دراسات قانونية

ملائمة العقوبة التأديبية مع الخطأ (بحث قانوني)

تناسب العقوبات التأديبية مع الأخطاء

عبد الرزاق المصلوحي
إطار بوزارة التجهيز والنقل واللوجيستيك والماء
مقدمة

لقد مارست الدولة دورها في مجال تحقيق مصالح الجماعة التي تخضع لسيادتها، وذلك منذ أن نشأت كجهاز سياسي واجتماعي. وفي هذا الصدد فقد عملت على توفير سبل الأمن والاستقرار بها وإتاحة الفرصة للمواطنين للانتفاع بالخدمات التي يحتاجون إليها عن طريق أجهزتها الإدارية ومرافقها المختلفة.
ولا يمكن للدولة أن تقوم بهذه الأعباء إلا عن طريق مجموعة من الوسائل سواء تعلق الأمر بالوسائل المادية أو القانونية والبشرية1 ، فالعنصر البشري الذي تعهد إليه الدولة لتسيير مرافقها العامة والنهوض بخدمات المواطنين، يعتبر من أهم الركائز التي تقوم عليها الدولة لأنه يعمل على تنظيم مرافقها ومصالحها من جهة، ويعمل على تلبية رغبات وحاجيات الأفراد المنتفعين من خدمات المرفق العام من جهة أخرى.

إذن فوجود موظف عمومي يمثل ويطلع بمهام المرفق العام، هو الأساس في بناء الدولة بمختلف مرافقها. لذلك فقد حضي الموظف العمومي بقانون مستقل]2 – يعتبر فرعا من فروع القانون الإداري- ينظم مساره المهني، حيث يعنى بدراسة كل القواعد التي تنظم شؤون حياته الوظيفية منذ دخوله إلى الوظيفة إلى خروجه منها3 .

والجدير بالملاحظة أنه وطبقا للفصل 2 من النظام الأساسي للوظيفة العمومية “يعد موظفا كل شخص يعين في وظيفة قارة L’occupation d’un emploi permanent، ويرسم في إحدى رتب السلم الخاص بأسلاك الإدارة التابعة للدولة La titularisation”. وتتولد على هذه الوظيفة مجموعة من الحقوق مقابل أداء مجموعة من الواجبات يقتضيها ضمان سير المرفق العام وأن كل تخلي عن هذه الواجبات على فرضية الخطأ أو المخالفة يرتب ما يسمى بالمسؤولية التأديبية La responsabilité disciplinaire، فالمشرع في هذا الباب، لم يحدد تعريفا دقيقا لهذه المخالفة أو الخطأ، وذلك لكون تحديده يخضع لعدة عوامل وظروف مهنية و شخصية كذلك، تتعلق بالموظف نفسه في علاقته بالظرف المهني، وهو في ذلك يختلف عن الخطأ الجنائي المحدد قانونا بالمدونات الجنائية الدقيقة والمرتبة فعلا وعقوبة، ولكن المشرع وقف في الفصل 17 من النظام الأساسي للوظيفة العمومية بالقول : “كل موظف كيفما كانت رتبته في السلك الإداري مسؤول عن القيام بالمهام التي عهد بها إليه. كما أن الموظف المكلف بتسيير مصلحة من المصالح مسؤول عن السلطة المخولة له لهذا الغرض وعن تنفيذ الأوامر الصادرة عنه ولا يبرأ في شيء من المسؤوليات الملقاة على عاتقه بسبب المسؤولية المنوطة بمرؤوسيه. وكل هفوة يرتكبها الموظف في تأدية وظيفته أو عند مباشرتها تعرضه لعقوبة تأديبية زيادة إن اقتضى الحال عن العقوبات التي ينص عليها القانون الجنائي”.

كما أن الفصل 73 من نفس القانون اعتبر “الخطأ بشكل عام هو كل هفوة خطيرة يرتكبها الموظف، سواء تعلق الأمر بإخلال في التزاماته المهنية، أو بجنحة ماسة بالحق العام يترتب عنها توقيفه حالا من طرف السلطة التي لها حق التأديب”.

وتبعا لذلك فإن السلطة التي تتداول أو تقر ر في الموضوع هي التي تملك الصلاحية4 ، والسلطة التقديرية في تحديد الخطأ المرتكب من طرف الموظف وربطه بمسؤولية الموظف في ذلك، وبالتالي تقرن الأمر بصحة ومشروعية المتابعة التأديبية، وفي حالة الخلاف فإن المشرع خول القضاء الإداري بدوره صلاحية الرقابة على القرار التأديبي، ومن ثمة تصبح له سلطة تقديرية أعلى لمتابعة مدى تكييف السلطة المهنية للخطأ والمتابعة التأديبية وهذا بالطبع جانب آخر من جوانب الضمانات المخولة للموظف في مواجهة الإدارة التي ينتمي إليها.

فإذا كانت متابعة الموظف المخطئ حقا أصيلا للسلطة الإدارية التي تتولى سلطة التعيين، فإنه من حق الموظف أن يضمن له جزاء عادل بعيدا عن الهوى والقسوة، وتبعا لذلك ظهرت فكرة التناسب، باعتبارها ضمانة فعالة في مواجهة تسلط الإدارة، نظرا لما تحققه هذه الضمانة من رعاية حقوق ومصالح الموظفين. وهو الأمر الذي أدى إلى إقراره واعتماده. وبذلك ظهر مبدأ جديد في مجال التأديب وهو مبدأ التناسب Le principe de la proportionnalité5 .

فالمقصود بمفهوم التناسب هو “أن لا تغلو السلطة المعنية بتحديد الجزاء في اختياره، ولا تركب متن الشطط في تقديره وإنما عليها أن تتخير ما يكون على وجه اللزوم ضروريا لمواجهة الخرق القانوني أو المخالفة الإدارية وما يترتب على اقترافها من آثار، وما فيه القدر المتيقن من معقولية لردع المخالف، وجزر غيره عن أن يرتكب ذات فعله. ومن هنا تكون ضوابط الجزاء والعقاب موضوعية ويعتبر بالتالي كل تجاوز لهذه الضوابط تزايدا واستبدادا ينبغي رفضه”6

إذن فالمشكلة تثور عندما تخرج العقوبة التأديبية عن الغاية من وجودها بفعل إساءة استعمال السلطة التقديرية أثناء تدخلها والتي تمثل شريان حياة السلطة الإدارية، وبالتالي يصبح تدخل القاضي الإداري في إطار مراقبة الملاءمة أمرا ملحا في هذا الإطار، وذلك بقصد إقامة حق التوازن بين الخطأ المهني والعقوبة التأديبية، لأنها ترجمة لمعادلة بسيطة تمثل أهم غايات القانون وهي العدالة والحيدة والنزاهة في توقيع الجزاء حتى يكون مسوغا ومشروعا، وتلك هي وظيفة القضاء من خلال رقابته على مبدأ التناسب7 .

