دراسات قانونية
إشكالية التنصيب البرلماني للحكومة بين المغرب وفرنسا (بحث قانوني)
إشكالية التنصيب البرلماني للحكومة: دراسة مقارنة (المغرب وفرنسا)
محمد صالح،
باحث بسلك الدكتوراه،
تخصص القانون الدستوري والعلوم السياسية،
كلية الحقوق السويسي.
الأصل في الأنظمة الديمقراطية الآخذة بآليات النظام البرلماني يتجسد في ضرورة حصول الحكومة على ثقة ممثلي الأمة، سواءا بشكل صريح أو ضمني، فلا يمكن للحكومة الشروع في ممارسة مهامها دون توفرها على الدعم البرلماني، لأن الأنظمة البرلمانية لا تعترف بالميلاد القانوني للحكومة إلا بعد تنصيبها من طرف البرلمان[1].
فهل يمكن إعتبار أن هذه القاعدة تحضى بإجماع في مختلف الدساتير ذات الطابع البرلماني؟ أم أن هناك استثناءات واردة عليها؟ أم أن هناك قواعد غيرها تأخذ بها بعض الأنظمة البرلمانية؟
إن الجواب على هذه الأسئلة، يقودنا إلى استحضار الدراسة التي قام بها “جون كلود كوليار” على عشرين نظام برلمانيا، وخلص إلى نتيجة مهمة في ما يخص التنصيب البرلماني للحكومة، مفادها وجود ثلاثة طرق لتشكيل الحكومة[2]؛ أولها حكومات معينة من طرف رئيس الدولة، دون أدنى تدخل للبرلمان في العملية، ثم حكومات معينة من طرف رئيس الدولة، ومنصبة من طرف البرلمان، وأخيرا حكومات منصبة من طرف البرلمان دون تدخل سابق لرئيس الدولة.
ورغم الجدال الفقهي العريض حول وجود التنصيب البرلماني في المغرب من عدمه، فهو يعتبر أهم آلية لتعزيز التوازن الدستوري بين المؤسسات، إذ تكمن أهميته في مجال مراقبة العمل الحكومي، في كون النواب يقفون على محتويات البرنامج الذي تعتزم الحكومة تنفيذه، حيث يطلعون على ما يحمله من جديد وما يتوخى تحقيقه، إضافة إلى ذلك فهو يشكل أرضية يقوم البرلمانيون على أساسها بمراقبة الحكومة ومحاسبتها، إذا لم تفي بما وعدت به في برنامجها، بإعتبار التنصيب البرلماني للحكومة يعني أن التشكيلة الحكومية كما لو أنها منتخبة من لدن البرلمان، بحيث يشكل هذا الأخير هيأتها الانتخابية، وفي هذه الحالة يكون البرلمان هو من اختار الحكومة كما أنه يتوفر على آليات تمكنه من وضعها تحت مراقبته الصارمة[3].
فما هو إذن الإطار القانوني والدستوري الذي يتم في نطاقه تعيين الحكومة في كل من فرنسا والمغرب؟
فبالنسبة للإطار الدستوري والقانوني الذي يتم في نطاقه تعيين الحكومة في فرنسا، تنص المادة الثامنة من دستور الجمهورية الخامسة على الآتي: “يعين رئيس الجمهورية الوزير الأول ويعفيه من مهامه” كما جاء في المادة التاسعة ” يرأس رئيس الجمهورية مجلس الوزراء”.
