دراسات قانونية

المادة 16 من مدونة الأسرة (بحث قانوني)

وقفات مع المادة 16 من مدونة الأسرة

إعداد / ذ. محمد العبدلاوي
باحث في القضايا الأسرية

نصت المادة 16 من مدونة الأسرة على ما يلي : [ تعتبر وثيقة عقد الزواج الوسيلة المقبولة لإثبات الزواج.

  موضوع هام للقراءة :  رقم هيئة الابتزاز

إذا حالت أسباب قاهرة دون توثيق العقد في وقته تعتمد المحكمة في سماع دعوى الزوجية سائر وسائل الإثبات وكذا الخبرة.

تأخذ المحكمة بعين الاعتبار وهي تنظر في دعوى الزوجية وجود أطفال أو حمل ناتج عن العلاقة الزوجية، وما إذا رفعت الدعوى في حياة الزوجين.

يعمل بسماع دعوى الزوجية في فترة انتقالية لا تتعدى خمس سنوات، ابتداء من تاريخ دخول هذا القانون حيز التنفيذ.]

الأصل أن تكون دعوى سماع الزوجية اتفاقية يقدمها الطرفان في مواجهة النيابة العامة، وقد تكون نزاعية ترفعها الطالبة في مواجهة المطلوب، وسنحاول إلقاء الضوء على شيء من ملابساتها وإكراهات تنزيلها معرجين بين الفينة والأخرى على اضطراب العمل القضائي بشأنها، فنقول وبالله تعالى التوفيق :
أرشد الله عز وجل إلى الإشهاد عند المعاملات فقال سبحانه : } وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُم {، وقال جل ثناؤه : } يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ {، والشخص العدل هو المستقيم في دينه المؤدي للواجبات التارك للمحرمات، الذي لم تظهر عليه ريبة، الخالي من خوارم المروءة، هكذا عرف الفقهاء العدالة فلا شهادة لفاسق لقوله تعالى : } يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا {، أي “تثبتوا”، وليس العدل من يمارس مهام خطة العدالة، لأن فيه تضييقا لواسع، فتكفي إذن شهادة رجلين اثنين أيّاً كانا ولو لم يكونا مزاولين لمهنة العدول، والإشهاد على الزواج من طرف متصفين بالعدالة -ولو ظاهرا- شرط لصحته، لقول النبي r : (( لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل، وما كان غير ذلك فهو باطل))، ولا يقال إنه شرط كمال لأن النفي في النكاح والمعاملات عامة يكون نفيا للصحة، وإنما يكون نفيا للكمال في العبادات وبعض مسائل العقائد التي تتأرجح بين صفتي الإجزاء والكمال، ويكون وقته إما عند العقد أو قبل البناء إذا تأجل توثيق العقد، وهو وسيلة للاحتياط خشية إنكار الزوج أو جحوده نسب الإبن، فهو إذن مصلحة لحفظ حقوق المرأة والأبناء بالدرجة الأولى، وأيضاً درءاً لكثرة الأقاويل والتهم التي من شأنها أن تعكر صفو الحياة الزوجية، لكن الإشكال الذي يُطرح هو الخلط بين الإشهاد والتوثيق الذي هو أمر زائد على الإشهاد، لأن لفظ الإشهاد يطلق في القانون ويراد به التوثيق، والشاهدان (العدلان) هما بالضرورة موثقَان، وما يؤكد توجه المدونة بأن الإشهاد إنما هو التوثيق استدلال العمل القضائي به في كل مناسبة أنه ليس شرطا لصحة الزواج، من ذلك : (( الإشهاد على الزواج ليس ركنا في العقد وإنما هو من باب المندوب، ويكفي لصحة الزواج اشتهاره

بين الناس))[1]، ولتخريج هذا القول مخرجا سليما يلزم من الإشهاد أن يكون هو التوثيق أي “كتابة العقد”، ومن ذلك أيضاً : (( فالغاية من كتابة عقد الزواج هو إثبات تحققه وليس ركنا في العقد، لكن إن تعذر الإشهاد في حينه اعتمدت المحكمة سائر وسائل الإثبات ومن ذلك شهادة الشهود المزكاة باليمين))[2]، ولإجلاء الغبش في الخلط بين مصطلحي الركن والشرط نسجل هاهنا فائدة وهي أن كلا منهما تتوقف عليه صحة الشيء، لكن الفرق أن الأول يشكل الماهية بخلاف الثاني بائن عنها، وعليه قول الناظم :
والركن في ماهية قد ولجَ والشرط عن ماهية قد خرجَ

