دراسات قانونية

امتياز الديانة والذكورة في الميراث (بحث قانوني)

إمتياز الديانة والذكورة في مجال الارث

الدكتور جمال الخمار

مقدمة

لقد عنيت الشريعة الإسلامية بالأسرة عناية فائقة باعتبارها نواة المجتمع وخليته الأولى، وفي وعي كامل بهذه الحقيقة جاء الإسلام بأكمل تشريع يضبط نظام الأسرة في كل زمان ومكان، حيث تتبع العلاقة الزوجية منذ تكوينها فكرة في ذهن الزوجين وظل يتعهدها برعايته وعنايته حتى تخرج إلى حيز الوجود، بل تنبه إلى حالة فشل هذه العلاقة ووضع لها من النظم ما يكفل حقوق كل من الرجل والمرأة على السواء.
وما هذه العناية التفصيلية بالأحكام المرتبطة بالأسرة إلا دليل على أن هذه الأخيرة عماد تماسك المجتمع وأداة لحمايته، ولذلك أوردت الشريعة الإسلامية توجيهات متعددة للمحافظة عليها ومراقبة ما ينشأ عنها من علاقات قرابة ورحم، قال تعالى في كتابه الكريم: ﴿ يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا﴾[1]، وما ذلك إلا لأنه لا صلاح للمجتمع إلا بصلاح الأسرة.

إن المسلم حسب الفقه الإسلامي لما أعطى الزوج الحق في رئاسة الأسرة أناط به وحده تحمل التكاليف المادية للزوجة، كما أن المسلم وحده يرث في المسلم، ولذلك فإن هذا الأخير أعطى له الحق في الميراث أكثر من المرأة في بعض الحالات كما أن المسلم لا يرث إلا مسلما ، غير أن واقع استئثار الرجل والمسلم بالميراث أثرت فيه مجموعة من المتغيرات التي يشهدها الواقع.
وعليه سنعالج هذا الموضوع من خلال تحديد المبررات الفقهية للتوريث (أولا) ، والحكمة من طرق توزيع الميراث(ثانيا).

أولا: المبرر الديني للاستئثار بالميراث

تنطبق قاعدة “للذكر مثل حظ الأنثيين” على ميراث الأبناء وعلى ميراث الأزواج وعلى ميراث الأبوين، إن لم يكن للابن المتوفى ولد، وعلى ميراث الأخوة لأبوين ولأب وذلك لقوله تعالى: “يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين”[2] وقوله تعالى: “ولكم نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهن ولد فإن كان لهن ولد فلكم الربع مما تركن ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد فإن كان لكم ولد فلهن الثمن مما تركتم من بعد وصية يوصين بها أو دين”[3].

ويبقى أن حق المرأة في الميراث مرتبط بمنطق توزيع المسؤوليات داخل الأسرة والمجتمع وبشكل مبسط بمبدأ الاتفاق[4].
إن سند فقهاء الشريعة من القرآن بأن القوامة الرئاسية في الأسرة للرجل، وهو قوله تعالى “الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم”[5].

ويستشف أن مدونة الأسرة ذهبت في إتجاه منح الرئاسة[6] للأسرة للأب طبقا للمادة 194 من مدونة الأسرة إذ نصت على أنه “تجب نفقة الزوجة على زوجها بمجرد البناء، وكذا إذا دعته للبناء بعد أن يكون قد عقد عليها”.
ولذلك فإن مفهوم رئاسة الرجل للأسرة هو مفهوم أخذه الفقهاء من التقاليد الموروثة عن النظام الأبيسي التي استطاعت أن تؤثر عليه في تفسيره لنصوص الشريعة الإسلامية الواردة في الكتاب والسنة وعمل بذلك على استمرارها، فلا غاربة إذن إذا كان الرجل، ما زال يمارس التحكم في الأسرة طالما أن ذلك هو وليد العقلية الموروثة[7].

