دراسات قانونية

نطاق التجريم في قانون شركات المساهمة المغربي (بحث قانوني)

نطاق تجريم المادة 405 من قانون شركات المساهمة المغربي(دراسة مقارنة)
محمد حفو
باحث في قوانين التجارة والأعمال
بعدما أصبح تدخل المشرع الجنائي في مجال تنظيم الشركات أمرا واقعيا في جل التشريعات الحديثة، لكون ميدان المال والأعمال مجالا معرضا لما يسمى بجرائم الأعمال، وهي جرائم ترتكب من طرف أشخاص يبحثون عن الغنى السريع اعتمادا على وضعيات قانونية مغرية، فقد ظهر القانون الجنائي للشركات والذي يهتم بالمخالفات والجنح التي ترتكب من بداية حياة الشركة إلى نهايتها.

وحرصا من المشرع على تشجيع الاستثمار وحماية الدائنين على اختلاف أصنافهم، جاء القانون رقم 17.95 المتعلق بشركات المساهمة[1]، لتنظيم فئة من الشركات كانت في أمس الحاجة إلى تنظيم محكم من كل الجوانب، فعمل على تحديد التصرفات أو التجاوزات التي تشكل خرقا للقواعد التجارية وقوانين الشركات، المرتبطة سواء بعرقلة التأسيس، أو بعرقلة التسيير والمراقبة والحل،وذلك في القسم الرابع عشر المعنون بالعقوبات الزجرية.

ونظرا لأهمية الرقابة في حياة الشركات، فقد خصص لها المشرع المغربي القسم السادس في المواد من 155 إلى 181،بالإضافة للمواد من 403 إلى 406 في الباب السادس من القسم الرابع عشر، وهو ما مجموعه 27 مادة، منها خمس مواد طرأت عليها تعديلات إما بتغييرها أو تتميمها بموجب القانون رقم [2]05.20، القاضي بتغيير وتتميم القانون رقم 17.95 المتعلق بشركات المساهمة،ويتعلق الأمر بالمواد 164، 169، 179 و403.

وقد أولى المشرع عناية فائقة بمراقبي الحسابات، والذين يجب أن تتوافر لهم جميع الإمكانيات اللازمة لمباشرة أعمال الرقابة دون عوائق، مع ضرورة تحصينهم من المؤشرات والمغريات المادية والنفسية التي يمكن أن تؤثر على حيادهم المنشود، حتى يستطيعون أداء مهامهم على الوجه الذي يتوخاه المشرع، وحتى لا يؤدي ذلك إلى قيام مسؤوليتهم الجنائية، فيتعرضوا لعدة عقوبات، لعل أبرزها على الواقع العملي ما جسدته المادة 405 من قانون شركات المساهمة التي ضمت الجرائم النتعلقة بالإعلام، أي كل من تقديم معلومات كاذبة أو تأكيدها، عدم الإشعار بالأفعال الإجرامية وإفشاء السر المهني، وإن أحالت بدورها على المقتضيات الوارة في مجموعة القانون الجنائي…ومن هنا تظهر أهمية الموضوع.

والإشكال المطروح: إلى أي حد يترجم التدخل الجنائي للمشرع في المادة 405 من شركات المساهمة؟ وهل كان المشرع صائبا عندما أحال على المقتضيات العامة الواردة في مجموعة القانون الجنائي؟

للإجابة ارتأينا تقسيم الموضوع إلى مطلبين نخصص الأول للجنح الواردة في الفقرة الأولى من المادة 405 سالفة الذكر( أي كل من جنحة تقديم معلومات كاذبة حول الشركة أو تأكديها وجنحةعدم الإشعار بالأفعال الإجرامية) في حين نتناول في (المطلب الثاني) الجنحة الواردة في الفقرة الثانية من المادة المذكورةوالتي تحيلنا على الفصل 446 من مجموعة القانون الجنائي، المتعلق بالسر المهني، وذلك وفق التصميم الآتي:

المطلب الأول: تقديم معلومات كاذبة وعدم الإشعار بالجرائم
المطلب الثاني: جريمة إفشاء السر المهني