وليس في عقد الزواج إلا ركن واحد -أو ركنان على اعتبار العاقدين “أي الزوج والزوجة” ركن هو الآخر- هذا الركن هو الصيغة (الإيجاب، والقبول) وهي دليل على التراضي، أما الشروط فكل ما خرج عن الماهية وافتقر الزواج إليها للقول بصحته، كالولاية والإشهاد والصداق وانتفاء الموانع الشرعية كنكاح المعتدة … والأمر يستدعي منا مزيد تفصيل :

فالإشهاد الذي ليس شرطا لصحة الزواج إذا كان المقصود منه التوثيق، نقول : هذا لا يختلف عليه اثنان، ولكن رغم ذلك يُحتاج إليه وأصبح من ضروريات الحياة، لا سيما في وقتنا الحاضر الذي ضُيِّعت فيه الأمانة وعم النكران والجحود من ابن آدم الذي صدق عليه قول الرسول r : ((…يبيع دينه بعرض من الدنيا قليل ))، فينبغي على أيٍّ كتابة ذلك للرجوع إلى الوثيقة إذا وقع خلاف بين الزوجين، ولِتعلُّق حقوق الغير بالزواج كإثبات نسب الولد واستحقاق النفقة وغير ذلك من المسؤوليات التي تعتبر الوثيقةُ السندَ
الأوضح والأقرب في إثباتها، وقد يرتقي التوثيق إلى درجة الوجوب في حالة حقوق اليتامى والمحاجير،

أما إذا كان المعنى المراد منه الإشهاد الذي تكرر في القرآن في غير ما آية كما أسلفنا في الاستهلال أعلاه، فنقول إن هذا القول فضلا عن كونه مجانبا للصواب -بل غير وارد أصلا- فإنه يهدم بنيان الفقه من أساسه، ولا شك أن المدونة والعمل القضائي لا يقصدان الشهادة بل التوثيق، هذا هو المفترض -أظن- والظاهر من استقراء النصوص، فالحق غالبا ما يعتريه سوء تعبير، وأصل هذا الخلط إنما أتى من إقامة الكتابة مقام الشهادة لكون الشاهدين هما من يوثّقان شهادتهما على الزواج وغيره من المعاملات، دون أن يحتاجا إلى غيرهما للشهادة، وهذا غَلَط يلزم من الأخذ به عدة أمور تُخرج الشهادة عن شروطها
ومقتضياتها، من ذلك : أخذ الأجرة عليها وهو غير جائز متى وجبت الشهادة لأن فيه إضراراً بالعاقدين،

وكذا اشتراط العدالة وهي مفقودة في الكثير ممن وُصِفوا بها إلا من تولاه الله بفضل ورحمة، ومنها كذلك أن يكون الشاهد مَرْضِيّاً عند المشهود له لقوله تعالى : } مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ { وقد لا يكون كذلك إنما يَلجأ إليه اضطراراً بأن لا يَجد عدلا على الحقيقة، ومنها تصدير العدلين شهادتهما بعد ذكر هويتهما بالقول “تلقينا” وهذا كذب قادح في العدالة، لأن ما يشهد به الواقع في الأعم الغالب هو التلقي من أحدهما فقط ليس لضيق وقتهما أو كثرة أشغالهما وإنما لعدم ورود هذا المعنى أصلا في أذهان العدول واعتباره شيئا عاديا، وسبب ذلك أن العدل يتساهل في الأمر معتضدا بصدقه وحسن نيته وفي هذا تزكية للنفس وقد نهى الله عن ذلك فقال عز من قائل : } وَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى {، ومنها أيضاً اعتبار الشهادة برجلين وفيه خروجٌ عن النص الشرعي وتكليفٌ بما لا يُطاق في بعض الحالات التي لا تستلزم ذلك، لأن الإشهاد قد يكون برجلين أو رجل وامرأتان كما في المعاوضات والتبرعات والجنايات ما عدا الزنا واللواط فلا يقبل فيهما أقل من أربعة شهود عدول، وقد يكون برجل واحد ويمين المدعي عند الحاجة، وقد يكون بامرأة واحدة كما في الأمور التي لا يطلع عليها الرجال في الغالب كعيوب النساء…

