دراسات قانونية
المواطنة وفقا للحماية الدولية للحقوق والحريات (بحث قانوني)
المواطنة على ضوء الحماية الدولية للحقوق والحريات
د. رشا رضوان عبد الحي، الجامعة اللبنانية- كلية الحقوق والعلوم السياسية (الفرع الثالث)
الملخص:
إن المواطنة، لا تُبنى إلاّ في بيئة سياسية ديمقراطية وقانونية، فهي حجر الزاوية لتطوير الدولة ابتداءً من نظامه السياسي والاجتماعي والاقتصادي. فمفهوم المواطنة هو الشعور بالانتماء والمشاركة في بناء الوطن الذي نعيش فيه، وبالتالي لا بدّ من الالتزام بالحقوق والواجبات التي هي أساس الدولة الديمقراطية والتي لولاها نكون في دولة تسلطية يسودها الاستبداد والفساد. فهذه الحقوق والحريات العامة المواطنية هي وليدة لحقوق الإنسان المقتبسة من الشرعة العالمية المعترف بها دولياً والتي تهدف إلى الدفاع عن الكرامة الإنسانية وحمايتها من الأنظمة الدكتاتورية. لذلك لكي تكون لدينا مواطنة بالمعنى الحقيقي، فلا بدّ من تأمين حمايتها من خلال النظام الديمقراطي الحقيقي ممثلاً بالدستور الحامي للحقوق والحريات العامة الذي يتضمن مبدأ المساواة واحترام حرية الرأي والتعبير، فنكون بذلك حقّقنا ما يسمى بالمواطنة الصحيحة في وطن ديمقراطي ينعم بالحرية.
« La citoyenneté à la lumière de la protection internationale des droits et des libertés »
Résumé :
La citoyenneté ne se construit que dans un environnement politique démocratique et juridique : elle est la pierre angulaire du développement de l’État et notamment de son système politique, social et économique. La notion de citoyenneté est le sentiment d’appartenance et de participation à la construction du pays dans lequel nous vivons. Ainsi, il est nécessaire, voire indispensable, de respecter les droits et les devoirs constituant le fondement de l’État démocratique, sans lesquels nous serions dans un état autoritaire dominé par la tyrannie et la corruption. Ces droits et libertés publiques citoyennes sont issus des droits de l’homme visés à la Charte internationale destinée à défendre la dignité humaine contre les pratiques des régimes dictatoriaux. Afin de mettre en place la citoyenneté, elle devrait être protégée par un système démocratique authentique. Celui-ci est représenté par la constitution qui garantie les droits et les libertés publiques et consacre le principe d’égalité et de respect de la liberté d’opinion et d’expression. C’est ainsi que nous parvenons à assurer une véritable citoyenneté dans un pays démocratique et libre.
المقدمة:
إن حرية الوطن تتوافق مع حرية المواطن، وتتكرس ماهية الدولة مع تكريس ماهية المواطنة والديمقراطية. لذلك تشكّل المواطنة الحد الفاصل بين ترسيخ مكونات المجتمع المدني وتعبيره السياسي أي الدولة الديمقراطية. فالقاعدة العريضة التي تحتضن مفهوم المواطنة في الفضاء السياسي والاجتماعي، هي قاعدة العدالة والمساواة، وبالتالي الوصول إلى ما يسمى “بالمواطنة المتساوية”[1].85
فالمواطنة هي حجر الزاوية لتطوير الدولة والوطن ابتداءً من نظامه السياسي والاجتماعي والاقتصادي وصولاً إلى النهوض الثقافي والارتقاء الحضاري. فليس بين أبناء الوطن الواحد وأعضاء المجتمع المدني الواحد والدولة الديمقراطية الواحدة من هو مواطن أكثر من الآخر، أو إنسان أكثر من الآخر وبالتالي لا سبيل إلى أي نوع من أنواع الامتيازات المعروفة في الدولة التسلطية التي من خلالها يُختزل المجتمع المدني إلى كتلة سلبية من الأفراد الذين يعيشون في حالة من القطيعة حيث تنتفي صفة المواطنة عن المواطن الذي هو عماد الدولة وعنصر الديمقراطية. فالدولة الديمقراطية هي دولة حق وقانون لجميع مواطنيها على السواء أولاً وأساساً، وعدم التفاوت والتمايز في المواطنة وفي الإنسانية هو الأساس الواقعي لمساواة المواطنين أمام القانون.
لذلك يمكننا القول إن المواطنة لا تُبنى إلاّ في بيئة سياسية ديمقراطية- قانونية، تستند إلى جملة من “الحقوق والواجبات” وبالتالي الاعتراف بالتناقضات والمتعارضات والحق بالاختلاف والتعدد بكل المعاني مما يشكل ضرباً لكل أشكال الاستفراد بالسلطة أو القرار، أو الاستهتار بقدرات المواطنين وإمكانيتهم سواء العقلية أو العملية. لذلك، بالرغم من أن المواطنة لا تحمل معناً واحداً ثابتاً متفقاً عليه، إلاّ أنها تحتوي على مبدأ أساسي وعنصر حيوي هو “الانتماء” الذي لا يمكن أن يتحقق بدون “التربية المواطنية” التي تساعد على فهم واضح لمعناها وما يترتب عنها ولكي يتم ممارستها بالشكل الصحيح على أرض الواقع. فهذه التربية ضرورية لتحقيق مفهوم ومعنى المواطنة الحقيقية وبدونها يبقى الفرد تابعاً ليس أكثر.
لذلك إن إشكالية موضوع المواطنة والحقوق والحريات، تعتبر من أبرز المسائل الدولية والحساسة التي ما زالت ليومنا الحاضر تأخذ أبعاداً ونقاشاً في كيفية المحافظة عليها وعدم المساس بأحقيتها، إذ خلقت أزمة حول مفهوم الهوية والانتماء إلى الدولة التي يخضع لها المواطن. من هنا يمكن طرح التساؤل، هل أن المواطنة تطبّق فقط في النظام الديمقراطي الذي يعترف بحقوق المواطن؟ أو أن الانتماء إلى الدولة الذي هو جوهر المواطنة هو حق مُكتسب للفرد ويخضع للحماية الدولية من أي انتهاكات وتجاوزات تتعرض له حقوقه وحرياته؟ إن موضوع هذه الدراسة يفرض نفسه على بساط البحث، فهو ليس بجديد ولكن مفهومه يتبدل ويتغير حسب مقتضيات وتطور العصر. فالهدف من هذه الدراسة تسليط الضوء على دور المواطنة وآثارها على الصعيدين الدولي والمحلي في حماية الحقوق والحريات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والذي يستتبع بشكل رئيسي ترسيخ سيادة القانون الذي يعتبر بدوره نقطة العبور إلى “الدولة الديمقراطية” بمعناها الحقيقي. ولتوضيح ذلك، كان تقسيم البحث على الشكل التالي:
المبحث الأول: مفهوم المواطنة والانتماء إلى الدولة
المبحث الثاني: دور القانون الدولي والمواطنة في حماية الحقوق والحريات
المبحث الأول: مفهوم المواطنة والانتماء إلى الدولة
حين يُقرِن الأفراد وجودهم بالأمة، فإنهم يُقرّون بوضعهم الشرعي كأعضاء في مجموعة حضارية، بكيان، والشعور المرتبِط بهذا الشكل من الهوية هو حب الأمة ووعي لتقاليدها. لذلك، إن معرفة ما جعل الأمة عظيمة، وما سيستمر في ذلك، هو نوع من الأهلية المطلوبة[2]. وهكذا نصل إلى المواطنية، فالهوية المدنية مصانة بالحقوق التي تُسبغها الدولة وبالواجبات التي يؤديها المواطنون، الذين هم أشخاص مستقلون ومتساوون في أوضاعهم الشرعية.
فلكلمة “الأمة” دلالات مختلفة حتى القرن الثامن عشر عما كان عليه اليوم. بعد ذلك بدأت تتحول لتصبح مرادفة “للبلد” أو “أرض الأجداد” والشعب الذي يسكنه. ومثلما بدأت كلمة “مواطن” تلتصق بالدولة، كذلك أخذ تعبير “أمة” يتصل بالدولة أيضاً.
فالمواطنون الصالحون هم الذين يشعرون بالولاء للدولة، ويدفعهم الإحساس بالمسؤولية إلى تأدية واجباتهم. وبالتالي فهم يحتاجون إلى المهارات المناسبة لهذه المشاركة المدنية. فإن فكرتَي الاستقلالية والمساواة في المكانة، والمشاركة المدنية في شؤون الدولة، تضعان المواطنة بمعزل عن الأشكال الإقطاعية والملكية والاستبدادية للهوية الاجتماعية والسياسية.