المطلب الأول: تقديم معلومات كاذبة وعدم الإشعار بالجرائم
يضطلع مراقب الحسابات بعدة مهام، حيث يتحقق من القيم والدفاتر والوثائق المحاسبية وكذا من صحة المعلومات الواردة في الوثائق، كما يقوم بمراقبة مدى تطابق محاسبة الشركة للقواعد المحاسبية وكذا المداولات المتعلقة بتعديل النظام الأساسي،بالإضافة إلى مهمة إعلام وإخبار أجهزة الإدارة[3]، كلها مهام يلتزم بها مراقب الحسابات تحت طائلة المسؤولية الجنائية في حالة إخلاله بهذه الالتزامات طبقا للمقتضيات الزجرية الواردة في قانون شركات المساهمة،أوفي نصوص أخرى…كما هو الشأن إذا تعلق الأمر بجنحة تقديم معلومات كاذبة أو تأكيدها( الفقرة الأولى ) أو جنحة عدم الإشعار بالأفعال الإجرامية ( الفقرة الثانية)
الفقرة الأولى: تقديم معلومات كاذبة حول الشركة أو تأكديدها
تنبهت مختلف التشريعات[4]لحساسية المعلومات التي تقدم أو تأكد من طرف مراقب الحسابات وأثرها البالغ على وضعية الشركة،بحيث طوقت هذه الأخيرة بحماية جنائية.وكما هو الحال بالنسبة للمشرع المغربي الذي نص على هذا المقتضى في المادة 405 من قانون شركات المساهمة “يعاقب بالحبس من ستة أشهر إلى سنتين وبغرامة من 10.000 إلى 100.000 درهم ، أو بإحدى هاتين العقوبتين فقط، كل مراقب للحسابات قدم أو أكد، عن قصد، إما باسمه الخاص أو بصفته شريكا في شركة لمراقبة الحسابات، معلومات كاذبة بشأن وضعية الشركة”

وانطلاقا من نص المادة أعلاه يتبين أن لدراسة هذه الجنحة، ينبغي التطرق لركنيها المادي، أولا والمعنوي، ثانيا وفق الشكل الآتي:

أولا : الركن المادي:

يستجمع الركن المادي الخصائص الآتية:تقديم أو تأكيد معلومات؛أن تكون هذه المعلومات كاذبة؛أن تتعلق هذه المعلومات بوضعية الشركة.

1_ تقديم أو تأكيد معلومات:

يظهر أن الجريمة تكون في صورتين، الأولى في تقديم مراقب الحسابات (قدم) معلومات في وثائق مقترحة من طرفه، والثانية في تأكيد (أكد) تلك المعلومات التي تم تزويده بها من طرف الشركة، على سبيل المثال في تقرير يتضمن ميزانية غير صحيحة، لأن مراقب الحسابات يستطيع أن يقدم ملاحظاته حول صدق القوائم التركيبية مع المعلومات الواردة في تقرير السنة المالية[5].وقد يستخدم مراقب الحسابات أسلوبا ماهرا يفيد تهربه من إعطاء رأي إيجابي حول انتظام ومصداقية الحسابات ،حيث ينعكس تقريره في النهاية رفضا ضمنيا للتصديق على الحسابات وليس موافقة ضمنية عليها وبالتالي لا يمكن محاسبته بموجب المادة 405 من شركات المساهمة[6]، زد على ذلك أن المشرع المغربي لم يحدد الطريقة التي تعطى بها هذه المعلومات فهل يقتصر الأمر على المعلومات المقدمة كتابة دون غيرها؟

يجيب أغلب الباحثين[7] ، على أنه من الناحية العملية ، يستحسن أن يقوم مراقب الحسابات بتقديم تقاريره إلى أجهزة الإدارة كتابة، حتى يتوافر لدى مراقب الحسابات حجية مادية، تؤكد على قيامه بمهامه، لكن ليس هناك ما يمنع من أن تكون المعلومات المقدمة شفاهة، طالما أن الطريقة الشفاهية في تقديم أو تأكيد المعلومات تبقى متصورة أثناء تدخلات المراقب أمام مجلس الإدارة أو أمام الجمعية العامة أو حتى أثناء حديثه مع بعض المساهمين بصفة فرضية وتزويدهم ببعض المعلومات حول وضعية الشركة، وردا على بعض الأسئلة الموجهة إليه من طرفهم.وليس هناك ما يمنع أن تؤطر تلك المعلومات المقدمة شفاهة بنص المادة 405 من شركات المساهمة لكونها جاءت عامة ومطلقة.

في حين نجد التشريع الفرنسي جعل الأمر سيان بين طبيعة المعلومات سواء كانت كتابة أو شفاهة، عامة أو خاصة تأخذ نفس الأهمية لكونها ترتب نفس الآثار السلبية.كما سوى بين أن يقوم مراقب الحسابات بإعطاء تلك المعلومات أو تأكيدها أو أي شخص آخر تحت عهدته[8]. بحيث شددت المادة 299 من قانون الشركات لسنة 1966 مسؤولية مراقب الحسابات عن أفعال تابعيه ،وقضت إحدى محاكم باريس بمساءلة مراقب الحسابات عن المعلومات التي يقدمها هؤلاء المساعدين الذين يعملون تحت مسؤوليته ، فيكفي أن يقدم بنفسه المعلومات الكاذبة وأن يوقع عليها، ويكون بهذا التوقيع قد ارتكب خطأ ينسب إليه[9].ونفس الأمر بالنسبة لتشريعنا الوطني[10].