فقوله تعالى: “الرجال قوامون على النساء” قال ابن عباس: “أمروا عليهن، فعلى المرأة أن تطيع زوجها في طاعة الله :بما فضل الله بعضهم على بعض” من كونهم فيهم الأنبياء والخلفاء والسلاطين والحكام والأئمة والغزاة، وزيادة العقل والدين والشهادة والجمع والجماعات، ولأن الرجل يتزوج بأربع نسوة ولا يجوز للمرأة غير زوج واحد، وزيادة النصيب والتعصيب في الميراث، وبيده الطلاق والنكاح والرجعة وإليه الانتساب وغير ذلك من الأمور، فكل هذا يدل على فضل الرجال على النساء، “وبما اتفقوا من أموالهم”، وفي الجهاد والعقل، والدية والإرث والكتابة، وقد استدل بهذه الآية على جواز فسخ النكاح إذا عجز الزوج عن نفقة زوجته وكسوتها، وبه قال مالك والشافعي وغيرها (فالصالحات) أي المحسنات العاملات بالغير من النساء (القانتات) أي مطيعات لله قائمات بما يجب عليهن من حقوق أزواجهن (حافظات للغيب) أي عند غيبة أزواجهن عنهن من حقوق أزواجهن عنهن من حفظ نفوسهن وفروجهن وحفظ أموالهن (بما حفظ الله) أي بحفظ الله إياهن ومعونة وتسديده أو حافظات به بما احتفظن من أداء الأمانة إلى أزواجهن على الوجه الذي أمر به الله أو حافظات به بحفظ الله لهن بما أوصى به الأزواج في شأنهن من حسن العشرة[8].

وقد ذهب أحدهم[9] إلى أن امتياز الذكورة في الميراث، يجد أساسه في أن الإبن مكلف شرعا وقانونا بالإنفاق على أخته من أكل وشرب ومسكن ومياه وكهرباء وملابس وتعليم ومواصلات ورعاية صحية ونفسية ويزوجها أيضا فأخته تشاركه أيضا في النقود التي قسمها الله له، هذا بالإضافة إلى أنه مكلف بالإنفاق على نفسه وأسرته وزوجته وأولاده، وإذا كان في الأسرة الكبيرة أحد من المعسرين فهو مكلف أيضا بالإنفاق عليه سواء كانت أم أو عم أو جد أو خال.

وعلى ذلك فإن توريث المرأة على النصف من الرجل ليس موقفا عاما ولا قاعدة مطردة في توريث الإسلام، فالقرآن الكريم لم يقل، يوصيكم الله للذكر مثل حظ الأنثيين، إنما قال: “يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين”[10]، وقد ذهب أحدهم[11] أن هذا التمييز ليس قاعدة مطردة في كل حالات الميراث، وإنما هو في حالات خاصة، بل ومحدودة من بين حالات الميراث.

من الملاحظ أنه بالرغم من مختلف المفاهيم التي فسر بها الفقهاء كلمة القوامة، إلا أنها في عمقها تذهب نحو معنى أساسي وهو سيادة الرجل وتفوقه وتفضيله على المرأة، فهناك من ذهب إلى أن القوامة تعني قوام وقيم ، وقوام فعال للمبالغة من القيام على الشيء والاستبداد وفي نظر فيه وحفظه بالاجتهاد، وهناك من ذهب إلى أن القوامة التفضيل أي أن القوام أعلى درجة وأرفع منزلة[12]، وهناك من قال أن القيام يعني الهيمنة والرياسة[13].

كما أن تفسير الفقهاء[14] لقوله تعالى: “الرجال قوامون على النساء”[15] هو أن الله سبحانه “يأتي الرجال القوامة بكلمة صريحة ومن تم كان لهم الحق في رئاسة الأسرة والإشراف على شؤونها، وفي المقابل كان على النساء طاعتهم لأن وصفهم بالقيام عليهن يقتضي ذلك وإن كان هذا وجه من وجوه التفرقة بين الرجل والمرأة، فهذا لا يعني أن الإسلام ليس بدين المساواة، فهو ساوى بينهما في كل ما يمكن التسوية فيه، ولم يفرق هنا إلا لأن طبيعة كل منهما تقتضي ذلك.