ويقابل هاتين المادتين في النظام الدستوري المغربي، الفصل 47 من دستور 2011 الذي ينص على الآتي ” يعين الملك رئيس الحكومة من الحزب السياسي الذي تصدر انتخابات أعضاء مجلس النواب، وعلى أساس نتائجها. ويعين أعضاء الحكومة باقتراح من رئيسها. للملك، بمبادرة منه، بعد استشارة رئيس الحكومة، أن يعفي عضو أو أكثر من أعضاء الحكومة من مهامهم. ولرئيس الحكومة أن يطلب من الملك إعفاء عضو أو أكثر، من أعضاء الحكومة…إلخ” والذي عوض الفصل 24 من دستور 1996 في مجال تعيين الحكومة، كما ينص الفصل 48 على” يرأس الملك المجلس الوزاري…”
إن الفصول السالفة الذكر تثير إشكالات عديدة علاقة بموضوع تشكيل الحكومة، على اعتبار أن الإطار الدستوري الفرنسي يمنح الحق لرئيس الدولة في إختيار الوزير الأول الذي يراه مناسبا وأهلا لثقته، قبل أن تتاح لهذا الأخير إمكانية إقتراح الوزراء على رئيس الجمهورية الذي يعينهم، قصد مباشرة مهامهم، ويتيح الدستور، كذلك الحق في إعفاء الوزراء من مهامهم بما فيهم الوزير الأول، على عكس الإطار الدستوري المغربي الذي يلزم الملك، بضرورة تعيين رئيس الحكومة من الحزب المتصدر للإنتخابات التشريعية، قبل تعيين باقي أعضاء الحكومة بإقتراح من رئيسها، كما أن الفصل 47 من الدستور سحب من الملك صلاحية إقالة رئيس الحكومة، وبالتالي إقالة الحكومة كاملة، وقيد سلطته في إقالة أعضاء الحكومة بضرورة إستشارة رئيسها، حتى وإن كان رأيه غير ملزم للملك.
والسؤال المطروح هنا، إذا ما تجاوزنا تلك الإختلافات المشار إليها أعلاه، واتجهنا نحو إشكالية التنصيب البرلماني للحكومة، هل يمكن القول أن تعيين رئيس الدولة للحكومة يعد كافيا لجعلها قائمة قانونيا دون انتظار التنصيب البرلماني؟ أم أن وجودها الشرعي يتطلب بالضرورة موافقة البرلمان على برنامجها مسبقا؟
هذا ما سنحاول إثارته من خلال محورين، حيث سنتناول في المحور الأول، إشكالية التنصيب البرلماني في فرنسا، في حين سنخصص الثاني لنفس الإشكالية في المغرب، في محاولة لإبراز أوجه الاختلاف التي تطبع كلا الحالتين.
المحور أولا: التنصيب البرلماني في فرنسا.
إن الجدال القائم بين الفقهاء في فرنسا، يتمحورحول إمكانية إعتبار الحكومة ملزمة بطلب الثقة من البرلمان بعد تعيينها من طرف رئيس الدولة أم لا، إذ يذهب البعض إلى اعتبار الحكومة غير مقيدة عند تشكيلها بعرض البرنامج الحكومي على الجمعية الوطنية، وإنما تبقى السلطة التقديرية في طلب ثقة البرلمان من عدمه رهينة بها، هذا في الوقت الذي يقول البعض[4]، بضرورة عرض الحكومة لبرنامجها على الجمعية الوطنية.
ومن أنصار التنصيب الأوحادي نجد “جورج بوردو” (G.Burdeau) الذي يقول أن الحكومة غير ملزمة بطرح مسألة الثقة على الجمعية الوطنية بخصوص برنامجها، مبررا ذلك بكون الفقرة الأولى من المادة 49 من الدستور الفرنسي لسنة 1958، قد استعملت عبارة “ربط الحكومة مسؤوليتها” وليس عبارة “مسألة الثقة” التي كانت في دستور 1946، باعتبار أن هذا الغموض في الصياغة، يؤكد أن المفترض في هذا النظام، هو تمتع الحكومة مبدئيا بثقة الجمعية الوطنية، بمجرد تعيينها، مضيفا إلى هذا، أن المشرع الدستوري الفرنسي لم يخصص مادة مستلقة لمسألة الثقة ومادة أخرى للملتمس البرلماني بسحب الثقة، كما كان عليه الشأن في دستور الجمهورية الرابعة، وإنما جمعهما في مادة واحدة، مما يزيد من تأكيد الموقف.
ويستدل “لافروف” (D.G Lavroff) بعدم وجود أي مقتضى في الدستور يلزم الحكومة بعرض برنامجها على الجمعية الوطنية أو بإثارة مسؤوليتها بهذا الخصوص إلا إذا دعت الضرورة إليها، إذ أن الممارسة القديمة للتنصيب تم استبعادها بصفة كلية[5]. في حين يتحجج “شارل ديباش”Ch.Debbach) ) بغموض الفقرة الأولى من المادة 49 من الدستوري الفرنسي المتمثل في عدم إحداثها لإلتزام واضح بهذا الشأن موضحا في نفس الوقت أنه في حالة إنشاء هذا الالتزام فإنه سيظل بدون جزاء[6].
