دراسات قانونيةسلايد 1

قرينة البراءة في الفقه الجنائي (دراسة قانونية)

نقد المدرسة الوضعية لقرينة البراءة :

للوقوف على الانتقادات التي وجهتها المدرسة الوضعية لقرينة البراءة، نبحث هذا الموضوع من خلال ثلاثة محاور، نركز في الثاني منها على نقد المدرسة الوضعية لقرينة البراءة، وفي الثالث نقدها لقواعد الإجراءات المستوحاة من قرينة البراءة، اما الأول فسيكون تمهيداً ومدخلاً لهذا النقد من خلال بيان ابرز مبادئ السياسة الجنائية للمدرسة الوضعية، بعدِّها الأساس الذي ارتكز عليه نقدها.

الفرع الأول/ السياسة الجنائية للمدرسة الوضعية

الفرع الثاني/ النقد الموجه لقرينة البراءة

الفرع الثالث/ النقد الموجه لقواعد الإجراءات الجنائية المستوحاة من قرينة البراءة

الفرع الأول / السياسة الجنائية للمدرسة الوضعية

في الواقع ان ملامح السياسة الجنائية للمدرسة الوضعية كافة، انما تبدأ من مقدمة، يعتقد بها الوضعيون تماماً، ولذلك فهم يسلمون مسبقاً بكل ما يترتب على هذه المقدمة من نتائج. إذ يرون ان الجريمة ليست اثماً دينياً أو نقيصة خلقية، ولكنها نتيجة لعوامل ذاتية أو اجتماعية سخرت مرتكب الجريمة تسخيراً لا يملك ازاءه أي اختيار لإرادته. ومن ثم فإن تدخل المجتمع قبل المجرم لا يقوم على أساس خلقي، وانما على أساس دفاع المجتمع عن نفسه ازاء الخطر الذي يتهدده (1). وعليه فإن مبادئ السياسة الجنائية للمدرسة الوضعية، قامت أساساً على إنكار معظم ما نادت به المدرسة الجنائية التي سبقتها – أي المدرسة التقليدية – بحجة انها تعتمد أساليب غير علمية في مناقشة الجريمة والعقوبة، وأحلوا محلها الأفكار التي تعتمد المنهج العلمي القائم على التجربة والملاحظة، والذي يتوسل القياس والاستقراء والإحصاء، طرائق للبحث العلمي. ولصلة تلك الأفكار والمبادئ بالنقد الذي وجه لقرينة البراءة، نوجزها بالنقاط الآتية:-

أولا / رفضت المدرسة الوضعية النظرة الميتافيزيقية إلى الجريمة والمجرم، وذلك بعدم تسليمها بالغيبيات أو الأفكار المسبقة، والمعاني الفلسفية المجردة والمطلقة، إذ انطلقت من فرضيات وضعية مستمدة من الواقع المادي الملموس، ومن ثم البرهنة عليها من خلال المنهج العلمي القائم على المشاهدة والتجربة والاستدلال المنطقي(2).

ثانيا / رفضت المدرسة الوضعية ايضا افكار المدرسة التقليدية، قائلة ان السبب في فشل سياستها الجنائية يعود إلى تركيزها على الجريمة دون المجرم، وعلى الفعل دون الفاعل، مع ان الأولى بالاتباع هو العكس، أي الاهتمام بالمجرم، وذلك بالبحث العلمي في اسباب اجرامه، توطئة لعلاجه منها بعد ذلك، تلك الأسباب يمكن ردها إلى نوعين: داخلية (التكوين العضوي والوراثي والنفسي والأمراض ) وخارجية ( بيئية، اجتماعية، اقتصادية،… وغيرها )، على اختلاف بينهما في غلبة أحدهما على الآخر(3).تلك الأسباب والعوامل متى توافرت تدفع حتماً إلى الاجرام، إذ ان كل سلوك يصدر عن الإنسان إنما هو نتيجة حتمية لعوامل لا قبل له بالتخلص منها، الامر الذي يصل به إلى ان يفقد حرية اختياره في ارتكاب أو عدم ارتكاب ذلك السلوك.

ثالثا / نتيجة لما سبق، نبذت المدرسة الوضعية، معظم المفاهيم الجنائية، السائدة في عصرها، ونادت بمفاهيم جديدة ابرزها:-

أنكرت مبدأ ” حرية الاختيار “، ونادت بمبدأ ” الحتمية أو الجبرية “، الذي يقرر ان المجرم، حينما يقدم على ارتكاب الجريمة لا يكون حراً في اختيار سلوكه، انما هو مدفوع إلى هذا السلوك، بقوى حياتية وطبيعية واجتماعية لا قبل له بمقاومتها(4). وبالتسليم بحتمية الجريمة، يكون منطقياً إنكار المسؤولية الأخلاقية للمجرم – بعدِّها أساساً لتحديد رد الفعل الاجتماعي – وحلت محلها نظام جديد للمسؤولية قائم على أساس المسؤولية الاجتماعية أو القانونية. فالمجرم غير مسؤول عن افعاله، اخلاقياً أو جنائياً، انما مسؤوليته اجتماعية، لأنه كائن خطر يعيش ضمن المجتمع، لذا عليه الخضوع لتدابير هذا المجتمع لدرء خطره(5).