وعلى ضوء ما تقدم يتضح أن مبدأ التناسب يعتبر من أهم وأقوى الضمانات المقررة للموظف العمومي، لكونه يتيح له مخاصمة الإدارة أمام القضاء لتقدير مدى ملاءمة الجزاء التأديبي، من خلال البحث في التناسب بين الخطأ والعقوبة، وتبعا لذلك فإن بحثنا هذا سيتناول مبحثين اثنين نخصص (المبحث الأول) لتحديد ماهية الخطأ المهني والعقوبة التأديبية في إطار المسؤولية التأديبية للموظف، ونتناول في (المبحث الثاني) السلطة التقديرية للإدارة في توقيع الجزاءات في إطار مبدأ التناسب ومدى رقابة القضاء عليها، وذلك من أجل الإجابة عن الإشكالية البحثية التالية: ما هي حدود السلطة التقديرية للإدارة في توقيع الجزاءات التأديبية في إطار مبدأ التناسب، وما هو دور الرقابة القضائية على ملاءمة الجزاء التأديبي؟

تصميم البحث

المبحث الأول: ماهية الخطأ المهني والعقوبة التأديبية في إطار المسؤولية التأديبية للموظف
المطلب الأول: الخطأ المهني وأركانه
فقرة أولى: الخطأ المهني (الأخطاء المخلة بالالتزامات المهنية)
فقرة ثانية: أركان الخطأ المهني
المطلب الثاني: العقوبات التأديبية للموظف والمبادئ القانونية التي تحكمها
فقرة أولى: مفهوم العقوبات التأديبية وتصنيفها
فقرة ثانية: المبادئ القانونية التي تحكم تطبيق العقوبات التأديبية
المبحث الثاني: السلطة التقديرية للإدارة في توقيع الجزاءات في إطار مبدأ التناسب ومدى الرقابة القضائية عليها
المطلب الأول: السلطة التقديرية للإدارة في مجال تناسب العقوبة مع الخطأ
فقرة أولى: مفهوم السلطة التقديرية للإدارة ونطاقها
فقرة ثانية: ماهية مبدأ التناسب وتطوره
المطلب الثاني: مدى رقابة القضاء الإداري على مبدأ التناسب من رقابة المشروعية إلى رقابة الملاءمة
فقرة أولى : رقابة المشروعية على الوجود المادي للوقائع والتكييف القانوني لها
فقرة ثانية: تطبيقات الرقابة على التناسب في القضاء الإداري الفرنسي والمغربي

المبحث الأول : ماهية الخطأ المهني والعقوبات التأديبية في إطار المسؤولية التأديبية للموظف
إن وجود الموظف في علاقة قانونية ونظامية إزاء الإدارة، يفرض عليه الالتزام بالواجبات المفروضة عليه قانونيا، لذلك فأي تخل عن هته الواجبات من شأنه ترتيب للمسؤولية التأديبية في حقه وما يسميه بعض الفقهاء بالردع التأديبي، والذي يعتبر من الركائز الأساسية للنظام التأديبي في الوظيفة العمومية ويعتمد على عنصرين مرتبطين:
أخطاء مهنية يرتكبها الموظف تخل بالتزاماته المهنية (المطلب الأول)؛
عقوبات تأديبية تطبق ضد هذا الموظف (المطلب الثاني).

المطلب الأول: الخطأ المهني وأركانه La faute professionnelle
لقد أثارت الأخطاء التي تستوجب تأديب الموظف من قبل الإدارة نقاشا لدى الفقهاء حول تحديد المصطلح نفسه، ولقد ساهم في ذلك عدم تحديد المشرع لهذه الأخطاء بالعكس لما هو عليه الأمر بالنسبة للعقوبات التي تستوجبها تلك الأخطاء، وذلك في إعطاء مدلول عملي للسلطة التقديرية للإدارة المختصة بإنزال تلك العقوبات8 .

الفقرة الأولى: مفهوم الخطأ المهني
ففي النقاش الفقهي نجد مصطلحين يتقاسمان معظم الفقهاء وهما: الخطأ التأديبي، والجريمة التأديبية.

فالخطأ التأديبي هو المصطلح المستعمل في الكتابات الفرنسية9 ولدى الباحثين المغاربة الذين يكتبون باللغة العربية أو بالفرنسية10 ، أما مصطلح الجريمة التأديبية فهو المستعمل لدى فقهاء المشرق العربي11 . عموما فتحديد مفهوم الخطأ المهني12 la faute professionnelle سواء في الفقه أو التشريع والقضاء يبقى يرتبط إلى حد كبير بكل إخلال بالتزامات مهنية مفروضة قانونا على الموظف في حياته الإدارية.

أ‌-في الفقه
نظرا لأن صياغة التعاريف في العادة من أهم الوظائف المنوطة بالفقه، فإن هذا الأخير لم يتوان عن القيام بعدة محاولات بقصد صياغة تعريف للخطأ المهني.
وهكذا، فقد عرفه DUGUIT بأنه ” كل فعل صادر عن الموظف ينتهك فيه الواجبات التي تفرضها عليه صفة الموظف”13 .
كما يعرفه إسماعيل زكي بأنه: ” مجموع الأفعال التي تستوجب المؤاخذة التأديبية الناجمة عن كل تقصير لأداء واجب، أو إخلال بحسن السلوك والآداب من شأنه أن يترتب عليه الانتقاص والحط من كرامة المهنة”14 .
أما الفقه المغربي فقد عرفه إدريس البصري، أحمد بلحاج وميشال روسي بأنه :

«La faute disciplinaire est constitue par tout manquement aux obligations du fonctionnaire »
إذ تؤكد هده التعاريف15 على أن الموظف مكلف بواجبات حددها القانون، ومنعه من سلوكيات، وأن مخالفة تلك الواجبات يعد خطأ مهنيا، كما أن بعض الفقه وسع من مجال الخطأ حيث أضاف ما يقع خارج العمل من الموظف ويمثل إهدارا لكرامة الوظيفة.

ب‌-في التشريع
لقد أغفلت معظم قوانين الوظيفة العامة المقارنة وخاصة المصرية تحديد مفهوم دقيق للخطأ وأنواعه، بحيث اكتفت بالنص على الواجبات الوظيفية في هذا الصدد فقد اعتبرت “كل خروج عن الواجبات المهنية جريمة تأديبية”، إذ أن تحديدها أمر يستعصي على التشريع والتطبيق معا. ويتحقق ذلك خاصة إذا تعلق الأمر بمجرد تعليمات أو أوامر أو لوائح أو أنظمة داخلية16 .
أما المشرع الفرنسي من خلال نص المادة 11 من القانون الصادر في 19 أكتوبر 1946 المتعلق بالموظفين فلقد نص أنه “يعاقب تأديبيا عن كل خطأ يرتكب أثناء أو بمناسبة تأدية الوظيفة”17 .