إن مختلف الآراء السابقة الذكر، انطلقت من تحليل الفقرة الأولى من المادة 49 من دستور الجمهورية الخامسة الصادر سنة 1958، لتستدل على كون الحكومة غير ملزمة بعرض برنامجها على الجمعية الوطنية بمجرد تعيينها ولا بإثارة مسؤوليتها، إلا إذا دعت الضرورة إلى ذلك.فما هي إذا المبررات التي إستند إليها الفريق الأخر، الذي يذهب في اتجاه مغاير تماما، معتبرا أن الحكومة ملزمة بعرض برنامجها على الجمعية الوطنية بمجرد تعيينها؟
من بين أبرز المدافعين على هذا الرأي نجد، “بيير باكتت” (Pierre Pactat)، الذي اعتبر أن المادة 49 تضمنت في مقتضياتها التمييز بين نوعين من المسؤولية: مسؤولية البرنامج الحكومي، وهي إلزامية بدليل أن فعل “تحمل” (En Gager)الذي لا يكتسب قيمته الآمرة إلا بها، ومسؤولية بيان حول السياسة العامة التي هي اختيارية وخاضعة لتقدير الحكومة[7]. وهنا يبرز الكاتب نظرتين: الأولى؛ تتمثل في الشكل العادي لسير النظام السياسي، بمعنى أن الوزير الأول له مطلق الحرية في طرح المسؤولية السياسية أمام الجمعية الوطنية، لأنه مسؤول أمامها ومسألة الثقة تطرح منذ البداية، أما الثانية،فتتمثل في الشكل الاستثنائي لسير النظام السياسي، إذ أن الوزير الأول آنذاك لا يستمد شرعيته من رئيس الجمهورية وفقط، بل من موافقة أغلبية الجمعية الوطنية، التي يلتزم بطرح المسؤولية السياسية أمامها والتي تعتبر ضرورية لبقائه[8].
أما العميد “أندريه هوريو” فقد ذهب في نفس الإتجاه كذلك قائلا :”… ولكن أهمية منح الجمعية الوطنية الثقة واضحة، ولو أن تأويل المادة 49 منذ سنة 1966 وحتى سنة 1969 لم يكن يلزم الحكومة التي تتقلد مهامها حديثا بطلب هذه الثقة، رغم أن النص يشير إلى وجوب طلب الثقة وليس إلى إمكانية طلبها، على أساس أن النص يشير، إلى أن الوزير الأول يتحمل مسؤولية الحكومة وليس إمكانية تحملها…”[9].
لم يبقى الخلاف حبيس الجانب الفقهي والنظري، بل امتد إلى الممارسة، فالحكومات المتعاقبة إختلفت في تعاملها مع هذه المادة، حيث قامت حكومة “بومبيدو” الأولى سنة 1962 والثانية في 1964 بعرض برنامجها للتصويت عليه من قبل الجمعية الوطنية، في حين امتنعت حكومات أخرى عن ذلك، منها حكومة (“كوفي ذي مورفيل”، “ميسمير” و”شابان دالماس”)، لم تربط مسؤولية الحكومة ببرنامج معين يعرض على الجمعية الوطنية عند بداية عملها، غير أنها بعد مرور الوقت قامت بعرض تصاريح بالثقة حول سياستها العامة[10].
إن أغلب الشخصيات التي تقلدت منصب الوزير الأول في فرنسا، كانت تعتبر اللجوء إلى الفقرة الأولى من المادة 49 من الدستور، هو إجراء يدخل في سلطتهم التقديرية، لذلك يرى أحد الباحثين أن مسؤولية الحكومة أمام الجمعية الوطنية، فقدت في ظل الجمهورية الخامسة معناها الإجابي عكس ما كان عليه الحال خلال الجمهورية الرابعة[11].
