دراسات قانونيةسلايد 1

دراسة حول نظرية الظروف الطارئة وأثرها على تنفيذ العقود في الفقه الإسلامي

المقدمة
تفترض نظرية الظروف الطارئة تغير الظروف الاقتصادية عند تنفيذ العقد بسبب حادث لم يكن متوقعا بحيث يصبح تنفيذ العقد وان لم يكن مستحيلا مرهقا للمدين الى حد يهدده بخسارة فادحة تفوق الحد المالوف مثال ذلك : ان تعهد شخص بتوريد سلعة بسعر معين ثم يحدث قبل حلول ميعاد التوريد ان يرتفع ثمن هذه السلعة الى اضعاف ماكانت عليه بسبب حرب منعت ورودها من الخارج مثلا وحينئذ تنفيذ العقد يهدد المدين بخسارة فادحة تجاوز الحد المالوف .

ومن الواضح ان العدالة تقتضي تخفيف عبيء الالتزام عن المدين وذلك بتوزيع تبعة الحادث الطاريء على الطرفين .
فنظرية الظروف الطارئة تعالج اختلال التوازن بين التزامات الطرفين عند تنفيذ العقد وتؤدي الوظيفة التي تقوم بها نظرية الاستقلال والاذعان عند تكوين العقد .

مشكلة البحث :
اختلفت زاوية الرؤية الى مشكلة الظروف بين كل من الاحناف والمالكية ، فبينما اهتدى الاحناف الى نظرية خاصة بشان العذر واخرى بشان تغير القيمة الاقتصادية تمكن المالكية من تخريج نظرية ثالثة بشان الجوائح اما بالنسبة لفقهاء المذاهب الاخرى فاننا نلاحظ تفاوتهم في الاتفاق والاختلاف مع نظريات الفقهين الحنفي والمالكي .

اهمية البحث :
يتسع تطبيق نظرية الظروف الطارءة على جميع العقود التي يفصل بين ابرامها وتنفيذها فترة من الزمن يطرأ خلالها حادث اسثنائي غير متوقع يجعل تنفيذ الالتزام مرهقا للمدين ففي حالة تطبيق النظرية على العقود الملزمة للجانبين يستطيع اي من المتعاقدين الدائن والمدين ان يطالب بتطبيق النظريةاذا صار ما انيط به من التزام مرهقا بما يجاوز حدود السعة لتطبيق الموازنة بين مصلحة الطرفين استنادا الى الفقه الاسلامي تطبيقا للاية القرآنية الكريمة ( فان تنازعتم في شيء فردوه الى الله والرسول ان كنتم تؤمنون بالله واليوم الاخر )(1)

فرضية البحث :
ولغرض تطبيق نظرية الظروف الطارئة يفترض ماياتي :
1 ـ يقتصر مجال نظرية الظروف الطارئة على العقود المتراخية التنفيذ .
2 ـ وقوع حادث استثنائي عام بعد ابرام العقد وقبل تنفيذه .
3 ـ يجب ان يكون الحادث غير متوقع ولا يمكن دفعه .
المبحث الأول موقف الفقه الحنفي من الظروف الطارئة
سلم الفقه الحنفي بنظرية الظروف الطارئة في مجالين اختص المجال الاول بالاعذار ، وهي الظروف التي قد تطرأ على العقد بعد ان يكون قد ابرم بينما اختص المجال الثاني بمشكلة تغيرالقيمة .

نظرية العذر :
العذر في الفقه الحنفي هو كل مالا يمكن معه استيفاء المعقود عليه الا بضرر يلحق المتعاقد في نفسه او ماله او لو لزم العقد عند تحقق العذر للزم صاحب العذر ضرر لم يلزمه بالعقد فكان الفسخ في الحقيقة امتناعا من التزام الضرر فالعقد اذا هو عجز المتعاقد عن المضي في موجبه الا بتحمل ضرر زائد لم يستحق بالعقد .
يتبين من العبارات التي وردت على السنة الفقهاء الاحناف ان العذر ماهو في حقيقة امره الا ظرف طاريء يحدث في الفترة اللاحقة على نشاة العقد ، ويؤدي حدوثه الى الحاق ضرر بالمدين يصيبه في نفسه او في ماله ان هو اقدم على تنفيذ العقد.