أما التشريع السويسري فقد أورد في الفصل 152 من القانون الجنائي السويسري عبارة (أعطى أو أعطوا/ Aura donné ou fait donnerمما يدل على أن مراقب الحسابات يعطي معلومات في توصله مع العموم وقد تكون هذه المعلومات كتابة أو شفاهة.

2 يجب أن تكون هذه المعلومات كاذبة:

إن عبارة “المعلومات الكاذبة “ التي وردت في المادة 405 من قانون شركات المساهمة معناها عدم تناسق هذه المعلومات مع الحقيقة المفترضة التي يجب أن تكون مطابقة لها وأي شيء يخرج عن هذا الإطار يجعلنا أمام جنحة تقديم أو تأكيد معلومات كاذبة عن وضعية الشركة.وبدون شك أن التحقق من هذه المعلومات هو من اختصاص مراقب الحسابات ، الذي له دور معرفة مصداقيتها من عدمها، وهذا ليس بالأمر العسير عليه ، بحكم ما يفترض فيه من كفاءة وتكوين[11].وفي هذا المضمار عللت المحكمة التجارية بمدينة الرباط حكمها: ” يبدو أن المدعى عليه يبرر دائما أخطاءه بعملية الطبع وهو أمر غريب وعجيب بحيث كيف يعقل لمدقق الحسابات أن يقع دائما في تلك الأخطاء، علما أنه مفترض فيه الدقة، فإذا لم يكن دقيقا في شكليات إعداد التقارير ، فكيف يقوم بتدقيق حسابات الشركة.وبمعنى آخر فإذا كان المدعى عليه يوقع تقاريره دون أن يقوم بمراجعتها وتصحيحها من الأخطاء فكيف له أن يقوم بالتحقق من القيم والدفاتر والوثائق المحاسبة…”[12]كما أكد ذلك القضاء الفرنسي في قرار صادر عن محكمة النقض الفرنسية بتاريخ02/07/2000[13].

3 يجب أن تتعلق هذه المعلومات بوضعية الشركة:

لقد أردف المشرع المغربي في المادة التي نحن بصددها–405- المعلومات الكاذبة، بعبارة “بشأن وضعية الشركة”ولم يستتبعها بأي تخصيص يذكر، مما يضفي صبغة العمومية على كل المعلومات المتعلقة بالشركة ويرجع ذلك إلى أصل هذه المادة المأخوذة حرفيا من قانون الشركات الفرنسي لسنة [14]1966 وبالضبط الفصل 457 منه، هذا الأخير الذي خلف سجالا فقهيا حادا في تفسير كل من معلومات[15]des informations ووضعية الشركة.

ثانيا: الركن المعنوي:

تطلبت أغلب التشريعات لقيام هذه الجريمة ، توفر عنصر العمد لدى مراقب الحسابات، بحيث يتعين إثبات توفر عنصر العلم والوعي لدى هذا الأخير بكون المعلومات المقدمة أو المؤكدة من طرفه بخصوص وضعية الشركة الاقتصادية والاجتماعية والمالية غير صحيحة وكاذبة .وتبقى للمحكمة سلطة تقديرية في تقدير توفر عنصر القصد من عدمه بحسب ظروف كل قضية وكل نازلة[16].

كما يرى البعض[17] أنه بالنسبة لمراقب الحسابات، المهني والمتمتع بشروط الكفاءة العلمية ، فإن الغلط أو الجهل يقترب من القصد ، بل ولن يفسر إلا كقصد.والقضاء الفرنسي اكتفى غالبا للقول بتحقق سوء النية بمجرد علم مراقب الحسابات بعدم صحة المعلومات المدلى بها والتي أكدها بدون اشتراك نية الإضرار بالشركة، أما إذا كان ذلك عن إهمال في التدقيق والتحقق من صحتها فقد صرح أن ذلك لا يقوم حجة على توافر سوء النية إلا إذا تكرر هذا الفعل عدة مرات أثناء مصادقته على الحسابات، بحيث يكشف شكل واضح إرادته في تأكيد المعلومات الكاذبة[18].

