دراسات قانونية
الأحكام والأوامر القضائية وأهم سماتها (بحث قانوني)
مميزات الأحكام والأوامر القضائية في قانون المسطرة المدنية المغربي
مقدمة
إن لجوء المواطنين إلى القضاء لاستصدار الأحكام، ليس غاية في حد ذاته، بل وسيلة للإجبار المحكوم عليه كي يرد الحق لصاحبه قهرا، فلو قبل الأطراف فض خصوماتهم رضائيا لما كان لمرفق القضاء أي دور بينهم، وهذا اللجوء إلى القضاء يتوخى منه استصدار الأحكام وتنفيذها على خصومهم[1]. وهو ما جعل التشريعات الحديثة تساير العصر، ولعل تكوين قضاة ومحاكم على مستوى التراب الوطني ليس غاية في حد ذاتها. أكثر مما هي مجرد وسائل وخطوات لأجل المرور إلى المرحلة الموالية التي هي تنفيذ تلك الأحكام على أرض الواقع[2] .
وبمناسبة دراسة الأحكام القضائية يشكل قانون المسطرة المدنية – الصادر سنة 1974 المعدل والمتمم بقوانين أخرى[3] – مرتعا لهذه الأحكام حيث خصها بالفصول من 42 إلى 54 وأيضا بالفصول من 337 إلى 349 من القانون المذكور.
والأحكام لا تصدر عادة إلا بعد دراسة نقاط النزاع وتمحيصها والاطلاع على أقوال الخصوم ومستنداتهم ونتائج التحقيق، وبعد تبادل الآراء بين القضاة والرجوع لما اعتمد عليه الخصوم في دفاعاتهم من نصوص وآراء فقهية، وهذه المرحلة التي تجتازها القضية بعد إقفال باب المرافعة تسمى فترة المداولة .
ولكي يضمن المشرع عدم تحيز القضاة إلى طرف معين عمد لوجوب تسبيب الأحكام بل إشترط أن تكون هناك علاقة منطقية وثيقة بين منطوق الحكم وأسبابه حتى يعتبر منطوق الحكم مبنيا على أسباب متناسقة فيما بينها وغير متناقضة .
وانطلاقا مما سبق يتبين أن نظرية الأحكام القضائية تثير مجموعة من الإشكاليات سواء ما ارتبط بتصنيفها أو تقسيمها أو ما تعلق بالمراحل التي تمر منها قبل صدورها وكذا الآثار المترتبة عليها ومن تم نتساءل ما هي مختلف تقسيمات الأحكام ؟ وما هي عناصرها والآثار المترتبة عنها ؟
للإجابة عن كل ما سبق نقترح التصميم التالي :
المبحث الأول : ماهية الأحكام القضائية وتصنيفاتها
المبحث الثاني : عناصر الأحكام وآثارها
المبحث الأول : ماهية الأحكام القضائية وتصنيفاتها
مما لا شك فيه أن الغاية التي ترومها الدعوى المدنية هي إيجاد الحلول الملائمة لصعوبة تطبيق القانون من قبل القضاء، وبالتالي تزويد الحقوق بالحماية اللازمة[4]، ولن يتأتى ذلك إلا عبر مؤسسة الأحكام القضائية )المطلب الأول( .
كما يمكن إخضاع المقررات القضائية الصادرة عن المحاكم إلى مجموعة كبيرة من التصنيفات، ويبقى أهم صنفين هما اللذان يميزان مابين المقررات القضائية بالاستناد إلى قابليتهم للتنفيذ و على نوعية المسائل التي تم البت فيها[5] )المطلب الثاني(.
المطلب الأول : مفهوم الأحكام القضائية وتميزها عن بعض النظم المشابهة لها
سنحاول في هذا المطلب إعطاء تعريفات متنوعة للأحكام القضائية في )الفقرة الأولى( على أن نميز هذه الأحكام عن الأوامر القضائية في فقرة ثانية .
الفقرة الأولى: مفهوم الأحكام القضائية:
الأحكام القضائية هي التي تختتم بها الخصومة القضائية بعد تقديم الأطراف لطلباتهم وبعد الإجراءات التي يتبعها القاضي .وقد عرفها البعض بكونها كل ما يصدر عن المحكمة للبحث نهائيا في النزاع ،أو الأمر في اتخاذ إجراء يرمي إلى تهيئة البت النهائي[6] .