فهذه جمل شرعية أحببنا أن نشارككم بها لمناسبة المقام، فلم يبق إلا التسليم بأن التوثيق شيء والإشهاد شيء آخر تماما، والأول مندوب إليه والثاني واجب مدار الصحة والبطلان على توفره، ويكفيك لاستشعار هذا المعنى مطالعة أطول آية في كتاب الله عز وجل يسميها الفقهاء آية المداينة وقد تطرقت إلى جملة من الأحكام بتفصيل ومن بينها الشهادة والكـتابة معا، فقد أرشد الله عز وجل فيها الـمُتَدايِنَيْن إلى كتابة الدَّيْن فقال سبحانه : } يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ {، لكن هذه الكتابة ليست واجبة لورود قرينة صرفت الأمر في قوله تعالى “فاكتبوه” من الوجوب إلى الندب والاستحباب، وهي قوله تعالى } إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةٌ حَاضِرَةٌ تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا {، والترخيص منه سبحانه بترك الكتابة لا يتنافى مع الإشهاد لقوله تعالى عقِب الرخصة : } وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ {، إلا إذا أمِنَ صاحب الحق صاحبه لقوله سبحانه : } فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اُؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ {، وبالتالي يتبين أن لكل من التوثيق والإشهاد حكمه الذي يميزه.

وليس الزواج بأقل أهمية من المداينة أو المعاوضة بل هو أشرف العقود قدرا، كيف لا وقد قال عنه سبحانه : } وَأَخْذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً {، لذلك رغب الشرع في التوثيق ونهى من أُسندتْ إليه هذه المهمة عن الضّجر في تدوين المشهود به سواء كان دقيقا أو جليلا، قال تعالى في نفس الآية السابقة : } وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا {، فإن قيل : لا يجب الخلط بين “شهادة التحمل” التي هي أمر اختياري أحيانا ويكون عند المعاملة إما للاستيثاق وضمان الوفاء كما في البيوع أو لإقرار شيء معين وتثبيته بإعطائه الحجية والصحة كما في الزواج، وبين “شهادة الأداء” التي تُطلب من طرف القضاء بعد الفعل وربما بعد زمن على تحملها كوسيلة لدفع تهمة أو إثبات حق مزعوم… فالجواب أن هذا يُرَدُّ به على القائلين أن نصاب الشهادة رجلان عدلان للقول بثبوت الزوجية، والحال أن سماع دعوى الزوجية القائمة إنما هي لإثبات حق ساري المفعول لا لإقراره قبل وجوده، فتكفي فيها شهادة الرجل والمرأتين -العدول- الذين تحملوا الشهادة عند التعاقد، أما إن تعذر
أداؤهم لها بسبب غيبة أو موت أو غير ذلك فللمحكمة أن تسترشد بأي وسيلة تكون مظــنّةً لبلوغ المراد،

ولا يشترط آنذاك في الشهود الذكورة كما يُتوهَّم، وعليه يعتد بشهادة النساء إذا دعت لها الحاجة لأن الشهادة تبقى مجرد رواية على حدوث الزواج لا على صحته وللقاضي أن يعتمدها مع باقي القرائن إن شاء ذلك[3]، بخلاف الإشهاد الذي يعطي الشرعية للزيجة حتى يُعتد بصحتها، لأن (( باب حفظ الحقوق في ابتداء الأمر يُرشَد فيه العبد إلى الاحتراز والتحفظ التام، وباب الحُكم بين المتنازعين يُنظر فيه إلى المرجِّحات والبينات بحسب حالها ))[4].

ولا ينسحب هذا التفصيل على الإشهاد أي (شهادة التحمل) ولا يقال فيه بعدم اشتراط الذكورة كما تَوهم البعض[5]، لأن قوله تعالى : } فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ { إنما يكون بعد تعذر شهادة الرجال وليس في زماننا ما يعوق شهادة رجلين حتى نعدل عنها لشهادة النساء، فإن وُجد ما يعوق ذلك فالالتزام على الأقل بالتوجيه الرباني باعتماد رجل وامرأتين، وليس عموم البلوى بخروج النساء ومخالطتِهن لمجالس التجارات وحصولهن على الخبرات بمسوِّغٍ لإلغاء العمل بهذا الإرشاد الإلهي الذي يَحفظ حقوق العباد في معاشهم بأحوط الوسائل وأجمعها وأمنعها، وهذا ليس تنقيصا من شأن المرأة، إذْ لم يُلاحَظ في هذا الباب جانب الذكورة والأنوثة، ولا التقلُّل بالذكور أو التكثُّر بالنساء وإنما لوحِظ فيه جانب الاستذكار فالمرأة تطرأ لها عوارض حياتية شتّىً من الحمل والحيض والنفاس وغيرها مما قد يُضعف ذاكرتها لا أقل ولا أكثر، وما يشهد لهذا قوله تعالى } أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى {.