الفقرة الثانية: عدم الإشعار بالأفعال الإجرامية
يقوم مراقب الحسابات بمجموعة من المهام و يطلع بعدة أدوار داخل الشركة التي يراقب حساباتها، فهو يعتبر بمثابة الرقيب على حسابات و دفاتر الشركة و قيمها سواء كانت مادية أو معنوية، كما يسهر على ضمان الحياة المحاسبية للشركة و ذلك من خلال حمايتها من الصعوبات التي يمكن أن تعترضها.[19]

ومن أهم و أخطر المهام التي تلقى على عاتق مراقب الحسابات هي الإعلام بالأفعال التي تحدث داخل الشركة، ذلك أنه عليه إخبار مجلس الإدارة الجماعية و مجلس الرقابة بكل الأفعال التي بلغت إلى علمه و بدل له أنها تكتسي صبغة جرمية.

وتجدر الإشارة إلى أنه تقوم المسؤولية الجنائية في حق مراقب الحسابات و ذلك في حالة إخلاله بالالتزام بالإشعار بالأفعال التي وصلت إلى علمه ويبدو له أنها تكتسي صبغة جرمية.

وقد عاقب المشرع المغربي[20]، كنظيره الجزائري[21]، على هذه الجريمة بالنسبة لشركات المساهمة، و انطلاقا من نص المادة 405 من قانون شركات المساهمة المذكور سلفا يمكن تحديد العناصر المكونة لجريمة عدم الإشعار بالأعمال الإجرامية والتي تتكون من ركن مادي و ركن معنوي.

الركن المادي: لكي تقوم جريمة عدم الإشعار بالأفعال الإجرامية من طرف مراقب الحسابات لابد من أن يتوفر الركن المادي، وتحقق الركن المادي بالنسبة لهذه الجريمة لتوفر عنصريين:

يجب أن يكون مراقب الحسابات على علم بتلك الأفعال الإجرامية أثناء ممارسته مهامه.

أن تتجه إرادة مراقب الحسابات إلى الامتناع عن الإعلام بتلك الأفعال الإجرامية أثناء ممارسته مهامه.

العنصر الأول: يجب أن يكون مراقب الحسابات على علم بتلك الأفعال الإجرامية أثناء ممارسته مهامه.

لقد جاء في المادة 405 “……….وكذا عدم إعلامه أجهزة الإدارة أو التدبير أو التسيير بكل الأفعال التي بلغت إلى علمه أثناء مزاولة مهامه و بدا له أنها تكتسي صبغة جرمية.”

وبخصوص هذه الجريمة فالمشرع المغربي كما هو واضح من خلال هذه المادة لم يبين لنا نوعية الجرائم التي تناط بمراقب الحسابات أن يخبر بها أجهزة الإدارة أو التدبير أو التسيير، كما هو الشأن بالنسبة للتشريعات المقارنة كالتشريع المصري[22]، حيث عاقب على هذه الجريمة في المادة 162 وجاء فيها ” مع عدم الإخلال بالعقوبات الأشد المنصوص عليها في القوانين الأخرى يعاقب بالحبس لمدة لا تقل عن سنتين و بغرامة لا تقل عن ألفي جنيه ولا تزيد عن عشرات آلاف جنيه يتحملها المخالف شخصيا أو بإحدى هاتين العقوبتين، وجاء في الفقرة السادسة ” كل مراقب و كل من يعمل في مكتبه تعمد وضع تقرير كاذب عن نتيجة مراجعته أو أخفى عمدا وقائع جوهرية أو أغفل عمدا هذه الوقائع في التقرير الذي يقدم للجمعية العامة وفق للأحكام هذا القانون.

يتضح أن كل من المشرعين المصري و المغربي، لم يبينا طريقة الجرائم التي يجب التبليغ عنها.

ويرى أحد الباحثين[23] أن المشرع المغربي أحسن فعلا عند عدم تمييزه بين الأفعال التي تكتسي صبغة جرمية، و التي يتعين على مراقب الحسابات الإخبار بها لمجلس الإدارة أو التدبير أو التسيير ويجب أن تكون تلك الأفعال التي تكتسي صبغة جرمية قد وصلت إلى علم أثناء مزاولته لمهامه، وهذا ما أكدته المادة 169 من قانون الشركات المغربي.

العنصر الثاني: أما بالنسبة للركن الثاني لهذه الجريمة و التي يتجلى في اتجاه إرادة مراقب الحسابات إلى الامتناع عن الإعلام بالأفعال الجرمية.

بالرجوع إلى قانون الشركات المغربي لا نجد أي مقتضى يبين الوقت الذي يجب فيه على مراقب الحسابات إخبار أجهزة الإدارة بالأفعال الجرمية التي وصلت إلى علمه، كما أنه لم يبين الطريقة التي يتعين على مراقب الحسابات الإجبار بها.