فمصطلح “مواطنة”، هي من الكلمات المستحدثة من التراث الغربي الحديث، فهي تقابل كلمة ” citizenchip ” في اللغة الإنكليزية، وكلمة ” citoyenneté ” في اللغة الفرنسية، والمشتقتان من كلمة ” city “و “cité “، أما أصل مصطلح المواطنة فهو يوناني ويرجع لكلمة ” politeia ” المشتقة من كلمة ” polis ” وهي المدينة[3]. أما في اللغة العربية، فقد اشتُقّت المواطنة كما هو واضح من الوطن. وبالتالي يمكن القول بأن المواطنة تعني الروابط القانونية والسياسية التي تجمع الفرد المواطن بوطنه.
وقد ميّز بعض الباحثين والمفكرين أنماطً مختلفة في تفسيرهم للمواطنة، فقد حدّدها مارشال في المحاضرات التي ألقاها عام 1949[4]، بوصفها المكانة التي تيسّر الحصول على الحقوق والقوى المرتبطة بها. ولتوضيح هذه الحقوق، رأى أنها تتشكل من:
الحقوق المدنية، التي تضم حرية التعبير والمساواة أمام القانون
والحقوق السياسية، التي تشمل الحق في التصويت والحق في الانضمام إلى أي تنظيمات سياسية مشروعة
والحقوق الاجتماعية والاقتصادية، التي تحتوي على الرفاهية الاقتصادية والأمان الجماعي.
أما بالنسبة للتفكير الكلاسيكي أو “الجمهوري المدني” حول المواطنة، فاعتبر أن أفضل شكل للدولة يقوم على دعامتين، وهما:
مواطنية أشخاص يتمتعون بالفضيلة السياسية،
ونمط عادل للحكم، حيث ينبغي أن تكون الدولة “جمهورية”، بمعنى أنها دولة محكومة بالدستور وليست محكومة كيفياً أو استبدادياً.
فكلا العنصرين، السلوك المدني الصالح والشكل الجمهوري للدولة أساسيان، ولهذا السبب جاء تعبير “الجمهوري المدني”. فوجود مجتمع من المواطنين الأحرار مستحيل تحت الاستبداد والطغيان، كما أن الجمهورية كانت مستحيلة من دون الدعم الفعّال ومشاركة المواطنين.
أما النظرة الليبرالية، فقد تطورت في القرنين السابع عشر والثامن عشر وأصبحت الأقوى بأشواط في القرنين التاسع عشر والعشرين. وحجة هذه المدرسة، أن الدولة موجودة لمنفعة مواطنيها، وهي ملتزمة فعلاً بأن تضمن لهم حقوقاً يتمتعون بها. أما بعد الثورة الفرنسية، فقد اعتقد رجال السياسة الأوروبيون، بحسب العالم السياسي الإنجليزي المتميز جراهام والاس[5]، أنه، “لا يستطيع أي مواطن أن يتصوّر دولته شأناً يتعلق به سياسياً أو أن يجعل منها قضيته إلاّ إذا آمن بوجود إطار وطني يندمج فيه الأفراد الذين يشكلون سكان هذه الدولة، كما أنه لا يستطيع أن يستمر في الإيمان، بوجود هكذا نموذج، إلاّ إذا كان إخوانه المواطنون يماثلون بعضهم بعضاً ويماثلونه هو نفسه، في نواحٍ معينة على قدر من الأهمية”.
لذلك، إن المواطنة هي إثبات قانوني لعلاقة فرد ما بوطن بفعل الولادة أو الاكتساب، وفي الوقت نفسه هي رباط وجداني يتجسد بمحبة البلد الذي ينتمي إليه، والافتخار به، والاستعداد للدفاع عنه وللمساهمة في تطويره[6]. وبالتالي يمكن القول، أن المواطنة يمكن تحديدها ببعض الشروط والمقوّمات الأساسية التي لا غنى عنها لاكتمال وجودها، وهي على الشكل التالي:
أولاً- المساواة وتكافؤ الفرص: وهذا يعني مساواة جميع المواطنين أمام القانون، الذي هو المرجع الوحيد في تحديد الحقوق والواجبات. كما أن التساكن والتعايش والشراكة والتعاون هم من العناصر الأساسية التي يُفترض توفّرها بين المشتركين في الانتماء لنفس الوطن، وبالتالي هذه العناصر تهتز وتختل في حالة عدم احترام مبدأ المساواة.
فالمواطنة لا تتحقق إلا بتساوي جميع المواطنين في الحقوق والواجبات، فلا مجال للتمييز على أساس الجنس أو اللون أو الأصل العرقي أو المعتقد الديني أو القناعات الفكرية أو الانتماء إلى نشاط سياسي أو نقابي. لا بل إن حسن تدبير الاختلاف والتعدّد لا يتم إلاّ في إطار المواطنة التي تضمن حقوق الجميع وتُتيح لجميع المواطنين القيام بواجباتهم وتحمل المسؤوليات في وطنهم على أسس متكافئة[7].
ثانياً- المشاركة في الحياة العامة: وهذا يعني أن مشاركة المواطنين في الحياة العامة لا تتم إلا في ظل حرية الفكر والتعبير وحرية الانتماء والنشاط السياسي والنقابي، وفي إطار من الديمقراطية التي يكون فيها الشعب هو صاحب السيادة ومصدر لجميع السلطات. وبالتالي الدخول في جميع المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي يجب أن تكون متاحة أمام الجميع دون أي تمييز.
ونتيجةً لذلك عندما تتاح الفرص المتكافئة للمشاركة أمام كل الكفاءات والطاقات، يكون المجال مفتوحاً للتنافس النوعي الذي يضمن فعالية النخب السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ويُضفي الحيوية على المشهد الوطني، مما يساهم في خلق واقع ينشد التطور المتواصل والارتقاء المستمر[8].
ثالثاً- الولاء للوطن: ويعني شعور كل مواطن بأنه معني بخدمة الوطن، والعمل على تنميته والرفع من شأنه، وحماية مقوماته الدينية واللغوية والثقافية والحضارية، والشعور بالمسؤولية عن المشاركة في تحقيق النفع العام، والالتزام باحترام حقوق وحريات الآخرين، واحترام القوانين التي تُنظم علاقات المواطنين فيما بينهم، وعلاقاتهم بمؤسسات الدولة والمجتمع، والاستعداد للتضحية من أجل حماية استقلال الوطن، واعتبار المصالح العليا للوطن فوق كل اعتبار وأسمى من كل المصالح الذاتية الخاصة.
فالولاء للوطن لا ينحصر في المواطنين المقيمين داخل حدود التراب الوطني، وإنما يبقى في وجدان وضمير وسلوك المواطنين الذين تضطرهم الظروف للإقامة في الخارج، لأن مغادرة الوطن لأي سبب من الأسباب لا تعني التحلّل من الالتزامات والمسؤوليات التي تفرضها المواطنة، وتبقى لصيقة بالمواطن تجاه وطنه حتى لو اكتسب الجنسية في دولة أخرى[9].
المطلب الأول: المواطنة وتكريس ثقافة الديمقراطية:
إن مصطلح ديمقراطية، مشتق من المصطلح الإغريقي ويعني “حكم الشعب لنفسه”، وهو مصطلح قد تمّت صياغته من شقين “الشعب” و “السلطة” أو “الحكم” في القرن الخامس قبل الخامس قبل الميلاد للدلالة على النظم السياسية الموجودة آنذاك في ولايات المدن اليونانية وخاصةً أثينا. فالديمقراطية هي شكل من أشكال الحكم يشارك فيها جميع المواطنين المؤهلين على قدم المساواة، إما مباشرةً أو من خلال ممثلين عنهم منتخبين لاقتراح وتطوير واستحداث القوانين. وهي تشمل الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي تمكّن المواطنين من الممارسة الحرة والمتساوية لتقرير المصير السياسي.
ويطلق هذا المصطلح أحياناً لوصف نظام الحكم في دولة ديمقراطية، أو لوصف ثقافة مجتمع. والديمقراطية بهذا المعنى، هي نظام اجتماعي مميّز يؤمن به ويسير عليه المجتمع ويشير إلى ثقافة سياسية وأخلاقية معينة تتجلى فيها مفاهيم تتعلق بضرورة تداول السلطة سلمياً وبصورة دورية.