هذا وقد حافظ المشرع الفرنسي من خلال القانون المتعلق بحقوق والتزامات الموظفين لسنة 1983 على تعريف الخطأ التأديبي بأنه كل خطأ يصدر عن الموظف أثناء أو بمناسبة أدائه لعمله يعرضه لعقوبة تأديبية ، دون الإخلال بحق المتابعة الجزائية عند الضرورة18

وهو نفس الاتجاه الذي ذهب إليه قانون الوظيفة العمومية المغربي فلم يضع تعريف محدد للخطأ المهني. وإن غياب هذا التحديد من قبل المشرع في مجال القانون الإداري يؤكد من جديد خصوصيات هذا القانون وتميزه عن القوانين الأخرى بما في ذلك القانون الجنائي، إذ في هذا الموضوع لا نجد تطبيقا تاما للقاعدة المعروفة “لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص”، وإنما يحتفظ فقط بالجزء الثاني من المقولة التي تقضي بأنه “لا عقوبة إلا بنص”، لهذا حدد المشرع المغربي في الفصل 66 من ظهير 24 فبراير 1958 المتعلق بالنظام الأساسي للوظيفة العمومية مختلف العقوبات التي يتم بها تأديب الموظف المرتكب للأخطاء المخلة بالتزاماته المهنية19 .

لكن بالمقابل، نجد المشرع المغربي قد تحدث عن “هفوة خطيرة” من أجل اتخاذ إجراءات احتياطية لتوقيف الموظف إذا كان “الأمر يتعلق بإخلال في التزاماته المهنية أو بجنحة ماسة بالحق العام”، (ف 73، الفقرة الأولى). وفي الفصل 66 يتحدث عن الأعمال المؤاخذ عليها المعني بالأمر” كذلك الفصل 17 “يتحدث عن كل هفوة يرتكبها الموظف في تأدية وظيفته أو عند مباشرتها تعرضه لعقوبة تأديبية زيادة إن اقتضى الحال عن العقوبات التي ينص عليها القانون الجنائي”.

ت‌- في القضاء
نظرا لعدم تحديد صور الأخطاء المهنية أو التأديبية على سبيل الحصر، فإن القضاء قد وجد طريقا مفتوحا أمامه بغية تحديد مفهوم له. وهنا يمكن الإشارة إلى ما جاء في حكم للمحكمة الإدارية العليا المصرية على أنه: “إن سبب القرار التأديبي في نطاق الوظيفة العامة، هو إخلال الموظف بواجبات وظيفته …..أو خروج على مقتضياتها، أو ارتكابه خارج الوظيفة العامة ما ينعكس عليها. فإذا لم يثبت في حقه شيء من ذلك، فإن القرار الصادر بمجازاته (أو بعقابه) يعد فاقدا لركن من أركانه، وهو ركن السبب ووقع مخالفا للقانون”20 .

أما القضاء الإداري المغربي فقد تعرض بدوره لتعريف الخطأ المهني و ذلك من خلال حكم بن حمزة الصادر عن الغرفة الإدارية للمجلس الأعلى، الذي اعتبرت فيه اختلاء الشرطي بعيدا عن الشرطي الأخر في ظروف مريبة يعد خطأ مهنيا يبرر عقوبة العزل من الوظيفة بقطع النظر عن اقترافه لجريمة الرشوة .وفي قرار أخر لها ،اعتبرت ،الغرفة الإدارية أن صدور عبارات تنطوي على وقاحة وألفاظ مهنية من الموظف تتنافى مع الواجبات الوظيفية21

الفقرة الثانية: أركان الخطأ المهني
اختلف الفقهاء في تحديد أركان الجريمة التأديبية بصورة عامة ولهم في ذلك مذاهب كثيرة فكان لكل فقيه رأيه الخاص .فذهب الأستاذ الطماوي إلى أن الجريمة التأديبية تقوم على عنصرين هما الموظف والخطأ أو الذنب الإداري . وذهب الأستاذ ماجد راغب الحلو إلى أن الجريمة التأديبية تقوم على ركنين هما الركن المادي والركن المعنوي .

أ‌-الركن المادي في الخطأ
يتعلق هذا الركن بماديات22 الجريمة ومظهرها الخارجي فلا خلاف في عدم قيام أي جريمة تأديبية دون توافر هذا الركن. سواء كان ذلك بمسلك إيجابي، كما لو كان بشكل اعتداء على رئيس في العمل أو بمسلك سلبي كالامتناع عن تنفيذ أمر رئاسي واجب الطاعة. ولكي يكون فعل الموظف مسوغاً للمساءلة التأديبية يجب أن يكون محدداً وثابتاً فلا قيام للركن المادي استناداً للظن أو الشائعات ، لذلك فإن الاتهامات العامة أو النعوت المرسلة لا يمكن أن تعتبر مكونة لهذا الركن. كما أن مجرد التفكير دون أن يتخذها هذا التفكير مظهراً خارجياً ملموساً لا يشكل مخالفة تجيز المساءلة التأديبية23 .

ب‌-الركن المعنوي في الخطأ
الركن المعنوي هو الإرادة الآثمة للموظف الذي يرتكب الفعل أو الترك الذي يشكل إخلالاً بواجبات الوظيفة ومقتضياتها، ولا يكفي للمساءلة التأديبية أن يرتكب الموظف ما يعتبر منه مخالفة لواجب وظيفي وإنما يجب أن يتوافر عنصر نفسي واع يتجه إلى ارتكاب الفعل أو الامتناع وهذا العنصر هو الإرادة الآثمة أو الركن المعنوي.

والركن المعنوي في الجريمة التأديبية يختلف في الجريمة العمدية عنه في جريمة الخطأ ففي الجريمة العمدية لا يكفي أن يحيط الموظف علماً بالفعل الذي يرتكبه وإنما يجب أن يقصر في تحقيق النتيجة المترتبة على تصرفه. أما في الجريمة غير العمدية أو جريمة الخطأ فيتمثل الركن المعنوي في تقصير الموظف وعدم اتخاذه الحيطة والحذر اللازمين لأداء واجباته الوظيفية، ويكون بانصراف إرادة الموظف إلى ارتكاب العمل دون الرغبة في النتيجة المترتبة عليه24 .

تجدر الإشارة إلى ركنين إضافيين يعمل بهما الكثير من الفقه وهما الركن الشرعي (يتعلق الركن الشرعي بخضوع الفعل للجرائم وتعلق صفة عدم المشروعية به)، وركن الصفة (فلا بد أن يقع الفعل المكون للجريمة من أحد العاملين المرتبطين بجهة الإدارة برابطة وظيفية).