هذا فيما يخص الفقه الفرنسي وكيف إنقسم بين فريقين لكل منهما وجهة نظره ودلائله، كما سبق توضيح ذلك، إذ هناك من أيد فكرة التنصيب الأوحادي مستندا في ذلك على تحليل المادة 49 من الدستور الفرنسي خاصة فقرتها الأولى، وانطلاقا من نفس المادة دافع الآخرون على رأيهم المؤيد لفكرة التنصيب المزدوج.
سننتقل الآن إلى الفقه المغربي، لنقف على نقاط الاختلاف بين الفقهاء في هذا المجال، وعلى أي أساس استند كل طرف، خلال دفاعه عن رأيه؟ وأي الطرفين يعد أكثر إقناعا؟
المحور الثاني: إشكالية التنصيب البرلماني بالمغرب.
أثيرت هذه الإشكالية لأول مرة في ظل دستور 1962 أثناء عرض حكومة “با حنيني” لبرنامجها على أنظار البرلمان، وبرزت من جديد على اثر إقرار دستور 1992 لتعديلات جديدة أهمها التنصيص على ضرورة خضوع البرنامج الحكومي لتصويت من طرف مجلس النواب، ثم طرحت في إطار دستور 1996 بشأن حكومتي “عبد الرحمان اليوسفي” و”إدريس جطو”[12]، قبل أن يعود نفس النقاش مع الإصلاح الدستوري الأخير لسنة 2011، والذي إتضح من خلاله أن المشرع الدستوري اتجه نحو إقرار المسؤولية السياسية للحكومة بخصوص البرنامج الحكومي أو السياسي الذي يقدمه رئيس الحكومة أمام البرلمان لمناقشته والتصويت عليه من طرف مجلس النواب فقط[13].
وقد أثارت هذه الإشكالية عدة نقاشات نظرية يمكن حصرها في اتجاهين فقهيين:
ـالإتجاه الأول: ذهب إلى كون التنصيب الحكومي أحادي يتم فقط عبر التعيين الملكي.
ـ الإتجاه الثاني: ذهب إلى كون التنصيب الحكومي مزدوج يتم من قبل الملك والبرلمان[14].
أولا: أطروحة التنصيب الأحادي
كما سبقت الإشارة فإشكالية التنصيب الحكومي ظهرت مع دستور 1962، وإن كان لم ينص صراحة على ضرورة التصويت على البرنامج الحكومي، مع ذلك احتدم النقاش بين حكومة “با حنيني” والمعارضة البرلمانية التي أصرت على تنصيب الحكومة من لدن البرلمان، وبالتالي ضرورة التصويت على البرنامج الحكومي مرتكزة على الفقرة الأولى من الفصل 65 من دستور 1962، والتي نصت على أن الحكومة مسؤولة أمام الملك والبرلمان، في حين نجد أن الفصل 88 في دستور 2011، ينص صراحة على ضرورة تنصيب الحكومة من طرف البرلمان مجيبا بذلك على هذا النقاش الذي عمر لعقود من الزمن، من خلال فقرته الأخيرة حيث جاء فيها: ” تعتبر الحكومة منصبة بعد حصولها علىثقة مجلس النواب، المعبر عنها بتصويت الأغلبية المطلقة للأعضاء الذين يتألف منهم، لصالح البرنامج الحكومي”.
وفي رد الوزير الأول على مثل هذه المواقف صرح بالآتي :” … أعتقد أن الجميع يعلم ذلك، الدستور (دستور 1962) يعطي هذا الحق، حق منح الثقة للحكومة، حق التنصيب الذي يسمى (L’investiture)، هذا الحق المعطى بمقتضى الدستور للملك وحده، طبقا للفصل 24″[15].
وقد أكد ممثل الحكومة آنذاك، السيد “عبد الهادي بوطالب” على نفس الرأي، حينما أشار إلى أن الفصل 65 من الدستور، لا ينص صراحة على إخضاع التصريح الحكومي لنقاش برلماني أو تصويت النواب، بقدر ما يتعلق الأمر فقط بإطلاع البرلمان على البرنامج، لذا فإن تنصيب الحكومة في رأيه يتم من طرف الملك الذي له صلاحية منح الثقة للحكومة أو سحبها[16].