ب- كما رفضت المدرسة الوضعية، فكرة “الذنب”، أساساً لفلسفة العقوبة، وقدمت بدلاً عنها فكرة “الخطورة الإجرامية “(6)، بغية ايقاف هذه الخطورة وحماية المجتمع منها.

ج- كذلك انكرت نظام “العقوبة”، بعدِّه رد فعل معادل للجريمة وقدمت بديلاً عنه التدابير الاحترازية والتدابير الإصلاحية، بعدِّه رد فعل مناسب لحالة المجرم(7).

د- وفي ظل اهتمام المدرسة الوضعية بشخصية المجرم – بدلاً من فعل الجريمة – تم تصنيف المجرمين إلى فئات خمس ( المجرمين بالميلاد – المجرمين المحترفون – المجرمين المجانين – المجرمين بالصدفة – المجرمين بالعاطفة )، ووضعت لكل فئة منها تدابير تلائمها(8).

و – وأخيراً تؤكد المدرسة الوضعية، ضرورة توسيع السلطة التقديرية للقاضي، واستقلال القضاء الجنائي، والغاء نظام المحلفين، فضلاً عن الاهتمام بالأشخاص المهيأين للإجرام – نتيجةً منطقية لنظام الخطورة الاجرامية – من قبل القضاء الجنائي والمجتمع على حد سواء(9).

الفرع الثاني / النقد الموجه لقرينة البراءة

كان للمبادئ التي قامت عليها المدرسة الوضعية، وللأفكار التي استندت اليها في بناء سياستها الجنائية، الأثر البارز في سمات النقد الذي وجه إلى قرينة البراءة، بل والى النتائج المترتبة على هذه القرينة في مجال الإجراءات والإثبات الجنائيين، نوجز تلك السمات في النقاط الآتية:-

أولا / لعل النقد الأبرز لقرينة البراءة والذي تتمسك به المدرسة الوضعية بقوة وإصرار، يكمن بالنتيجة التي تقرر بأنه ” لا يمكن تطبيق قرينة البراءة على المتهمين جميعاً “، حيث ينتقد انصار المدرسة الوضعية – بصفة أساسية – الطبيعة المطلقة لهذه القرينة عند تطبيقها في المحاكمة الجنائية، انطلاقاً من تعارض هذا التطبيق مع الفكرة الأساسية التي نادت بها تلك المدرسة، وهي فكرة الاعتقاد بوجود انسان مجرم وآخر غير مجرم، على وفق توافر صفات معينة في الأول تجعله حتماً يميل إلى الإجرام(10). فأن كان صحيحاً قبول تطبيق قرينة البراءة على الإنسان غير المجرم، فإنه من الخطأ قبول هذا الامر على الإنسان المجرم، ومع ذلك فهناك فئات من المجرمين من الممكن افتراض براءتهم اثناء المحاكمة الجنائية، ولكن تطبيق المبدأ بصورة مطلقة على الجميع فيه ضرر وخطر كبيرين على المجتمع. وقد ظهرت تلك النتيجة واضحة عند تطبيق افكار المدرسة التقليدية – حسبما يقرره “فيري” – والتي تركزت فلسفتها الجنائية نحو الاهتمام بالجريمة دون المجرم، فلم تعِ اهمية التمييز بين فئات المجرمين، فكانت البراءة مفترضة للمتهمين جميعاً دون تمييز، مما افضى إلى نتائج عكسية مبالغ بها، لا تصب في مصلحة المجتمع(11). فالرأي لدى المدرسة الوضعية ان تطبيق أصل البراءة في المحاكمة الجنائية لا يكون صحيحاً – فيما يتعلق بفئات المجرمين – إلا بالنسبة لمجرمي الصدفة ومجرمي العاطفة(12).ورفضت تطبيقه بالنسبة إلى بقية فئات المجرمين، وفسرت ذلك بعدِّ الفئات التي تتصف بإجرام (الميلاد، الجنون، الاحتراف) (13).هي فئات الإجرام مطبوع فيها، ولا جدوى من صلاحها، فهؤلاء تتوافر لديهم احتمالات الإجرام أكثر منها احتمالات البراءة، مما يقتضي اتخاذ تدابير احترازية في مواجهتهم، لا ان توضع موضع العناية – التي تفرضها قرينة البراءة ونتائجها – اثناء المحاكمة الجنائية، بينما الامر مختلف بالنسبة للفئات التي تتصف بإجرام ( الصدفة والعاطفة )، فهي فئات لا يوجد لديها أي ميل نحو الإجرام، أو ان الإجرام فيها عرضي، كما انها من الممكن اصلاحها، ومن ثم فهي تستحق ان تكون في موضع البراءة المفترضة(14).