وقد كانت أثينا قديماً سبّاقة إلى الاهتمام بالمواطنة، خصوصاً عندما جمعت معها ممارسة حقوق المواطن في بيئة ديمقراطية توصف “بالديمقراطية المباشرة”. وبعد حصول الثورة الأميركية التي قدمت للعالم نموذجاً لدولة ديمقراطية ذات دستور يُعطي المواطنين موقعاً مقرِّراً في شؤون الوطن، أورد مندوبو الولايات في وثيقة المستقبل[10]:” إن الحياة والحرية والسعي لنيل السعادة حقوق طبيعية للناس.. ولتأمين هذه الحقوق تكوّنت حكومات تستمد سلطانها العادل من رضا الشعب المحكوم، فإذا قامت أي حكومة لتقضي على هذه الغايات أصبح من حق الشعب أن يستبدلها، أو يلغيها ويقيم مكانها حكومة جديدة”.
هنا تجسيد لنظرية العقد الاجتماعي، المبني على الاعتراف بحق الشعب وقدرته على اختيار من يتولى شؤون حكمه وحقه في عزل أي حكومة لا تلتزم بهذه الحقوق، ولا يمكن أن يحصل ذلك إلاّ إذا كان الشعب واعياً حقه وقدرته على التغيير[11].
ويرى المفكرون الأميركيون المعاصرون، أن تعبير “المواطنة “، لم يُعطَ في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر المعنى الذي أصبح عليه في القرن العشرين في الولايات المتحدة الأميركية، خصوصاً في العقود الأخيرة منه، حيث بات يتمتع به كل مواطن بغض النظر عن العرق أو الثقافة أو الدين أو الجنس. وعندما أُعطيت النساء حق التصويت والترشّح للمواقع السياسية والقضائية تحققت عندئذٍ المساواة الجندرية أيضاً.
أما الثورة الفرنسية التي حصلت بعد اثني عشر سنة من سابقتها الأميركية، فقد خطت خطوات إلى الأمام في مسألة حقوق المواطن والممارسة الديمقراطية، حيث جاء في مقررات مقدمة الجمعية الوطنية الفرنسية أن نواب الشعب الفرنسي المجتمعين في جمعية وطنية قرروا إصدار إعلان عام ببيان حقوق الإنسان الطبيعية المقدسة التي لا يصح أن تمتد إليها يد العبث والمساومة.. وهكذا يكون هذا الإعلان راسخاً في أذهان بني الإنسان، يذكرهم على الدوام بحقوقهم وواجباتهم مؤكدين أن ما نزل بالمجتمع الإنساني من مصائب وشقاء وإفساد الحكومات، يرجع إلى جهل هذه الحقوق أو تجاهلها أو العبث بها. وإن بعض ما ورد في إعلان الجمعية العامة لحقوق الإنسان كالآتي:
يولد الناس ويعيشون أحراراً متساوين في الحقوق، لا تمييز ولا تفاضل بينهم إلاّ فيما تقتضيه المصلحة العامة.
كل سلطة في الدولة يصدرها الشعب وحده، ولا يحق لأية جماعة أن تأمر وتنهي إلاّ إذا استمدت سلطتها من الشعب.
القانون هو مظهر الإدارة العامة للأمة، ولأهل البلاد جميعاً أن يشتركوا في وضعه بأنفسهم أو بواسطة نوابهم. والقانون واحد بالنسبة للجميع.
حرية الجهر بالآراء والأفكار من حقوق الإنسان المقدسة، فلكل شخص أن يتكلم ويكتب ويطبع بملء الحرية شرط أن يسيء استعمال هذه الحرية في الأحوال التي بيّنها القانون[12].
لذلك إن الديمقراطية هي نظام سياسي واجتماعي وثقافي مركب، ففي واقع الأمر هي مفهوم ونظام حكم متطور ومتبدل يتغيّر بتغيّر الزمن والظروف. لذلك إن تكريس ثقافة الديمقراطية يعتبر أمراً حيوي وهام للغاية، فهذه الثقافة، لا يمكن بأي حال من الأحوال تلقين الناس تعريفاً مختزلاً للديمقراطية، وإنما تستوجب تعريفهم بمقوماتها الضرورية والتي بفقدانها أو غيابها تفتقد الديمقراطية لمضمونها الحيوي. ومن أهم هذه المقومات:
الفصل بين السلطات الثلاث، أي استقلال كل من السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية.
استقلالية القضاء، أي أن تكون الأحكام القضائية حيادية وعلنية ونزيهة وشفافة، وغير خاضعة لنفوذ الفروع الأخرى (التنفيذية والتشريعية) أو لنفوذ المصالح الخاصة أو السياسية.
حكم الأغلبية بواسطة تمثيل برلماني، أي حصول حزب أو تحالف سياسي على الكم الأكبر من الأصوات المعبَّر عنها مقارنةً بمنافسيه كل على حدة، وفي هذه الحالة نتحدث عن أغلبية نسبية أو بسيطة.
الفصل بين الحق العام والحق الخاص
فلا يمكن تصوّر أي نوع من أنواع الديمقراطية دون تلك المقومات التي تتطور عبر تفاعلها على الصعيد السياسي والاجتماعي. ولعل أهم تلك المقومات هي مفهوم وفكرة المواطنة من المنظور الديمقراطي، علماً أنه ليست كل مواطنة ديمقراطية، إلاّ أن المواطنة الحقّة هي مقدمة النظام الديمقراطي. ولكن السؤال الذي يطرح نفسه، هل يجب تعميم ثقافة الديمقراطية قبل إقامة النظام الديمقراطي أو العكس؟ فهل ممكن ممارسة ديمقراطية قبل إرساء النظام الديمقراطي؟
الجواب أنه لا يمكن ممارسة الديمقراطية قبل إرساء النظام الديمقراطي من دون تطوير وتكريس المواطنة، لأن المواطنة هي الإمكانية الوحيدة لتكريس سيادة القانون والمساواة أمامه ولممارسة الحد الأدنى من الحقوق والمطالبة بها. لذلك إن المواطنة هي المنطلق للمطالبة بالديمقراطية بغرض الوصول إلى السلطة عن طريق تمثيل الأغلبية وتوسيع مفهوم المواطنة. فبدونها نكون أمام إشكالية العلاقة القائمة بين المواطن، المجتمع المدني، الدولة الديمقراطية، وبالتالي نكون أيضاً أمام إشكالية فكرة سيادة الشعب الذي يعتبر مصدر السلطات في المجتمع الديمقراطي[13].
ويجب أن لا يُفهم مما تمّ استعراضه، أن المواطنة مرافقة للديمقراطية، بل هي موجودة في سائر المجتمعات بغض النظر عن نوع نظام الحكم. لكن للديمقراطية دوراً في ضمان إنسانية المواطن من خلال الحريات التي يُفترض أن يتمتع بها، وإلاّ لا يمكن تسمية النظام بالديمقراطي إذا لم يوفّر الحقوق للمواطنين. فالديمقراطية ليست نصوصاً فقط، بل طريقة حياة أيضاً، كاحترام التنوع المجتمعي وتقبّل الآراء المغايرة لرأيه والمشاركة في الأمور ذات المنفعة العامة التي ترتبط بمجتمعه المحلي والوطني. والمجتمع الذي ينص دستوره على ديمقراطية النظام بينما لا يعيش شعبه مظاهر وعناصر الديمقراطية، فيمكن تسميته “بشبه الديمقراطي” لاحتياجه لأمور أخرى يجب توفرها لتُستكمل صورة الديمقراطية[14].
وهذا ما نجده في أغلبية الدول، حين يُطلب إلى الشعب التجديد لهذا الديكتاتور أو ذاك، فأول ما يتلفظ به هو أن عملية التجديد أو الانتخاب قد تمّت “بطريقة ديمقراطية”، فهناك استغلال لهذا التعبير، وهذا بحد ذاته إثبات على أهمية الديمقراطية وعظمتها التي تبدو وكأنها العنصر الأساسي أو الوحيد الذي يُعطي الشرعية لأية سلطة حتى لو كانت تستغلها، وستكون الديمقراطية بالنسبة لدول العالم معياراً أولياً لشرعية أي نظام حكم مستقبلاً. لذلك لا بدّ للمجتمعات الحديثة العهد بالديمقراطية، تعويد الفرد أن يتصرف كمواطن وتعويد القوى السياسية أن تتبنى فعلاً وممارسةً مفهوم المواطنة والمساواة أمام القانون ما دامت المواطنة تعتبر وجهاً من وجوه السيادة.
المطلب الثاني: المواطنة والإندماج الاجتماعي:
يكتنف لفظ اندماج intégration الكثير من الغموض، لأنه ينتمي في الوقت نفسه إلى اللغة السياسية واللغة السوسيولوجية، إضافةً إلى اقترانه بالممارسة السياسية والنقاشات المجتمعية المثارة حول قضايا الهجرة (إدماج المهاجرين) والتعدد الثقافي (الهوية الثقافية)، خصوصاً في بعض المجتمعات الغربية التي سنّت تدابير وأنشأت وزارات أو مصالح حكومية خاصة بالهجرة و “الاندماج الاجتماعي”[15].