ومن ثم يمكن تعريف الأحكام في معناها الواسع بالقرارات التي تصدر عن المحاكم ،أما في معناها الخاص فهي الصادرة عن المحكمة مشكلة تشكيلا صحيحا ومختصة طبقا للقانون في خصومة رفعت إليها سواء كان صادرا في موضوع الخصومة أو في شق منه أو مسألة متفرعة عنها .
وعليه ينبغي توافر ثلاثة شروط أساسية ليتمتع القرار القضائي بصفة الحكم، وهذه الشروط هي :
– أن يكون القرار قد صدر في خصومة قضائية رفعت عنها دعوى بين خصمين أو أكثر.
– أن يصدر هذا القرار عن محكمة مختصة ومشكلة تشكيلا صحيحا وفقا لقواعد المسطرة.
– أن يصدر القرار مكتوبا .
فإذا انتفى شرط من هذه الشروط ،أصبح القرار القضائي بلا معنى ،فالقرار الصادر عن هيئة غير قضائية لا يعد حكما ،ولو كان من بين أعضاء هذه الهيئة قضاة محترفون إلا إذا كان صادرا في إطار مؤسسة التحكيم التي أقرها المشرع المغربي طبقا للفصول من 306 إلى 327 من قانون المسطرة المدنية[7].
الفقرة الثانية : تمييز الأحكام القضائية عن الأوامر القضائية الأخرى
الأصل أن القاضي يصدر أحكاما لا تقع تحت حصر بما له من سلطة قضائية تتيح له منح الحماية القضائية الموضوعية أو الوقتية للمراكز الموضوعية في الشكل المقرر للأحكام .،أما استعمال سلطته الولائية فهو وارد على سبيل الحصر بهدف إزالة عقبات قانونية وضعها المشرع أمام الإرادة الفردية التي لا يستطيع اجتيازها إلا إذا حصلت على إذن قضائي في صورة ترخيص صادر بناء على أمر من القاضي في شكل مكتوب على عريضة يقدمها صاحب المصلحة لطلب الإذن من القاضي بإتخاذ عمل أو القيام بإجراء لصالحه[8].
وعليه فإنه ليس كل قرار تصدره الهيئة القضائية يعتبر حكما بالمعنى المقصود بل هناك فارق بين الأوامر والقرارات التي تتخذها المحاكم للفصل في المنازعات وبين تلك التي تعمد إليها للمحافظة على حق أو لحماية حقوق فئة معينة من الأفراد أو للاتخاذ إجراءات تمهيدية للفصل في المنازعة دون التطرق لموضوعها أو إعطاء الخصوم فرصة الدفاع فيها،ويقدم بعض الفقهاء[9] معيارين أساسين لتمييز بين الأحكام والأوامر الولائية ،معيار شكلي يعتمد شكل وظيفة الإجراءات التي اتبعت للإصدار الحكم أو القرار ،ومعيار آخر موضوعي يستند إلى فكرة وجود نزاع أو عدم وجوده .
وتبرز أهمية التفرقة بين الحكم القضائي والعمل الولائي في المظاهر التالية :
1- الأصل أن أعمال القضاء تدخل كلها في وظيفة القاضي ،أما الأعمال الولائية فهي على العكس من ذلك إذ لا يختص بها إلا على وجه الاستثناء وبنص خاص .
2- الأوامر الولائية تثبت لها فقط القوة التنفيذية ولا تكتسب حجية الأمر المقضي به ،لأن هذه الحجية لا تتمتع بها إلا الأحكام القضائية بمعناها القانوني .
3- إمكانية القاضي الرجوع في الأمر الولائي الذي أصدره ،وله أن يعدله حسب مقتضيات الأحوال ،عكس الحكم الذي يصدر في الخصومة بحيث يصبح مجردا من إمكانية تعديله أوإلغائه، إذ أن هذه السلطة تنتقل إلى المحكمة التي يطعن أمامها في الحكم.