ويرى أحد أستاذة القانون الدستوري، أن الإجماع منعقد على أن الحكومة في ظل الدساتير السابقة (أي دساتير 1962، 1970، 1972) كانت تستكمل شرعيتها بمجرد تعيينها من طرف الملك، أما بعد التعديل الدستوري لسنة 1992، وخاصة التعديلات التي جاءت في الفصل 59 منه، فإن النقاش احتدم بين إتجاهين فهناك من اعتبر التنصيب أحادي الجانب (من طرف الملك) وهناك من اعتبر التنصيب مزدوج (من قبل الملك والبرلمان).
وهناك عدد مهم من الباحثين المغاربة المناصرين للتنصيب الأوحادي نجد، منهم من يستند في تبريره للموقف على الطرح التقليداني، حيث يستبعد أي تنصيب للحكومة من طرف البرلمان ـ رغم التعديلات التي جاء بها دستور 1992 ـ وذلك تأسيسا على أن مفهوم الملكية الحاكمة في المغرب، يقوم على تفويض الأمة لأمير المؤمنين بواسطة البيعة[17].
ويذهب باحثين آخرين في نفس الإتجاه، معتبرين أن الحكومة لم تنتقل في ظل التعديلات المقترحة (أي التعديل الدستوري لسنة 1992) من التنصيب الأوحادي من طرف الملك إلى التنصيب المزدوج، الذي يقتضي الحصول على ثقة البرلمان بعد التعيين الملكي، حيث أن القراءة المتأنية للفصل 59 من دستور 1992، خاصة فيما يتعلق بإحالته على الفصل 74، يوضحبشكل جلي وجود تمييز واضح بين المسؤولية والتنصيب، فالملك يمارس وحده سلطة تنصيب الحكومة، وهذه الأخيرة تكون أمام البرلمان مسؤولة فقط[18]، معتبرين أن تعديل الفصل 59 يبقى محدودا من حيث أنه لا يقر التنصيب المزدوج، لأن قرأة حقيقته تظهر الفرق بين التنصيب والمسؤولية،ويحيل شروط التصويت على الفصل 74 الخاص بالمساءلة التي تشترط الأغلبية المطلقة وليست النسبية، وهذا يؤدي إلى إستقالة الحكومة باعتبارها موجودة مسبقا[19].
وهناك من الأساتذة[20] من اعتبر التصويت بالثقة لا يذهب لحد التنصيب المزدوج للحكومة من قبل الملك والبرلمان كما ذهب إلى ذلك بعض الفقهاء، فإنه يظل أحاديا من الملك الذي تنبثق عنه الحكومة، وذلك بدليل الفصل 74 الذي يحيل إليه الفصل 59 (من دستور 1992) الذي يخول للبرلمان التصويت بالثقة على برنامج الحكومة، يتحدث عن استقالة هذه الأخيرة في حالة عدم حصولها على الثقة، واستقالتها تعني أنها كانت قائمة من قبل[21].
لكن هذا لا يمنع من اعتبار مسألة التصويت على البرنامج الحكومي التي جاء بها الفصل 59 من دستور 1992 كمكسب مهم للمؤسسة التشريعية بالمغرب، فهو ساهم بشكل كبير في تفعيل المراقبة البرلمانية للحكومة، فرغم أن ازدواجية المسؤولية السياسية للحكومة أمام الملك والبرلمان، المنصوص عليها في كل الدساتير المغربية السابقة، لم تأخذ مضمونها الحقيقي إلا في ظل الدستور الخامس (دستور 1996)، فهو يعتبر خطوة مهمة لتدعيم الطابع البرلماني للنظام السياسي للمملكة[22]، حيث أقر ولأول مرة مسألة مناقشة البرنامج الحكومي من طرف مجلس المستشارين ليشرك الغرفة الأولى في فحص ومناقشة جوابه حتى وإن وكان لا يخضع للتصويت، فهو يشكل فرصة للمستشارين للإطلاع على مختلف المعطيات التي جاءت بها الحكومة، وعدم التصويت يعتبر أمرا طبيعيا مادام مجلس المستشارين يمثل فقط فئة المهنيين، كما أنه منتخب بالإقتراع الغير مباشر، عكس مجلس النواب الذي يعتبر ممثل مباشر للأمة ومنتخب بالإقتراع المباشر، هذا ما يجعله يتفوق على الغرفة الثانية في تصويته على البرنامج الحكومي[23].