يرى جانب من الفقه أنه يتعين في بعض الأحيان الإخبار فورا بكل الوقائع التي يكتشفها مراقب الحسابات، خاصة إذا تعلق الأمر بمخاطر من شأنها أن تهدد الوضعية القانونية أو المالية للشركة، على اعتبار أن هذه المسطرة قد تتأخر حيث تمر بعدة مراحل وبذلك يكون انتظار انعقاد الجمعية العامة العادية المقبلة فيه مضيعة للوقت[24].

وتجدر الإشارة على أن المشرع الفرنسي بخصوص هذه الجريمة قد ألزم بإجبار وكيل الجمهورية وليس أجهزة الإدارة أو التدبير أو التسيير، كما هو الشأن بالنسبة للتشريع المغربي الذي كان يلزم مراقب الحسابات بإخبار النيابة العامة عن جرائم الشركات، وتغير الأمر بموجب التعديل الأخير لقانون الشركات رقم 95-17 الذي فوض الأمر بالاقتصار على إخبار أجهزة الإدارة أو التدبير أو التسيير عن الجرائم المرتكبة بالشركة، الشيء الذي يتضح معه أن المشرع الفرنسي تعامل بنوع من الصرامة مع مثل هذه الجرائم، ذلك أن إخبار أجهزة الإدارة أو التدبير أو التسيير لا يتسم بأية فعالية فهذه الجهة التي هي المؤهلة خصيصا لتلقي هذا الإخبار و التي في الغالب الأعم لا تعمل على إصلاح هذا الاختلاف[25].

الركن المعنوي: يتمثل الركن المعنوي في القصد الجنائي، و القصد الجنائي المتطلب لقيام هذه الجريمة هو القصد العام، لكون المشرع المغربي لم يشير إلى قصد جنائي خاص من خلال تبنيه لنص المادة 405 المذكورة سلفا. بحيث لا يكفي أن يدعي مراقب الحسابات أنه استهدف بعدم الإبلاغ على عدم الثقة في الشركة و عدم إثارة الشكوك حولها لتجنب المصاعب التي يمكن أن تترتب عن ذلك، أو انه ابتغى من وراء ذلك إعطاء فرصة للمديرين لتسوية الأمور[26].

حيث لابد من إبراز عنصر القصد الجنائي و المتمثل في نية مراقب الحسابات بعدم كشف الأعمال المجرمة مع توفر العلم بها.[27] وفي هذا الصدد ذهب مجلس قضاء نانسي NANSY في قرار له بتاريخ 29 يونيو 1982 إلى أن مراقب الحسابات لا يمكن أن يحكم عليه إلا إذا أقيم الدليل بأنه كان على علم بشكل واضح و مؤكد بالأفعال المجرمة.وهو ما قضت به محكمة النقض الفرنسية في هذا الشأن بحيث أكدت على ضرورة أن يكون العلم بالمخالفات ثابت، و حقيقي و متفق عليه، ففي معظم الحالات التي حكم على مراقب الحسابات فيها، بجريمة عدم كشف الجنح، يتضح من خلال تحليلها أن هذا الأخير كان يعلم علما يقينا وواقعيا بها.إلا أن بعض الفقه الفرنسي يذهب إلى أنه يمكن أن يكون علم مراقب الحسابات ” مفترضا” وهذا من أقصى أنواع التشديد في المسؤولية خاصة إذا كانت جزائية، حيث قضى مجلس قضاء باريس Paris في قرار له بتاريخ 18 يونيو 1990، بأنه لا يمكن لمراقب الحسابات تجاهل عدم المساواة في تسيير الشركة، إلا أن الفعل المرتكب في هذه الحالة هو عدم استدعاء الجمعية العامة للانعقاد من طرف مراقب الحسابات، في الوقت المحدد قانونا، وهذا التصرف بدوره يفترض فيه علم مراقب الحسابات بعدم المساواة في التسيير.[28]

ويؤكد البعض أن في الواقع العملي نادرا ما يقوم مراقب -(محافظ)- الحسابات باطلاع وكيل الجمهورية بالوقائع الإجرامية، في حين أن هذا الأخير كثيرا ما يتخذ الإجراءات ضد مدراء الشركة.[29]

عقوبات الجريمة: يعاقب المشرع المغربي في المادة 405 من القانون 95-17 جريمة عدم الإشعار بالأعمال الإجرامية، بعقوبة حبسية تتراوح مدتها من ستة أشهر إلى سنتين وغرامة مالية من 10.000 إلى 100.000 درهم أو بإحدى هاتين العقوبتين، أما المشرع الفرنسي و انطلاقا من نص المادة L820-7 [30] من مدونة التجارة الفرنسية فقد عاقب على هذه الجريمة بالحبس لمدة لا تقل عن خمس سنوات و غرامة مالية تقدر ب 75.000 أورو، أما المشرع المصري فقد عاقب على هذه الجريمة بالحبس لمدة لا تقل عن سنتين وغرامة لا تقل عن ألفي جنيه و لا تزيد عن عشرة ألاف جنيه أو بإحدى هتين العقوبتين.