ففكرة العذر في الفقه الحنفي لاتختلف كثيرا عن فكرة الظروف الطارءة غير ان الاحناف توسعو في مضمون العذر توسعا شديدا(1) فالعذر كما يقول الفقيه الحنفي ( الكاساني ) قد يكون في جانب المؤجر وقد يكون في جانب المستأجر .
اما العذر الذي يكون في جانب المستاجر فكان يكون استاجر حانوتا فافلس بحيث لم يعد في امكانية مواصلة نشاطه التجاري فتخلى عنه او يكون فشل فشلا ظاهرا في الحرفة التي يقوم بها فيتجه قصده الى الانتقال منها الى حرفة اخرى كأن ينتقل من حرفة الزراعة الى حرفة التجارة او العكس كما انه يعتزم السفر لمصلحة عاجلة يتدبرها فان ابقينا العقد مع وجود الاعذار السابقة فان ذلك معناه ابقاء العقد من غير استيفاء المنفعة وفي ذلك اضرار بالمستاجر على نحو لم يلتزمه بالعقد.
فكان للمستاجر الحق في فسخ العقد بسبب العذر وذلك دفعا لما قد ينزل به من ضرر والمرض الذي يصيب المستاجر يعد عذرا ، اذا ترتب عليه عدم تمكنه من استيفاء المنفعة المعقود عليها . فموت المستاجر كمرضه يعتبر عذرا يجيز الفسخ فلو مات من استاجر دابة ليسافر عليها وكان الموت قد فاجاه في بعض الطريق اذا لتعين عليه وفاء الاجر بحساب ماسافر ويبطل بحساب مايبقى . وقد اطلق فقهاء الحنفية في الموت فشمل عندهم بالاضافة الى الموت الحقيقي الموت الحكمي ومن صورة الارتداد عن العقيدة الدينية ، فقد كان الارتداد يعتبر عذرا في بعض الحالات(1) .

ويعتبر عدول المستاجر عن العقد عذرا اذا قام على سبب يقدره هو تقديرا شخصيا بحيث لو اجبر على تنفيذه رغم عزوفه عنها فكأن في اجباره على اتلاف شيء من بدنه او ماله . فلو استاجر طبيبا يخلع له ضرسا موجعا . او ليبتر له ذراعا بسبب مرض كان يعرف قديما باسم ( الاكل ) او بسبب اي مرض اخر وكذلك لو استاجر شخص حائكا ليقص له حلة ، او ليخيط له رداء او ثوب او كا ن قد استاجر طباخا ليعد له وليمة بمناسبة زواج فاذا سكن الم الضرس او برأت الذراع مما اصابها من المرض او انتفت مناسبة الزواج لاي سبب من الاسباب فللمستاجر في هذه الحالات فسخ العقد وليس للطرف الاخر ان يجبره على خلع الضرس او بتر العضو او اقامت الوليمة اذا في ذلك اتلاف لشيء معين بدنه او ماله فجواز ان الفسخ للمستاجر انما لانه هو الذي يقدر ما في عدوله عن العقد من مصلحة له ودفع للضرر عنه وخوف السوء من المنكر او من مخاطر الطريق قد يرقى في بعض الحالات الى مرتبة العذر الذي سيفسخ به العقد فقد عرضت مسالة على القاضي بديع الدين تخص وقائعها في ان شخصا استاجر دار لغرض السكن باجرة معينة مقبوضة وامضى فيها شطرا من مدة الايجار الى انه تركها خوفا من عسكر فاجرها المالك في غيبته الى شخص اخر وبعد زوال دواعي الخوف عا د المستاجر الاول وطالب المالك بتسليمه الدار المؤجرة قال ( بديع الين فيما قال ـ اما المستاجر الاول قد ترك الدار على وجه الفسخ بسبب الخوف فالاجارة الاولى تفسخ بهذا العذر فان لم يتركها على وجه الفسخ فصاحب الدار غاصب .