ثانيا / يرى “فيري” ان قرينة البراءة – على فرض التسليم بها – لا أثر لها إلا عندما تكون الأدلة ضد المتهم ضعيفة أو افتراضية. أي انها قد تؤدي دورها كاملاً في مرحلة التحقيق الابتدائي فقط، وفي الحالات التي لا يتوافر فيها ضد المتهم قرائن بسيطة، ومن ثم إذا كانت الجريمة في حالة تلبس، أو عندما يدلي المتهم باعتراف تفصيلي، فإن تطبيق هذا المبدأ يكون معدوم الاثر(15).

ثالثا / يقول انصار المدرسة الوضعية، ان الواقع العملي اثبت فشل قرينة البراءة، إذ ان معظم المتهمين، ينتهي بهم الامر دائماً، إلى صدور احكام بالإدانة ضدهم، وعليه فإن تطبيقها في حقهم، هو في الحقيقة تطبيق لحصانة غير مرغوب فيها، تمنح للمجرمين، مما يسمح لهؤلاء باحتقار القانون، ويشجعهم على ارتكاب الجريمة، ولا ريب ان ذلك يشكل ضرراً وفساداً للمجتمع(16).

جدير بالذكر ان هذا الاعتراض، لم يكن وليد المدرسة الوضعية وحدها، فقد نادى بالمعنى ذاته من قبل الفقيه الانجليزي “بنتام”(17). عندما قرر بأنه لما كانت معظم الدعاوى تقوم على أساس سليم، فإنها تشكل قرينة ذنب، فيكون على المتهم – في هذه الحالة – ان يثبت براءته من الاتهام الذي نسب اليه(18).

الفرع الثالث / النقد الموجه لقواعد الإجراءات الجنائية المستوحاة من قرينة البراءة

في ضوء ما تقدم، لم يكن مستغرباً ان ينعكس عداء المدرسة الوضعية لقرينة البراءة على قواعد الإجراءات الجنائية المستوحاة منها، ومن عدة نواحي:-

الناحية الأولى / انتقد مؤيدو المدرسة الوضعية امتداد قرينة البراءة، حتى بعد صدور حكم الإدانة من محكمة الموضوع، واثناء نظر الطعن بالاستئناف أو التمييز، بحيث يتعين كفالة الحرية الفردية للمتهم خلاله. فضلاً عن ان القيود التي وضعها المشرع بالنسبة للافراج المؤقت لا تراعي المصلحة العامة، لأنها تركز على الفعل دون الفاعل(19).

الناحية الثانية / ينتقد “فيري” قاعدة عدم جواز تشديد العقاب عن الطعن في الحكم الصادر من محكمة الموضوع، إذا كان المحكوم عليه هو الطاعن الوحيد، ويرى ان هذه القاعدة، تتناقض مع منطق إباحة الطعن في الأحكام، فإذا كان ثمة خطأ قضائي، قد وقع في الحكم، فإنه يتعين اصلاحه، بغض النظر، عما إذا كان ذلك في مصلحة الطاعن ام لا(20).

الناحية الثالثة / إتصالاً بالانتقاد السابق، ينتقد ” فيري” قاعدة “عدم جواز اعادة المحاكمة” في الأحكام الصادرة بالبراءة، وقصر هذا الطريق غير العادي من طرائق الطعن، على الأحكام الصادرة بالإدانة وحدها، ويقول انه إذا كان ذلك مفهوما بالنسبة للقضايا السياسية فلا يمكن قبوله بالنسبة للمجرم بالميلاد، ويرى ان التسوية بين نوعي الأحكام، هو النتيجة المنطقية للطعن في الحكم بهذا الوجه، ثم يضيف نحن لا نفهم لماذا نغض النظر عن الأحكام الصادرة بالبراءة، ولا نفعل الشيء ذاته، بالنسبة للأحكام الصادرة بالإدانة، ولماذا يتحمل المجتمع الأحكام غير المستحقة بالبراءة أو التخفيف غير المستحق للمسؤولية الجنائية(21). ومن جهة أخرى انتقد “لومبروزو” القاعدة التي تقرر انه في حالة الشك حول القصد الجنائي، فإنه يفترض ان الجاني قد توافر لديه القصد الأقل جسامة، إذ يجب دائماً افتراض ان الجاني اراد ارتكاب الجريمة الادنى جسامة أو ضرراً، في حين – حسب “لومبروزو” – ان العكس هو الصحيح بالنسبة للمجرمين بالميلاد، فالقانون هنا يأخذ بعكس الواقع الفعلي، ويهدد أمن المجتمع بالخطر. كما ينتقد “لومبروزو” – استناداً إلى الفكرة ذاتها – القاعدة التي تقرر انه في حالة الشروع في ارتكاب جريمتين ذات جسامة مختلفة، يفترض في هذه الحالة ان المتهم اراد ارتكاب الجريمة الأقل جسامة من بينهما، وهو ما يعد ثغرة قانونية – حسب رايه – حيث يتمسك القانون بنظريات مجردة بعيدة عن الواقع الفعلي(22).