إذن، بعد تعرفنا على ماهية الخطأ المهني ننتقل إلى تحديد ماهية العقوبات التأديبية كعنصر ثاني من عناصر الردع التأديبي.

المطلب الثاني: العقوبات التأديبية للموظف والمبادئ القانونية التي تحكمها
إن العقوبات التأديبية وعلى عكس الخطأ المهني، تخضع لمبدأ مهم وهو شرعية الجزاء، بمعنى أن الإدارة لا تملك حق توقيع جزاء غير وارد في لائحة العقوبات التي حددها المشرع سلفا على سبيل الحصر25 . لذلك كان لا بد من تحديد مفهوم العقوبات التأديبية وتصنيفها (الفقرة الأولى)، ثم تحديد المبادئ القانونية التي تحكمها (الفقرة الثانية).

الفقرة الأولى: مفهوم العقوبات التأديبية وتصنيفها
أ‌-مفهوم العقوبات التأديبية وتحديدها
بالرجوع إلى النصوص التشريعية سواء المقارنة أو الوطنية، فلا نجدها تضع تعريفا محددا للعقوبات التأديبية تاركة ذلك للفقه. فقلد اكتفى بتحديد هذه العقوبات وقام بترتيبها من الأقل خطورة إلى أكثرها. فالثابت فقها أن العقوبة التأديبية هي “جزاء يمس الموظف العام في مركزه الوظيفي، أو جزاء يوقع على الموظف الذي تثبت مسؤوليته عن الخطأ التأديبي”26 .
كما عرفه البعض بأنه “جزاء مادي و معنوي يمس الموظف في شرفه الوظيفي”27 .

فمن خلال هذه التعاريف يتضح أن العقوبات التأديبية لا تمس سوى الحقوق والمزايا الوظيفية، على أن هذا المساس قد يكون جزئيا (اقتطاع من الأجر)، أو كليا (كالفصل من الوظيفة).

أما فيما يخص تحديد هذه العقوبات، فلقد تدخل المشرع بصفة صريحة في الفصل 66 (الفقرة الأولى) من ظهير 24 فبراير 1958 ليحدد مختلف العقوبات التأديبية على سبيل الحصر بالشكل التالي “وهي مرتبة حسب تزايد الخطورة:
الإنذار L’avertissement
التوبيخ Le blâme
الحذف من لائحة الترقي La radiation du tableau d’avancement
الانحدار من الطبقة L’abaissement d’échelon
القهقرة من الرتبة[[28]]url:#_ftn28 La rétrogradation
العزل من غير توقيف حق التقاعد La révocation sans suspension des droits à pension
العزل المصحوب بتوقيف التقاعد La révocation avec suspension des droits à pension
وتضيف الفقرة الثانية من الفصل 66 عقوبتين بالشكل التالي: “هناك عقوبتين تكتسبان صبغة خصوصية وهما: الحرمان المؤقت من كل أجرة باستثناء التعويضات العائلية وذلك لمدة لا تتجاوز ستة أشهر، والإحالة الحتمية على التقاعد29 “.
بالإضافة إلى هذه العقوبات المحددة في الفصل 66 نجد الفصل 73 من نفس الظهير يعطي للإدارة إمكانية اتخاذ بعض الإجراءات الاحتياطية ضد الموظف المخل بالتزاماته المهنية أو المتابع بجنحة ماسة بالحق العام. وذلك في حالة ارتكاب هذا الموظف “هفوة خطيرة”، وذلك بتوقيفه حالا بشروط معينة30 .

ب‌-تصنيف العقوبات التأديبية
تبعا للفقرة الأولى من الفصل 66 من قانون الوظيفة العمومية، وقع التأكيد على تدرج تلك العقوبات المنصوص عليها في هذا الفصل في تزايد الخطورة، ويؤدي هذا التدرج بالفعل إلى تصنيف لهذه العقوبات.
أولا: تصنيف العقوبات تبعا لدرجة خطورتها: عقوبات بسيطة وعقوبات جسيمة
يمكن أن نقول إن العقوبات البسيطة Des sanctions simples هي التي تتخذها السلطة المختصة بالتعيين بدون أن ترجع في ذلك إلى المجلس التأديبي (فصل 66 الفقرة الثانية) والتي يمكن محوها نهائيا من الملف الإداري للموظف المعني بطلب منه، إذا لم يتم إخراجه من أسلاك الإدارة. وذلك بعد مضي خمس سنوات من اتخاذها (فصل 75 الفقرة الأولى).

 

أما العقوبات الجسيمة Des sanctions graves فهي التي لا يمكن اتخاذها من نفس السلطة المختصة إلا بعد استشارة المجلس التأديبي (ف 66 الفقرة الثانية)، ولا يمكن محوها نهائيا من ملف الموظف إلا بعد مرور عشر سنوات من صدورها (ف 75 الفقرة الأولى).

ثانيا: تصنيف العقوبات تبعا لمضمونها31
في هذا التصنيف يتم التمييز بين ثلاثة أنواع من العقوبات:
العقوبات الأدبية: مضمونها معنوي أكثر منه مادي، وهدفها بالأساس تحذير الموظف المخطئ حتى لا يتمادى في الإخلال بالتزاماته المهنية. ويتجلى هذا التحذير في عقوبتي الإنذار والتوبيخ.

العقوبات المالية غير المباشرة: وتظهر في الحذف من لائحة الترقي، أو الانحدار من الطبقة أو القهقرة من الرتبة حيث نلاحظ أن هذه العقوبات تحرم الموظف من امتيازات مالية مستقبلا مما قد يؤثر على مرتبته الإدارية.
العقوبات المؤدية إلى إنهاء رابطة التوظيف: فهي أقسى العقوبات الإدارية، وتتجلى في عقوبة العزل، سواء في صورته المخففة نسبيا من غير توقيف حق التقاعد، أو في صورته المشددة مصحوبا بتوقيف حق التقاعد.
الفقرة الثانية: المبادئ القانونية التي تحكم العقوبات التأديبية
تؤطر العقوبات التأديبية مجموعة من المبادئ القانونية، وذلك كضمانات للموظف وحماية لحقوقه ولمبدأ المشروعية التي يحميها القانون، ومنها:
أولا: شرعية وشخصية ووحدة العقوبات التأديبية

أ‌- مبدأ شرعية العقوبات التأديبية
يعني هذا المبدأ أنه لا يجوز للسلطة التأديبية أن توقع على مرتكب المخالفة جزاء لم يقرر تشريعا أي يجب أن يكون الجزاء الموقع على الموظف المذنب من الجزاءات التي أوردها المشرع على سبيل الحصر. ومن ثم يتعين على السلطة التأديبية الالتزام بالحدود التي قررها المشرع للجزاء من حيث نوعه ومقداره ومدته32 .