واما العذر الذي قد يكون في جانب المؤجر ، فنحو ان يلحقه دين فادح لايجد قضاءه الا من ثمن المؤجر ، عقارا كان ذلك الشيء او منقولا ففي هذه الحالة يعتبر الدين الفادح بمنزلة العذر الذي تفسخ به الاجارة ( لان ابقاء الاجارة مع لحوق الدين الفادح العاجل اضرار بالمؤجر لانه بخيس ولا يجوز الجبر على تحمل ضرر غير مستحق بالعقد ) وفضلا عن الدين الفادح تعد النفقة عذرا مجيزا للفسخ فالمؤجر الذي يعجز عن مقابلة نفقته او نفقة اقاربه بسبب الاعسار حاجته الماسة الى ثمن العين المؤجرة لتغطية هذه النفقة واخيرا فان العذر قد يكون في جانب المستاجر هو حدوث عيب فيه يخل بالانتفاع المعقود عليه وذلك كالدار المستاجرة اذا تهدمت كليا او جزئيا كالدابة الموستاجرة اذا ظلت او اصيبت بالعرج او تقرح ظهرها او اصيبت على اي نحو اخر كالارض الزراعية المستاجرة اذا اغرقها مياه الفيضان او غطتها الرياح بطبقة من الرمال او كرحى الماء المستاجرة اذا تهشم حجرها او انقطع عنها الماء الذي يديرها .

ولكننا نلاحظ ان الخطة التي اتبعها الفقيه الحنفي الكاساني في تقسيم الاعذار هي ذات الخطة التي اتبعها بعض الفقهاء المحدثين تعتبر خطة قاصرة لانها تغفل عن فئة رابعة من الاعذار لاتكون في جانب الفئات الثلاثة المذكورة وانما تكون في جانب الغير فاذا قامت امراة بتاجير نفسها ظئرا اي مرضعة بمقابل وكان ذلك مما يخدش سمعة عائلتها او يجرح كبريائها كان لاهلها ان يفسخ عقد الاجارة بسبب هذا العذر(1).

نظرية تغير القيمة :

يندرج تحت دراسة نظرية تغير القيمة في الفقه الحنفي موضوعان يتعلق الاول منهما بتغير النقود بينما يختص الثاني بتغير القيمة الايجارية سواء بالنسبة للوقف او بالنسبة للحكر .

الموضوع الاول : ( تغير قيمة النقود )

عالج الفقهاء الاحناف مشكلة تغير قيمة النقود معالجة جدية وقد انصب اهتمامهم بصفة خاصة على ظاهرتين هامتين كثيرة الوقوع في الحياة اليومية العملية وقتئذ .

اما الظاهرة الاولى : فهي تغير الظروف تلقائيا بما يؤدي الى انعدام القوة الشرائية للنقود واختفاءها عن الاسواق او ارتفاع قيمتها او انخفاضها حسب الاحوال .

اما الظاهرة الثانية : فهي صدور اوامر من قبل السلطان او الحاكم ينجم عنها اضطراب في سعر العملة الجارية في التداول فاما بخصوص تغير قيمة النقود بسبب تغير الظروف تلقائيا فهناك احتمالان لمثل هذا التغير على احداث نقص او زياد بحسب الحالة .
والاحتمال الاول : يتحقق اما بكساد النقود لترك الناس التعامل بها او بالتالي فقدانها لاية قيمة في التعامل واما باختفاءها عن الاسواق وانقطاعها كلية . وبالتالي يصبح من العسير الحصول عليها .