الناحية الرابعة / ينتقد أنصار المدرسة الوضعية – بالنسبة للدول التي تأخذ بنظام المحلفين، كالولايات المتحدة الأمريكية – القاعدة التي تقضي بضرورة الحكم بالبراءة عند تعادل الاصوات، فيؤكدون انها قاعدة غير منطقية وغير عادلة، لأنه إذا كانت الإدانة غير اكيدة، فإن البراءة ليست اكيدة كذلك. ولهذا يطالبون بأن تتناسب قواعد الإجراءات الجنائية مع فئات المجرمين، وبعبارة أخرى فإن تعميم هذا النقد، يعني رفض قاعدة تفسير الشك لصالح المتهم(23).

_________________

1- سليمان عبدالمنعم، “مبادئ علم الجزاء الجنائي”، بدون دار نشر، الإسكندرية، 2002، ص185.

2- انظر في تفصيل هذا المعنى:

Ferri ( Enrico )، Griminal Sociology، Translated by Joseph Delly and John Lisle، Agathon Press Inc، New York، 1967، P. 7-16.

3- انظر في هذا المعنى: علي عبدالقادر القهوجي، “اصول علمي الاجرام والعقاب”، المرجع السابق، ص216.

4- راجع بوجه خاص موقف المدرسة الوضعية من مبدأ حرية الاختيار:

Ferri ( Enrico )، Ibid، P. 288.

5- سليمان عبد المنعم، مبادئ علم الجزاء الجنائي، المرجع السابق، ص 186.

6- لمزيد من التفصيل حول موضوع الخطورة الإجرامية في مفهومها وتعريفها، انظر بصفة خاصة: محمد شلال حبيب، “الخطورة الاجرامية”، رسالة دكتوراه، كلية القانون، جامعة بغداد، 1979، ص16-25.

7- احمد عوض بلال، “علم الاجرام – النظرية العامة والتطبيقات –”، دار الثقافة العربية، ط1، القاهرة، 1985، ص63.

8- سليمان عبدالمنعم، “اصول علم الاجرام القانوني”، الجامعة الجديدة للنشر، القاهرة، 1994، ص224.

9- عبود السراج، المرجع السابق، ص208.

10- انظر في هذا المعنى: عبود السراج، المرجع السابق، ص184.

11- انظر في هذا المعنى:

Essaid ( M. J. )، “La Presomption d’innocence”، Ibid، P. 51.

12- المجرمون بالصدفة، هم اشخاص لا يتوافر لديهم الميل الطبيعي إلى الاجرام، ولكنهم يتميزون بضعف الوازع الاخلاقي، وتنقصهم قوة مقاومة المؤثرات الخارجية، فأقل دفع إلى الجريمة – كالفقر مثلاً أو الميل إلى التقليد – قد يكون سبباً في اجرامهم.

المجرمون بالعاطفة، هم نوع من المجرمين بالصدفة يتميزون بمزاجهم العصبي وشدة حساسيتهم، يرتكبون الجريمة بدون تفكير مسبق، وبعد ذلك يشعرون ويعودون إلى حالتهم الطبيعية.

انظر في ذلك، عمر السعيد رمضان، “دروس في علم الاجرام”، دار النهضة العربية، 1972، القاهرة، ص39.

13- المجرم بالميلاد، هو الشخص الذي يولد وهو مجرم بطبيعة تكوينه، يحمل صفات معينة يتميز بها وحده عن باقي البشر، ويحملها منذ اللحظة الأولى لتكونه، هذه الصفات تخلق لديه الاستعداد للاجرام. المجرم المجنون، وهو الشخص المصاب بأمراض عقلية وراثية كانت ام غير وراثية. المجرم المحترف، هو الذي يرتكب الجريمة نتيجة ضعف خلقي ترافقه ظروف غير ملائمة، ثم يعاود ارتكابها مرة ثانية وثالثة، إلى ان تتمكن من نفسه، وتصبح جزءً من حياته، ومورد رزقه، فيكتسب بذلك استعداداً اجرامياً، ويجعل منه مجرماً محترفاً، لا يستطيع التحول عن طريق الجريمة.

انظر في ذلك/ عبود السراج، المرجع السابق، ص194. احمد عوض بلال، المرجع السابق، ص65. عمر السعيد رمضان، المرجع السابق، ص38.

14- انظر في هذا المعنى: محمود محمود مصطفى، “الإثبات في المواد الجنائية”، الجزء الأول، المرجع السابق، ص60.

احمد فتحي سرور، “الوسيط في قانون الإجراءات الجنائية”، الجزء الأول، المرجع السابق، ص79.

15- انظر في هذا المعنى:

Ferri ( Enrico): Criminal Sociology، Ibid، P. 492.

16- انظر في هذا المعنى: احمد فتحي سرور، “الشرعية والإجراءات الجنائية”، المرجع السابق، ص123.

17- ( جيرمي بنتام – Jeremy Bentham ) (1748-1832) هو الفقيه الجنائي والفيلسوف الانجليزي، وهو من انصار المدرسة التقليدية، من اشهر كتيه الجنائية ( نظرية العقوبات والمكافآت).

عبود السراج، المرجع السابق، ص159 في الهامش.