وتلافيا لتفلت الأفكار وتحويطا للموضوع نستخلص مما سبق ما يلي :

أن الإشهاد في بعض المسائل كالزواج[6] مثلا واجب وأما التوثيق فمستحب.
أن العدلين لا يعدوان أن يكونا كاتبين مسجلين للشهادة للرجوع إليها وقت الحاجة، وإذا كانا كذلك فلماذا التثنية ؟
أن ارتباك العمل القضائي ناتج عن كون العدلين شاهدين وموثقين في آن واحد.
أن القول بعدالة العدول ونزع العدالة عن ما سواهم يلزم منه إبطال كافة الزيجات التي لم يشهد عليها عدلان (سنأتي إلى نقاش اللفيف لاحقا).

وتأسيسا على ما ذكر فالزواج الذي لم يُوثَّق في حينه وأُشْهِد عليه رجلان من ذوي الأخلاق والمروءة قبل البناء واشتهر بين الناس واستوفى عموما جميع أركانه وشروطه، فما من داع للمحكمة للقول بعدم ثبوته، فدورها فقط التحقق مما ذكر بسائر وسائل الإثبات، أما الزواج المفتقر للإشهاد (ونعني بالإشهاد الشهادة عليه قبل البناء) فغير صحيح وعلى المحكمة فسخه لا تثبيته، فإن قيل وما مصير الأبناء ؟ نقول يُنسبون إلى المتصل للشبهة لا للفراش طبقا للمادة 155 من المدونة ومما جاء فيها : (( إذا نتج عن الاتصال بشبهة حمل وولدت المرأة ما بين أقل مدة الحمل وأكثرها، ثبت نسب الولد من المتصل ))، ويطلق على هذا النوع من الشُّبَه “شبهة في العقد”.

والمدونة وإن كانت قد صرحت بأن وثيقة عقد الزواج هي الوسيلة المقبولة لإثباته، إلا أنها فتحت الباب لسماع دعوى الزوجية إذا حالت أسباب قاهرة دون توثيق الزواج، وهذا هو منشأ الخلاف، لأن الشرع يكتفي بشهادة رجلين مسلمين بالغين عاقلين ذكرين عدلين لصحة الزواج، بينما ترى المدونة أن التوثيق هو الأصل، وليس الخلاف صوريا كما يبدو للناظر، لأنها لا تقبل شهادة اثنين من عامة الناس -بل وحتى من العلماء الأفاضل- ممن تحلوا بتلك الأوصاف – كانا قد سبق لهما أن شهدا على واقعة الزواج بين الطرفين المعروض إثباتها على المحكمة في وقت لاحق- للحكم بثبوت الزوجية، ونتساءل عن حالة ما إن أدى الشهادة عدلان منتصبان للإشهاد بدائرة نفوذ المحكمة التابع لها محل إقامة الزوجين -حضرا الزواج كشاهدين لا كموثقَيْن-، هل كانت ستكتفي المحكمة بشهادتَيْهما فقط لأنهما عدلين مزاولين ؟ الجواب : نعم، لأن (( نصاب الشهادة الشرعي هو شاهدان عدلان أو ما يعادلهما من لفيف يتكون من اثني عشر شاهدا كما هو مقرر في المشهور من الفقه المالكي))[7]، لكن من أعطى لهذين صفة العدالة ونزعها عن غيرهما ؟ ومن يستطيع الجزم بأن الفقه المالكي يجعل العدل هو المنتصب للتوثيق كما استقر عليه الحال أيامنا هذه ؟ وعليه فإن استيفاء اللفيف متعيِّن في ما عدا ذلك أي عند تعذر شهادة العدول[8].