واما الاحتمال الثاني : فهو ان تنخفض قيمة النقود بحسب تغير الظروف ، ولكنها تبقى في الحالين متمتعة بقدر من القوة الشرائية ويذهب الامام ( ابو حنيفة ) الى انعدام قيمة النقود لكسادها او لانقطاعها يؤدي الى بطلان عقد البيع لانتفاء الثمن . اما (ا بو يوسف ) فيتجه وجهة اخرى حيث يرى ضرورة الزام المشتري وفاء قيمتها بحسب ما كانت عليه يوم ابرام عقد البيع بينما سلك محمد طريقا ثالثا فلزم المشتري بسداد اخر ما استقرت عليه قيمة هذه النقود قبل زوال قوتها الشرائية او اختفاءها(1) .
اما الاحتمال الثاني : فهو ان يترتب على تغير الظروف انخفاض او ارتفاع في قيمة النقود وذلك دون ان تذهب قيمة تلك النقود ذهابا مطلقا بسبب الكساد او الانقطاع كما راينا ذهب ابو حنيفة الى الزام المقترض في عقد القرض رد ماقبض من عدد النقود ودون اي اعتبارا لما تكون عليه قيمتها اما ابو يوسف فقد الزم المقترض برد قيمة النقود المقترضة بالذهب بحسب ما كانت عليه هذه القيمة يوم ابرام عقد القرض . اما محمد فقد اوجب على المقترض رد قيمة النقود يوم اختلال قيمتها . ويظهر من عرض هذه الآراء الفقهية ان ابا حنيفة ومحمدا وبخلاف ابو يوسف كما في المسالة السابقة يقتضيان بتعديل شروط العقد اذا ما تغيرت قيمة النقود .
بقي ان نشير ان الاحكام الناشئة بشان الظروف الطارئة لاتنطبق على جميع الانواع من العملات ولكنها تنطبق فقط على العملات المسكوكة من معادن اخرى غير الذهب والفضة وذلك كالنحاس والبونز والحديد وهي يسمونها ( الفلوس والدراهم والقروش ) وكان من اصنافها في الازمنة القديمة ، البخارية والطبرية والايزيدية .
اما العملات التي كانت تسك من معدن الذهب والفضة وهي التي يسمونها النقود فلم تخضع لاحكام الظروف الطارءة وكان من اصنافها قديما الشيريني والبندتي والمحمدي والكلبي والريال . وربما كان السبب في عدم خضوع العملات الذهبية والفضية لحكم الظروف الطارئة هو احتواءها على قيمة ذاتية تكاد تكون ثابتة من المعدن النفيس هذا فضلا عن قيمتها الرسمية بخلاف الحال بالنسبة للفلوس والدراهم والقروش والتي ليس لها هذه القيمة الذاتية الثابتة .

الظاهرة الثانية : اوامر وتوصيات السطان او الحاكم :
تكلمنا حتى الان عن الظاهرة الاولى : وهي الخاصة بتغير قيمة النقود تبعا لتغير الظروف الاقتصادية اما الظاهرة الثانية فهي التي تتصل بما يصدره السلطان او الحاكم من اوامر او توجيهات يكون القصد منها تخفيض سعر بعض العملات التي تدخل في المبادلات …
والحكم في هذه الصورة هو العملة اذا مانت معينة بنوعها باتفاق الطرفين المتعاقدين وصدر امر سلطاني بتخفيض قيمتها فليس للبائع او المقترض ان يرفض استلامها بحجة نقص قيمتها اما اذا لم تعين عملة بذاتها فانه بموجب الوفاء باية عملة اخرى وبحسب القيمة المتفق عليها في العقد . واذا حدث امر السلطان بالتخفيض ليشمل عدة انواع من العملات بحيث جاء التخفيض متفاوتا بين هذه الانواع فيبدو ان المشكلة في هذه الفرضية تاخذ طابعا معقدا فاذا اطلقنا يد البائع او المقرض في تحديد العملة التي يقبل التسوية على اساسها لما تردد في اختيار العملة الاقل تخفيضا وفي هذا ضرر بالمشتري او المقترض . واذا نحن خيرنا المشتري او المقترض في تعيين العملة التي يفضل الوفاء بها لما كان امامه اختيار الهملة الاكثر تخفيضا وفي هذا ضرر بالبائع او المقرض .
وكحل لهذا الاشكال يجب ان يتم التصالح على العملة التي تقع في مركز وسط منعا للاجحاف والظلم وتوزيعا للضرر بين المتعاقدين ( يقول ابن عابدين اما اذا صار ما كان قيمته ماءة من نوع يساوي تسعين ومن نوع اخر خمسة وتسعين ومن اخرى ثمانية وتسعين فان الزمنا البائع باخذ ما يساوي التسعين بماءة فقد اختص الضرر به وان الزمنا المشتري بدفعه بتسعين اختص الضرر به فينبغي وقوع الصلح على الاوسط ) فهذا الحكم يقيم نظاما لتوزيع العبء الطاريء بين المتعاقدين لايختلف عن النظام المقابل له في نظرية الظروف الطارئة الحديثة(1).