18- محمد محي الدين عوض، “الإثبات بين الازدواج والوحدة”، المرجع السابق، ص33.

19- انظر في هذا المعنى: Essaid ( M. S.)، Ibid، P. 66.

20- انظر في هذا المعنى: السيد محمد حسن شريف، المرجع السابق، ص495.

21- Ferri E.، Ibid، P. 493.

22- انظر في هذا: / السيد محمد حسن شريف، المرجع السابق، ص495 في الهامش.

23- Ferri. E.، Ibid، P.495

نقد الفقه الجنائي لقرينة البراءة :

وجه بعض الفقه الجنائي النقد إلى قرينة البراءة، حيث تركز في مجمله حول نتائجها، وبشكل خاص حول عدم وجود صلة حقيقية بين قرينة البراءة وبين الضمانات المقررة لحماية المتهم، سواء ما تعلق منها بالحرية الشخصية للمتهم، أو بعملية الإثبات الجنائي، أو بقواعد الحكم الجنائي. وبعد سرد هذا النقد خلص هذا الاتجاه إلى وضع تصور خاص للنتائج المحتملة للتطبيق العملي لقرينة البراءة، ثم انتهى إلى رأي حول طبيعة علاقة المتهم بالدعوى الجنائية، اقترح فيه الإقرار بعدم وجود مبرر قانوني أو منطقي سواء لافتراض البراءة أو لافتراض الإدانة في المتهم اثناء المحاكمة الجنائية. حتى صدور حكم بات يحدد من خلاله عدَّ المتهم بريء ام مذنب.

بناء على ذلك نبحث ابرز تلك الجوانب الانتقادية وما خلصت اليه من اقتراح في فروع خمسة، وعلى الوجه الآتي:_

الفرع الأول / النقد المتعلق بالحرية الشخصية للمتهم.

الفرع الثاني / النقد المتعلق بقواعد الإثبات الجنائي.

الفرع الثالث / النقد المتعلق بقواعد الحكم الجنائي.

الفرع الرابع / تصور الاتجاه النقدي، للنتائج المحتملة لتطبيق قرينة البراءة

الفرع الخامس / اقتراح الاتجاه النقدي المتعلق بمركز المتهم في الدعوى الجنائية.

الفرع الأول / النقد المتعلق بالحرية الشخصية للمتهم

على الرغم من ان معظم اوجه النقد في هذا الجانب قد تمثلت في محاولة قطع الصلة بين قرينة البراءة وبين ضمانات الحرية الشخصية للمتهم، فقد ظهر من ينادي برفض بعض تلك الضمانات اساساً. إذ يرفض أحد الفقهاء الجنائيين بشدة القاعدة التي يجيز للمتهم حق الصمت، بعدِّها من القواعد الضارة وغير المنطقية التي عرفت طريقها إلى القانون الجنائي، لأن المتهم الذي يؤثر الصمت على الكلام يتسبب في ذلك بخلق نوع من الاحساس بعدم وجود ما يستطيع تقديمه من ادلة تنفي ما يحيط به من ادلة الاتهام، وان سكوته قرينة ضده، ولو كان لديه ما يدفع عنه التهمة لتكلم استجابة لغريزة الدفاع عن النفس والبقاء (1). إلا ان اكثر النقد بهذا الجانب يتمثل في الرأي الذي يؤكد أن الصلة مقطوعة – لاسيما في الوقت الحاضر- بين قرينة البراءة وضمانات الحرية الشخصية للمتهم، بعدِّ ان هذه الضمانات إذا كانت تجد تفسيرها تاريخياً في قرينة البراءة، فإنها ترجع في الوقت الحالي إلى مبادئ القانون الجنائي الحديث التي تهتم بالانسان وحقوقه وحرياته، بل ان جانباً منهم ذهب إلى القول بأن هذه الضمانات والحقوق المقررة للمتهم لا ترجع إلى قرينة البراءة، وإنما إلى كونه متهم فقط(2). واستندوا في تبرير وتأكيد قولهم هذا إلى عدة حجج ابرزها يدور حول فكرة التناقض بين قرينة البراءة وبين الإجراءات الجبرية المسيسة بحرية المتهم، فاذا كان المتهم بريئاً، فلماذا الضبط والاحضار والقبض، والاستجواب، بل والتوقيف (الاحتياطي) وغيرها من الإجراءات التي تتخذ في مرحلة التحقيق الابتدائي والتي تتعارض تماماً مع وصف البراءة للمتهم. ومن ثم إذا سلمنا بهذا الوصف أي بفكرة افتراض البراءة، اصبحت هذه الإجراءات على غير سند من القانون أو المنطق السليم، بل ان هذا الافتراض يتعارض اساساً مع واقعة الاتهام ذاتها، وان نعت المتهم بأنه بريء، رغم توجيه التهمة اليه واتخاذ هذه الإجراءات ضده، يمثل قلباً لكل المعاني القانونية والمنطقية(3).

