دراسات قانونيةسلايد 1

بحث عن التنظيم الإداري للدولة وأبعاد تدعيم العلاقة بين الإدارة المركزية والجماعة الترابية بالقانون المغربي

عرف التنظيم السياسي والإداري للدولة تطورات متتالية إرتبطت بظروف سياسية وأخرى إقتصادية تحكمت في شكل الدولة وأجهزتها الإدارية، فلم تترك لها مجالا للإستمرار في تنظيمها الإداري وعلاقاتها السياسية التي إتسمتا بطابع التقليدية في الهيكلة، وكذا العشوائية في الإدارة.

إن الإدارة في الدولة كانت تأخذ بالتنظيم المركزي أو ما يسمى “بالمركزية المفرطة” التي لا تترك مجالا معقولا للتصرف والإدارة للفاعليين المحليين، بمعنى غياب التضامن في ممارسة الإختصاصات وتحمل المسؤولية والمساهمة في التنمية بين الإدارة المركزية والفاعليين المحليين، نتج عن ذلك توثر العلاقة بين الإدارة المركزية والمواطن المحلي لتنتقل فيما بعد لتوثر بين الإدارة سواء المركزية أو المحلية والمواطن.

ساهم هذا التوثر في العلاقة المرتبط بغياب الثقة بين المواطن والإدارة المركزية بالإضافة لضغوط خارجية كان لها الأثر الكبير في تبني تنظيم مزدوج قائم على مركزية توجد على مستوى عاصمة الدولة ولها مصالح على المستوى الترابي، ولامركزية على مستوى ترابها المحلي، وذلك دون أن نتجاهل وضع الدولة الذي كان مهدد في وجوده وسلامته بالنظر لتفشي مظاهر الضعف والتخلف المرتبط بإنتشار بعض الظواهر السيئة في بعض أجهزة الدولة، وكذا بإستنزاف خيراتها من طرف المستعمر الذي قام بتنمية مناطق على حساب المناطق الأخرى، لكن تنمية تلك الجهات والمناطق كان بغرض تسهيل إستنزاف خيراتها وبسط النفوذ عليها.

كان لهذه الأسباب وغيرها فضل في وعي الدولة بأهمية تبني تنظيم قائم على المركزية واللامركزية، وجاء ذلك بعد الإستقلال، حيث إعترف المشرع للهيآت المحلية بمقتضى ظهير 23 يونيو 1960[1] بسلطة إدارة شؤونها بإستقلال نسبي محدود سيتوسع بتطور هياكل الدولة وإستقرار وضعها السياسي، وكذا بتطور مستوى وقدرات هذه الهيآت المحلية.

والقول بوجود إدارة محلية ما بعد الإستقلال لا ينفي وجود تنظيمات محلية عرفها المغرب قبل هذه الفترة، لكنها تنظيمات تقليدية لم تندرج في تنظيم الدولة بل كانت داخل جماعات وقرى حكمتها أعراف القبيلة ولم تخضع بشكل واسع للقوانين التي صاغتها الدولة[2].

إلا أن هذا التنظيم القانوني – الأول من نوعه – للجماعة المحلية لم يرقى إلى مستوى التطلعات والطموحات التي ظل يعبر عنها الفاعلون والمهتمون والمطالبون بتوسيع هامش الحريات وتدعيم الديمقراطية بالبلد، ذلك أنه كرس وصاية إدارية ومالية صارمة مقترنة برقابة مشددة وصلت إلى درجة هيمنة رجل السلطة – ممثل الإدارة المركزية على المستوى الترابي – على الإدارة المحلية.

وهذا ما دفع بالمشرع إلى إيجاد إطار قانوني جديد يدعم إختصاصات الجماعة المحلية ويرفع من مستوى إستقلالها عن الإدارة المركزية وممثليها على المستوى الترابي، وذلك أن أصدر ميثاق جماعي بتاريخ 30 شتنبر 1976 الذي يعتبر منعطفا مهما للتنصيب الفعلي والإقرار الجاد للامركزية الجماعية بالمغرب، إذ إعتبر في حينه مرحلة جد متقدمة في مجال الديمقراطية المحلية من خلال إرتقائه بالجماعة إلى مستوى مسير إقتصادي وفاعل في التنمية.