إن مبررات الفقهاء أو سندهم الشرعي للسبب الذي من أجله منحت القوامة للرجل يتجلى في قوله تعالى “بما فضل بعضهم على بعض”[16] وهم قد اتفقوا أولا على أن المراد بالتفضيل المشار إليه في هذه الآية هو تفضيل الرجال على النساء” وليس تفضيلا بين الرجال أنفسهم بعضهم على بعض، ثم اتفقوا ثانيا على أن سبب هذه القوامة هو تفضيل الله للرجل على المرأة[17].

ولكن هناك من ذهب إلى أن التفضيل ينقسم إلى فئتين، هناك فئة أولى اقتصرت على هذه الآية التي هي “الرجال قوامون على النساء، لبيان علة هذا التفضيل، فربطت بين قوله تعالى “بما فضل الله بعضهم على بعض” وبين قوله تعالى “وبما أنفقوا من أموالهم”، وهناك فئة ثانية لم تربط بين القولين الكريمين، حيث احتفظت بقوله تعالى “بما فضل الله بعضهم على بعض” ولم ترجع في تفسيره إلى القول الثاني، وإنما ذهب إلى قوله تعالى في آية أخرى من كتابه العزيز “ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة”[18]، ليس على هذا التفضيل.
وعلى أي حال فكلا الفئتين متفقة على أن سبب قوامة الرجل هو تفضيل الله به على المرأة، وحتى ان اختلفتا في علة هذا التفضيل، فإن المستأصل في التأويلات التي أعطيتها معا للدرجة، وجدتها في مجموعها تقتضي التفضيل، تفضيل الرجل على المرأة، إضافة إلى أنهم بمجرد ما ينتهون في تبرير تأويلاتهم الشرعية لقوامة الزوج في الأسرة، يشرعون في توضيح حقوق الزوج التي تفرعت عن حقه في القوامة، والناتجة في مجموعها عن مختلف تأويلاتهم لكلمة القوامة والدرجة بصلة أنها من مقومات وجوده، التي بدونها لا يمكن للرجل أن يمارس وأن يتمتع بفقه في القوامة فعلا[19].

إذا كانت مدونة الأحوال الشخصية الملغاة حددت العلاقة الشرعية بين الجنسين، حيث جعلت إنشاء الأسرة ورئاستها من نصيب الزوج لوحده، مخلصا في ذلك لوجهة نظر فقهاء الشريعة وما توصلوا إليه من مبررات ومن قراءة لنصوص الشريعة الإسلامية[20].
وقد ثبت عمليا أن اتجاه البيئة المتحضرة يشير إلى القضاء على مواريث النظامين الأموسي والأبيسي، وأنه ظهر تفتح نظري جديد تتكامل فيه الابيسية مع الأميسية، الشيء الذي يؤكده التغيير الذي عرفته الأسر المغربية، سواء في بنيتها، أو في العلاقات بين أفرادها، وما دام أن للشريعة الإسلامية مقاصد جوهرية، أو بما أن الإسلام يرمي في جوهره إلى العدالة واكتمال المساواة بين الزوجين[21]، متى توفرت أسباب هذه المساواة، فإن أسباب المساواة بين الزوجين في حق الإشراف على الأسرة وتسييرها وإدارة شؤونها المادية والمعنوية أصبحت متوفرة[22] وما على المشرع إلى أن يجعل النص القانوني يطابق واقع الأسرة المغربية الحالية.

ثانيا: طرق توزيع الميراث فيالفقه الاسلامي

إذا كان نظام الإسلام يحرص على تحقيق عدالة التوزيع وتقسيم الثروة أو التركة بين الورثة تقسيما عادلا على أساس معيار الحاجة، وجعله أحد أسس التفاضل في توزيع الميراث (1)، كما أن نظام الميراث الإسلامي يرتبط بشكل قوي بنظام النفقات حيث إن واجب الإنفاق ينتقل من شخص إلى آخر تبعا لمكانته وأولويته في الحصول على الميراث (2).