هذا فيما يخص الحجج التي ساقها أنصار التنصيب الأوحادي، فما هي إذن مبررات أنصار التنصيب المزدوج؟.
ثانيا: أطروحة التنصيب المزدوج
خلافا للرأي القائل بأن الحكومة تنصب من طرف الملك وحده، يذهب فريق أخر من الباحثين إلى أن دستور 1992 قد أقر التنصيب المزدوج للحكومة، مبررا ذلك بكونها لا تستكمل شرعية وجودها إلا بعد تنصيبها من لدن البرلمان، وهو ما يفيدبضرورة التنصيب المزدوج أي من قبل الملك والبرلمان.
وللتأكيد على ضرورة حصول الحكومة مسبقا على تصويت حقيقي من طرف البرلمان، يقول “جورج فيديل”: “الدستور المغربي (دستور 1992) أكثر برلمانية من الدستوري الفرنسي على الأقل في نقطة واحدة، فمثول الحكومة أمام البرلمان بعد تعيينها والتصويت عليها بالثقة ليسا إجباريين في فرنسا، فهناك عدة حكومات لم تخضع لهذه القاعدة، بمجرد تعيينها انصرفت لعملها دون أن تتقدم أمام البرلمان، فيما يخص هذه النقطة ربما فرنسا عليها الأخذ هنا من الدستور المغربي…”[24].
من خلال رأي العميد “فيديل” يتضح أنه يعتبر التصويت بالثقة مسبقا على البرنامج الحكومي، أمر إجباري في المغرب وأساسي لتنصيب الحكومة، ويتفق معه في هذا الطرح السيد “إدريس البصري”، حيث يقول :” أما الآن فإن الحكومة ملزمة بالحصول على هذه الثقة عند تشكيلها، وذلك من خلال عملية تصويت حقيقية”[25].
كما نجد عدد من الأساتذة والباحثين المناصرين لأطروحة التنصيب المزدوج للحكومة، يتصدونبقوة لأنصار أطروحة التنصيب الأحادي، ويهاجمون فكرة التمييز بين التنصيب البرلماني والمسؤولية السياسية، من خلال الكشفعن وجه آخر للتغاير بين التنصيب البرلماني الذي تقرر لأول مرة في ظل دستور 1992 وبين المسؤولية السياسية المقررة في الدساتير الثلاث المتعاقبة، وهذا التغاير والاختلاف يتجلى في كون الرقابة في إطار الفصل 74 هي رقابة إختيارية، أمر أثارتها متروك لتقدير الحكومة بعد دراسة الأمر في المجلس الوزاري، في حين أن الرقابة في إطار التنصيب البرلماني هي رقابة وجوبية لا يمكن للحكومة أن تتجنبها، بحيث لا يمكن للحكومة أن يكون لها وجود دون نجاحها في امتحان التنصيب، وفقط بعد حصولها على شهادة التنصيب تكون مستكملة لوجودها، وتبعا لذلك يحق لها أن تمارس اختصاصاتها الدستورية[26].
ويظهر أنصار التنصيب المزدوج تشبثهم برأيهم بشكل قوي، حينما يصرون على أن البدء في تنفيذ البرنامج الحكومي وكذلك ممارسة الحكومة لجميع صلاحياتها الدستورية، أمر يقتضي ابتداءا الحصول على تنصيب من قبل مجلس النواب، وإلى حين حصول المصادقة على البرنامج الحكومي فإن الحكومة تظل غير مكتملة الشرعية، الأمر الذي يجعل اختصاصاتها تنحصر في تصريف الأمور الجارية وتدبير الشؤون العادية، مؤكدين على أن أول لقاء سيتم بين الحكومة والبرلمان، هو ذلك الذي ينعقد في إطار الفصل 60 من الدستور (دستور 1996) بعد حصول الوئام والانسجام يتم الإشهاد على شرعية الحكومة، عند ذلك تصبح الحكومة مالكة لأهلية العمل والتصرف حسب مقتضيات الدستور[27].