ب‌-مبدأ شخصية العقوبات التأديبية
يتصل مبدأ شخصية الجزاء التأديبي بتحديد من يوقع عليه هذا الجزاء، حيث أنه وفقا لهذا المبدأ ينصب الجزاء على مقترف الذنب الإداري، سواء قام بارتكابه بشكل مباشر أو غير مباشر كأن يكون قد قام بفعل إيجابي أو سلبي محدد يعد مساهمة منه في الوقوع في المخالفة التأديبية33 .

ت‌-مبدأ وحدة العقوبة أو عدم جواز تعدد العقوبات
ويعني مبدأ وحدة العقوبة عدم جواز معاقبة مرتكب المخالفة التأديبية بعقوبتين تأديبيتين أصليتين عن ذات المخالفة، ما لم ينص القانون على جواز ذلك.

ومبدأ عدم التعدد الجزائي يجد مبرره في تحقيق الاعتبارات العدالة والمصلحة الاجتماعية والوظيفية التي تقضي بعدم المعاقبة عن الخطأ الواحد إلا بعقوبة واحدة تناسبه وأن مسؤولية مرتكب الخطأ يجب أن تتحدد في نطاق خطأه بحيث تطمئن نفسه إلى أنه لن يلحق به في المستقبل أي عقاب عن خطأ سبق وأن عوقب على ارتكابه، فضلا عن أن عدم احترام هذا المبدأ يمثل اعتداء على نهائية العقوبة التأديبية الموقعة من السلطة المختصة، وإخلالا بما حازته من حجية إضافة إلى أن فرض عقوبتين عن مخالفة واحدة هو انحراف صارخ عن مبدأ المشروعية34 .

ثانيا: مبدأ المساواة وعدم رجعية العقوبة وتناسب الجزاء مع المخالفة
أ‌- مبدأ المساواة
إن مبدأ المساواة في العقوبة هو جزء لا يتجزأ من مبدأ المساواة العام بين الأفراد الذي نصت عليه مختلف مواثيق حقوق الإنسان، وأكدت عليه مختلف التشريعات والدساتير المعاصرة، هكذا ينص الدستور المغربي في فصله السادس أن الناس سواسية أمام القانون35 .

وتطبيقا لهذا المبدأ فإنه لا يمكن أن تختلف العقوبة الموقعة باختلاف أشخاص ومراكز المخالفين في السلم الاجتماعي أو الطبقي مادام قد توفرت لهم نفس الظروف والملابسات المتعلقة بوحدة نوع الخطأ المرتكب ودرجة جسامته36

ب‌- مبدأ عدم رجعية العقوبات التأديبية
ويقصد بهذا المبدأ عدم جواز تطبيق الآثار المترتبة على توقيع الجزاء التأديبي إلا اعتبارا من تاريخ تبليغ العقوبة التأديبية إلى الموظف سواء كان ذلك بواسطة البريد (رسالة مع إشعار بالتوصل) أو الاتصال المباشر بالهاتف أو عن طريق الرئيس الإداري بشكل مباشر. بمعنى أخر لا يكون في استطاعة السلطة التأديبية المختصة توقيع العقوبات الداخلة في اختصاصها بأثر رجعي أي قبل تاريخ التبليغ مهما كانت درجة جسامة الخطأ المرتكب.

ت‌-مبدأ التناسب بين المخالفة والعقوبات التأديبية
هذا المبدأ سنتعرض إليه بالتفصيل في المبحث الثاني، حيث سنتحدث عن السلطة التقديرية للإدارة في توقيع العقوبات بشكل يتناسب مع المخالفة “فالمخالف لا يعاقب بأشد مما اقترف”، كما سنتطرق إلى تطور هذا المبدأ على مستوى الفقه والتطبيقات القضائية عليه في مرحلة أخيرة.

خلاصة القول، أن المشرع حرص على تحديد العقوبات على سبيل الحصر «لا عقوبة إلا بنص”، كما وضع مجموعة من المبادئ القانونية التي تحكمها كضمانات سابقة لتوقيع العقوبات التأديبية وفي نفس الوقت بغرض تحقيق نوع من التوازن بين السلطة التقديرية للإدارة في تكييف الخطأ المهني مع العقوبات التأديبية وهو ما يطلق عليه الفقهاء بمبدأ التناسب وبين ضرورة التزام الإدارة بالعقوبات المحددة، ويعمل القاضي الإداري على توضيح التصنيف المطبق على هذه العقوبات حتى يكون هناك تلاؤم فعلي بين الخطأ المخل بالالتزامات المهنية والعقوبة التأديبية المقابلة له.

المبحث الثاني: السلطة التقديرية للإدارة في توقيع الجزاءات في إطار مبدأ التناسب ومدى الرقابة القضائية عليها
تبعا للفصل 65 من ظهير 24 فبراير 1958 المتعلق بالنظام الأساسي العام للوظيفة العمومية “تختص بحق التأديب السلطة التي لها حق التسمية”. ونذكر أن هذه السلطة هي السلطة الرئاسية للموظف المعني التي تختص بتعيينه، أو السلطة التي فوضت إليها هذه الأخيرة37 .

كما أن المشرع بعدم تحديده للأخطاء المؤاخذ عليها، فإنه ترك بذلك حرية للسلطة الإدارية في نطاق السلطة التقديرية التي تتمتع بها في هذا المجال وهو ما سنتناوله في المطلب الأول ثم نتحدث عن رقابة القضاء الإداري في نطاق مبدأ التناسب في توقيع العقوبات التأديبية من قبل الإدارة في المطلب الثاني.

المطلب الأول: السلطة التقديرية للإدارة في مجال تناسب العقوبة مع الخطأ
فقرة أولى: مفهوم السلطة التقديرية للإدارة ونطاقها
مفهوم السلطة التقديرية Le pouvoir discrétionnaire

تعتبر السلطة التقديرية للإدارة الشرايين الذي تتنفس من خلالها بما تحققه لها من حرية التصرف، وذلك بغرض تحقيق الصالح العام، ويقصد بها على العموم في الفقه أنها “تلك الحالة التي تترك فيها القاعدة القانونية للإدارة حرية التقدير في ممارسة الاختصاص، أو هي حق إعمال الإدارة لحرية الاختيار في ممارسة الاختصاص”38 . وهو ما ينطبق في مجال الأخطاء المهنية للموظفين العموميين، حيث تكون الإدارة أمام حرية التصرف وتقدير الجزاء المناسب للخطأ المرتكب، والذي يعتبره الفقهاء أحد أهم تصرفات الإدارة في مجالها التقديري.