4- أن الأوامر الولائية لا تقبل الطعن سواء العادية أو الغير العادية ،وإذا كان فليس بنفس الشكل والمدة و الإجراءات التي نص عليها المشرع المغربي بالنسبة للأحكام القضائية[10] .
إضافة إلى أن القاضي وهو يمارس عمله الولائي ،لا يتقيد باختصاصه المكاني ولا بإتباع إجراءات التقاضي العادية ،من إستدعاء الأطراف وتبيلغ المذكرات ومقارنة حجج الخصوم ،وإنما يكتفي بإصدار أوامر وقتية بناء على ما قدمه له الطالب من حجج بعد التأكد من جدوى الإجراء المطلوب ،وعدم تأثيره على مركز الخصوم ،وهذه الأوامر الولائية كثيرة ومتعددة ومتجددة ،كالأمر بإجراء معاينة ،أو الاستماع إلى شاهد[11] .
المطلب الثاني : تصنيفات الأحكام القضائية
إن الأحكام القضائية ليست واحدة وإنما هناك عدة أنواع،سواء من حيث صدورها بحضور أو غياب الأطراف ونميز هنا بين الأحكام الحضورية والأحكام الغيابية، و من حيث قابليتها لطعن سواء كانت أحكاما ابتدائية أو أحكام الإنتهائية )الفقرة الأولى ( أوإمكانية الرجوع في المسائل التي فصلت فيها إلى أحكام قطعية وأحكام غير قطعية )الفقرة الثانية(
الفقرة الأولى : الأحكام الحضورية و الغيابية والأحكام الابتدائية والإنتهائية
سنتطرق أولا للأحكام الحضورية و الغيابية على أن نستتبعها بالإحكام الابتدائية و الإنتهائية.
أولا : الأحكام الحضورية و الأحكام الغيابية:
يكون الحكم حضوريا أو غيابيا حسب حضور أو غياب الخصوم ،ففي الحالة الاولى تعني حضور الخصوم حضورا ماديا وشخصيا أو بواسطة وكلائهم أثناء الجلسة ،ومتى حضر هؤلاء عند المناداة عليهم في جلسة صدور الحكم حضوريا في مواجهتهم ،ويترتب عن ذلك إمكانية المتضرر الطعن بالاستئناف في الحكم الصادر إلا إذا تعلق الأمر بالأحكام الغير القابلة للاستئناف .
أما في الحالة الثانية فالحضور لا يستوجب حضور الأطراف شخصيا إلى الجلسة ،وإنما يكفي أن يتقدم المدعى عليه أو نائبه بالجواب الكتابي عما جاء في المقال الذي رفعه المدعي للمحكمة ،أو أن يبعث إلى كتابة الضبط في الجلسة المحددة للنظر في الدعوى أو قبل الأجل الذي يحدده القاضي المقرر ،إذا أجرى بحثا في القضية سواء حضر المدعى عليه أو نائبه في الجلسة أم لا .
ويترتب على ما سبق أن الحكم الصادر في هذه الحالة يكتسي الصبغة الحضورية ،أما إذا لم يحضر المدعى عليه أو وكيله أو في حالة لم يقدم رده على إدعاءات المدعي فإن الحكم يصدر في حقه غيابيا ويجوز الطعن فيه بالتعرض شرط أن يكون قابلا للاستئناف.
ثانيا : الأحكام الابتدائية و الأحكام الإنتهائية :
إن الأحكام الابتدائية هي التي تصدر عن المحاكم الابتدائية سواء العادية أو الإدارية أوالتجارية، وهي الأحكام القابلة للطعن بالاستئناف أي الأحكام الصادرة في قضية يكون المطلب فيها غير محدد كالقيام بعمل أو الامتناع عن عمل أو يكون طلب أداء مبلغ يفوق 20.000 درهم حسب التعديل الذي عرفه الفصل 19 من قانون المسطرة المدنية بموجب القانون رقم [12]10.35.
أما الأحكام الانتهائية فهي التي لا تقبل الطعن بالاستئناف ،والهدف من ذلك التخفيف على محاكم الدرجة الثانية ،لكن وحفاظا على حق المقاضين سمح المشرع المغربي بالطعن في الأحكام الإنتهائية عن طريق النقض وإن كانت في الواقع العملي قلما يطعن فيها بالنقض .