لكن الغموض والإلتباس الذي تميزت به جل مصطلحات هذا التنظيم الجماعي، وعدم مواكبته لتطور الدولة وتوسع مجالات تدخلها وتوسيع علاقاتها، وأيضا تطور التجارب القريبة من البلد في مجال تنظيمها الإداري والسياسي المدعم لمجال الحقوق والحريات والمنفتح على باقي الفاعليين داخلها فرض على المشرع تبني ميثاق جماعي جديد سنة 2002[3]، والذي إنتقل بالجماعة من مستوى مسير إقتصادي إلى درجة الجماعة المقاولة، من خلال توسيع إختصاصاتها وتدعيم هامش إستقلالها وتأطير أكثر لمجالات تدخلها التي أصبحت تحت حماية بنود قانونية واضحة في جوانب وغامضة في جوانب أخرى.

وتدعم هذا المسلسل في اللامركزية – في وحدتها الجماعية – بتعديل وتتميم بعض بنود الميثاق الجماعي لسنة 2002 بمقتضى الميثاق الجماعي لسنة 2009[4]، لكنها تعديلات لم تمس الجوهر بقدر ما مست الشكل، وإن كانت قد دعمت وأضافت بعض المجالات التي لم يكون منصوص عليها في الميثاق الجماعي لسنة 2002.

سنحاول في هذا المقال دراسة العلاقة بين الإدارة المحلية والسلطة المركزية وفق القوانين الحالية، ومحاولة إعطاء رؤية لمستقبل العلاقة بين الإدارة المركزية والجماعة الترابية في أفق تنزيل فصول الدستور الحالي في مجال اللامركزية الجماعية التي هي محور حديثنا في هذا المجال. معتمدين في ذلك على محورين:

المحور الأول: واقع العلاقة بين السلطة المركزية والإدارة المحلية

المحور الثاني: آفاق تدعيم العلاقة بين السلطة المركزية والجماعة الترابية

……………………………………

المحور الأول: واقع العلاقة بين الإدارة المحلية والسلطة المركزية

تدرجت العلاقة بين الإدارة الجماعية والسلطة المركزية بتدرج المراحل التاريخية التي مرت بها اللامركزية الجماعية، فمن علاقة تطبعها التبعية والخضوع وإصدار الأوامر والتدخل شبه الكامل في شؤون الجماعة من قبل الإدارة المركزية، والتي تبرره حداثة التنظيم الجماعي وقلة موارده وإمكاناته المالية والبشرية هذا من جانب، وأيضا من جانب آخر توجس وحيطة الإدارة المركزية من خلق وحدات ترابية قد تنافسها في الإختصاصات ومستوى الإستقلال الذي قد ينتج عنه تمرد هذه الوحدات وتقوية مكانتها في مواجهة الإدارة المركزية.

إن هذا القول تدعمه الإختصاصات الإدارية الممنوحة للجماعة في هذه المرحلة ومستوى المراقبة من طرف ممثل الإدارة المركزية والتي تؤكد على هذا التوجس والحيطة المبررين بالوضع السياسي للمغرب الذي كان لازال مضطربا، إذ لم يكون قد مر على إستقلاله سوى أربع سنوات، حيث ترك المستعمر البلد تتخبط في العديد من المشاكل على مختلف المستويات لعل أهمها المشاكل الإجتماعية الحادة، والتي ستلقي بضلالها على أمن البلد وإستقراره من خلال وقوع إضطربات خطيرة كانت لها إنعكاسات وخيمة على جميع الأصعدة.

وإنتقلت هذه العلاقة بين الادارة المركزية والادارة المحلية إلى مستوى آخر مع صدور الميثاق الجماعي سنة 1976، بحيث ترسخت أكثر فكرة اللامركزية الجماعية وسلمت بها الادارة المركزية، فأصبح الفاعل المحلي يتمتع بإختصاصات وإن لم تكون مواكبة لما ينبغي منحه اياها من الاختصاصات إلا أنها كانت بداية للظهور الفعلي للإدارة المحلية كهيئة تمثل التنظيم اللامركزي ببعض مقوماته والتي تصب في رفع مستوى إستقلالها عن الادارة المركزية، وهكذا إستوعبت هذه الاخيرة أن التنظيم اللامركزي وتدعيم اللاتركيز الاداري أصبح ضرورة تمليها التطورات الاقتصادية والسياسية المتعاقبة والمحكومة بالسرعة لإرتباطها بمحيط دولي عولمته العولمة فأصبح يربط علاقات فقط مع الدول التي تواكب وتساير الركب وتطور من آليات عملها وتقوم بتحديث هياكلها الادارية بإستمرار.