1: مراعاة عامل الحاجة المالية عند توزيع الميراث

كلما كانت الحاجة إلى المال أشد كان النصيب أكبر، ولعل ذلك هو سر عدالة الإسلام في أن نصيب ابن الميت أكثر من نصيب أبيه، لأن الأخير (الجد) مدبر في الحياة، وله في الغالب مال يكفيه، فتكون حاجته إلى المال أقل بينما الأول (الابن) يستقبلها بتكاليفها الباهظة[23]، وهو السبب في إعطاء الذكر مثل حظ الأنثيين، نظرا لطبيعة التكاليف المالية المناطة على عاتق الذكر، في ظل نظام الإسلام، والتي من أبرزها النفقة والمهر[24].

فعلى مستوى النفقة يكون الرجل هو القائم بأمر المرأة، وهو المكلف بالنفقة والكد والسعي والكسب وتجشم الآلام الناشئة عن متاعب الحصول على لقمة العيش، بينما أمر جل شأنه المرأة بالقرار في بيت زوجها ومنعها الخروج منه إلا بإذنه من أجل المحافظة على حقوق الزوج[25].

والرأي فيما أعتقد أنه هذا في وقتنا المعاصر أصبحت المرأة بدورها تتحمل مسؤوليات كبيرة في الإنفاق على الأسر، وربما لوحدها تنفق على الأسرة، كما أن المرأة أصبحت وزيرة وقاضية وغيرها، رغم الدور الفعال الذي تلعبه المرأة في المساهمة في الإنفاق على الأسرة، لم يعترف لها المشرع بهذا الدور حيث إن الإنفاق على الأسرة مقتصر فقط على الرجل الزوج طبقا للمواد 194 و 197 و 198 من مدونة الأسرة، باستثناء حالة واحدة نصت عليها المادة 199، حيث ألزمت المرأة بالإنفاق بشروط محدودة طبقا لهذه المادة وهي أن تكون موسرة وأن يكون الأب عاجزا كليا أو جزئيا عن الإنفاق وأن تنفق فقط بقدر ما يعجز فيه الأب.

وذهب البعض[26] إلى أن المرأة في ظل الإسلام لا تتحمل شيئا من الغرم في حياتها، لأنها لا تتحمل شيئا من التبعات، فهي تأخذ ولا تعطي، وتغنم ولا تغرم، وتدخر دون أن تدفع شيئا من النفقات، أو تشارك الرجل في تكاليف العيش ومتطلبات الحياة.

غير أن ابن حزم[27] ذهب إلى أنه تجب نفقة الزوج المعسر على زوجته الغنية، ولا ترجع عليه بشيء من ذلك إن أيسر، باعتبارها وارثة وذلك استنادا إلى قوله تعالى “و على الوارث مثل ذلك”[28]، وهو الاتجاه الذي تبنته مدونة الأسرة طبقا للمادة 199 من مدونة الأسرة التي تحدثعن إنفاق الزوجة بقدر ما عجزعنه الأب، ولكن لم تبين ما إذا كانت الزوجة أن ترجع على زوجها إن أيسر.
ولذلك يجب الرجوع إلى المادة 400 من مدونة الأسرة التي تحيل على المذهب المالكي والاجتهاد الذي يراعي فيه تحقيق قيم الإسلام في العدل والمساواة والمعاشرة بالمعروف.
وعليه ذهب البعض[29] إلى أن هذه الأسس هي التي تجعل مساواة الرجل والمرأة في الميراث غير ممكنة، وذلك نظرا للتفاوت في الإنفاق وشدة الحاجة إلى المال.
وأما بخصوص المهر والذي يعد من أبرز التكاليف المالية الملقاة على عاتق الرجل وأحد الحقوق التي تملكها الزوجة على زوجها، قال تعالى: “وآتوا النساء صدقاتهن نحلة”[30].
فالشارع الحكيم جعل المهر حقا خالصا للمرأة، لها أن تتصرف فيه تصرفها في ميراثها وبقية ملكها لا يشاركها حق التصرف فيه مشارك.
وهكذا ذهب أحدهم[31] أن المرأة تجد نفسها مكفولة الرزق والنفقة في جميع مراحلها وما تأخذه من مهر أو ميراث يبقى محفوظا، لا يتعرض للنقص أو الغرم، إذ أنها ليست محتاجة إلى شيء منه، لتنفقه في تكاليف زواجها أو نفقة بيتها.