الفقرة الثانية : الأحكام الحائزة لقوة الشيء المقضي به والأحكام النهائية والأحكام القطعية وغير القطعية
قبل أن نفصل في الأحكام القطعية و غير القطعية يجدر بنا أولا الحديث عن الأحكام الحائزة على قوة الشيء المقضي به و الأحكام النهائية .
أولا : الأحكام الحائزة على قوة الشيء المقضي به والأحكام النهائية:
الأحكام الحائزة على قوة الشيء المقضي به هي التي لا تقبل طرق الطعن العادية من تعرض واستئناف، وإن كانت تقبل الطعن بالطرق غير العادية كإعادة النظر والتعرض الخارج عن الخصومة والنقض .
أما الأحكام النهائية أو الباتة فهي لا تقبل اي طريق من طرق الطعن سواء العادية أو الغير العادية ،ويكون الحكم نهائيا في الحالات التالية :
1- إذا صدر عن المحكمة الابتدائية وأهمل المحكوم عليه الطعن فيه سواء بالاستئناف إذا كان قابلا له ،أو بالتعرض إذا كان غيابيا ،أو بطرق الطعن غير العادية ففي هذه الحالة يصبح الحكم المذكور نهائيا وفاصلا في الموضوع لأن سكوت المحكوم عليه عن الطعن يحمل على قبوله ورضاه به .
2- إذا صدر حكم عن محكمة الاستئناف ،ولم يطعن فيه المحكوم عليه ،سواء بالتعرض إذا كان غيابيا ،أو بطرق الطعن غير العادية خاصة النقض .ففي هذه الحالة وبعد إنصرام الآجال القانونية المحددة لمباشرة الطعون المسموح بها دون تحريك ذي المصلحة لأي ساكن ينتقل الحكم –أو القرار- المذكور إلى حكم نهائي وبات لا يقبل أي طريق من طرق الطعن.
3- إذا بلغ الحكم مرحلة التقاضي أمام محكمة النقض ،ففي هذه الحالة يصبح الحكم نهائيا إذا صدر فيه قرار نهائي عن محكمة النقض ما لم يكن قابلا لإعادة النظر ،ويستوي أن يكون قرار المحكمة مؤيدا أو ناقصا للحكم المطعون فيه[13] .
ثانيا : الأحكام القطعية والأحكام غير القطعية:
الحكم القطعي هو الحكم الذي يحسم النزاع في الخصومة ولو كان غيابيا قابلا لتعرض أو إبتدائيا قابلا للإستئناف ،وليس من الضروري حتى يعتبر الحكم قطعيا أن يفصل في النزاع بمجمله ،بل يكفي أن يضع حدا للنزاع في بعض أجزاء الدعوى أو الطلبات المقدمة فيها أو الدفوع أو المسائل الفرعية ولو كانت النقط الأخرى لم يفصل فيها ،كالحكم الذي يصدر بعدم قبول الدعوى لانتفاء الصفة أو الأهلية أو المصلحة ،أو الذي يصدر بعدم قبولها لتحقق هذه الشروط وكذا الحكم الذي يصدر في الدفع بعدم الاختصاص سواء بقبوله أو برفضه.[14]
أما الأحكام غير القطعية فهي التي لا تحسم النزاع وإنما تتعلق بسير الخصومة كقرار تأجيل الدعوى أو بالإثبات كالحكم بندب خبير ،أو بطلب وقتي كتعيين حارس ،ولتمييز بين الأحكام القطعية وغير القطعية أهمية قصوى فالصنف الأول يتميز بحجية كاملة إذ لا يجوز للمحكمة أن تعدل عنها كما لا يسوغ عرض النزاع الذي حكمت فيه من جديد على المحكمة أخرى ،إلا إذا كانت هذه المحكمة هي المختصة بالنظر في الطعن الذي قدم ضد الحكم القطعي الصادر عن المحكمة الأولى ،أما الصنف الثاني “الأحكام غير القطعية ” فليست إلا أحكام وقتية وتحفظية لا تحسم في النزاع ولا في نقطة فيه ،هذا يعني أنه بإمكان المحكمة العدول عنها وعدم تنفيذها ،فضلا عن إمكانية عرضها من جديد على المحكمة أخرى للنظر فيها[15] .