وفي هذا الاطار كان لزاما على المشرع العمل على تبني إطار قانوني جديد يدعم التنظيم اللامركزي عموما والادارة الجماعية على الخصوص، حيث أصدر ميثاق جماعي جديد سنة 2002، والذي عمل من خلاله على تدعيم إختصاصات الجماعة المحلية وتوسيع مجالات تدخلها ورفع مستوى إستقلالها وخلق آليات جديدة لعملها وتأطير أكثر لعلاقتها مع الادارة المركزية وممثليها على المستوى المحلي، فإذا كانت باقي الوحدات الترابية ( الجهة- العمالات والاقاليم) قد عرفت تطورات متعاقبة لكنها ظلت تراوح مكانها لضعف في مواردها المالية وإمكاناتها اللوجيستيكية، هذا الضعف المؤثر على مستوى إستقلالها عن الادارة المركزية، فإن الإدارة المحلية حققت تطورات نوعية إن على مستوى إختصاصاتها ومجال تدخلها أو على مستوى إستقلالها عن السلطة المركزية وممثليها على المستوى المحلي.

إلا أننا حينما نقول أن الجماعة حققت تطورات نوعية فهذا فقط بمقارنتها مع تطور باقي الوحدات الترابية، لأن الإدارة المحلية بدورها لازالت تعاني من مشاكل تحد من تطورها، من بينها ثغرات في الاطار القانوني المنظم لها وضعف في تأهيل مواردها البشرية وعدم الإستغلال الأنجع لإمكاناتها الطبيعية في التنمية، لكن بالموزاة مع ذلك إستطاعت بعض الجماعات تحقيق التطور والتنمية في نطاق حدودها الترابية.

وإستجابة لهذا الوضع وإرتباطا بظروف سياسية عمل المغرب على تغيير إستراتيجيته في مجال تبني نظام لامركزي أكثر تطورا وحداثة وإستجابة لمتطلبات المواطنين.

هذا التوجه الذي رسم ملامحه الدستور الحالي لسنة 2011 لتتكلف القوانين التنظيمية عند صدورها بإبراز هذه الملامح وتبيان الوجه الحقيقي الذي سيكشف عن مستقبل العلاقة بين الإدارة المركزية والجماعات الترابية وعلى رأسها الجهة. لنتكفل نحن في هذا المقال بإعطاء رؤية لآفاق العلاقة بين السلطة المركزية والجماعة الترابية فقط ( الجماعات: الحضرية والقروية ) دون باقي الجماعات الترابية ( الجهات – العمالات والاقاليم).

المحور الثاني: آفاق تدعيم العلاقة بين السلطة المركزية والجماعة الترابية

لقد تبنى المغرب نصا دستوريا جديدا سنة 2011، فبغض النظر عما إذا كان جاء نتيجة تراكمات وتبني توجه إصلاحي من طرف الدولة عقب تولي جلالة الملك الحكم أو نتيجة ضغوط فرضتها توثرات إقليمية غيرت الخريطة الداخلية لدول شمال إفريقيا وأربكت حسابات الهيآت الحاكمة بها، والمغرب لم يكون بمنآى عن هذه التوثرات والاحتجاجات والمشاحنات التي عرفتها جل شوارع المملكة والمطالبة بمحاربة كل أشكال الفساد والتي تعاملت معها السلطات الادارية بنجاعة وذكاء.

وبصرف النظر عن هذا النقاش الذي له من الاهمية بما كان، فالبلد غير من خلال فصول الدستور الحالي الرؤية التقليدية القاصرة على التدبير المرتبط بشكل كبير بالهيآت المركزية التي تتوفر على إختصاصات مهمة وتتدخل في جل المجالات وتشرف وتراقب بشكل دقيق أغلب الهيآت الاخرى والمؤسسات وباقي الفاعليين، فيما يبقى بعض الفاعلون فقط مستهلكين “للمنتوج الاداري”، إذ ليس هناك ما يلزم الادارة على إستشارتهم في القرارات ولا حتى إشراكهم في جانب يهم تدبير ترابهم المحلي، هذا إذا ما إستثنينا بعض النصوص القانونية التي ذكرت موضوع الاستشارة في بعض المجالات بشكل عرضي يكتسب طابع “البروتوكول” أكثر منه إبتغاء جوهر الاستشارة وهدف المشاركة.

هذا الذي جعل صدور دستور جديد أمرا محتما قد يكون “الربيع العربي”[5] عجل بصدوره، لكن البلد عرف إصلاحات جوهرية قبله ونهج مقاربات تدبيرية حديثة، وركز على مشاريع ضخمة للاصلاح لعل أهمها المبادرة الوطنية للتنمية البشرية ومشروع الجهوية الموسعة وأيضا مشروع الحكم الذاتي للاقاليم الصحراوية التي لا تتجزأ عن التراب الوطني.