الموضوع الثاني : تغير القيمة الايجارية :
القاعدة العامة هي عدم امكان فسخ عقد الايجار او تعديل الاجرة لمجرد حدوث تغير في اجرة المثل زيادة او نقصا الا ان هذه القاعدة العامة يرد عليها استثناءان : الاول يتعلق بالوقف واما الثاني فيرتبط بالحكر .
الوقف : نظرا لاهمية نظام الوقف في الشريعة الاسلامية فقد احيط ببعض الاحكام المتعلقة بالظروف الطارءة فاذا حدث ان تغيرت الظروف الاقتصادية بمرور الزمن تغيرا افضى الى زيادة اجر المثل تعين العمل على زيادة اجرة الوقف تبعا لذلك ويشترط لتطبيق هذا الحكم ان تكون زيادة اجرة المثل عامة بحيث تغطي جانبا كبيرا من العقارات المماثلة للوقف تبعا لذلك فاذا تطوع شخص ما بزيادة الاجرة تعنتا على مستاجر الوقف لم ينطبق الحكم المذكور . كما يشترط ايضا لاجراء الحكم السابق ان يكون الفسخ فيما اذا اقتضته ظروف الحال ممكنا فاذا تصادف وجود مزروعات بارض الوقف لم تحصد بعد لم يفسخ العقد وانما يستبقي باجر المثل حتى تستحصد تلك المزروعات هذا عن زيادة اجر المثل ، اما في حال انخفاضها فالمتفق عليه بين الفقهاء هو عدم تاثر عقد الاجارة بذلك وبالتالي عدم فسخه وانما روعي هذا الحكم الاخير لمعنى النظر للوقف(1).
الحكر : يختلف الحكر عن الوقف في شان الظروف الطارئة في انه بالامكان زيادة اجرته او نقصانها تبعا لما قد تئول اليه اجة المثل من زيادة او نقصان وتسمى هذه العمليةبتصنيع الحكر(2) .

المبحث الثاني
موقف الفقه المالكي من الظروف الطارئة
كما ان الاحناف قد نجحوا في استخلاص الاحكام التي تنظم الحكم كذلك المالكية وفقوا في ا برز الاحكام التي تنظم الجوائح .

نظرية الجوائح :

تقوم فكرة الجوائح على بيع الثمار وهي ماتزال ملتصقة باشجارها فتصيبها نازلة قبل قبضها فعليا فتؤدي الى تلفها ونقصان قيمتها . ويمكن تعريف الجائحة بانها كل نازلة او آفة تصيب الثمار المبيعة وهي على رؤس الاشجار فيوضع عن المشتري من الثمر بقدر ما اصابته الجائحة وحول طبيعة الجائحة ونطاقها اختلف فقهاء المالكية وذهبو في ذلك ثلاث مذاهب : المذهب الاول : ( ومنه مطرق ) يرى ان للجائحة لاتكون الا في الحوادث او النازلات السماوية وهي التي لاترجع في اصل الى فعل الآدميين ، مثال ذلك امحسار مياه العيون وانقطاع المطر وغارات الجراد واسراب الطيلر وهبوب الرياح وتقلبات الطقس مابين حر لافح وبرد قارس وانتشار الديدان التي تتلف الثمر وحدوث العفن الذي يحلل خلايا النبات الى غير ذلك من انواع الجوائح . اما المذهب الثاني ( منه ابن نافع وابن قاسم ) فيرى ان الجائحة تشمل بالاضافة الى الافات السماوية افعال الادميين اذا كانت غالبة كاجتياز الجيش الجرار فمما لاريب فيه ان المتعاقدين لايستطيعان دفع هذا الجيش او رده ، اما اذا كانت افعال الادمين غير غالبة حتى وان حدثت بغتة وعلى حين غرة كالسرقة مثلا فانها لاتعتبر في حكم الجائحة اذ من الممكن التحرز منها . اما المذهب الثالث : ( وفيه رواية عن ابن القاسم ) فقد توسع في معنى الجائحة بحيث جعلها تشمل كل الافعال سماوية كانت ام آدمية طالما انها لم تكن ترجع في مصدرها الى اي من المتعاقدين ، وقد حاول انصار كل المذاهب الثلاثة السابقة ان يوجدوا تبريرا لما ذهبوا اليه . الذين قالوا بقصر الجائحة على النازلة السماوية وحدها احتجوا بظاهر الحديث الشريف ( أرأيت ان منع الله الثمرة ) وقالوا ان المنع يرجى الى الله تعالى وليس الى فعل الانسان ، والذين اضافوا فعل الآدمي اذا كان غالبا فقد وجه الشبه بين الحادثة السماوية والفعل الانساني الغالب من حيث الاستقصاء على الدفع والرد . اما الذين توسعوا في معنى الجائحة فشملت عندهم الحادثة السماوية والآدمية بخلاف الافعال التي تصدر عن المتعاقدين وبخاصة المشتري فيبدو انهم اخذوا بفكرة المسؤولية العقدية وهي الفكرة التي اقتربت بهم كثيرا من المفهوم الحديث للظروف الطارئة(1).