ويستند أنصار التنصيب المزدوج في ظل دستور 1996 وفي إطار الفصل 60، على نفس الحجج التي قدمت للدفاع عن نفسالفكرة، في ظل دستور 1992، مع تدعيمها من خلال الخطاب الملكي إثر تعديل دستور 1992، إذ يقول المغفور له الحسن الثاني :” … سيأتي دوري الدستوري، وسأستدعي أفراد الكتلة وبعد ذلك سأستدعي أفراد الوفاق للتباحث معهم، هل يريدون المشاركة في الحكومة؟ وأن أراد أحد منهم المشاركة في الحكومة، أن يعطينا برنامجه وأن نراه ونعين آنذاك الوزير الأول الذي سيأتي أمامكم حضرات الأعضاء المشرعين ليطلب منكم التزكية، فإذا أنتم رأيتموه سار بالحكومة إلى أمام وبمن شارك من الكتلة أو الوفاق، وإن أنتم لم تعطوه التزكية أو أعطيتموها بإدخال بعض الإصلاحات أو بإصلاح بعض النقط فيها، سار كذلك على ما يراه الجميع[28].
وفي كلمته السامية التي ألقاها بمناسبة تعيين الحكومة في ظل دستور 1992 قال رحمه الله :” وزراءنا الأمجاد، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ها أنتم أصبحتم وزراء في حكومتنا، فعليكم احتراما لمسطرة القانون الدستوري أن تقدموا ـوهنا الخطاب موجه إلى الوزير الأول بالخصوص ـ في أقرب الآجال البرنامج الذي ستعرضونه أمام البرلمان… فعليه ينبغي أن يناقش هذا البرنامج حسب المسطرة الجديدة في الدستور المعدل من طرف البرلمان، وحينما تحصلون إنشاء الله بواسطة التصويت على تزكية البرلمان، ستصبحون آنذاك مكلفين نهائيا بوزارتكم”[29].
غير أن الإصلاح الدستوري (لسنة 2011) الأخير، وخاصة مقتضيات الفصل 88 المتعلق بالتنصيب البرلماني للحكومة، قد وضحت الأمر بخصوص هذا النقاش، حيث نص الفصل صراحة على أن “تعتبر الحكومة منصبة بعد حصولها على ثقة مجلس النواب، المعبر عنها بتصويت الأغلبية المطلقة للأعضاء الذين يتألف منهم لصالح البرنامج الحكومي[30]”.مما يعني أن الحكومة لا تكتسب شرعيتها القانونية ولا يمكنها مباشرة مهامها المتمثلة في تفعيل برنامجها الحكومي، إلا بعد حصولها على ثقة البرلمان، على إعتبار أنها منبثقة عنه، وعلى أساس نتائج الإنتخابات التشريعية.
هذا الأمر هو الذي وضحه أكثر، القانون التنظيمي رقم 065.13 المتعلق بتنظيم وتسيير أشغال الحكومة والوضع القانوني لأعضاءها، حيث جاء في المادة 38 منه ما يلي : ” تتكلف الحكومة الجديدة، التي عينها الملك باقتراح من رئيس الحكومة، طبقا لأحكام الفصل 47 من الدستور، والتي لم تنصب بعد من طرف مجلس النواب، بممارسة المهام التالية: إعداد البرنامج الحكومي الذي يعتزم رئيس الحكومة تقديمه أمام البرلمان، إصدار قرارات تفويض الإختصاص أو الإمضاء اللازمة لضمان استمرارية المرافق العمومية، ممارسة الصلاحية المشار إليها في الفقرة الأولى من المادة 37 أعلاه إلى حين تنصيبها من قبل مجلس النواب”. وتجدر الإشارة إلى أن المادة 37 في فقرتها الأولى، حددت الإختصاصات المسندة إلى الحكومة الموجودة في وضعية تصريف الأعمال الجارية، أي أن المشرع إعتبر الحكومة التي لم تنصب بعد، بمثابة حكومة لتصريف الأعمال الجارية، مع إضافة مهمتين أساسيتين تتمثلان في إعداد البرنامج الحكومي، وتفويض الإمضاء أو الإختصاص حسب ما يتطلبه السير العادي للمرافق العمومية.