ب‌-نطاق توقيع العقوبات التأديبية في إطار السلطة التقديرية للإدارة
من البديهي أن من يرتكب خطأ لا بد وان يوقع عليه العقاب المناسب إلا أن الذي يرتكب خطأ بسيطا لا يتم معقابته بنفس العقاب الذي ارتكب خطأ جسيما أو خطيرا ذلك أن معيار التفرقة بينهما في ظل غياب تحديد قانوني للأخطاء و ما يناسبها من عقوبات يدفع الإدارة إلى ممارسة سلطتها التقديرية في تكييف الخطأ مع ما يناسبه من عقوبة هذا لا يعني انعدام أية مراقبة قضائية على الإدارة. إن هذه السلطة المخولة للإدارة تمارس ذاتها في نطاق الشرعية لان السلطة التقديرية لا تعني التعسف أو التحكم و كل عمل إداري يتسم بهذا يعد مسا بمبدأ الشرعية ومن تم حق إلغاؤه39 .

الفقرة الثانية: ماهية مبدأ التناسب وتطوره Le principe de la proportionnalité
إن تحديد مفهوم التناسب يكتسي أهمية كبرى نظرا لأنه يتطلب شروطا معينة لاعتباره مبدأ عاما من مبادئ القانون، وضمانة أساسية لحقوق الموظف.

إن مبدأ التناسب يعني تقدير بين أهمية السبب (المخالفة المرتكبة) ومدى توافقه مع محل القرار أي الإجراء المتخذ (العقوبات التأديبية). حيث يقتضي الموازنة بين مبدأي الفاعلية والضمان في الجزاءات التأديبية. فإذا كان من حق الإدارة أن تستخدم وسيلة العقاب التي قررها لها المشرع، لضمان حسن أداء الجهاز الإداري، فإن واجبها يقتضي ألا تهدر بهذا الحق ضمانة الموظف، في ألا يعاقب بأشد مما اقترف40 . ونادرا ما تتحدث القوانين عن تعريف التناسب وتترك الموضوع لاجتهادات الفقه والقضاء.

أ‌-التعريف الفقهي لمبدأ التناسب
لم يستقر الفقه كما هو العادة على تعريف موحد وجامع للتناسب، نظرا لخصوصيته، فهو على الرغم من بساطته ووضح فهمه، إلا أنه شيء صعب تعريفه41 . فغالب الفقه جعل هذا المبدأ يجمع بين عنصري السبب والمحل مع فئة أخرى تجمع بين عنصري السبب والغاية.
التناسب هو علاقة بين السبب والمحل
فقاعدة التناسب ما هي إلا علاقة بين السبب “المخالفة المرتكبة”، والمحل “الجزاء الموقع” ينتج عنها الحل العادل42 .

التناسب علاقة بين السبب والغاية
البعض من الفقه اعتبر أن التناسب هو تعبير عن علاقة منطقية بين الوسيلة والغاية، فالقضاء بعدم التناسب بين المخالفة المرتكبة والعقوبة التأديبية إنما يرتبط بعيب الغاية، ولا يعدو إلا إساءة في استعمال السلطة أو انحراف بها. ولا يمكن اعتباره عيب مخالفة القانون لأنه يصدر في نطاق سلطة تقديرية وليس في إطار اختصاص مقيد43 . ومن التعاريف الفقهية العامة الواردة على مبدأ التناسب نجد “ذلك السلوك الذي تلتزم بموجبه الإدارة بأن لا تفرض على الأفراد أعباء وقيود أو أضرار أكثر مما تطلبه مهمة المحافظة على المصلحة العامة المناط بها تحقيقها”

ب‌-تطور مبدأ التناسب في القضاء الإداري
لقد رفض مجلس الدولة الفرنسي في قضائه التقليدي مد رقابته على مبدأ التناسب في مجال العقوبات التأديبية على اعتبار أن ذلك يدخل في إطار السلطة التقديرية للإدارة التي لا يجوز التعقيب عليها. وقد استمر الحال كذلك إلى غاية سنة 1978 حيث قال بأنه آن الأوان لتقييد السلطة التقديرية في أهم مواقعها وهي سلطة التأديب وذلك في حكمه الشهير في 09 يوليوز 1978 في قضية Lebon حيث راقب المجلس تناسب الخطأ مع العقوبة المتخذة من خلال الالتجاء إلى فكرة الخطأ الظاهر44 .

المطلب الثاني: مدى رقابة القضاء الإداري على مبدأ التناسب من رقابة المشروعية إلى رقابة الملاءمة
إن الأصل أن تقف رقابة القضاء الإداري على قرارات السلطة الإدارية عند:

فقرة أولى : رقابة المشروعية على الوجود المادي للوقائع والتكييف القانوني لها
أ‌-التحقق من الوجود المادي للوقائع التي اتخذتها هذه السلطة أساسا لقرارها L’exactitude matérielle des faits

فكما هو معلوم فإن سبب القرار الإداري هو الحالة القانونية والواقعية التي تسبق القرار وتدفع الإدارة إلى إصداره، وبالتالي تتحقق رقابة القاضي الإداري من خلال رقابته على الوجود الفعلي لهذه الوقائع وإلا كان هذا القرار معيبا في سببه في حالة انعدام تلك الوقائع، وذلك حسب ما نصت عليه المادة 20 من قانون 90.41.

في فرنسا: تدخل مجلس الدولة في إطار ولايته القضائية للرقابة على الوجود المادي للوقائع في حكمه الشهير “بلانشود” حيث قرر المجلس إن حرمان احد الموظفين من عمله كمساعد للمحافظ والمؤسس على نقله إلى وظيفة أخرى بناء على طلبه “يعتبر مؤسسا على سبب قانوني غير موجود إذا تبت عدم صحة واقعة تقديم الطلب مما يستوجب إلغاء القرار لمجاوزة السلطة” 45 ومن القرارات التي أكد فيها مجلس الدولة سلطته في التحقق من صحة ماديات الوقائع نجد القرار الصادر عن وزير الحربية الفرنسي سنة 1918 و القاضي بإحالة الجنرال “دي نوي” إلى الاستيداع بعلة ارتكابه أخطاء تأديبية ومع السلطة التقديرية الواسعة التي يتمتع بها الوزير بخصوص ضمان السير العادي لهذا المرفق الحساس و الوقوف على كل ما من شأنه أن يخل بسلامته، فإن المجلس أبى إلا أن يلغي هذا القرار بعد أن تبين له أن الأخطاء المدعاة في حق الجنرال “دي نوي ” لم تصدر عنه بل ولم تكن صحيحة ماديا.

إذن، الإدارة وهي بصدد ممارسة سلطتها التقديرية فينبغي أن تستند في قراراتها إلى وقائع صحيحة ماديا على سبيل التحديد والدقة.
في المغرب: أول حكم صدر في هدا الإطار هو حكم بن شقرون46 حيث يدور هذا الأخير حول قرار أصدرته الإدارة و يقضي بتشطيب المدعي من اطر وزارة التربية الوطنية والفنون الجميلة، بحجة أن سيرته في فترة ما قبل الاستقلال في إطار التعليم العالي الإسلامي كانت مشبوهة، وماعدا هذه الإشارة فإن القرار لم يكن يتضمن أية واقعة جدية من شأنها تبريره، لذلك ارتأت الغرفة بأنه يجب أن يتعرض للإبطال القرار الذي قضى بإعفاء الموظف من منصبه و دون أن يقدم الوزير كسبب له إلا علة غير واضحة لم يدل بالحجة على وجودها المادي.