يتضح أن كل من المشرع المغربي و المصري بغض النظر عن العقوبة قد منحى سلطة تقديرية للقاضي بالحكم إما بالحبس أو بالغرامة على عكس المشرع الفرنسي الذي تعامل بنوع من الصرامة و عاقب على هذه الجريمة بخمس سنوات و غرامة مالية تقدر75.000 أورو دون أن يمنح السلطة التقديرية للقاضي.

المطلب الثاني: جريمة افشاء السر المهني:

إن مراقب الحسابات بمناسبة المهام التي تم إسنادها إليه داخل الشركة،تجعله أمام واقع الاطلاع على العديد من المعلومات والأوراق التي تتضمن أسرارا خاصة بهذه الشركة[31].وأمام حساسية هذا الأمر، فقد قيدت المادة 177 من قانون شركات المساهمة مراقب الحسابات بالسر المهني في حدود الوقائع والأعمال والمعلومات التي يكون قد اطلع عليها بحكم ممارسته لمهامه، ومن تم فهو ملزم حسب هذه المادة بعدم إفشاء تلك الوقائع والأعمال والمعلومات[32]. كما عمل المشرع المغربي على تجريم فعل إفشاء السر المهني في الفقرة الأخيرة من المادة 405 من قانون شركات المساهمة التي أحالت بدورها على الفصل 446[33] من مجموعة القانون الجنائي.

وانطلاقا من نص الفصل 446[34] سنعمل على تحديد جنحة إفشاء السر المهني، أي كل من ركنها المادي (الفقرة الأولى) والمعنوي (الفقرة الثانية)

الفقرة الأولى: الركن المادي للجريمة:

يتحقق هذا الركن عند اجتماع العناصر الآتية:

أولا:أن يتعلق الأمر بسر.

ثانيا:أن يطلع مراقب الحسابات على السر أثناء ممارسة مهامه.

ثالثا: أن يتم إفشاء السر.

أولا:يجب أن يتعلق الأمر بسر:

يعتبر مفهوم السر المهني من المفاهيم صعبة التحديد، باعتباره يختلف من مهنة لأخرى ويتأرجح موضوعه ومحله بحسب طبيعة هذه المهنة، إلا أنه عموما يمكن تعريفه بكونه كل معلومة أو خبر يصل لعلم المهني أثناء أو بمناسبة ممارسته لمهنته ومن شأن إفشائه وعلم الغير به أن يلحق ضررا معينا بالجهة المعنية به. [35]كما يعرفه أحد الباحثين[36]بكونه ذلك الالتزام الملقى على عاتق مراقب الحسابات بعدم إفشاء معلومات تتعلق بالسر التقني أو التجاري أو بآفاق تطور قيمة منقولة ما زال الجمهور يجهلها ويمكن أن تؤثر في قرار المستثمر.واحترام السر المهني بمثابة قاعدة حمائية ، بالنسبة للشركة .فالمنافسة تقتضي بأن الأسرار المهنية يجب حمايتها إذا كانت لا تخالف القانون[37].

ثانيا:يجب أن يطلع مراقب الحسابات على السر أثناء ممارسة مهامه:

بمعنى أن يعلم به ويتعرف عليه بمناسبة قيامه بوظيفته لدى الشركة التي يراقبها، فوظيفته هاته تمكنه من الاطلاع على أمور تهم الشركة، لا يمكن لغيره أن يعلم بها.فإذا كان مراقب الحسابات قد تعرف على معلومات تخص الشركة بواسطة شخص آخر غير مقيد بالسر في مواجهة الشركة كصديق له، أو من مجرد كلام وحديث الناس ،فإن الجريمة لا تقع لأن المعلومات التي أفشاها ليست لها طبيعة السر المهني بحكم عدم تعرفه عليها بمناسبة مهمته.[38]

وبتفحص لمواد قانون شركات المساهمة ، وخصوصا المواد 167 و177يتضح بأن السر المهني يتسع ليشمل ما يطلع عليه أيضا مساعدو مراقب الحسابات بمناسبة مهامهم، وأيضا تشمل الحماية الجنائية ما يمكن أن يطلع عليه في إطار الشركات التابعة أو الشركات الأم بتلك التي يمارس بها مهامه الرقابية[39]