وغالباً ما يُطرح لفظ الاندماج كمقابل لعدم الاندماج désintégration، وأيضاً كمقابل للاختلال anomie والإقصاء exculsion والإجرام délinquance والانحراف deviance والتمرّد dissidence والتمييز والعنصرية ségrégation وعدم الانتساب disaffiliation[16]. فلا تكفي هذه المقارنات لجعل المفهوم قابلاً للفهم، نظراً لارتباط هذه الألفاظ بالأفكار السائدة والنقاشات العمومية أكثر منه بمنطق المعرفة. فمفهوم الاندماج في معناه العام يشير إلى وجود التنوع أو التعدّد او عدم التماثل بين الناس من جهة، وبوجود إرادة عند هؤلاء الناس بإقامة نسيج اجتماعي مشترك من جهة ثانية. وينجم عن ذلك، أن تحقيق الاندماج الاجتماعي يتطلب توفير الفرص لكي ينخرط الناس في هذا النسيج الاجتماعي وبناء قدراتهم ومهاراتهم اللازمة للاستفادة من هذه الفرص عن طريق التعليم والتأهيل والتدريب والإرشاد والإعلام[17].
كما أن وثيقة مؤتمر اللجنة الأوروبية والمنظمة الأوروبية للتعاون والتنمية (OECD) تؤكد في هذا الصدد وتقول[18]:” لا يتطلب التماسك الاجتماعي ذوبان الجماعات في كيان متجانس يسكنه أفراد، يخلو من الفروق وتحكمه لائحة من المعايير المتجانسة، على العكس من ذلك يتحقق التماسك الاجتماعي في مجتمع متعدد من خلال التفاعل بين جماعات مختلفة تبني في ما بينها وثاقاً من خلال الاعتراف بالاختلاف والاعتماد المتبادل على السواء. إن مفهوم الهوية المتعددة الأبعاد، والمعاني المتعددة للانتماء والارتباط، أمور تضيف غالباً الثقة بالذات وبالتالي تزيد القدرة على بناء الشبكات الاجتماعية. وهي لا تعيق الاندماج بقدر ما تضيف طبقة من الاحترام والاعتراف إلى التفاعل الاجتماعي، وتعمّق بالتالي التماسك بين الجماعات”.
فالاندماج الاجتماعي يهدف إلى تحقيق التماسك الاجتماعي وبخاصة في المجتمعات المهددة بالتفكك الاجتماعي والصراع الاجتماعي، وهذا التماسك يتخذ المساحة الاجتماعية العامة التي تتشارك فيها الجماعات وتتفاعل ضمن ما تعتبره مصلحة عامة. وهو ما ينطبق على عدد من البلدان في أوروبا وأفريقيا وآسيا ومنها لبنان. فهذا المفهوم يتخطى مفهوم التعايش إلى مفهوم العيش المشترك في دولة واحدة يسودها التفاعل والتعاون والاحترام المتبادل، ولو أن لكل جماعة شخصية خاصة بها[19]. لذلك يعتبر الباحث Besnard[20] أنه من أجل تلخيص نظرية دوركايم حول الاندماج، أن كياناً اجتماعياً ما مندمج، عندما يكون أعضاؤه:
يمتلكون وعياً مشتركاً، ويتقاسمون المشاعر والمعتقدات والممارسات نفسها.
يتفاعلون فيما بينهم.
يشعرون أن لهم هدفاً مشتركاً يسعون إليه.
هذا بالإضافة إلى ضرورة توفّر ما يسمى “بالحراك الاجتماعي” الذي يؤدي إلى “الاندماج التغييري التحويلي”، ويكون ذلك بالانتقال ما بين أجزاء المجتمع الجغرافية وما بين الوظائف والشرائح الاجتماعية دون وجود جدران وأسقف مانعة. ويُطلق عليه هذه التسمية بالاندماج التغيري التحويلي لأنه[21]:
يوفر حراكاً اجتماعياً على المجتمع ككل عبر المناطق والشرائح
يفضي إلى زيادة التماسك الاجتماعي وتغيير في البنية الاجتماعية
يفضي إلى تكوين البدائل بسبب الاختلاط والتفاعل بين مختلفين
يساهم في زيادة رأس المال الاجتماعي أو الشبكات الاجتماعية
ولكن إذا أخذنا الاختلاط كمؤشر على حال الاندماج الاجتماعي في لبنان، نلاحظ أن فرص الاختلاط بين الشباب في لبنان متعددة الاحتمالات ولكنها محدودة الحجم نظراً للتراجع الملموس الذي حصل بعد العام 1975.
من هنا، فإن المواطنة الحقّة هي مبدأ للاندماج الاجتماعي لأفراد المجتمع وجماعاته، بغض النظر عن الاختلافات والتفاوتات القائمة بينهم (الأصول التاريخية والمعتقدات الدينية والظروف الاجتماعية …). فعندما يشعر الفرد بعجز المؤسسات السياسية أو شكليتها أو ضعفها الداخلي (نظام استبدادي ومواطنة شكلية) أو الخارجي، يتولد لديهم الشعور بأن أصواتهم لا فعالية لها. وبالتالي تظهر بوادر “أزمة المواطنة” نتيجة عزوف الناخبين في مختلف الاستشارات الانتخابية. فمبدأ المواطنة، يتيح تدبير اختلاف الناس أفراداً وجماعات، ويضمن الإدماج السياسي لكل المواطنين مهما كان اختلاف أصولهم، كما يتيح لهم الحفاظ في إطار حباتهم الجماعية على التزاماتهم بمرجعياتهم التاريخية والثقافية أو الدينية الخاصة[22].
فالمواطنة لا تقتصر على الجنسية فقط، بل هي الحق في المشاركة بشكل مباشر أو غير مباشر في تدبير المجتمع. فالمواطنة لم تعد تتحدّد بمجموعة الحقوق والحريات السياسية فحسب، بل بحقوق اقتصادية واجتماعية. لذلك، لم يعد ما يحدّد المواطنين داخل المجتمع وما يوحدهم هو العيش في إطار وحدة تاريخية وسياسية فقط، وإنما الانتماء إلى تنظيم لإنتاج الثروات وتوزيعها باسم قيم مشتركة. فالواقع أن هناك علاقة أساسية بين العمل المنتج والمواطنة، حيث يحقق فيه الإنسان ذاته ويجسّد فيه حريته ويعبّر فيه عن تضامنه مع غيره من الناس، وبالتالي لا يكون التعاقد ذو الطبيعة السياسية هو فقط الذي يوحّد الشركاء وإنما المشاركة في الحياة الاقتصادية والاجتماعية أيضاً.
لذلك ونتيجةً لما تقدم، إن ما أنجزته الحركات الاجتماعية في إطار ما يسمى بالربيع العربي، هو بداية الطريق نحو بناء المجتمع الديمقراطي، فقد حرّرت الطاقات (أفراداً وجماعات) من القيود. ولكن ما تحتاجه مجتمعاتنا هو الاعتراف بحق الأفراد بأن يكونوا صانعين لحاضرهم ومستقبلهم، أي أن ما تحتاجه مجتمعاتنا العربية اليوم هو ثورة اندماجية ثانية تستكمل الثورة الأولى التي أفضت إلى تشكّل الوطن الحديث.
فالحراك الاجتماعي الجاري، يعكس طموح الأفراد والجماعات إلى الاندماج الاجتماعي الديمقراطي وإلى بناء الوطن الديمقراطي، بعد أن قامت الأنظمة العربية طوال العقود الماضية بكل شيء من أجل تدمير الرابطة الاجتماعية، والإمعان في قتلها بواسطة الفساد والزبونية والتسلط، و وتجفيف منابع المجال السياسي وعرقلة انبثاق المجتمع المدني[23].