الفرع الثاني / النقد المتعلق بقواعد الإثبات الجنائي

فيما يتعلق بعملية الإثبات، تمثلت معارضة قرينة البراءة في رفض بعض الفقه الجنائي القاعدة التي تقرر ان عبء الإثبات يقع على عاتق الاتهام، بحجة انها قاعدة مجحفة وغير واقعية ولا مبرر لها، وقد ترتب عليها إفلات الكثير من المجرمين من يد العدالة(4)- كما تمثلت تلك المعارضة – رغم الاعتراف بتلك القاعدة – في رفض وجود أي ارتباط بين قرينة البراءة والقاء عبء الإثبات على عاتق سلطة الاتهام، وبعبارة أخرى رفض الاعتراف بأن تحميل الاتهام عبء الإثبات هو نتيجة لإفتراض براءة المتهم، استناداً إلى القول بأن قواعد الإثبات عموماً إنما تتفق مع طبيعة الخصومة الجنائية، فهي تكفي بذاتها دونما حاجة إلى تفسيرها بالرجوع إلى ماهية البراءة (5).

الفرع الثالث / النقد المتعلق بقواعد الحكم الجنائي

كما توجه النقد إلى ضمانات حماية المتهم المتصلة بحريته الشخصية، وبعملية الإثبات، نال الاعتراض أيضا القواعد المتصلة بالحكم الجنائي، ولاسيما قاعدة بناء الإدانة على الجزم واليقين، ومن قبلها مبدأ تفسير الشك لمصلحة المتهم، فظهر من ينادي بأنه ليس هناك أي سبب معقول للقول بتفسير الشك لصالح المتهم، بل المنطق – على وفق رأيه – يقتضي ان يفسر الشك لصالح قضية الشخص القتيل، وليس لصالح الجاني الذي على قيد الحياة، بل إذا دفع المتهم، بأنه كان في حالة دفاع شرعي عن النفس، واتخذت المحكمة قراراً بإن اثبات هذا يقع على عاتق المتهم، ثم ثار شك معقول عما اذا كان المتهم في حالة دفاع شرعي حقيقة ام لا، فهو لايستحق ان يفسر هذا الشك لصالحه، وبالتالي لا يقضى ببراءته، حتى وان أيد الاتهام صحة التمسك بالدفع من جانب الدفاع(6). اما الجانب الآخر من المعترضين على قرينة البراءة، يقرون بوجود حماية توجبها التشريعات المختلفة طيلة مدة التحقيق والمحاكمة، ولاسيما الحماية التي تفرضها قاعدة الشك يفسر لمصلحة المتهم، الا انهم يبررون تلك الحماية لا بسبب افتراض براءة المتهم، بل لأن الإدانة يجب ان تبنى على الاقتناع اليقيني، وان ذلك انما يعود إلى اعتبارات العدالة، التي تأبى ان تبنى الإدانة على الظن والاحتمال، وان توقع الجزاءات الجنائية، استناداً إلى ادانة ليست ثابتة على وجه يقيني، فالمبادئ العامة التي تحكم الخصومة الجنائية هي التي فرضت هذه القواعد(7). فالقاضي الجنائي – عند تطبيقه للنص الجنائي – تواجهه مصلحتان، الأولى مصلحة المجتمع في توقيع العقاب، والثانية حماية المتهم، ويحمي قانون الإجراءات الجنائية المصلحتين معاً، على قدم المساواة، ومن ثم فعليه الا يغلب احداهما على الأخرى إلا حيث يوجد نص يقضي بذلك، اما إذا لم يوجد مثل هذا النص، فيتعين ترجيح مصلحة المتهم في حماية حريته الفردية(8).