ليس هذا فحسب بل إن المحكمة تشترط لإعمال اللفيف وقبول الشهادة أن تكون مفصلة ومفيدة فيلزم كل من دُعِيَ لأدائها أن يستند إلى علم شخصي كحضوره مجلس العقد أو حفل الزفاف، وأن يكون عالما بالصداق أو ربما قدره حتى، لتتأكد المحكمة أن الطرفين لم يتفقا على إسقاطه، ولتستنتج من هذه التفصيلات الجوهرية ركن الزواج الذي لا يقوم بدونه، ألا وهو الرضى (الإيجاب والقبول) بين العاقدَين، ويُفترض هذا في جميع الشهود، فإن شذ عنهم واحد تُرد الشهادة، ونحن نقول أن تحقق ذلك بمجرد الاستماع للشهود -أعني اللفيف- غير ممكن، لأن توافقهم على كلمة واحدة بكل تلك الجزئيات الدقيقة يبقى في النفس منه شيء فهو أقرب للتواطؤ منه إلى الحقيقة، ونشير هنا إلى أن هذه الإحاطة الدقيقة إنما يُكلف بها الشاهدان اللذان شهدا على صحة الزواج وتحملا الشهادة وصارا مسؤولين على أدائها على وجهها متى طلب منهم ذلك[9]، لا أن يكلف بها الشهود الذين يشهدون بما بلغ إلى علمهم كلٌّ بحسب قدرته واستطاعته على الاستذكار وقد تقبل أو لا تقبل حسب الظروف وقناعات القاضي الذي يبحث في البينة، والذي إن اطمأن إلى شهادة النساء لوحدهن أو شهادة غير المسلم أو البراهين القطعية التي تفيد تحقق البينة[10]، فأين الحرج في هـذا ؟

وعلى فرض تحقق التفصيل الدقيق في الشهادة واتفاق الشهود جميعا على كلمة واحدة، أكانت المحكمة ستقضي بثبوت الزوجية بين الطرفين ؟ كلا، لن تستجيب للطلب إلا إذا علَّلت بالظروف القاهرة التي حالت دون توثيق العقد في حينه، يتضح ذلك من استقراء قرارات المجلس الأعلى بخصوص الموضوع، ونكتفي في ما يلي بقرارين فقط :

* الأول : (( إذا كانت المادة 16 من مدونة الأسرة تجيز سماع دعوى الزوجية وإثباتها بكافة وسائل الإثبات ومنها شهادة الشهود، فإنها اشترطت أن يكون ذلك في حالة وجود أسباب قاهرة حالت دون توثيق الزواج. والمحكمة المصدرة للقرار المطعون فيه لما قضت بثبوت العلاقة الزوجية بين الطرفين استنادا إلى شهادة الشهود، دون أن تبرر في قرارها الظرف القاهر الذي حال دون توثيق الزواج تكون قد جعلت قضاءها ناقص التعليل الـمُنَّزل منزلة انعدامه وعرضت قرارها للنقض ))[11].

* الثاني : (( المحكمة لما قضت بثبوت الزوجية بناء على شهادة الشهود المستمع إليهم دون بيان السبب القاهر الذي حال دون توثيق العقد في إبانه… تكون قد خرقت مقتضيات القانون ))[12].

يبدو جليا أن إثبات الظرف القاهر من الدعامات الضرورية التي يُستند إليها في تعليل الحكم من طرف القاضي وإلا وقع عرضة للنقض، لكن السؤال الذي يلقي بظلاله هو: ما طبيعة هـــذا الظرف ؟
هنا تَبْرُز المادة 269 من قانون الالتزامات والعقود لتعريف القوة القاهرة وهي : ((كل ما لا يستطيع الإنسان توقعه أو دفعه))، وإن كانت عبرت عنه بالقوة بدل الظرف، مما يطرح إشكالية تكييف هذا الظرف أمام القضاء، وعلى العموم يمكن القول تجاوزا بأنهما شيء واحد لكنه يختلف باختلاف الأحوال، وتتولى المحكمة استخلاصه من جلسات البحث بحسب ملابسات كل حالة، وما اعتبرته ظرفا قاهرا في قضية قد لا تعُدُّه كذلك في أخرى.