المبحث الثاني: دور القانون الدولي والمواطنة في حماية الحقوق والحريات
إن لموضوع الحقوق والحريات العامة أهمية بالغة، تتمثل في أنها من بين الركائز التي يقوم عليها النظام الديمقراطي في العصر الحالي، حيث أنها تطوّرت بتطور الزمان والأذهان بسبب ثورة الشعوب على استبداد الحكام. فالاعتراف بالكرامة المتأصلة في جميع أعضاء الأسرة البشرية وحقوقهم الثابتة، هو أساس الحرية والسلام في العالم الذي لا يكون إلاّ بالاعتراف وضمان شيء واحد هو “الحقوق والحريات”. فإن أساس هذه الحقوق والحريات يوجد في أغلبية الديانات والفلسفات، ثم نادت به إعلانات ودساتير عدة في أنحاء العالم ودعت إلى ضمانها وإقرارها. لذلك لا بدّ من معالجة الأمور التالية:
المطلب الأول- التمييز بين الحقوق والحريات
المطلب الثاني- ضمان ممارسة هذه الحقوق والحريات العامة
المطلب الثالث- بعض أبرز الانتهاكات في مجال الحقوق والحريات العامة
المطلب الأول: التمييز بين الحقوق والحريات العامة:
إن تسمية الحقوق والحريات هي الأكثر تداولاً في الدساتير الجديدة، على أساس أنها تضمن امتيازات الأفراد في مواجهة السلطات العامة وتضمن المساواة دون التمييز أو التفرقة بين المواطنين. فقد كفل القانون الدولي لجميع الأفراد على اعتبار كونهم بشراً، وعلى اختلاف مستوياتهم المادية والثقافية، الحرية وحق العيش الكريم، فأصبحت من أكثر الحقوق مطالبةً بتحقيقها والحصول عليها كاملةً وغير منقوصة، بل شرّع الدفاع عنها بشتى الوسائل، لأنها من الحقوق الفردية التي لا يحق لأي كان أن يسلبها من أي فرد.
وقد مهّد لذلك ميثاق الأمم المتحدة عام 1945، حيث ذكر في ديباجته، “إن شعوب الأمم المتحدة تؤكد إيمانها بالحقوق الأساسية للإنسان وبكرامة الفرد”، ونصّ في مادته الأولى، على أن تعمل هيئة الأمم المتحدة على احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية للناس جميعاً بدون تمييز بسبب الجنس أو اللغة أو الدين.
وكان نتيجةً لهذه النصوص، أن أصبح من المقرّر أن المسائل المتصلة بحقوق الإنسان تخرج عن نطاق الأمور المتصلة بصميم الاختصاص الداخلي، وتخضع لإشراف دولي. فكان أيضاً أن أقرّت الجمعية العامة للأمم المتحدة في 10 ديسمبر (كانون الأول) “الإعلان العالمي لحقوق الإنسان”، الذي حدّد الحقوق الأساسية لكل شخص في العالم بغض النظر عن لونه أو جنسه أو دينه أو رأيه السياسي أو أي رأي آخر، وأصبح المعيار الدولي لحقوق الإنسان. ثم انطوت الخطوات التالية على وضع صيغ معاهدات عُرفت باسم العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، والعهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، والبروتوكول الاختياري الملحق بالعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية). إذ تبنّت الجمعية العامة بالإجماع الوثائق الثلاثة التي تمثّل في الواقع تحقيق ما يسمى “القانون الدولي لحقوق الإنسان“.
وقد يخلط البعض بين المفهومين، ويعتبرهما ضمن إطار واحد، ولكن في واقع الأمر إن لكل منهما خصائص تميّزه عن المفهوم الآخر، مع التأكيد على وجود رابط بينهما[24].
أولا- تعريف حقوق الإنسان:
فهي مجموعة من الحقوق التي يمتلكها كل فرد دون أي تمييز قائم على العرق، الدين، الجنس، اللون وأي فروقات فردية أخرى، فهي حقوق متّفق عليها عالمياً وثابتة غير قابلة للتغيير، ويكفلها القانون الدولي للجميع كونهم بشراً[25]. ويُعتبر هذا المجال واسعاً ويضمّ عدداً كبيراً من الحقوق التي لا حصر لها، وقد تُستحدث حقوق جديدة وفقاً لتتطور الحياة العصرية، مثل، الحق في المساواة أمام القانون الحق في حرية التنقل، الحق في الحصول على جنسية وغيرها الكثير.
فحقوق الإنسان لها طابع العالمية، فهي لكل بني البشر وهي ثابتة لكل إنسان سواء تمتع بها أو حُرم منها أو اعتُدي عليها، وهي غير قابلة للتجزئة.
ثانيا- تعريف الحريات العامة:
هي مجموعة من الحقوق التي يتمتع بها الفرد ويمارسها بمحض اختياره وبكامل حريته. وتوصف بأنها عامة، لأنها من حق الجميع بدون استثناء. وهناك نوعان رئيسيان من الحريات، الأولى تُصنّف تحت خانة الحريات الجماعية أو السياسية، والثانية يندرج تحت خانة الحريات المدنية أو الفردية.
وفي مضمار التمييز بين المفهومين، فإن مصطلح حقوق الإنسان يعتبر دراسة العلاقات التي تخدم الحقوق المكتسبة للفرد كونه بشراً، بينما الحريات العامة هي ما تحدّده وتفرضه الدولة بموجب نص القانون، حيث تعتبر العلاقة بين الحريات العامة والدولة شديدة الارتباط، إذ لا يمكن التطرق للحريات العامة إلاّ ضمن إطار قانوني محدد. وهو الفرق الأساسي الذي يميّز حقوق الإنسان عن الحريات العامة، حيث تنتمي الأخيرة إلى القانون الوضعي، بينما الأولى هي حقوق طبيعية يمتلكها أي إنسان كونه بشراً، وتظل موجودة حتى لو لم يتم الاعتراف بها. بينما الحريات العامة تتطلب اعترافاً وإقراراً من الدولة لها.
فمفهوم حقوق الإنسان أوسع وأشمل من مفهوم الحريات العامة التي تتضمن مجموعة محددة من الحريات التي اعترف بها القانون للأفراد وكفلها بموجب نصوص خصّصها لها تسمح لهم بالتمتع بنوع من الاستقلالية[26]، بينما حقوق الإنسان لا يقتصر على هذا المفهوم الضيق بل يتعداه ليلامس كل ما تحتاجه الطبيعة البشرية كضمان للحد الأدنى من الأمن المادي، والحماية الصحية والتعليم والثقافة، وبالتالي يعتبر مفهوماً قابلاً للتطور بالتوافق والتزامن مع تطور الجنس البشري، فهو مصطلح دولي متشابه في جميع دول العالم، بينما تتحدد الحريات العامة بإطار القانون ولا تتغيّر إلاّ بنص قانوني.
ثالثا- تقسيمات الحقوق والحريات العامة:
إن مسألة دراسة أنواع الحقوق والحريات، هي مسألة شكلية إلى حد كبير، إذ أن اختلاف التقسيمات لا يؤثر في القيمة والمضمون، وتنطلق هذه التقسيمات من منطلق تجميع الحقوق والحريات في مجموعات رئيسية لتسهيل التعرّف على مضمونها. لذلك سوف نذكر النصوص المتعلقة بالحقوق والحريات العامة التي تضمّنها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، كذلك التطرق لبعض مواد الدستور اللبناني المتعلقة بها. فكان التقسيم على الشكل التالي:
1-الحقوق والحريات المتصلة بشخصية الإنسان
2-الحقوق والحريات المتصلة بنشاط الإنسان
1-الحقوق والحريات المتصلة بشخصية الإنسان:
كحق الحياة: فقد حُرّم أي اعتداء على هذا الحق، وقد جاء في المادة الثالثة من الإعلان: “لكل فرد الحق في الحياة والحرية وفي الأمان على شخصه”.
حق الأمن: فقد نصّ في المادة الخامسة من الإعلان: “لا يجوز إخضاع أحد للتعذيب ولا للمعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المحطة بالكرامة”. وقد جاء في المادة 8 من الدستور اللبناني أن: “الحرية الشخصية مصونة وفي حمى القانون، ولا يمكن أن يُقبض على أحد أو يُسجن أو يُوقف إلاّ وفقاً لأحكام القانون”.
حرية الانتقال: أي الحق في الذهاب والإياب والسفر سواء داخل الدولة أو خارجها، حسب المادة 13 من الإعلان. أما الدستور اللبناني فقد ترك أمر تنظيمها للقوانين مثل أنظمة السير وقوانين الأمن العام.
حرمة المسكن: المادة 12 من الإعلان: “لا يجوز تعريض أحد لتدخل تعسفي في حياته الخاصة أو في شؤون أسرته أو مسكنه أو مراسلاته ولا لحملات تمسّ شرفه أو سمعته ولكل شخص الحق أن يحميه القانون من ذلك التدخل”. أما المادة 14 من الدستور اللبناني نصت: ” للمنزل حرمة ولا يسوغ لأحد الدخول إليه إلاّ في الأحوال المبنية في القانون”.
المراسلات: وتقضي بعدم جواز انتهاك أو إفشاء سرية المراسلات المتبادلة بين الأشخاص سواء كانت اتصالات هاتفية أو طرود أو رسائل.