والقاعدة العامة في الفقه الاسلامي هي ان المشتري اذا تسلم الثمار المبيعة ثم اصابتها جائحة ونتج عن ذلك هلاكها كليا او جزئيا فان تبعة هذا الهلاك انما تكون على المشتري الا ان فقهاء المالكية استثنوا هذه الحالة بسبب بقاء الثمار بملك البائع هو الشجر فقضو بان تكون تبعة الهلاك على البائع وذلك لقيام مسؤوليته عن حفظ الثمرات وريها ، اذ ان هذه الثمرات ماتزال تعتمد في بقائها وحياتها على هذه الاشجار , وهذه الصلة والعلاقة الخفية بين الثمار وهي على ملك المشتري والاشجار وهي على ملك البائع ، انما ينطوي على المعنى الحقيقي والحكمة الفريدة في تطبيق نظرية الجوائح على هذه الطائفة من البيوع .
و حتى يمكن تطبيق نظرية الجوائح يتعين البحث عن معيار للجائحة فليست كل جائحة تستوجب الحق من الثمن ولهذا يشترط فقهاء المالكية ان تؤثر الجائحة في الثمار بمقدار الثلث او تزيد وبالنسبة للبقول يرى جانب آخر من هذا الفقه ، جواز تطبيق الجوائح عليها حتى وان تاثرت فما دون هذا المقدار(1)

المبحث الثالث آراء المذاهب الاخرى
اولا بالنسبة لنظرية الاعذار :

اخذت المذاهب الفقهية الاخرى بنظرية الاعذار الا انها تباينت في الاخذ بها ما بين قوة وضعف وضيق واتساع وذلك على النحو التالي :

المذهب الشافعي :
طبقت نظرية العذر في الفقه الشافعي تطبيقا واضحا غير ان مجال تطبيق هذه النظرية في الفقه الشافعي جاء في اطار اضيق مما هو عليه في الفقه الحنفي ، والسبب في ذلك يرجع اساسا الى تطوير الشافعية لعقد الاجارة فهم يرون ان المعقود في عقد الاجارة هو العين ذاتها وليس المنفعة ، ومن هذا نرى انهم قد عجزوا عن تطوير وجود اختلال في المنفعة بمعزل عن العين فنظريتهم للمنفعة تتحدد بحدود العين وتدور معها وجودا او عدما ومن هنا فقد جاء اعترافهم بالاعذار مقصورا على الحالات التي يكون فيها فوات المنفعة راجعا الى اخلال في العين ودون وسائل تحصيلها . فاذا استاجر شخص دارا ثم تهدمت هذه الدار كليا او جزئيا او استاجر دابة ليسافر على ظهرها ، فمرضت هذه الدابة ، او نفقت ، او استاجر ارضا لزراعتها فاغرقها سيل او فيضان او انحسر عنها الماء الذي تعتمد عليه وحده في سقيها ففي جميع هذه الحالات فاتت المنفعة لحدوث خلل في العين المؤجرة فيثبت حق المستاجر حق الفسخ بسبب العذر . اما اذا فاتت المنفعة من غير حدوث خلل بالعين المؤجرة فان حق الفسخ لايثبت بالعذر لبقاء العين مع امكان استيفاء المنفعة منها . فاذا قام شخص بزراعة ارض كان قد استاجرها لهذا الغرض ثم هلكت المزروعات او اصابها تلف بسبب غارات للجراد ، او بسبب حريق ، او استاجر ذلك الشخص دابة لينقل عليها بضاعة او امتعة ، فاحترقت تلك البضاعة او الامتعة او سرقت ، او كان قد اصيب هو نفسه بمرض اقعده عن السفر ، او حتى اذا مات ، ففي جميع هذه الفروض وما يماثلها لايثبت حق الفسخ للمستاجر بسبب العذر( لان المعقود عليه باق وانما تعذر الانتفاع لمعنى في غيره ) وكما يكون انذارحسيا يمكن ايضا ان يكون شرعيا(1) .