ثالثا: يجب أن يتم إفشاء السر:

يرتكز الركن المادي لهذه الجريمة على فعل إفشاء السر للغير بأي وسيلة من الوسائل. فالمشرع المغربي لم يحدد طريقة معينة لإفشاء السر، فقد يكون كتابة أو شفاهة أو بواسطة الهاتف ، كما لا يشترط أن يكون كليا أو جزئيا ويستوي أن يتم إفشاء السر إلى شخص واحد أو مجموعة من الأشخاص.وفي هذا الصدد يطرح تساؤل عن الأشخاص الذين يلتزم أمامهم مراقب الحسابات بالسر المهني بحيث إذا تم الإفشاء به أمامهم فهو مرتكب لجريمة إفشاء السر المهني ؟ ومن هم الأشخاص الذين يتحرر مراقب الحسابات إزاءهم بالسر المهني؟

والإجابة أن مراقب الحسابات يتحرر من السر المهني أمام الجمعية العامة باعتبارها صاحبة الأمر في الشركة وممثلها القانوني[40]،كما يتحرر منه إزاء رئيس المحكمة التجارية فيما يتعلق بالمعلومات المطلوبة في نطاق مهمته المتصلة بالوقاية من صعوبات المقاولة[41]

لم يشترط المشرع أن يترتب عن إفشاء الأسرار المهنية ضرر معين بحيث يكفي أن يتم إثبات أن معلومة أو معلومات معينة تم إعلام الأغيار بها خارج الضوابط القانونية التي تفرض إفشاءها[42]

ولا مجال للحديث عن السر المهني،فيما بين مراقبي حسابات نفس الشركة ويرجع ذلك لكونهم جميعا مقيدين بهذا الالتزام، ولكون الإفشاء بالسر في هذه الحالة لم يتجاوز النطاق الذي ينبغي أن يظل محصورا فيه، ويطبق نفس الحكم في حالة ما إذا أفشى مراقب الحسابات بالأسرار إلى المساعدين الذين يلتجئ إليهم أثناء مباشرة مهامه لكونهم ملزمين بدورهم بالمحافظة على الأسرار بصريح المادة 177.[43]

ولا يعد محافظ الحسابات مرتكبا لجريمة إفشاء السر المهني إذا توافرت أحد أسـباب الإباحـة،حيث لا تقع الجريمة إذا تم الإفشاء بناء على رضا صاحب السروهو الأمر الذي أكده الفقه الفرنـسي الذي أباح للجمعية العامة التصريح لمحافظ الحسابات بإفشاء بعض المعلومات التي تعدمـن قبــيل الأسرار والتي لا تندرج ضمن المعلومات التي يعلنها المحافظ على الجمعية العامة فـي اجتماعاتهـا وفقا لأحكام القانون أداء لواجباتـه الرقابـية في الشركة[44]،كما لا يتقيد مراقب الحسابات بالتزام السر المهني أمام كل من لجنتي المشروع[45] وعمليات البورصة[46]

الفقرة الثانية: الركن المعنوي للجريمة:

لقد اشترط المشرع المغربي لتحقق جريمة إفشاء السر المهني ركنا معنويا يتخذ صورة القصد الجنائي وذلك بمجرد علم مراقب الحسابات بالمعلومات وإفشائها إلى الغير، فتصبح هذه الجريمة عمدية يتابع عليها ويستحق العقوبة التي أدرجت لها.[47]

ولا تتحقق الجريمة إذا قام مراقب الحسابات بإفشاء السر عن كريق الخطأ، ويلحق بالخطأ سرقة ملف أو ملفات من المراقب تحتوي سرا يتعلق بالشركة من طرف الغير.على أنه يبقى على عاتق مراقب الحسابات إقامة الدليل على أن الإفشاء كان خطأ أو أن الملف قد جرت سرقته. ويعتقد الأستاذ رضا بن خدة ،أنه في ظل القانون الجنائي للشركات التجارية ، وأمام شخص كمراقب الحسابات وحتى لو اعتبرت الجريمة غير عمدية ، فإن الإفشاء عن طريق الخطأ من شخص مهني متخصص كمراقب الحسابات لا ينظر إلى أفعاله في هذا السياق إل كما لو كانت مرادة ومقصودة ، فإن خطأه لن يعتد إلا كمقصود كما يبدو أن الباعث على الإفشاء ، أو تحقق الضرر بالشركة أو الغير ليس من العناصر التكوينية للجريمة[48]