حرية العقيدة: نصت المادة 18 من الإعلان: “لكل شخص حرية الفكر والوجدان والدين ويشمل هذا الحق في حريته في تغيير دينه أو معتقده …” أما الدستور اللبناني فنصت المادة 9: “أن حرية الاعتقاد مطلقة، والدولة تكفل حرية إقامة الشعائر الدينية تحت حمايتها، شرط أن لا يكون في ذلك إخلال في النظام العام”.
حرية التعبير عن الرأي: حق الشخص في التعبير عن أفكاره ووجهة نظره الخاصة ونشر هذه الآراء. أما الدستور اللبناني فقد كفل في المادة 13 حرية التعبير عن الرأي قولاً وكتابة وحرية الطباعة.. مثل الصحافة والتلفزيون والمسرح وسينما وإذاعة شرط أن لا ينتج عنه إساءة بحق الغير أفراد أو مجموعات.
حرية التعليم: وهو الحق في تعلّم العلوم المختلفة وما يتفرع عن ذلك من نشر العلم. وقد نصت المادة 10 من الدستور اللبناني: “التعليم حر ما لم يخل بالنظام العام أو ينافي الآداب العامة أو يتعرض لكرامة الأديان أو المذاهب”.
2- الحقوق والحريات المتصلة بنشاط الإنسان:
حق العمل: فلكل فرد الحق في العمل الشريف الذي يناسبه ويختاره بكامل حريته والذي يكفل له العيش ويجعله مطمئناً على حاضره ومستقبله.
حرية التجارة والصناعة: هي مباشرة الفرد للأنشطة التجارية والصناعية وما يتفرّع عنها من تبادل ومراسلات وإبرام عقود وعقد صفقات. لم يُضمّن الدستور اللبناني هذه الحرية بل ترك تنظيمها للقانون.
حرية الملكية: وهو حق حرية اقناء الأموال من العقارات والمنقولات وحرية التصرف بها. أما المادة 15 من الدستور اللبناني فقد نصت أن الملكية في حمى القانون فلا يجوز أن ينزع عن أحد ملكه إلا لأسباب المنفعة العامة وفي الأحوال المنصوص عليها في القانون وبعد تعويضه تعويضاً عادلاً.
المطلب الثاني: ضمانات ممارسة الحقوق والحريات العامة:
إن ضمانات ممارسة الحقوق والحريات العامة كثيرة ومتعددة، وهذه الضمانات تكون موجودة في الأنظمة الديمقراطية، ومن بين أهم هذه الضمانات:
وجود دستور للدولة: حيث يعتبر الضمانة الأولى في الدولة لحماية الحقوق والحريات ولتحقيق نظام الدولة القانونية، فالدستور هو الذي يحدّد شكل ونظام الحكم في الدولة ويبيّن وضع السلطات العامة فيها وكيفية ممارسة هذه السلطات لوظائفها وحدود اختصاص كل منها، فهو بمثابة قيد على سلطان الدولة.
الفصل بين السلطات: أي مبدأ وجوب الفصل بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، حيث يستقل كل جهاز بمهامه دون تدخل من أي سلطة أخرى في شؤونه.
الرقابة على دستورية القوانين: حيث تتم بواسطة رقابة سياسية أو رقابة قضائية، إذ تعمل كل منها على التأكد من مدى مطابقة العمل التشريعي أو التنفيذي لأحكام ونصوص الدستور، ففي حال عدم التطابق يتم إلغاء القانون الذي لم يطابق أحكام ونصوص الدستور.
الرقابة القضائية على أعمال الإدارة: وتكون من خلال الرقابة بواسطة هيئة قضائية أو ما يسمى القضاء الإداري الذي يقوم بمراقبة أعمال الإدارة ومدى مطابقتها للقانون.
خلاصة القول، إن موضوع الحقوق والحريات هو موضوع هام جداً على الساحة الدولية، وقد برزت أهميته أكثر بتطور الحياة في مختلف المجالات، حيث نادت به إعلانات كثيرة ودساتير، ودعت إلى كفالة حمايتها من خلال مبدأ المساواة. فالحقوق والحريات العامة، لا يمكن لها أن تقوم إلاّ في ظل دولة قانونية تكفل هذه الحقوق وتحميها. فهذه الحقوق والحريات العامة تعتزم على بناء مؤسسات دستورية أساسها مشاركة الأفراد في تسيير الشؤون العمومية والقدرة على تحقيق العدالة الاجتماعية والمساواة وضمان الحرية لكل فرد. وفي ظل توفّر هذه المقومات للدولة الديمقراطية التي يسودها مبدأ المساواة، تكون عندئذٍ الفرصة سانحة ومتاحة لتطبيق مبدأ المواطنة الحقّة والصحيحة التي تتمثّل بالمشاركة والعيش المشترك وتقوية روح الانتماء في بناء الوطن القادر على تحقيق الكرامة الإنسانية لمواطنيه الذين يخضعون له ويعيشون تحت كنفه.
المطلب الثالث: بعض أبرز الانتهاكات في مجال الحقوق والحريات العامة:
لقد نُصت المبادئ الأساسية لحقوق الإنسان في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وقد تمّ تعريفها على أنها مجموعة من الحقوق التي يمتلكها كل شخص في هذا العالم، بحيث يجب أن يحصل عليها الجميع دون التمييز بينهم بسبب الدين، أو الجنس، أو اللون، أو العرق، وتتصف هذه الحقوق بأنها عالمية ومكفولة للجميع. ولكن في ظلّ ما يعيشه العالم من حروب ونزاعات، فقد أصبحت حقوق الإنسان معرّضة للخطر، بحيث تزايدت الانتهاكات والتجاوزات لهذه الحقوق في جميع أنحاء العالم. فكان منها[27]:
تهجير السكان من بيوتهم، ويعتبر ذلك انتهاكاً لحق الإنسان في الحصول على السكن.
تلوّث مصادر المياه والأراضي الزراعية التي يحصل الأفراد منها على غذائهم، بالنفايات الناتجة عن المصانع التي تديرها الدولة، مما يؤدي إلى انتشار الأمراض والجراثيم، ويعتبر ذلك انتهاكاً لحق الإنسان في الصحة.
حرمان الأفراد العاملين من الحصول على الحد الأدنى من الأجور، مما يؤدي إلى تدني مستوى المعيشة، والتمييز بين العاملين على أساس اللون، أو العرق، أو الدين، أو اللغة، وعدم وجود ساعات محددة للعمل في القطاعين الخاص والحكومي، وتعتبر هذه الممارسات مخالفة لحقوق الإنسان الخاصة بقانون العمل.
حرمان الأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة من حقهم في التعليم، كمنعهم من الالتحاق بالمدارس، والجامعات، والمراكز العلمية، التي يدرس فيها الأطفال المعافين جسدياً.
انتشار المجاعات ونقص الأغذية في الكثير من مناطق العالم، ممّا يؤدى إلى موت الكثير من الأشخاص، ويعتبر ذلك انتهاكاً لحق الإنسان في الحصول على الطعام.
منع استعمال بعض الّلغات التي تتحدث بها بعض الأقليات في دولة معينة، ويعتبر ذلك انتهاكاً لحق الأفراد في المشاركة في الحياة الثقافية.
حرمان بعض الأفراد من الضمان الاجتماعي، حيث يتم إعطاء بعض الأفراد مساعدات غذائية، وذلك للتغلب على ظروف العيش القاسية، ويعتبر حرمان الأفراد منه مخالفاً لقانون حقوق الإنسان الذي يقضي بمنح الأفراد الضمان الاجتماعي.
عدم الحصول على المياه النظيفة الصالحة للشرب والاستخدام المنزلي، وذلك عن طريق قطع المياه بشكل تعسفي، مما يجعل ذلك يندرج تحت إطار انتهاك القانون الخاص بحق الإنسان في الحصول على المياه.
اتباع سياسة تكميم الأفواه، وإخفاء الحقيقة، وسجن الصحفيين أو قتلهم، وجميع هذه الممارسات تعتبر انتهاكاً لحرية التعبير والرأي.
حرمان بعض الأفراد من السفر والتنقل، ويعتبر ذلك انتهاكاً لحق الإنسان في حرية النقل والسفر.
عدم وجود ضمانات تعطي الأم العاملة إجازة أمومة، ويعتبر ذلك مخالفاً لحق حماية الأسرة.
ازدحام السجون بالكثير من المعارضين لسياسة السلطات الحاكمة في الدولة، حيث يعتبر ذلك انتهاكاً لحق الإنسان في التعبير عن رأيه بحرية.