المذهب الحنبلي :

طبق فقهاء المذهب الحنبلي نظرية الاعذار ضمن حدود معينة الا انهم من الواضح ان هؤلاء الفقهاء لم يتوفقوا في تطبيق الاعذار توسع الاحناف كما انهم لم يضيقوا فيه تضييق الشافعية . فمن ناحية اولى نجدهم يقصرون تطبيق حكم الاعذار على الحالات التي تفوت فيها المنفعة نتيجة لحدوث خلل بالعين المؤجرة كانهدام الدار على سبيل المثال وهم يضيفون الى ما تقدم ايضا الحالات التي تعذر فيها استيفاء المنفعة تعذرا شرعيا ومن ناحية ثانية نجدهم يعترفون بالاعذار التي تحصل بمجرد عدم التمكن من استيفاء المنفعة ، حتى وان لم يحدث خلل في العين المؤجرة الا انهم اشترطوا لذلك ان يكون العذر عاما وليس فرديا كحدوث الخوف العام الذي يمنع المستاجر من استيفاء منفعة الدار المستاجرة كالحصار الذي يفرضه الاعداء على احد المدن فيحول ذلك دون خروج المستاجر الى حيث يباشر زراعة الارض المستاجرة (1).

مذهب الشيعة الامامية :

طبق المذهب الامامي نظرية الاعذار في كل الاجارات فقد ورد عن الامام الطوسي قوله (كل ارض كان لها ماء قائم من نهر كبير او صغير مشتق من كبير او عين او بئر او مصنع فانه يجوز اكترؤها للزراعة فان ثبت الماء الى ان يستوفي الغلتين الصيفي والشتوي منها فقد استوفى حقه وان كان قد استوفى احدهما ثم انقطع الماء نظر فان قال المكري انا اجري اليها الماء من موضع اخر لان لي فيه حق الشرب لارضي لم يكن للمكتري الخيار لان العيب قد زال بذلك كما لو اصاب بالمبيع عيبا ثم زال قبل الرد فانه لايرد واما اذا تعذر اجراء الماء اليها من موضع اخر فان الخيار يثبت له في الفسخ . وكذلك القول في كل الاجارات . فان الاجارة تنفسخ لتعذر المقصود منها فانها تبطل فيما بقي ولا تبطل فيما مضى اذا اكترى ارضا للزراعة وغرقت بعد ذلك نظر فان كانت غرقت عقيب العقد بطل العقد وان كان بعد مضي مدة انفسخ العقد فيما بقي ولا ينفسخ فيما مضى )(1) .

ثانيا : بالنسبة الى نظرية الجوائح :

تجمع المذاهب الفقهية المختلفة على تطبيق نظرية الجوائح مثلما اجمعت على تطبيق نظرية العذر ولهذا فقد اختلفت مواقفها بشانها ما بين الاخذ بها او رفضها .

المذهب الشافعي :

فقد اخذ الشافعية بمذهب اهل الكوفة في هذا الخصوص ومذهب اهل الكوفة يرفض تطبيق الجوائح في بيع الثمار ويجعل ضمانها على المشتري وليس على البائع لانها تلفت بعد القبض ويرى الكوفيون ان النسبة بين المشتري والثمار تعتبر في حكم القبض كما انهم لايجيزون للمشتري ابقاء الثمار على الاشجار لان بموجب العقد عندهم هو القبض الناجز(1) .

المذهب الحنبلي :

اعترف المذهب الحنبلي باحكام الجوائح والتعريف الذي وضعه الحنبلية للجائحة هو انها ( كل آفة لا صنع للآدمي فيها كالريح والبرد والجراد والعطش ) ولم يتقيد ظاهر المذهب بمقدار الثلث ، اذ انه لافرق فيه بين قليل الجائحة وكثيرها ففي الحالين يتوجب تقدير حكم الجوائح غير ان فقهاء المذهب الحنبلي استبعدوا من حكم الجوائح الحالات التي تكون فيها الثمار قد تلفت بنسب ضئيلة ، لاتتعدى مقدار ما ياكله الطير او يسقط من نفسه حسب المجرى العادي للامور فاذا اصابت الجائحة الثمار بتلف
يجاوز هذه الحدود المالوفة او المعتادة وضع من الثمن بقدره اذا كان التلف جزئيا وفسخ العقد نهائيا ان كان التلف كليا(1) .