ورغم أن المشرع ترك كامل الصلاحيات في تقدير درجة هذا الظرف وتكييفه أهو قاهر أم لا، إلا أنه وجه المحكمة بطريقة أو بأخرى إلى ما يمكنه اعتباره ظرفا قاهرا، أو بالأحرى ما يجب أن يُولَى عناية مخصوصة أثناء سماع الزوجية، يتضح ذلك من التنصيص عليه صراحة بالقول : (( تأخذ المحكمة بعين الاعتــبار وهي تنــظر في دعــوى الزوجية وجــــــود أطفــال أو حمل ناتــــج عـــن العلاقـــــة الزوجية ))، وهي إشارة ضمنية إلى أن مجرد الحمل أو الولد يعد ظرفا قاهرا، ثم يُتنازل عن التشديد ويُتساهل في قبول مسوغاتٍ في محاولةٍ للملاءمة للقول بثبوت الزوجية، وفي هذا تأثر للقانون بضغط الواقع والأوْلى أن يُخضع الواقع للقانون لا العكس[13]، ولندلل على هذا بحالتين قُضي بثبوت الزوجية في الأولى وبعدم ثبوتها في الثانية مع أن الظروف متشابهة تقريبا :

* الحالة الأولى : (( استماع المحكمة في جلسة البحث إلى سبعة شهود دون النصاب الشرعي للشهادة، وتعزيز شهادتهم بالصور الفوتوغرافية للطرفين في حفل زفافهما أُخذت لهما في غرفة النوم وإقرار الطالب أن تلك الصور تتعلق به، كل ذلك يُعد دليلا على توفر الرضى، إضافة إلى وجود طفل ناتج عن تلك العلاقة وانتهت إلى القول بثبوت الزوجية غير خارقة للمادة 16 من مدونة الأسرة ))[14]، والسؤال هو : كيف للمحكمة أن تقضي بصحة الزواج دون التحقق من أنهما أَشْهدا عليه قبل البناء ؟ وأما الشهود السبعة الذين استمعت إليهم المحكمة -وليسوا ممن تحملوا الشهادة ابتداء- فلأجل استنهاض البينة ليس إلا، وقد يؤخذ بشهادتهم وقد تكون محل نظر أو إبطال، وعنصر الرضا لا يستقل لوحده لإنشاء عقد الزواج حتى لو تضافرت عليه الدلائل، لأننا لسنا أمام عقود مدنية أو التزامات رضائية تنشأ بمجرد توافق إرادتين وتكون بمثابة العقد بالنسبة لمنشئيها، بل لابد من استيفاء كافة الشروط وأولاها اعتبارا الإشهاد، والغريب أن العمل القضائي يتشدد في اشترط الصداق ولا يسلك نفس المنحى مع الإشهاد وكلاهما شرطان، والجواب واضح : أنه لا يفهم منه إلا معنى التوثيق.
ربما قد يكون هذا راجعا إلى تشوف المشرع إلى أن يحصل كل مولود على نسب شرعي يتقي به معرة الانتساب إلى الزنا، فلننظر إذن للحالة الثانية للتأكد من مدى اطراد هذه القاعدة.

* الحالة الثانية : (( والمحكمة لما استندت في إثبات العلاقة الزوجية بين الطرفين على مجرد تصريحات ستة شهود ولم تَستجبْ لطلب الخبرة الطبية لتحديد نسب البنت تكون قد خرقت مقتضيات المادة 16 وقواعد الفقه المقررة في النازلة مما يعرض قرارها للنقض[15]))، فإذا تبين للمحكمة وجود قرائن تفيد صحة الزواج فلتصرح بثبوته وانتهى الأمر لأنه هو الأصل أما لحوق النسب ففرع عن الأصل لا ينتفي إلا باللعان، وقد أقر الزوج ضمنيا ببنوة ابنته ولم يطلب إجراء خبرة جينية، من جهة أخرى لا يُلجأ إلى إثبات النسب بالخبرة إلا عند الاتصال بشبهة أو في حالة حمل المخطوبة[16] أو في حالة اللعان، وعموما إن كانت ستسهم في إثبات النسب أو نفيه ووفقا لمقتضيات المدونة، بل أكثر من ذلك تعتبر شهادة الشهود أقوى وأولى بالأخذ من الخبرة الطبية لأن غاية ما يُرجى من هذه الأخيرة إثبات البنوة البيولوجية ليس إلا، والتي لا يترتب عنها أي أثر من آثار البنوة الشرعية بالنسبة للأب[17] لأن المعـــدوم شرعـــا كالمعـــدوم حسا طبقا للمــادة 148 من المدونة، ولقول النبي r : (( الولد للفراش وللعاهر الحجر )) أي فراش الزوجية، وحاصل القول أنه على فرض تحقق البنوة بالخبرة -أعني البنوة الطبيعية لا الشرعية- فإنها لا تعد مع ذلك مبررا كافيا ولا معتبرا للقول بثبوت الزوجية أو انتفائها.