وقد وجّهت منظمة العفو الدولية “أمنستي ” [28]، نداءً حقوقياً عقب نشرها تقريرها السنوي لعام 2015- 2016، تضمّن أرقاما غير مسبوقة لانتهاكات حقوقية حول العالم، ومن خلال تقريرها السنوي الذي يقدم تقييماً لوضع حقوق الإنسان في مختلف أنحاء العالم، حذَّرت منظمة العفو الدولية من أن الحماية الدولية لحقوق الإنسان تتعرض لخطر الانهيار جراء المصالح الذاتية قصيرة الأجل لبعض الدول، والحملات الأمنية القمعية في دول أخرى. فمن جهته، صرّح الأمين العام لمنظمة العفو الدولية، سليل شيتي: “إن حقوقكم تتعرض للخطر، فهي تُعامل باستخفاف تام من حكومات كثيرة في شتى أرجاء العالم”.وأضاف: “هناك ملايين الناس يعانون معاناة شديدة على أيدي الدول والجماعات المسلحة، وهناك حكومات لا تتورع عن تصوير حماية حقوق الإنسان كما لو كانت تشكل خطرا على الأمن أو القانون أو النظام أو القيم الوطنية”. ونشرت المنظمة صورا توضح أرقاماً غير مسبوقة لانتهاكات حقوقية حول العالم، وهو الأمر الذي دفعها إلى أن تطلق تحذيرها هذا، موضحة أن جرائم حرب أو انتهاكات أخرى تشملها “قوانين الحرب” ارتكبت في ما لا يقل عن 19 بلدا، وقامت 122 دولة، أو أكثر، بتعذيب أشخاص أو بإساءة معاملتهم، إلى جانب أن 30 دولة أو أكثر، أعادت قسرا وبصورة غير قانونية لاجئين إلى دول تعرضوا فيها للمخاطر.
وأوردت أيضا في تقريرها السنوي أن عام 2015 شهد فرض ما لا يقل عن ثلثي دول العالم قيودا تعسفية على حرية التعبير والصحافة، ووضعت 61 دولة أو أكثر سجناء رأي وراء القضبان، ولم يكن هؤلاء سوى أشخاص يمارسون ببساطة حقوقهم وحرياتهم، بحسب المنظمة الحقوقية . وأشارت إلى أن هناك ما لا يقل عن 156 مدافعا عن حقوق الإنسان فارقوا الحياة وهم محتجزون أو قتلوا، وارتكبت الجماعات المسلحة انتهاكات لحقوق الإنسان فيما لا يقل عن 36 بلدا، ونزح ما يربو على 60 مليون شخص من ديارهم على صعيد العالم بأسره. وكان العديد منهم قد نزحوا لسنوات عدة. وعقد ما لا يقل عن 55 في المئة من الدول محاكمات جائرة، لافتة إلى أنه “عندما تكون المحاكمة جائرة، فإن العدالة لا تكون قد تحققت بالنسبة للمتهم أو لضحية الجريمة أو المجتمع”.
وعلّق سليل شيتي بالقول: “إن الخطر لا يهدد حقوقكم فحسب، بل يهدد أيضا القوانين والنظم التي تحميها.. بعد ما يزيد على 70 سنة من العمل الشاق، فإن تقدم الإنسانية يبدو محفوفا بالمخاطر”.
ودعت منظمة العفو الدولية في نهاية تقريرها، حكومات العالم إلى تقديم الدعم السياسي، وتوفير التمويل الكامل للنظم القائمة المعنية بتعزيز القانون الدولي وحماية حقوق الأفراد.
لذلك، سلّطنا الضوء في دراستنا هذه على بعض الانتهاكات لحقوق الإنسان وهي موضوع الاعتقال التعسفي وانتهاك حرية الصحافة، والذي بنتيجة هذه الانتهاكات التي تطال المواطن في الدولة، تؤدي إلى الضعف في مواطنيته بسبب ضعف الثقة في الدولة حامية الحقوق والحريات وبالتالي تؤدي إلى الضعف في الانتماء والمشاركة في بناء الوطن.
أولاً- الاعتقال التعسفي:
هو عملية اعتقال أو احتجاز لأفراد في قضايا، بحيث لا يكون هناك أي دليل أو اشتباه بقيامهم بأي عمل يخالف القوانين النافذة المحلية، أو لم تكن عملية الاحتجاز جزءً من العملية القانونية. وينص الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي أقرته الأمم المتحدة على الحظر المطلق للتقييد التعسفي لحريات الأفراد في المادة التاسعة حيث نصّت: “لا يجوز القبض على أي إنسان أو حجزه أو نفيه تعسفاً”[29].
فالاعتقال المقترن بالتعسف، يتم تحديده على ضوء أحد المعايير الثلاثة، التي تمّ الاستناد إليها من اجتهاد المحكمة الأوروبية[30]:
المعيار الأول: غياب الأساس القانوني:
وتتم مراقبته عبر المبادئ الثلاثة، لا عقوبة بدون نص، لا اعتقال إلاّ بالتحقق في مطابقة طبيعته ونظامه القانونيين، ولا اعتقال إلا مع التقيّد باحترام حق المعتقل بالأمن وفي السلامة الجسدية وفي المحافظة على كرامته.
المعيار الثاني: خرق أحد الحقوق الأساسية للإنسان:
أي لا يجوز الاعتقال بسبب ممارسة شخص لأحد حقوقه، كما لا يجوز استعمال الاعتقال كوسيلة لحرمان الشخص من أحد حقوقه ومنها حرية التعبير.
المعيار الثالث: عدم توفر المحكمة العادلة: أي يجب احترام الإجراءات القانونية قبل المحاكمة واثناءها وبعدها، من ضمانات إلقاء القبض أو ضمانات الاستماع والاستنطاق وصولاً إلى محكمة محايدة ومستقلة.
وقد أكّد بيان صادر عن الأمم المتحدة[31]، يُعلن فيه عن اعتقال 780 شخص تتراوح أعمارهم بين الخامسة عشر والعشرين، نتيجة المظاهرات في أنحاء تونس، مُعرباً عن القلق بشأن العدد الكبير من الاعتقالات. ويدعو البيان إلى عدم اعتقال الناس بشكل تعسفي ومعاملة جميع المحتجزين باحترام كامل لحقوقهم. كما أشار إلى أنه يتعيّن على السلطات ضمان عدم منع من يمارسون حقوقهم في حرية والتجمع السلمي من التمتع بذلك.
هذا بالإضافة إلى تقرير دولي عن حملة من الاعتقالات التعسفية التي نُفّذت مؤخراً في السعودية في أيلول/سبتمبر 2017، بدون تهم واضحة وبدون معرفة الكثير عن أوضاع المعتقلين. حيث تمّ اعتقال ما يزيد على ستين شخصاً، كثيرون منهم نُشطاء في المجال الحقوقي أو في المجال السياسي[32].
ثانياً- انتهاك حرية الصحافة:
يمكن تعريف حرية الإعلام، هي حق الوصول إلى الأخبار التي بحوزة المؤسسات العامة. وهذه الحرية مرتبطة بالحق الأساسي في حرية التعبير كما هو منصوص عنه في المادة 19 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان 1948، والعهد الدولي بالحقوق المدنية والسياسية 1966، واتفاقية القارة الأميركية لحقوق الإنسان 1969.
إن الحرية الإعلامية وحرية الصحافة، تشكل ركناً من أركان حرية التعبير وركناً أساسياً لإقامة الدولة الديمقراطية، التي تكرّست في جميع المواثيق الدولية. أما في لبنان، فقد كرست هذه الحرية في مقدمة الدستور في الفقرة “ج” أن: “لبنان جمهورية ديمقراطية برلمانية تقوم على احترام الحريات العامة وفي طليعتها حرية الرأي والمعتقد..” وهذا ما أكدته القوانين اللبنانية صراحةً في المادة الأولى من قانون المطبوعات فنصت على أن “المطبعة والصحافة والمكتبة ودار النشر والتوزيع حرة، ولا تُقيّد هذه الحرية إلاّ في نطاق القوانين العامة وأحكام هذا القانون”.