أما بخصوص المشرع الفرنسي،فإنه بدوره لم يعالج هذه الجريمة في مدونة التجارة،وإنما اقتصر في المادة 820-5 بالإحالة على المقتضيات العامة للقانون الجنائي،وبالضبط المادتين 226-13 و226-14 ،بحيث نصت الأولى على عقوبة أكثر قساوة وتجلت في سنة حبسا وغرامة 15000 أورو[49]

فقد وجد المشرع الفرنسي قبل سنة 1935خلافا حول مدى انطباق هذه الجريمـة علـى محـافظ الحسابات أي مدى اعتبار هذا الأخـير من الأمناء على الأسرار، فـقد حكمـت محكمـة النــقض الفرنسية بأن محافظ الحسابات لا يعدمن الأمناء على الأسرار نظرا لأنه لا يعدمـن التـابعين إلـى الشركة، لكن بـصدور قانون الشركات لسنة 1966أحالت المادة 2/457منه على المادة 368من قانون العقوبات الفرنسي التي تعاقب على هذه الجريمة بالحبس لمدة تتراوح بـين ستة أشـهر وسـنة وبالغرامة من 500إلى 15.000فرنك أو بإحدى هاتين العقوبتين. (

وبدوره نص المشرع الجزائري على وجوب المحافظة على السر المهني في المادة 1/71مـن القانون 01-10المتعلق بالمهن الثلاث الجديد وذلك بقولها : » يتعين على …. ومحافظ الحسابات …..كتم السر المهني تحت طائلة العقوبات المنصوص عليها فـي المـادتين 301و 302مـن قـانون العقوبات «، كما أن المادة 2/830من القانون التجاري الجزائري لم تنص على العقوبـات المقـررة وأحالتنا هي أيضا على قانون العقوبات : » تطبق أحكام قانون العقوبات المتعلقة بإفشاء سـر المهنـة على مندوبي الحسابات[50]«.

وصفوة القول، إن ما يقال عن فعالية المادة 405 من شركات المساهمة خصوصا،و على الترسنة التشريعية للمنظومة الجنائية الخاصة بالشركات التجارية عموما أمر في منتهى التعقيد ولا يهدف إلى المصالح المرجوة إلا في جزء يسير منه فقط، وهو الأمر الذي يترجمه الواقع العملي ، بحيث نجد الإختلاف أولا بشأن الإختصاص القضائي، فغالبا ما تختلف محاكم الموضوع في أحقية الاختصاص بين المحاكم التجارية والأخرى الابتدائية لكون هذه الأخيرة هي من تملك صلاحية البث في القضايا الزجرية ،وحتى لما تختص هذه المحاكم (الابتدائية ) فهي سرعان ما تختلف في تكييف الفعل المذكور بحيث تجعله يحمل اسم جريمة النصب ثارة ،وثارة أخرى تكيفه على أنه خيانة للأمانة …
ولا يفوتنا في هذا المقام إلا أن نقوم ببعض من التوصيات التي أصبح التقيد بها لا محالة لكي ننهض بإصلاح شامل للمنظومة الجنائية في جزءها المتعلق بقوانين الأعمال والمقاولات ،وتتمثل هذه التوصيات في :

أولا: يجب تجميع النصوص المتعلقة بجرائم الشركات في نص واحد ووحيد ،دون إحالة لا داخلية ولا خارجية (أي لا إلى ذاته في جزء غير متعلق بالموضوع ،أو إلى نص في قانون آخر )

ثانيا: تبني الوضوح التام في تشريع النصوص ،حيث يجب على كل نص يتعلق بهذه الجرائم أن يحتوي على كافة أركانه.ونركز على الركن المعنوي بالخصوص ،لكي لايتم بناءه على المقتضيات العامة الواردة في مجموعة القانون الجنائي ،

ثالثا: التشدد في العقوبات بنوعيها ؛الحبسية وكذا المالية(وإن كنا نؤمن بأن القانون الجنائي للأعمال يروم نحو منحى إزاحة العقوبات السالبة للحرية ،ويحاول إصلاح كل مشاكله عبر وسائل بديلة كالوساطة والتحكيم ….ويبقى الرفع من العقوبات له مكانته التي تميزه وتجعله لا يتأثر بأي توجه معين (

وأخيرا نطالب الجهات المعنية بأن تؤطر فئات من المتخصصين في هذا المجال ،وإن كانت هذه العبارة قد ترددت في العديد من الندوات واللقاءات ،فنحن بدورنا نكررها لعلها تجد آذانا صاغية.

 

(محاماه نت)

إغلاق