ومن هذا يمكن القول انه رغم تعدد أنواع الأحكام القضائية لا يؤثر فيما ينبغي توافره من عناصر وبيانات من الأحكام إذ يستوجب المشرع احترام بعض الشكليات تحت طائلة البطلان وهو ما سنتطرق له في المبحث الموالي .
المبحث الثاني: عناصر الأحكام القضائية وآثارها:
لا يمكن للمقررات القضائية أن تكون صحيحة إلا بتوفرها على عدة عناصر )المطلب الأول( لكي تنتج آثارها إلا إذا صدرت طبقا للقانون، وتقتضي هذه المطابقة الاستجابة لكافة الشكليات والشروط المنصوص عليها في قانون المسطرة المدنية، ويشكل تخلف أحد هذه الشروط أو خرق إحدى هذه الشكليات المنصوص عليها سببا من أسباب الطعن التي يمكن إثارتها من خلال مختلف طرق الطعن التي تتم ممارستها في مواجهة المقرر المعيب [16])المطلب الثاني(.
المطلب الأول: العناصر المكونة للأحكام
من خلال هذا المطلب سنسلط الضوء على أهم العناصر التي تشكل الأحكام وأهمها الوقائع(الفقرة الأولى) ثم التعليل ومنطوق الحكم (الفقرة الثانية)
الفقرة الأولى: السمات الأساسية للوقائع:
تعتبر الوقائع سردا وصفيا للنزاع المعروض على المحكمة مع ذكر الأدلة الواقعية والحجج القانونية وما حصل فيها من إجراءات في جلسة المناقشات والمرافعات وتكون هذه الوقائع متماشية مع أسباب الحكم و منطوقه وتؤثر على نتائج الدعوى.
وتكمن أهمية الوقائع في أنها تبين المراحل التي مرت منها المنازعة، وتعطي فكرة عن مدى إلتزام القاضي في حكمه بحدود طلبات الأطراف وبالحياد في توجيه الإجراءات وبإحترام قواعد الإثبات، وقد نص الفصل 50 من قانون المسطرة المدنية إلى بعض ما يدخل في الوقائع[17] .
و أيضا الفصل 345 من نفس القانون بالنسبة لقرارات المحاكم الإستئنافية[18] .
كما أن مهمة إستخلاص الوقائع موكولة للقاضي، بحيث لابد أن يكون ذو كفاءة عالية ومتمتع بذكاء وفطنة كبيرين، والقاعدة العامة تقضي بأن هذه المهمة لا يخضع فيها القاضي لرقابة محكمة النقض، لكن هناك استثناءات فيما يتعلق بإعمال قواعد الإثبات أي كل من:
قواعد الاثبات الشكلية والاجرائية
قواعد الاثبات الموضوعية
سير اجراءات الدعوى ومراقبة الأوراق الثابتة فيها تلك الاجراءات
التقدير السليم لأدلة الدعوى[19].
الفقرة الثانية: التعليل ومنطوق الحكم
يعتبر التعليل مرحلة تالية للإشارة إلى وقائع الدعوى وحجج الأطراف، وبمقتضاه يمكن التحقق من سلامة العملية للذهنية التي يقوم بها القاضي وهو يطبق القانون على النازلة، كما لو رفض ادعاءات الأطراف أو قبلها، وكما إذا لم يتضمن الحكم بذاته الأسباب ولكنه يحيل على الحكم الابتدائي، وكما هو واضح في هذه الحالة تتعلق بتأييد القرار الاستئنافي كليا للحكم الصادر عن محكمة أول درجة، على أن محاكم الاستئناف تعمد إلى إعادة نفس العلل والأسباب التي تضمنتها الأحكام الابتدائية وليس ذلم عيبا من عيوب التعليل في نظر محكمة النقض، وبالتالي لا يمكن أن تكون القرارات الاستئنافية التي تبنن تعليل المحاكم للابتدائية محل طعن[20].
وتجدر الإشارة إلى مسألة التكييف– أي تكييف الحكم – التي تعتبر من أصعب أعمال القاضي لأنه يقتضي منه جهدا منطقيا في نفس الوقت وهو الذي يحدد معالم تطبيق القاعدة القانونية ويترجم تجريدها إلى تشخيص واقعي.