وبذلك يكون القانون التنظيمي وضعا حدا للنقاش الدائر حول صلاحيات الحكومة المعينة من طرف الملك، وأجاب بشكل كافي عن إشكالية التنصيب البرلماني، إن كان تنصيبا أوحاديا من طرف الملك أو ثنائيا من طرف الملك ومجلس النواب، حيث إنتصر لفائدة أصحاب الرأي الثاني مؤكدا أن التنصيب الحكومة بالمغرب عقب الإصلاح الدستوري الأخير صار تنصيبا ثنائيا، وأن الحكومة لا تكسب شرعيتها الكاملة، ولا يمكنها ممارسة مهامها إلا بعد الحصول على ثقة البرلمان، طبقا لمقتضيات الفصل 88 من الدستوري.
إن وضوح القانون التنظيمي، خاصة المادة 38 منه، حول إشكالية التنصيب، لا يعني بأنه أجاب عن الإشكالية من مختلف جوانبها، إذا لا زال سؤال أساسي مطروحا حول الموضوع، والمتجلي في المدة القانونية الفاصلة بين تعيين الرئيس الحكومة وباقي أعضاءها، وكذا المدة الفاصلة بين تعيين الحكومة وتقديمها للبرنامج الحكومي أمام البرلمان والحصول على ثقته، فالملاحظ أنه لا يزال هناك فراغ قانوني في هذا الصدد، حيث صمت الدستور وبعده القانون التنظيمي عن هذا الأمر.
استنتاجات.
إذن فالفصل 88 من دستور 2011، قد جاء بتغيير مهم فيما يخص تنصيب الحكومة من لدن البرلمان، مقدما إجابة لإشكال الإحالة، الذي إستند عليه أنصار التنصيب الأوحادي، للتمييز بين المسؤولية السياسية للحكومة والتنصيب، الأمر الذي يمكننا من القول أن رأيهم لم يعد يتوفر على أساسه الدستوري.
إلا أن وضوح الفصل 88 لم يمنع من إستمرار الإشكال حول تنصيب الحكومة، ولو في صورة مغايرة، إذ أنه بعد الإصلاح الدستوري الأخير برز إلى السطح إشكال يتعلق بالعلاقة بين التعيين الملكي للحكومة والتنصيب البرلماني لها، تمثل في مدى إمكانية مباشرة رئيس الحكومة لعمله السياسي مباشرة بعد تعيينه من طرف الملك، على أن يقدم برنامجه الحكومي في وقت لاحق، أم لا؟
وعلى الرغم من كون القانون التنظيمي قد حسم الأمر، في ما يخص إمكانية ممارسة الحكومة المعينة لصلاحياتها، قبل عرض برنامجها الحكومة، حيث وضح ـــ كما سبقت الإشارة ـــ إلا ان الحكومة لا يمكنها التصرف وكأنها منصبة، بل حدد لها صلاحيات يمكنها ممارستها على سبيل الحصر، في إنتظار حصولها على ثقة البرلمان، وذلك ضمانا للسير العادي للمرافق العمومية، غير أن إشكالية المدة الزمنية الفاصلة بين تعيين الحكومة وتنصيبها، لازال مطروحا.
وفي هذا الصدد يرى بعض الباحثين، أن المشرع الدستوري كان عليه تحديد المدة الدستورية التي يجب على رئيس الحكومة أن يلتزم بها، لتقديم برنامج حكومته بعد تعيينه من طرف الملك لتجاوز هذا الإشكال الدستوري، تماما كما هو معمول به في عدد من الأنظمة البرلمانية المقارنة، دستور الاتحاد الألماني في مادته 63 على سبيل المثال[31].
باختصار، إن أطروحة التنصيب المزدوج ترى بأن الحكومة لا تستكمل ميلادها القانوني والشرعي بمجرد تعيينها من طرف الملك وتسلمها لظهائر التعيين، وإنما يتحقق ذلك بعد موافقة البرلمان على برنامجها.
وإذا كان الدستور الفرنسي بالنظر إلى الظرفية السياسية، قد تم التعامل معه بنوع من التحايل إلى أن أصبحت القاعدة هي الإستثناء، ففي المغرب كانت الممارسة السياسية دائما متناسقة مع النص الدستوري.
(محاماة نت)