ولذلك ذهب الفقه الإسلامي إلى أن نصيب الرجل في الميراث معرض للإنقاص غالبا، وليس موضوعا للادخار والإحراز، بعكس نصيب المرأة في الميراث والمهر، فكان من العدل والإنصاف أن يكون نصيب المرأة على النصف من نصيب الرجل، فالعطاء على قدر الحاجة هو العدل والمساواة عند تفاوت مقدار الحاجة هو الظلم[32].
رغم أن المرأة في وقتنا الحاضر لها أعباء اقتصادية مهمة وتساهم في الإنفاق نظرا لكثرة المصاريف وأصبحت المرأة تعيل أسرا كثيرة، ففي المغرب وصل عدد النساء المقاولات المسيرات أو المالكات لمقاولات تشتغل في قطاعات متعددة وتشغل يدا عاملة مؤهلة يناهز حوالي 5000 امرأة في حدود سنة 2005 ، وحسب دراسة وطنية أجريت ما بين سنة 1997 و 1998 ، أصبح تقدير نسبة نشاط المرأة على الصعيد الوطني يصل إلى 50،6 في المائة [33].

2: الحكمة من المفاضلة بين الورثة

وردت عبارة “للذكر مثل حظ الأنثيين” في القرآن الكريم مرتين، مرة بمناسبة ميراث الأولاد “يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين”[34]، ومرة بمناسبة ميراث الإخوة “وإن كانوا إخوة، رجالا ونساء، فلذكر مثل حظ الأنثيين”[35]، بالإضافة إلى هذا، هناك حالتان ضمنيتان للذكر مثل حظ الأنثيين وهي حالة الأزواج، إذا جاء في قوله تعالى “ولكم نصف ما ترك أزواجكم، إن لم يكن لهن ولد، فإن كان لكم ولد فلهن الثمن”[36].
وعليه فإن هناك أربع حالات يكون فيها للذكر مثل حظ الأنثيين ، فهناك حالة الإبن والبنت والأخ والأخت الزوج و الزوجة والأب والأم ، وعليه فإن حكمة تفضيل الذكر على الأنثى يتجلى في أن هذه القاعدة جاءت صريحة في القرآن مرتين، كما ذكرنا آنفا، وكذلك فإن القاعدة لا تتفق مع النزعات الحديثة التي تطالب بالتسوية بين الذكر والأنثى في كل شيء في الميراث وغيره.
ولكن لا أحد استطاع أن يبرهن بدقة مقبولة على حكمة تفضيل الذكر على الأنثى بمقدار الضعف[37]، نعم برهنوا على حكمة التفضيل، ولكن لم يبرهنوا على حكمة تفضيل مضاعف، ومنهم من برهن على التفضيل وبالغ، فلماذا لم يفضل الله الذكر على الأنثى بمقدار ثلاث مرات أو أربع أو أكثر، فكانت حجتهم “ذكرية” تحابى الذكور بأكثر مما حاباهم الله.
والرأي فيما أرى ليس من الصعب أن تثبت أن الأعباء المالية للذكر، في الإسلام، تفوق أعباء الأنثى، وان نظام الميراث لا تفهم حكمته إلا بفهم نظام النفقات في الإسلام، لكن من الصعب أن تثبت أن الأعباء المالية للذكر تبلغ ضعف الأعباء المالية للأنثى، ومن تم فإن حظ الذكر يجب أن يبلغ ضعف حظ الأنثى، ذلك لأن الحالة تختلف بين الذكور والإناث والقسمة بينهما في الشرع مبنية على التوسط والتقريب والتسهيل، وعليه فإن تبيان أعباء الذكر وأعباء الأنثى تتم على شكل الاعتدال والتقريب، لا على وجه العلو والتدقيق، لكي تكون حجته عادلة لا حجة عائلة[38].