والأولى بالاعتبار أن تقتنع المحكمة من توفر ركن الزواج وتحقق شروطه قبل البناء سالكة لأجل ذلك كل الوسائل المعتبرة شرعا، لا أن تبحث في الظرف القاهر الذي حال وتوثيقَ العقد، لأن إبطال زواج شرعي قائم الأركان ومستوف للشروط لمجرد تعذر توثيقه لَفساد محض مخالف لما عليه الفقه من جهة ومس صارخ بالأعراف المتجذرة في بعض الأقاليم النائية عن مراكز التوثيق من جهة أخرى، لأن العبرة في العقود بالمقاصد والمعاني لا الألفاظ والمباني كما لا يخفى، يقول ابن القيم رحمه الله مقرراً هذه القاعدة : (( والصواب اتباع ألفاظ العبادات والوقوف معها وأما العقود والمعاملات فإنما يتبع مقاصدها والمراد منها بأي لفظٍ كان إذ لم يشرع الله ورسوله لنا التعبد بألفاظٍ معينة لا نتعداها )) [18] انتهى ، وعقد الزواج[19] من العقود الحساسة جدا التي يستوي لانعقادها الجِد والهزل قال رسول الله r : (( ثلاث جدهن جد وهزلهن جد : الزواج والطلاق والرجعة )).

فأمام تعذر شهادة العدول الذين تحملوا الشهادة لغيبة أو موت أو ما شابه، وأمام عدم اكتمال اللفيف الذي جرى عليه العمل عند المغاربة، قد يتساءل البعض : بأي وسيلة يمكن إثبات الزواج ؟ أقول لا سبيل لذلك إلا الأخذ ببينة السَّماع، ونفتح هنا قوسا لإلقاء نظرة عن معنى بينة السماع ومن المؤهل لإجرائها ؟ فنقول وبالله التوفيق :

يُعتبر النكاح من بين الأمور التي تَثْبت ببينة السماع لقول الناظم :

وأُعمِلَتْ شهادةُ السَّماعِ في الحَمل والنكـاح والرضـاعِ

وإذا كانت محكمة النقض وهي أعلى هيئة مجتمعة تسهر على الاجتهاذ القضائي لا تأخذ ببينة السماع إلا أن هذه الأخيرة تجد سندها في التأصيل الشرعي لها وفي تواتر الفقه على اعتمادها، والفرق بينها وبين الشهادة أن هذه الأخيرة يَستند فيها الشاهد إلى علم يقيني خاص حصل له بالرؤية وهي باتة وقطعية، بينما يَعتمد في الأولى على السماع الفاشي أي ما تناقلته ألسنة الناس من أخبار دون حصول المعاينة ولا العلم اليقيني، وبالتالي فهي تفيد الظن لا القطع، لكن تواترَ جَمٍّ غفير من الناس مجاورين لموطن الزوجين يستحيل تواطؤُهم على الكذب يرتقي بها إلى مَصَفِّ الشهادة القطعية أو ما دونها بقليل فتقبل على كل حال، ولا يكون ذلك إلا بناء على خبرة يجريها مساعد اجتماعي قضائي، بأن ينتقل إلى موطن الطرفين ويستخلص كل الظروف والملابسات حولهما ويتأكد من قيام العلاقة الزوجية ويحيط بشهادات الجيران والأقارب وكل من له علاقة بموضوع البحث، وذلك من أجل البحث الجاد والعميق المعتمد على المداهمة والمباغتة، لأن جلسات البحث التي تعقدها المحكمة من أجل استخلاص عناصر صحة الزواج بناء على تصريحات الطرفين أو شهادةِ شُهودٍ بعينهم -ربما قد يكونوا تحصلوا عِوضاً مقابل الشهادة- تبقى غير ناجعة لِعِلَّة إمكانية الترتيب المسبق من قِبل الطرفين… ولا حرج في انتداب مساعدَيْن اجتماعيين أو أكثر في ملف واحد، فكلما زاد العدد كلما كان أدعى للاطمئنان والتقبل.