الفرع الرابع / تصور الاتجاه النقدي للنتائج المحتملة لتطبيق قرينة البراءة

وضع بعض الفقه الجنائي تصوراً خاصاً للنتائج القانونية والاجتماعية المحتملة لتطبيق قرينة البراءة في المحاكمة الجنائية، يبدأ هذا التصور من حيث ان تلك القرينة تمنح المجرمين حريات وحقوق اكثر من اللازم، مما يضعف جانب الاتهام ويقوي جانب الإجرام، وبعبارة أخرى يؤدي افتراض البراءة في المتهم إلى ان يكتسب المجرمون نوعاً من الحصانة غير المرغوب فيها، مما يضر بالمجتمع(9). إذ ان تلك الحصانة الشرعية – أي المسندة قانوناً – ستفضي حتماً إلى ضرر مزدوج للمجتمع، من حيث انها عامل مشجع أو محفز لارتكاب الجريمة، نتيجة لاستخفاف المجرمين بالقانون والقضاء، ومن حيث انها تؤدي إلى افلات العديد من المجرمين من يد العدالة، نتيجة للنتائج العملية لأصل البراءة في مختلف مراحل الدعوى الجنائية. لذلك يهاجم هذا الاتجاه – وبشدة – المقولة أو القاعدة التي طالما رددها الفقه والقضاء بمناسبة تبرير تطبيق قرينة البراءة، بأن “إفلات مجرم من العقاب خير للعدالة من إدانة شخص قد يكون بريئاً”، بحجة ان إفلات مجرم من العقاب يترتب عليه انتشار ضرر يعم المجتمع بأسره، في حين ان الظلم الذي يقع على برئ انما يقتصـر عليه وحده. لأن المجتمع الذي يريد ان يحقق الامن والسلامة لنفسه لابد وان يقبل –مضطراً- بعقاب الأبرياء خطأ. ذلك انه – على وفق منطقٍ هذا الرأي – إذا استحال تمييز الخبيث من الطيب – أي تمييز المجرم عن البرئ – دون حدوث ضرر بالغ للمجتمع، فإن البرئ – يجب ان يضحى به من اجل مصلحة المجتمع” فخير الشعب هو القانون الاعلى”(10). ويضيف بعض انصار هذا الرأي، ان ما اتجهت اليه القوانين الوضعية في تبرئة المتهم حتى تثبت ادانته، كان له اثره الملموس في تفشي الجريمة وانتشارها، وعدّ الإجرام حرفة ينخرط في سلكها كل من يستهين بالقيم والأخلاق، مما كان له مردوده وخلفياته في اضطراب الامن وتعدد الجرائم، وضياع الكثير من الحقوق في الأنفس والأعراض والأموال، إذ ان الإنسان تحت سلطان هذه القوانين لا يأمن على حقوقه في الحياة مهما كان واينما كان(11). ويفند البعض الآخر ما يؤكدونه من عدم جدوى تطبيق هذا المبدأ في الوقت الحاضر، في انه إذا كان له ما يبرر وجوده في الماضي، فليس هناك أي مبرر عملي لتطبيقه الآن، وأية ذلك ان المتهم كان يلقى معاملة قاسية في ظل القانون القديم الذي كان يفترض الإدانة في المتهم، ولذلك كان ميزان العدالة يميل إلى جانب الاتهام وضد الدفاع، وكرد فعل لتلك المساوئ ظهرت قرينة البراءة، وبدأ مركز الثقل يتحول تدريجياً لصالح الدفاع، حتى نال المتهم حقوقاً كثيرة، تفوق بكثير حقوق المجني عليه أو المضرور من الجريمة(12). حتى بات من البديهيات ان يقبض على المتهم بالقتل أو السرقة أو انتهاك الاعراض أو الرشوة أو الاختلاس، واحياناً في ظل جرائم مشهودة أو يصاحب الاتهام ما يقوي به الادعاء، ثم تأتي القوانين الوضعية وبحجة العدالة الديمقراطية والحضارة الإنسانية والحريات الفردية وتحت شعار “المتهم برئ حتى تثبت ادانته” لتبرأه من أية تهمة بدعوى ان الشك يفسر لمصلحته(13).

الفرع الخامس / تصور الاتجاه النقدي المتعلق بمركز المتهم في الدعوى الجنائية

خلص الاتجاه المعارض لقرينة البراءة إلى عدة نتائج أو بالأحرى استنتاجات، انتهى اليها، معدّاً إياها سنده فيما اقترحه في النهاية حول علاقة المتهم بتلك القرينة، نوجزها بالنقاط الآتية:-

أولا/ ان تطبيق قرينة البراءة قد أدى أو سيؤدي إلى ظهور قوانين اجرائية، لا تكفل قاعدة التوازن بين حقوق المتهم وحقوق المجنى عليه المتضرر من الجريمة، لأنها لا ترعى سوى مصلحة المتهم وتهمل جانب الضحية، وهو ما يمثل قلباً للأوضاع المنطقية، فاذا كان الغرض الأساسي لقرينة البراءة هو الحيلولة دون خضوع المتهم لمعاملة تماثل تلك التي يخضع لها المحكوم عليه؛ فإن هذا الغرض قد كفله الآن القانون الجنائي الحديث، إذ ان هذا القانون لم يعد – كما كان في الماضي – غرضه العقاب وحده، انما اصبح يغلب عليه تأهيل واصلاح المحكوم عليه، وهو ما ينعكس ايجاباً – من باب أولى – على المتهم(14).

ثانيا/ ان سلطة الاتهام لم تعد خصماً حقيقياً للمتهم، فهي لا تسعى نحو الإدانة بقدر ما تسعى إلى كشف الحقيقة سواء كانت لصالح المتهم ام ضده، وتهدف إلى اصدار حكم قضائي مطابق للقانون سواء تمثل ذلك بإدانة المتهم ام ببراءته(15). مما يترتب عليه تحقيق المساواة بين الادعاء والمتهم، من دون حاجة للنص على مبدأ البراءة.