والقاعدة أن القاضي لا يتقيد برأي للخصوم في التكييف لأنه هو المكلف بأعمال القانون وتطبيقه تطبيقا صحيحا في حدود الوقائع الثابتة وحدود طلبات الأطراف دون زيادة أونقصان[21].
المطلب الثاني: الآثار المترتبة عن الأحكام
تترتب عن صدور الأحكام آثار هامة تتمثل في خروج النزاع عن ولاية المحكمة التي أصدرت الحكم، وفي تقرير الحق وتقويته، على أن أهم آثار الأحكام هو صيرورتها حجة بما نطقت به، أو ما يعبر عنه بقاعدة حجية الأمر المقضي به وهو ما سنتناوله تباعا:
الفقرة الأولى: خروج النزاع من ولاية المحكمة وتقوية وتقرير الحقوق
يترتب عن صدور الحكم إجرائيا أو موضوعيا استنفاذ المحكمة سلطتها بالنسبة للقضية فلا يجوز لها العدول عنه ولا تعديله ولو تبين لها عدم صحة ما فصلت به ولذلك لا يجوز للمحكمة التي قضت بعدم اختصاصها أن تحكم بعد ذلك بإختصاصها، كما لا يجوز للمحكمة أن تقضي بشمول حكمها بالنفاذ المعجل بعد أن سبق صدوره غير مشمول ولهذه القاعدة عدة استثتاءات[22].
وباعتبار الحكم مقرر للحق محل النزاع أنه لا يخلق حقوقا جديدة من أمثلة ذلك؛ تقرير حق المديونية وحق الملكية ولكن لا يكفي الحكم الذي يصدر بتقرير الحق وإنما يقويه أيضا، وذلك بإنشاء بعض المزايا للخصم للذي صدر الحكم لصالحه وأهمها:
حسم النزاع في الحق المتنازع فيه ومنع المحكوم عليه من تجديده في المستقبل.
نشوء سند رسمي وهو نسخة الحكم القضائي يحل محل السند الذي كان أساسا للإدعاء ويخول له حق تنفيذه تنفيذا جبريا فور صدوره إذا كان معجل النفاذ وبعد استنفاذ طرق الطعن العادية أو فوات أجلها.
تصبح المدة المسقطة للحق 30 سنة ولو كان من الحقوق التي تنقضي بمدد التقادم القصير.
يجوز لكل دائن بيده حكم واجب التنفيذ صادر في أصل الدعوى يلزم المدين بشيء يحصل على حق تخصيص بعقارات مدينه ضمانا لأصل الدين والمصاريف، إضافة إلى ذلك توجد أحكام منشئة لحالة جديدة بم تكن موجودة قبل صدوره مثل الحكم بالتطليق.[23]
الفقرة الثانية: حجية الشيء المقضي به:
يترتب عن صدور الحكم اكتسابه حجية الشيء المقضي به والتي تعد قرينة قانونية مفاذها أن الحكم يتضمن قضاء عادلا وصحيحا، بمعنى أن الحكم قد صدر صحيحا من حيث الشكل وعلى صواب من حيث الموضوع. وبلا يحوز الحكم حجية الشيء المقضي به إلا إذا توافرت فيه ثلاث عناصر نصت عليها الفصول من 451 إلى 453 من قانون الالتزامات والعقود، وإن كان من الواجب أن تكون هذه العناصر في قانون المسطرة المدنية يإعتبارها آثارا من آثار الأحكام.
ونجد الفصل 451 من قانون الالتزامات والعقود يقرر: ” قوة الشيء المقضي به لا تثبت إلا لمنطوق الحكم، ولا تقوم إلا بالنسبة إلى ما جاء فيه، أو ما يعتبر نتيجة حتمية ومباشرة له ويلزم:
أن يكون الشيء المطلوب هو نفس ما سبق طلبه.
أن تؤسس للدعوى على نفس السبب .