كما أن ميراث الذكر والأنثى قاعدتان، فالقاعدة الأولى تتحدث عن حظ الذكر مثل حظ الأنثيين، والقاعدة الثانية تتحدث عن حظ الذكر مثل حظ الأنثى[39].
فالقاعدة الأولى تنطبق في حالات محددة، والقاعدة الثانية تنطبق في حالات أخرى، فهل هما قاعدتان مختلفتان، أم إن إحداهما قاعدة والأخرى استثناء منها؟ وأيهما القاعدة، وأيهما الاستثناء؟

ذهب البعض[40] أن القاعدة الأولى هي الأصل، والدليل على ذلك، هو أنها جاءت صريحة في القرآن مرتين، وأما القاعدة الثانية جاءت ضمنية، القاعدة الأولى تنطبق على أربع حالات، بينما تنطبق القاعدة الثانية على حالتين فقط، كما ان القاعدة الثانية تنطبق في حالة السدس فقط، بينما تنطبق القاعدة الأولى في سائر الحالات الأخرى، وهي حالات عديدة، وكذلك فإن القاعدة الأولى تنطبق على حالات منها حالات الإرث بالفرض، ومنها حالات الإرث بالتعصيب، وتنطبق على جميع حالات الإرث بالتعصيب، كما في حالة الأولاد، للإبن مثل حظ البنتين، وكما في حالة الإخوة والأخوات الأشقاء أو لأب، للأخ مثل حظ الأختين، وكذلك فإن الأولى وردت بلفظ كلي عام، والثانية أخذت من حالات جزئية خاصة.

وتجدر الإشارة إلى أن قاعدة للذكر مثل حظ الأنثيين، وقاعدة للذكر مثل حظ الأنثى، تصحان إذا كان إرث الذكر والأنثى بالفرض وحده وكذا إذا كان إرثها بالتعصيب وحده، وقد لا تصحان إذا كان إرث الأنثى بالفرض، والذكر بالتعصيب، ذلك لأن إرث الذكر بالتعصيب يعني إرثه الباقي من التركة بعد الفروض، والباقي متغير لا يخضع لنسب معينة، فربما اختلت إذن نسب العلاقة بين ميراث الذكر وميراث الأنثى، وانطباق القاعتين في حال الإرث بالفرض وحده، وفي حال التعصيب وحده، أما إن كان عدم انطباقهما في حال اجتماع الإرثين، الفرض للأنثى، والتعصيب للذكر، ففي أم وأب وإخوة: للأم 6/1 وللأب الباقي 6/5 تعصيبا، ولا شيء للإخوة لأنهم محجوبون بالأب، فهنا لم تنطبق القاعدة، لأن إرث الأم بالفرض، وإرث الأب بالتعصيب، وفي أم وأب: للأم 3/1 فرضا والباقي للأب 3/2 تعصيبا، إنطبقت قاعدة تفضيل الذكر بالمثلين، لأن الورثة هما اثنان فقط الأم والأب، ولما كان حظ الأم هو الثلث، كان لا بد من أن يكون حظ الأب هو الثلثين، لأنهما الباقيان من التركة.
ومن المثالين الأخيرين نجد أن القاعدة انطبقت في أحدهما، ولم تنطبق في الأخر.

خاتمة

أخلص إلى أن المفاضلة بين الذكر والأنثى في الميراث ليست مبنية على المفاضلة في الكرامة الإنسانية، بل هي مبنية على المفاضلة في التبعات المالية، فالتسوية بين المختلفين ظلم، والاختلاف بين المتماثلين ظلم، اما التسوية بين المتساويين فهي عدل، وكذلك الاختلاف بين المختلفين.

كما ان الإسلام لم يحرم الأنثى من الميراث، بل جعل لها حظا سواء كانت اما أو بنتا أو أختا أو زوجة، وميز حظوظها بحسب قرابتها من الميت وحاجتها، كما أنه في الجاهلية كانت تحرم الأنثى من الميراث، فرد الإسلام إليها حقها وحظها من الميراث.

 

(محاماه نت)

إغلاق