كما نجد أن الغرفة الإدارية تتشدد في اشتراطها لأسباب مدققة وجدية لا مجرد عموميات حيث جاء في قرار صادر عن الغرفة الإدارية بتاريخ 8 يوليوز 1983 انه”إذا كانت لهيأة المجلس التأديبي الصلاحية في تقدير الحجج المطروحة عليها لتشكيل قناعتها فانه يجب أن تعتمد على وقائع محددة ومعينة

وثابتة لا على رسالة مجهولة المصدر و تقرير يتضمن مجرد عموميات.
ب‌-صحة التكييف القانوني[[47] لهذه الوقائع، وعدم مخالفة هذه القرارات للقواعد القانونية L’exactitude de la qualification des faits
إن تشخيص المخالفة المرتكبة من قبل الموظف تعتبر من أول الإجراءات التي يتعين على الإدارة القيام بها، لتقوم بعد ذلك بتكييفها على أساس أنها تدخل في إطار الأخطاء المهنية التي يعاقب عليها المشرع، وعلى أساس هذا التكييف يتم توقيع العقوبات التأديبية، ” أي أن تلك الوقائع تؤدي منطقيا إلى القرار المتخذ” وكما هو الحال بالنسبة للرقابة على الوجود المادي للوقائع، فإن التكييف القانوني لهذه الوقائع هو محل تصدي القاضي الإداري.
في فرنسا: لقد تقدم مجلس الدولة الفرنسي خطوة مهمة إلى الأمام بأن جعل من اختصاصه النظر في التكييف القانوني للوقائع التي انطوى عليه إصدار العقوبة التأديبية وذلك في حكمه الشهير في قضية Gamino في 14/1/1916 ليرى فيما إذا كانت هذه الوقائع تستدعي اتخاذ القرار بالفصل أم لا48 .
في المغرب: لقد اختص القاضي الإداري بالرقابة على تكييف الوقائع وذلك منذ صدور حكم Courtilleفقد كان على مجلس الأعلى في هذه النازلة أن يحدد موقفه بالنسبة للأفعال والوقائع المنسوبة للطاعن وما إذا كانت تشكل بالفعل أخطاء جسيمة تبرر إيقاع العقوبة عليه، وقد جاء في حيثيات الحكم “وحيث…إن المعني بالأمر ارتكب خطأ مهنيا خطيرا يمس بالهيئة التي ينتمي إليها فإن مدير مصالح الأمن العامة لم يعط تكييفا غير صحيح، وإنه بدون أن يرتكب عدم الشرعية استطاع أن يحدد أهمية العقوبة التي يجب في نظره أن يأخذ فيها بعين الاعتبار العقوبات السابقة لتتوافق العقوبة مع الخطأ”49

لقد تطورت الرقابة القضائية لتشمل مبدأ التناسب في توسع كبير لصلاحيات القاضي الإداري وهو ما سنتناوله بالدراسة في الفقرة الثانية من خلال تطبيقاته سواء في القضاء الإداري الفرنسي و المغربي.

فقرة ثانية: تطبيقات رقابة الملاءمة على التناسب في القضاء الإداري
إن الأصل أن تقف رقابة القضاء الإداري على قرارات السلطة الإدارية عند التحقق من الوجود المادي للوقائع التي اتخذتها هذه السلطة أساسا لقرارها، وصحة التكييف القانوني لهذه الوقائع، وعدم مخالفة هذه القرارات للقواعد القانونية، دون أن يتعدى ذلك إلى البحث في أهمية السبب وتقدير خطورته مع الإجراء المتخذ، لأنه يكون بهذا التصدي قد خرج من وظيفته وتدخل في عمل الإدارة وأصبح بذلك الرئيس الأعلى لجهة الإدارة50 . لكن مع تطور القضاء الإداري باعتباره قضاء متحرك وإنشائي واستلهامه لقواعده من المبادئ العامة للقانون، فقد امتد دوره إلى الرقابة على مدى التناسب بين سبب القرار ومحله، بحيث أن المفارقة الصارخة بين درجة المخالفة الإدارية وبين نوع الجزاء ومقداره وعدم تناسبهما يؤدي إلى عدم مشروعية القرار التأديبي.

أ‌- تطبيقات الرقابة على التناسب في القضاء الإداري الفرنسي
لقد بسط مجلس الدولة الفرنسي رقابته على التناسب، وذلك من خلال رقابته على إفراط الإدارة في توقيع الجزاء بالنظر إلى الخطأ المرتكب، بعدما كان يتصدى فقط للرقابة على الوجود المادي للوقائع والتكييف القانوني لها، وهو ما يشكل طفرة نوعية في مجال توسيع صلاحياته الرقابية بعد تواتر مجموعة من الأحكام خاصة بعد حكم LEBON سنة 1978سنتطرق إليها كالتالي:
ما قرره مجلس الدولة في قضية VINOLAY من إلغاء عقوبة العزل من الخدمة حيث وجدها غير مناسبة مع الأخطاء المنسوبة للموظف والتي تمثلت في القسوة والصرامة في معاملاته[[51]] .

وما أكده في قضية M. BOURY-NAUROU التي جاءت بمناسبة النظر في الطعن الذي قدمه ضد قرار عزله من الخدمة نتيجة لارتكابه خطأ تأديبي يتمثل في إهماله وتأخره عن الرد على المراسلات الإدارية الرسمية حيث ذهب إلى : ” …إلغاء عقوبة العزل من الخدمة، فقد وجد أن هذه العقوبة تشكل أقصى العقوبات في قائمة العقوبات التأديبية، ولا تتناسب مع الخطأ المرتكب والمتمثل في الإهمال والتأخير في الرد على المراسلات الإدارية”[[52]

انطلاقا من هذه الأحكام والتي تجسد الرقابة الإيجابية والتي تقضي بعدم تناسب العقوبة مع الخطأ المهني، نجد مجلس الدولة في إطار بسط رقابته أن أيد العقوبة المقترحة من الإدارة وهو ما يمثل الجانب السلبي من الرقابة وذلك في عدة أحكام “حكم HUBSHMAN53 والتي تتلخص وقائعها في عدم التحاقه بمقر عمله بعد استنفاذه لمدة الرخصة المرضية رغم الدعوات المتكررة له بالالتحاق بعمله ليصدر قرار بعزله عن العمل وهو ما لم يستسغه ليطعن في القرار أمام مجلس الدولة والذي زكى العقوبة نظرا لخطورة وجسامة الخطأ المرتكب.