أن تكون الدعوى قائمة بين الخصوم ومرفوعة منهم وعليهم بنفس الصفة ويعتبر في حكم الخصوم الذين كانوا أطرافا في الدعوى وورثتهم وخلفائهم حيث يباشرون حقوق من انتقلت إليهم باستثناء خالة التدليس والتواطؤ”
وعليه سنعمل على دراسة هذه الحالات، كل على حدة:
أن يكون الشيء المطلوب هو نفس ما سبق طلبه أي وحدة المحل: وهو ما ترمي إليه الدعوى ويشترط لكي تحدد محل الدعوى أن تتحد العناصر الثلاث التالية:
نوع القرار الذي يطلب من القاضي .
نوع الحق أو المركز القانوني المطلوب حمايته.
ذاتية الشيء محل الحق المطلوب حمايته.
أن تؤسس الدعوى على نفس السبب أي وحدة السبب: يتمثل للسبب في الأساس الواقعي والقانوني الذي تأسس عليه الدعوى فإذا رفع شخص دعوى بطلان عقد على أساس الغلط أو التدليس ورفضت دعواه، فليس هناك ما يمنعه من أن يجدد دعواه بالبطلان على أساس نقص الأهلية أو الاستغلال، لكن يجب التفرقة بين سبب الدعوى وأدلتها فإذا استندت المدعي على ورقة عرفية لإثبات ما يستوجب تقديم ورقة رسمية وخسر دعواه فلا يستطيع رفع نفس الدعوى إستنادا على أدلة أخرى مهما كانت قوتها، والحجية تثبت للحكم بمجرد صدوره أو غيره دون الاخلال بحق الطعن فيه بالطرق المقررة قانونا وتشمل المنطوق والأسباب المكملة له والمرتبطة به ارتباطا وثيقا ولازما، لكن لا ترد الحجية على كل ما يتضمنه منطوق الحكم من اعتبارات.إنما يقتصر على ما يكون منها فاصلا في الدعوى فالحكم القضائي بالنفقة لإبن ليس له حجية في النسب ولو وصف المحكوم له كإبن في المنطوق طالما أن موضوع النسب لم يكن محل طلب أو دفع من الخصوم.
أن تكون الدعوى قائمة بين الخصوم ومرفوعة منهم وعليهم بنفس الصفة، أي وحدة الأطراف: إن حجية الشيء المقضي به لا تتعدى الأطراف كم هو الشأن بالتسبة للعقد الذي لا تسري آثاره سوى بين أطرافه ولا تمتد إلى الغير، والعبرة بالصفة في الدعوى لا بالصفة في التقاضي، فيعد طرفا في الدعوى كل من شارك في الخصومة باعتباره مدعيا أو مدعى عليه أو متدخلا أو مدخلا، سواء قام بذلم بنفسه أو عن طريق ممثل، فإذا قام الشخص برفع دعوى باعتباره ممثلا وصدر الحكم فيها يجوز له تجديد نفس الدعوى بصفته أصيلا والعكس ممكن، حيث يجوز لمن رفضت دعواه أن يكون وكيلا عن شخص آخر في رفع ومباشرة نفس الدعوى ولا يعد غيرا لخلف عام للخصوم كالورثة والموصى لهم وخلفهم الخاص بالنسبة للأحكام التي تتعلق بالأموال التي اكتسبوا عليها حقوق من صاحبها الأصلي.
خاتمة:
صفوة القول، إن السلطة القضائية بمهمة تطبيق القوانين والفصل في المنازعات التي تعرض عليها من قبل الأطراف، ولن يتأتى ذلك إلا بواسطة الأحكام التي تصدرها وتكون لها قوة خاصة وأبرزها قابليتها للتنفيذ الجبري، وذلك باستعمال القوة عند الاقتضاء، ثم حيلولتها دون عرض النزاع المحكوم فيه مرة أخرى أمام القضاء بين نفس الخصوم وهو ما يسمى بحجية الأحكام أو حجية الشيء المقضي به.
لكن من الصعب أن تطمئن جميع النفوس إلى الحكم القضائي الصادر في نزاع ما باعتبار أن للخصم دائما شعور بكونه لم تقع الاستجابة لكافة طلباته في الدعوى، مما يزرع رغبة الطعن في ذلك الحكم وبالتالي يكون الطعن دعامة أخرى من دعامات تقويم الأحكام وإعادة النظر فيها.
(محاماه نت)