة الإدارية في الحالتين ملزمة بالاستجابة لطلب جهة الإدارة بإحالة العامل للمحاكمة التأديبية.
الإحالة للمحاكمة التأديبية بناء على طلب رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات، لرئيس الجهاز المركزي للمحاسبات في حالة اعتراضه على القرار التأديبي الذي أصدرته جهة الإدارة في مخالفة مالية، طلب تقديم العامل للمحاكمة التأديبية خلال الثلاثين يوما من ورود الأوراق كاملة للجهاز، وذلك وفقا لنص المادة الخامسة من قانون الجهاز المركزي للمحاسبات رقم 144 لسنة 1988. وجهة الإدارة ملزمة بإخطار الجهاز المركزي للمحاسبات بقرارها التأديبي في المخالفات المالية، ما دامت خاضعة لرقابته، حتى يتمكن رئيس الجهاز من مباشرة اختصاصه في تقدير مدى ملائمة الجزاء.
ثالثا: الحكم في الدعوى التأديبية
تنتهي المحاكمة التأديبية بقرار أو بحكم تأديبي، حسب السلطة المختصة بتوقيع العقاب: فإذا عوقب العامل بواسطة السلطة الرئاسية، فإن العقوبة تفرغ في صورة قرار إداري والذي يبقى قابلا للطعن أمام القضاء الإداري إما بدعوى الإلغاء أو بدعوى التعويض. أما إذا صدر العقاب من محكمة تأديبية، فإن العقوبة تصدر في شكل حكم لا يمكن الطعن فيه – عقب صدوره – إلا أمام الجهة التي حددها المشرع، وهي المحكمة الإدارية العليا[30].
وهو ما نصت عليه المادة 2 من القانون 117 لسنة 1958 حيث جاء فيها ” أحكام المحاكم التأديبية نهائية ولا يجوز الطعن فيها إلا أمام المحكمة الإدارية العليا”، ويرفع الطعن وفقا لأحكام المادة 15 من القانون رقم 165 لسنة 1955 بشأن تنظيم مجلس الدولة.
الجهة التي يمكنها أن تطعن في الحكم التأديبي: يعتبر من ذوي الشأن في حكم المادة المذكورة رئيس “ديوان المحاسبة”، ومدير النيابة الإدارية، والموظف الصادر ضده الحكم. كما جعل المشرع الاختصاص ينعقد كذلك لهيئة مفوضي الدولة وهو ما نصت عليه المادة 32 من القانون 117 لسنة 1958 حيث جاء فيها “على رئيس هيئة مفوضي الدولة أن يقيم الطعن في حالات الفصل من الوظيفة إذا قدم إليه الطلب من الموظف المفصول”[31].
ميعاد الطعن: أوجبت المادة 23 من القانون 47 لسنة 1972 والتي تطابق المادة 15 من القانون رقم 55 لسنة 1959 أن “يقدم الطعن خلال ستين يوما من صدور الحكم”، ويلاحظ أن المدة هي نفس المدة المقررة للطعن في القرارات الإدارية بالإلغاء، إلا أن مدة الطعن بالإلغاء تسري من تاريخ العلم بالقرار، سواء أكانت وسيلة العلم هي الإعلان أو النشر أو العلم اليقيني. أما ميعاد الطعن أمام المحكمة الإدارية العليا، فإنه يسري من تاريخ صدور الحكم.
أسباب الطعن: نصت المادة 23 من القانون 47 لسنة 1972 ولاتي تقابل الفقرة الأولى من المادة 15 من القانون رقم 55 لسنة 1959 على هذه الأسباب حيث تنص على أنه : “يجوز الطعن أمام المحكمة الإدارية العليا في الأحكام الصادرة من محكمة القضاء الإداري أو من المحاكم التأديبية، وذلك في الأحوال التالية:
إذا كان الحكم المطعون فيه مبني على مخالفة القانون، أو خطأ في تطبيقه أو في تأويله؛
إذا وقع بطلان في الحكم أو في بطلان في الإجراءات أثر في الحكم؛
إذا صدر الحكم على خلاف سابق حاز قوة الشيء المحكوم فيه، سواء دفع بهذا الدفع أو لم يدفع.
خاتمة
يتبين من خلال ما سبق، أن النظام القضائي في التأديب والذي يجد تطبيقه في دول رائدة كألمانيا والسويد وهولندا والنمسا، بالإضافة إلى جمهورية مصر العربية والتي استعرضنا نظامها التأديبي بإسهاب، حيث وقفنا على عدة خصائص مميزة بالإضافة إلى الضمانات التي يحققها هذا النظام، ثم تكوين المحاكم التأديبية والإجراءات المتبعة أمامها.
لكن هذا النظام لا يخلوا من عيوب نجملها كالتالي:
طول وبطء الإجراءات، مما يجعل معه مبدأ الضمان الذي يستند عليه النظام القضائي قد يضر بالموظف، حيث أن النزاع قد يظل معلقا أمام القضاء أكثر من عشرة أعوام، وقد عبر أحد الموظفين عن تدمره من استطالت الإجراءات بقوله : ” عاقبوني ولو ظلما حتى يستقر وضعي”.
نظرا لأن أعضاء المحاكم التأديبية غالبا ما يكونون من القضاة، الذين هم بحكم عملهم بعيدون عن الواقع العملي لأجهزة الإدارة، فإنه يخشى أن يكون تقديرهم للمخالفة وجسامتها ومدى تأثيرها على المرفق، بعيدا عن هذا الواقع أو لا يتفق مع ظروف العمل وضروراته؛
إن انتهاج أسلوب النظام القضائي في التأديب قد يحمل السلطات الرئاسية على توقيع جزاءات تدخل في اختصاصها، فحتى تتجنب تدخل هيئة أخرى خارجة عنها في أعمالها كالمحكمة التأديبية مثلا. وحتى تتجنب طول الإجراءات أمام هذه المحكمة؛
تركيز النظام القضائي في التأديب على مبدأ الضمان ينعكس سلبا على المصلحة الإدارية من ناحية الفاعلية، باعتبار أن السلطة الإدارية هي المسؤولة عن حسن سير وانتظام العمل بالمرافق العامة، وهي الأقدر على تفهم الظروف الواقعية التي أحاطت بارتكاب المخالفة.
ونحن إذ نرى بأن الإفراط في الضمان الذي يقدمه النظام القضائي في التأديب على حساب الفاعلية، أو التركيز على هذه الأخيرة على حساب الأولى في النظام الإداري في التأديب، يجعلنا نميل أكثر إلى التوفيق بين المبدأين، وهو ما يجسده النظام المختلط في التأديب أو النظام الشبه القضائي.
(محاماه نت)