مذهب الشيعة الامامية :

اخذ المذهب الامامي بنظرية الطواريء فقد ورد في شرح اللمعة الدمشقية للفقيه مكي العاملي قوله ( ولو طرأ المنع من الانتفاع بالعين المؤجرة فان كان المنع قبل القبض فله الفسخ لان العين قبل القبض مضمونة على المؤجر فللمستأجر الفسخ عند تعذرها ، وان كان المنع بعد القبض فان كان تلفا بطلت الاجارة لتعذر تحصيل منفعة المستأجر عليها وان كان غصبا لم تبطل لاستقرار العقد بالقبض وبراءة المؤجر والحال ان العين موجودة يمكن تحصيل المنفعة منها برجوع المستأجر على الغاصب باجرة مثل المنفعة الفائتة في يده . ولا فرق حينئذ بين وقوع الغصب في ابتداء المدة وخلالها )(1)

الاستنتاجات :

يمكن حصر النظريات التي انشاها فقهاء المذاهب الاسلامية لموجهة مشكلة تغير الظروف في ثلاث نظريات رئيسية هي نظرية العذر ، نظرية تغير القيمة ، ونظرية الجوائح . وتعتبر نظرية العذر من اكثر هذه النظريات شيوعا .

التوصيات :

1 ـ يمكن تطبيق نظرية الظروف الطارئة وتوسيعها على جميع العقود التي يفصل بين ابرامها وتنفيذها فترة من الزمن يطرأ خلالها حادث استثنائي غير متوقع يجعل تنفيذ الالتزام مرهقا للمدين ، فعلى المتعاقدين المطالبة بتطبيق النظرية اذا صار ما انيط به من التزام مرهقا لما يجاوز حدود السعة لتطبيق الموازنة بين مصلحة الطرفين استنادا الى الفقه الاسلامي وعملا بالاية القرآنية الكريمة ( فان تنازعتم في شيء فردوه الى الله والرسول )
2 ـ ان يجتهد القضاء في الدول الاسلامية لسن القوانين المستمدة من الفقه الاسلامي على حل النزاعات التي قد تحصل بين المتعاقدين نتيجة للظروف الطارئة .

المصادر
1 ـ بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع للكاساني ، علاء الدين ابو بكر بن مسعود ،
مطبعة العاصمة مصر ( 1328 ه
2- البحر الرائق شرح كنز الدقائق ، احمد بن حسين بن على المشهور بالطوري ،الطبعة العلمية بمصر ( 1311 ه ) .
3- تبين الحقائق شرح كنز الدقائق ، فخر الدين عثمان بن علي الزيلعي ، ط 1 ، مطبعة الجمالية ( 1328 ه ) .
4- حاشية بن عابدين ، علي الدر المختار ، ط 2 ، مطبعة البابي مصر ( 1386ه )
5- رسالة تنبيه الرقود على مسائل النقود ، مجموعة رسائل ابن عابدين .
6- الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية ، محمد بن جمال الدين مكيالعاملي ، دار التفسير للطباعة والنشر .
7 – الفتاوى الهندية ، تاليف جماعة من علماء الهند في القرن الحادي عشر للهجرة ، ط 2 ، بولاق ( 1310 ه ) .
8- الام ، ابو عبدالله محمد بن ادريس الشافعي ، بيروت لبنان.
9- مجموعة الانهر في شرح ملتقى الابحر ، لعبد الرحمن ابن الشيخ محمد بن
سلمان ، بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع للكاساني ، علاء الدين ابو بكر بن مسعود ، مطبعة العاصمة مصر ( 1328 ه )
10- مصادر الحق في الفقه الاسلامي ، د . عبد الرزاق السنهوري . تبين الحقائق شرح كنز الدقائق ، فخر الدين عثمان بن علي الزيلعي ، ط 1 ، مطبعة الجمالية ( 1328 هـ ) .
11- المبسوط في فقه الامامية ، الشيخ الطوسي ( 460 هـ ) ،تحقيق محمد الباقر البهبودي ،المكتبة المرتضوية ، 1387 ه .
12- المدونة الكبرى ،للامام مالك ، تحقيق المغربي ، مطبعة السعادة .
13- المغني ، موفق الدين ابي محمد عبدالله بن احمد بن محمود بن قدامة ، مطبعة المنار ( 1367 ) .
14 ـ المهذب للشيرازي ، مطبعة مصطفى الحلبي ( 1343 ه ) .

إغلاق