وإذا كان هدف الصحافة هو مكافحة الفساد من خلال التطرق إليه وإظهاره للعلن، إلاّ أنه لا يمكن التعرض لكرامة الآخرين وشرفهم وحقوقهم، وخصوصاً الاعتداء على الحياة الخاصة للأشخاص التي تشكل حقاً من حقوق الإنسان المكرسة دولياً وفي الإعلان العالمي لحقوق الإنسان[33].لذلك إن ممارسة حرية الإعلام والصحافة مقيّدة بالتزامات ومسؤوليات محددة في القوانين وهي:
احترام حقوق الآخرين وكرامتهم وسمعتهم
احترام الأمن القومي والسلم الأهلي والنظام العام والصحة العامة والخلاق العامة
ويمنع بالتالي على الإعلام والصحافة نشر كل ما يدعو إلى، الحرب، العنصرية والطائفية، كل أنواع التمييز الاثني والعرقي والمذهبي، وكل ما يدعو إلى استخدام العنف والعدائية. ويرى رئيس بيت الإعلاميين العرب بتركيا “توران كيساكي”، أنه لا يمكن أن تكون حرية إعلام في بلد غير حر وغير ديمقراطي[34]. لذلك حذّر رؤساء وممثلو مؤسسات إعلامية، من التراجع الخطير لحرية الإعلام والتعبير في العالم العربي، مؤكدين أنها تسير من سيء إلى أسوأ، نتيجة الأزمات التي أفرزت ثورات مضادة ومكّنت لمستبدين وأنظمة قمعية، جعلت من دول عربية الأسوأ في انتهاك حقوق الإنسان.
فالإشكالية تجاوزت حرية الصحافة إلى حرية الأشخاص العاديين الذين لا يستطيعون التعبير عن أفكارهم في دول عربية كثيرة، على رأسها الدول الأربع (السعودية والإمارات والبحرين ومصر)[35]. فالمستبدون يستخدمون أدواتهم المادية والبشرية في قمع الصحفيين وتلفيق التهم لهم واعتقالهم، حتى أن الأمر يصل إلى الاغتيال، حيث فقدت الصحافة العام الماضي 81 صحفياً، كما يقبع المئات في السجون. كما تم التأكيد، أن مصر والسعودية والإمارات واليمن وسوريا وليبيا تحتل المراكز الأسوأ في مجال انتهاك حرية الصحفيين وحقوقهم، حيث تحتل مصر المرتبة 161 عالمياً، وهي الثانية عالمياً في اعتقال الصحفيين إذ لا يزال ستون صحفياً يقبعون في سجونها، من بينهم 12 حكم عليهم بالمؤبد. أما السعودية، فتحتل المرتبة 168 في حرية الصحافة بالعالم، إذ يقبع 25 صحفياً في سجونها بينما تحتل الإمارات المرتبة 119 ويقبع حالياً فيها أربعة صحفيين وراء القضبان[36].
لذلك ونتيجةً لما تقدم، لا بدّ من التنويه على وجود ترابط بين حقوق الإنسان وحقوق المواطنة. فهناك تأصيل لحقوق المواطنة في المواثيق الدولية لحقوق الإنسان، إذ أن هذه الأخيرة تضمنت في بعض أجزائها المواطن في وطنه والإنسان في مكان تواجده. فالنضال من أجل المواطنة هو نضال من أجل حقوق الإنسان، وحقوق المواطنة هي جزء أساسي من حقوق الإنسان داخل بلده. والنضال من أجل حقوق الإنسان هو نضال من أجل الارتقاء بالإنسان نفسه وبالنظام السياسي، فلا يوجد نظام سياسي ديمقراطي حقيقي ينتهك حقوق الإنسان، فاحترامها هو أساس الدولة الحديثة وعنوان الرقي الحضاري.
الخاتمة
ليس هناك ديمقراطية في وطن إذا كان الوطن نفسه يفتقد إلى الحرية، ويُقصد بالوطن هنا أي الدولة المستقلة، الحرة، ذات السيادة، قرارها بيدها دون تدخّل أجنبي ولا بأي شكل من الأشكال. فإن عصب العملية الديمقراطية يتمثّل بالمواطنين الذين من خلالهم تتم العملية الديمقراطية من خلال مشاركتهم باختيار النظام الذي سيحكمهم واختيار الشخص الذي يمثّل مصالحهم. فبهذه الطريقة تتم المشاركة الفعالة في إدارة الحياة العامة واتخاذ القرارات التي تشكّل بمجملها المعنى الحقيقي للديمقراطية.
فبدون الاعتراف بهيئة المواطنين وبأهمية دورهم، يكون الحديث عن الديمقراطية كما الحديث عن الأوهام والشعارات التي لا يُراد بها سوى تحقيق مصالح الفئة الحاكمة والمستفيدة التي تسعى بالدرجة الأولى أن تستمر في حكمها بدون منازع. لذا يأتي هنا دور المواطنة الذي يستمد منها المواطنين، في أي مجتمع، قوتهم ووجودهم، وهي الركيزة الأولى والمبدأ الأساسي لأي نظام يعتبر نفسه ديمقراطياً، وبدونها لا تتحقق الديمقراطية بمفهومها الحقيقي.
لذلك، بالرغم من أن المواطنة لا تحمل معناً واحداً ثابتاً متفقاً عليه، إلاّ أنها تحتوي على مبدأ أساسي وعنصر حيوي هو “الانتماء”، الذي لا يمكن أن يتحقق بدون التربية المواطنية. فهي ضرورية لتحقيق معنى ومفهوم المواطنة الحقيقية، وبدونها يبقى الفرد تابعاً ليس أكثر. فالمواطنة لا تُعرف كجوهر بقدر ما تمارس على أرض الواقع، وبالتالي لا يمكن الحديث عن مواطنة داخل مجتمع معين بدون فهم حقيقي لما تحمله هذه الكلمة من معنى وما يترتب عليها من حقوق وواجبات داعمة للديمقراطية مثل الحقوق والحريات المدنية والسياسية ومبدأ المساواة وغيرها من المبادئ التي تحمي حقوق الإنسان.
فهذه الحقوق يتعلق جزء كبير منها بالإنسان بصفته الإنسانية والبشرية، وبالتالي يخضع للمواثيق والاتفاقيات الدولية التي ترعى هذه الحقوق، فليس من الضروري أن يكون الإنسان متواجداً في الدولة التي ينتمي إليها، أو حتى يمكن أن يكون خارج المجال الدولي للدول وخارج المياه الخاصة بدولة ما، فتشمله منظومة حقوق الإنسان. لذلك يمكن القول إن الإنسان هو جزء أساسي من حقوق المواطن، في حين توجد حقوق خاصة للمواطن ينفرد بها، وهي حقوق المواطنة التي تخصّ فقط المواطن الحامل للجنسية سواء كانت هذه الأخيرة أصيلة أو مكتسبة، والتي تتمثل بالمساواة والفرص المتساوية بين جميع المواطنين للمشاركة في الحياة السياسية والعامة، هذا بالإضافة إلى الواجبات. فالحقوق تسبق الواجبات أي أنه في حال وجود واجبات بدون حقوق تتحول المواطنة إلى سخرة وعبودية وليست مواطنة.
من هنا كانت الضرورة إلى مسارعة المنظمات الدولية التابعة للأمم المتحدة إلى المناداة بالتطبيق الصحيح والفعّال للشرعة العالمية لحقوق الإنسان لعام 1948، وكافة المواثيق والاتفاقات الدولية اللاحقة لها، والتي تحمي حقوق الإنسان من الانتهاكات والتجاوزات التي يتعرض لها المواطنون من جراء أنظمتهم القمعية والمستبدة، والعمل على الحد منها من خلال غرس ثقافة قوية من الديمقراطية التي تتمثل باحترام القوانين الدولية والمحلية التي تحمي حقوق الناس، بالإضافة إلى التسليح بالمعرفة اللازمة لتحطيم جدران التحيّز والجهل، وفي نفس الوقت الدفاع عن الصالح العام.
التوصيات:
إن هذه الدراسة المقدمة حول التربية على المواطنة وحقوق الإنسان، والتي تتناول بالتحديد المواطنة ودور القانون الدولي في حماية الحقوق والحريات، تستدعي منا القيام باستخلاص بعض التوصيات التي تخدم هذا البحث، والتي سنعرضها على الشكل التالي:
ضرورة احترام مبادئ الشرعية التي تحمي الحقوق والحريات العامة المنصوص عنها دولياً ومحلياً.
ضرورة صياغة وتعديل القوانين والتشريعات الوطنية بما ينسجم مع مفهوم ومبادىء المواطنة وحقوق الإنسان.
أن يتم تفعيل واعتماد المبادئ الأساسية للمواطنة الصادرة عن المنظمات الدولية.
تنظيم ندوات ولقاءات حوارية حول المسائل التي طرحها المؤتمر، من أجل تعميم النقاش بين القوى السياسية والاجتماعية، حتى تصبح المواطنة جزءاً من برامج عملها وسياساتها.
إنشاء شبكة من المؤسسات والجمعيات وهيئات المجتمع المدني المؤمنة بالمواطنة كأساس، من أجل بناء نظام جديد يحقق حرية الإنسان وكرامته.
مطالبة الوزارات في لبنان والعالم العربي اعتماد برامج إعلامية تُعمّم ثقافة المواطنة والحقوق والواجبات التي تؤسس الدولة الديمقراطية.
(محاماه نت)