كل ما سبق ذكره إنما ينصب على ثبوت الزوجية الاتفاقية، أما إذا كانت نزاعية فعلى المحكمة أن تسلك كل السبل الممكنة لاستخلاص قيام عنصر الرضا من طرف المطلوب جاحد الزواج.

وما من شك أن إفراط الاهتمام بالتوثيق يُفهم منه حرص المشرع على ضمان الحقوق وقطع كل طرق الاحتيال أمام المتلاعبين، لكن محاولته الزج به دفعة واحدة من أجل تجاوز تخلف الواقع المعيش لن يخلق إلا أجواء من الاحتقان القضائي، وقد حصل فعلا على مدى عقد من الزمن على تطبيق المدونة، فرغم كل الجهود المبذولة لاحتواء ظاهرة عدم التوثيق، لا يزال الكثيرون يعتادون ما درجوا عليه ولا يرون به بأسا على الإطلاق، صحيح أن هناك مشكل يكمن في عدم توثيق الزواج لكن علاجه لا يكون بخلق مشكل أعوص منه، ولأن الصناعة القانونية عبارة عن قواعد مجردة ملزمة تسري على الجميع ولا يُعذر أحد بجهلها، مما يستدعي توعية قانونية وتغطية إعلامية شاملة.

أما الفقرة الأخيرة من المادة 16 فجاء فيها (( يُعمل بسماع دعوى الزوجية في فترة انتقالية لا تتعدى خمس سنوات، ابتداء من تاريخ دخول هذا القانون حيز التنفيذ ))، يفهم من هذه الفقرة أنها تستهدف الزيجات غير الموثقة السابقة لتاريخ صدور القانون بالجريدة الرسمية، لكن جاء في قرار للمجلس الأعلى (( دعوى الزوجية من الدعاوى التي يجوز استثناء سماعها سواء بمقتضى قانون الأحوال الشخصية أو مدونة الأسرة بغض النظر عن تاريخ وقائع الدعوى ))[20]، وهذا النص قاطع بإفادته الاستغراق في الماضي وكذلك الحاضر أي (الفترة الانتقالية)، ولكن يفهم منه إمكانية استمرار سماعها في المستقبل،

وهو الحاصل من التمديد بعد التمديد، إذن فلا داعي للتلويح في كل مرة بأجل مغلق -خمس سنوات- بغية إفزاع من عاينوا الثغرات النافعة لهذه المسطرة واطمأنوا بل وركنوا إليها والتي من حسناتها بالنسبة لبعضهم إضفاء الشرعية على علاقات غير شرعية، واستغناء البعض الآخر عن إرهاق أنفسهم لاستصدار الأذون المسبقة (مقرر بزواج قاصر، إذن بالتعدد، إذن بزواج معتنقي الإسلام والأجانب)، أو بعد عدم قبول طلباتهم شكلا (كعدم الادلاء بالوثائق كاملة “شهادة الكفاءة في الزواج بالنسبة للأجانب” مثلا) أو رفضها موضوعا (كعدم توفر المبرر الاستثنائي الموضوعي في الإذن بالتعدد مثلا)، وكان مِن نِتاج هذا التوسع في سماع دعوى الزوجية أن أضحى الاستثناء هو الأصل عند هؤلاء الماكرين.

وما من شك أن إثارة مثل هته المواضيع المخالفة للعرف السائد هي التي من شأنها أن تسهم في الرقي بالعمل القضائي ، ولا شك أيضاً أن عددا من الدارسين بقصد أو بدون قصد سينتفضون ويكثرون اللغط لدحض ما استجد وأُثير، وهذا راجع إلى قلة البحث وقصور النظر، ولله در القائل :

إنّ الأمورَ إذا اسْتقبَلْتَها اشْتَبهَتْ وفي تدَبـُّـــــــــــــــــرِها التِّبــيان والْعـِــــــــــــــــــــبَرُ

وختاما ألتمس العذر من القارئ الكريم إن خانتني الكلمات وتجاوزت في حق البعض أو أسأت تقريب الموضوع الذي يبقى على كل حال وجهة نظر لا تخلو من نقائص نتيجة سهوٍ أو سوء فهمٍ أو تقصيرٍ في البحث أو زلل في التنـــــزيل، فسبحــــانه وحده المتفرد بصفـات الكمال القائل عن كتابـــــه } الْحَمْدُ للهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا { وقال عنه سبحانه : }لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ {.

والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات

 

(محاماة نت)

إغلاق