نلاحظ أنه وبالرغم من بسط سيطرته على تناسب العقوبة مع الخطأ، فإنه لم يتدخل أبدا ليقرر العقوبة التأديبية المناسبة للمخالفة التأديبية، وإنما اكتفى فقط بإلغاء العقوبة وإحالة موضوع النزاع من جديد إلى السلطة التأديبية لتقرر العقوبة المناسبة، وهو عكس ما ذهب إليه القضاء المصري حيث لم تكتف المحكمة الإدارية العليا ببسط رقابتها على مدى تناسب الجزاء مع المخالفة، بل أعطت لنفسها إضافة إلى إلغاء القرار المشوب بالغلو، حق تعديله إلى القدر الذي تراه مناسبا54 .

ب‌- تطبيقات الرقابة على التناسب في القضاء الإداري المغربي
لقد أعلنت الغرفة الإدارية صراحة بممارسة رقابة الملاءمة إلى جانب رقابة المشروعية، وذلك في حكمها التاريخي والشهير في 13 فبراير 1997 تحت عدد 136 في الملف الإداري عدد 289/96 حيث جاء في ديباجة القرار “القضاء الإداري يتوفر على صلاحية مراقبة مدى ملاءمة العقوبة المتخذة في حق الموظف مع حجم المخالفة المرتكبة من طرفه”55

كما أن المحكمة الإدارية بالرباط بسطت رقابتها على مبدأ التناسب في عدة أحكام كان أولها الحكم عدد 90 الصادر في 23 مارس 1995 والذي جاء فيه أن “للإدارة سلطة تقديرية في اتخاذ العقوبة المناسبة في حق الموظف حسب خطورة الأفعال المنسوبة إليه ومدى تأثيرها داخل المرفق العام …، وأن هذه السلطة لا رقابة للقضاء عليها ما لم يشبها غلو في التقدير”56 .
إذن، يلاحظ أن القضاء المغربي وسع من صلاحياته لتشمل رقابته مبدأ التناسب في إطار الضمانات التي القبلية التي يمنحها المشرع في المجال التأديبي، وهو ما يشكل طفرة نوعية له في هذا المجال على غرار القضاء الفرنسي والمصري.

هذا وقد أسس القضاء الإداري أحكامه على مجموعة من النظريات من أجل تحقيق التوازن بين ضمان سير الجهاز الإداري وحماية حقوق وحريات الموظفين، ومنها:

نظرية الغلو المصرية في استعمال السلطة التقديرية:
يقصد بها ذلك العيب الذي يمكن أن يشوب تكييف الإدارة و تقديرها للوقائع المتخذة كسبب للقرار الإداري ،بحيث يبدو هذا العيب بينا وجسيما ،على نحو يتعارض مع الفطرة السليمة ،وتتجاوز به الإدارة حدود المعقول في الحكم الذي تحمله على الوقائع ،و يكون بالتالي سببا لإلغاء قرارها المشوب بهذا العيب، ولا يظهر الغلو في التقدير إلا إذا كان تقدير الإدارة مشوبا بخلل جسيم بين سبب العمل الإداري و محله ،فإذا كان من الجائز للإدارة أن تخطأ في ممارسة سلطتها التقديرية ،فإنه من غير الجائز أن يكون هذا الخطأ ظاهرا ينم عن سوء تقدير واضح ،أو إهمال فادح أو رعونة بالغة ،الأمر الذي تأباه الفطرة السليمة مما لا يمكن للقاضي التغاضي عنه57
نظرية الخطأ الظاهر الفرنسية
بدأ تطبيق هذه النظرية مع مجلس الدولة الفرنسي، في قضية LEBON سنة 1978، حيث أصبح القاضي الإداري يراقب السلطة التقديرية للإدارة ، تطبيقا لنظرية الخطأ الواضح في التقدير أي مراقبة عدم التناسب البين بين الوقائع والقرار ،ومجال التأديب يقوم برقابة اختيار العقوبة المتخذة في حق الموظف ومدى ملاءمتها لخطورة الخطأ المرتكب ونظرية الخطأ الواضح في التقدير تشترط وجود قدر كبير وواضح من الخطأ إلى درجة تظهر تجاهلا واضحا لأبسط المسلمات في ظل حقائق موضوعية ومتعارف عليها58 .

خاتمـــــة

إذا كان القضاء الإداري سواء المقارن أو المغربي قد حسم أمره بأن فرض رقابة الملاءمة خاصة في مجال العقوبات التأديبية معتمدا على نظريات أصيلة من المبادئ العامة للقانون وهي نظريتي الغلو والخطأ الظاهر، لكن موقف الفقه من هذه الرقابة ظل يتأرجح بين مؤيد ومعارض حيث ذهب الاتجاه الأول إلى القول بضرورة الرقابة على التناسب تأسيسا على أن السلطة التأديبية تباشر اختصاصاتها بواسطة موظفين غير معصومين من الخطأ59 . كما أنه لا يتصور أن يفلت اختيار الجزاء كليا من يد القاضي كلما كان ذلك أدعى للوصول إلى الهدف المنشود وهو تحقيق العدالة بمفهومها الشامل.
بالمقابل يذهب الفقه المعارض إلى أن مسألة تقدير خطورة الذنب الإداري وما يناسبها من عقوبة تأديبية يجب تركها للإدارة ولا يمكن محاسبتها على خطأ التقدير إلا في نطاق عيب الانحراف بالسلطة، حيث أن الإدارة هي الأقدر على وزن خطورة الجرائم المنسوبة للعاملين، فما قد يبدو للقضاء هينا قد تراه الإدارة لسبب أو لأخر خطيرا لما يمثله من ظاهرة معينة كما أن الغلو يندرج في معنى التعسف و الانحراف. وبالتالي فإن رقابة القضاء يجب أن تقتصر على المشروعية ولا تمتد إلى الملاءمة60 .

كما أن هناك اتجاه وسط أو ثالث يرى بأن الرقابة القضائية يجب أن تكتفي بإلغاء الجزاء التأديبي في حالة ما إذا اكتشفت عدم التناسب بين العقوبة والخطأ تاركة للسلطة التأديبية تحديد الجزاء المناسب، دون أن تصدر المحكمة بنفسها حكم الجزاء الذي تراه مناسبا، لأن رقابتها في هذا الشأن استثناء من الأصل العام الذي يترك للسلطة التأديبية حرية تقدير خطورة الذنب الإداري واختيار العقوبة المناسبة له.

إن هذا الرأي الوسط هو الذي يأخذ به المشرع المغربي، فلا يد الإدارة مطلوقة في توقيع الجزاءات وإنما هناك رقابة ملاءمة للقاضي الإداري دون الوصول إلى حد التدخل لتعديل الحكم التأديبي أو العقوبة التأديبية.

 

(محاماه نت)

إغلاق