وقد عمل المشرع الدستوري على منح الجهة كجماعة ترابية مكانة الصدارة بين باقي الجماعات الترابية[6] ورسم مشروع الجهوية الموسعة ملامح الجهة مستقبلا وهي مقترحات من طرف اللجنة الاستشارية للجهوية يبقى للمشرع سلطة الاخذ بها أو تجاهلها في القانون التنظيمي للجهة، إنطلاقا من هذه الصدارة التي حظيت بها الجهة فإنها ستكون صلة الوصل في جوانب عديدة بين الادارة المركزية وباقي الجماعات الترابية ومنها الادارة الجماعية.

لقد تبنى المغرب آليات جديدة في الدستور الحالي ومنها التدبير الحر القائم على توسيع سلطة تدخل الجماعة الترابية والتخفيف من سلطة الرقابة عليها، وبناء علاقة جديدة بينها وبين الادارة المركزية، وأيضا بينها وبين ممثلي السلطة المركزية على المستوى الترابي.

وأيضا التركيز على آليات الحكامة ونهج المقاربة التشاركية ومقاربة النوع الاجتماعي، وخلق مؤسسات جديدة ستعمل على هيكلة مجالات لم تكون تحظى بأهمية كبيرة، وتبني سياسة القرب بشكل أكثر جدية بضمانات قانونية ومؤسساتية، وإشراك المواطن في مسلسل صناعة القرار المحلي وضمان الحماية له من أي شطط سيحول دون إستفادته من هذه المكاسب، وهي مقتضيات إلى جانب مقتضيات أخرى تكرس سياسة الانفتاح التي نهجتها الدولة والتي كان لها ما لها وعليها ما عليها، لتترسخ هذه السياسة التي تبقى وحدها الكفيلة بتجاوز عوائق وتحديات التنمية المستدامة.

لكن تأخر صدور قوانين تنظيمية والطابع الإرتجالي الذي تسير به الحكومة الشأن العام، وتهرب ولامبالاة رئيس الحكومة بممارسة الاختصاصات التي منحت له بشكل صريح في الدستور، يجعل مستقبل العلاقة بين الادارة المركزية والادارة المحلية التي رسمت ملامحها كما سبق الاشارة لذلك فصول الدستور الحالي مجهولا، فالتوجه الذي تنهجه الحكومة يشكك في مدى تنزيل المضامين الجديدة بشكل يحقق رؤية حديثة في التدبير العمومي ويدعم النظام اللامركزي ويحقق التقدم في مجال اللاتركيز الاداري، هذه الرؤية التي لمحت لها الوثيقة الدستورية.

المراجع
-[1]شكل ظهير 23 يونيو 1960 أول تنظيم قانوني يتعلق بالجماعة المحلية جاء ليؤسس النواة الأولى في مسلسل التنظيم الجماعي منخلال الاعتراف للجماعات المحلية بالاستقلال المالي وبالشخصية الاعتبارية .

[2]- من أبرز هذه التنظيمات المحلية ” نظام الجماعة ” الذي يوجد على رأسه شخص عرف بتقواه وورعه وعلمه وحنكته في الفصل في خصومات سكان الجماعة، يطلق على هذا الشخص ” أمغار”، قراراته ملزمة لساكنة “الجماعة”، أما فيما يخص علاقة وولاء هذا التنظيم للدولة جد محدودة بل جمعته علاقة توثر معها. ولازالت مثل هذه التنظيمات إلى وقتنا لكن بشكل محدود من حيث سلطتها، بموازاة ذلك هناك مناطق تخضع لهذا التنظيم القبلي القائم على العرف بشكل كبير ويمكن ألا تخضع لقوانين الدولة في حياتهم الإجتماعية بالخصوص ( الزواج- الإرث-…).

– قانون 78.00 الصادر سنة 2002.[3]

– قانون 17.08 الصادر سنة 2009[4]

[5] – نظرا لكون المقال ذو طابع أكاديمي بعيد عن التحليل السياسي والايديولوجي، فإن هناك مدافعين عن مصطلح “الربيع الديمقراطي” بدل مصطلح “الربيع العربي” لأنه حسبهم المصطلح فيه حيف كبير بالنسبة لهم، كونهم ينحدرون من أصول أمازيغية وليست عربية، والمصطلح يقصيهم من ربيع عاشوا تفاصيله ودافعوا عن التوجهات التي نزل المواطنين للشارع من أجل التعبير عنها.

[6] – عوضت عبارة الجماعات المحلية بعبارات الجماعات الترابية في الدستور الحالي، وهو تغيير لم يكون في محله، فالجماعات المحلية أكثر دقة وتعبيرا عن الهيءة اللامركزية على إعتبار أن الدولة بدورها جماعة ترابية.

إغلاق