ثالثا/ أصبح من المسلم به امكانية ورود الخطأ في مختلف مراحل الدعوى الجنائية، لذا أجاز القانون طرائق لتصحيح ما قد يترتب عليها من غبن بالنسبة للمتهم، فاذا جاء حكم محكمة الموضوع بعيداً عن الصواب، كان الطعن بالطرائق العادية، الوسيلة المناسبة لتلافي ما اشتمل عليه من مثالب. اما لو جاء حكم محكمة التمييز في غير محله الصحيح، كان الطعن بالطريق غير العادي، الحل العادل والأقرب لإبراز الحقيقة الواقعية وهي الغاية الأساسية للقضاء الجنائي، وهو ما يضعف بالنهاية فرص الوقوع بالخطأ بالنسبة للمتهم البرئ(16). وبناء على ذلك كله اقترح البعض من انصار هذا الاتجاه تقرير أو انشاء وضع محايد للمتهم، وذلك باتباع طريق وسطي اكثر عدالة، من خلال الاستغناء عن أي افتراض، أي بعدم عدّ المتهم بريئاً أو مذنباً اثناء الدعوى الجنائية، فلا يتمتع خلالها بأية قرينة سواء على البراءة أو الإدانة. بعدّ من يخضع لإجراءات التحقيق أو المحاكمة، من الأوفق ألا يقال انه برئ أو مذنب – على حد سواء – قبل انتهاء هذه الإجراءات التي تحدد مركزه الحقيقي، إذ ان وصف المتهم بأنه برئ أو مذنب لا يمكن ان يكون بصورة محددة، الا بعد صدور الحكم الذي يفصل في الخصومة الجنائية(17). كما ان التمسك بافتراض البراءة من شأنه ان يميل كفة العدالة لصالح الدفاع على حساب الاتهام، في حين ان التمسك بافتراض الإدانة من شأنه ان يعكس هذه النتيجة لصالح الاتهام، ومن ثم فإن الوضع المحايد للمتهم هو الوسيلة الوحيدة لحفظ التوازن بين المصلحتين الفردية والعامة، وذلك من خلال الاستغناء عن أية قرينة(18).

___________________

1- انظر في هذا المعنى: سعد حماد صالح القبائلي، “ضمانات حق المتهم في الدفاع امام القضاء الجنائي”، دراسة مقارنة، ط1، دار النهضة العربية، القاهرة، 1998، ص397.

2- انظر في ذلك: آمال عثمان، الإثبات لجنائي ووسائل التحقيق العلمية، المرجع السابق، ص76.

3- انظر في هذا المعنى: السيد محمد حسن شريف، المرجع السابق، ص502.

4-

Lalita Rajapakse، ” Is a Presumption of Guilt or of Innocence of an Accused in Acriminal Case، Necessary?”- The Ceylon Law Society Journal، Vol.10، No.2، 1972، P.11.

مشار اليه لدى: احمد ادريس احمد، المرجع السابق، ص262.

5- انظر في هذا المعنى: آمال عثمان، “الإثبات الجنائي ووسائل التحقيق العلمية”، المرجع السابق، ص77.

6- Lolita Rajapaske، Ibid، P. 11، 13.

7- آمال عثمان، المرجع السابق، ص77.

8- المرجع السابق نفسه، ص74.

9- انظر في هذا المعنى:

– محمد محمد مصباح القاضي، “حق الإنسان في محاكمة عادلة”، المرجع السابق، ص46.

– احمد فتحي سرور، “القانون الجنائي الدستوري”، المرجع السابق، ص254.

– احمد سعيد صوان، المرجع السابق، ص166.

10- Devlin P.، “The Criminal Prosecution in England”، London، Oxford University Press، 1960، P.13.

11- عبدالله سليمان المنيع، “نظرية براءة المتهم حتى تثبت ادانته”، من ابحاث الندوة العلمية الأولى (المتهم وحقوقه في الشريعة الإسلامية)، الخطة الامنية الوقائية العربية الأولى، المركز العربي للدراسات الامنية والتدريب، الرياض، 1986، ص281.

12- انظر في ذلك: احمد ادريس احمد، المرجع السابق، ص261.

13- انظر في هذا المعنى: عبدالله سليمان المنيع، المرجع السابق، ص281.

14- انظر في ذلك: السيد محمد حسن شريف، المرجع السابق، ص502.

15- انظر في هذا المعنى:

– عبدالامير العكيلي، سليم حربة، “شرح قانون أصول المحاكمات الجزائية”، الجزء الأول، بغداد، 1978، ص73.

– حسن صادق المرصفاوي، “اصول الإجراءات الجنائية”، المرجع السابق، ص55.

16- انظر في هذا المعنى: جميل عبدالباقي الصغير، “طرق الطعن في الأحكام الجنائية”، دار النهضة العربية، القاهرة، 1993، ص3.

17- انظر في هذا المعنى: آمال عثمان، “الإثبات الجنائي ووسائل التحقيق العلمية”، المرجع السابق، ص76.

18- انظر في هذا المعنى: احمد ادريس احمد، المرجع السابق، ص266.

نطاق تطبيق البراءة في مراحل الدعوى الجنائية :

ان غاية المبدأ الأساسية تكمن في حماية الحرية الفردية، والتي تستلزم بالضرورة عدم فرض اية قيود على تطبيقه، وألا أدى ذلك إلى ضياع تلك الغاية وتعذر تحقيقها. فالمتهم يجب عده دائماً بريئاً في مواجهة أي إجراء جنائي وأثناء أي مرحلة من المراحل المختلفة للدعوى الجنائية، حيث يتسع تطبيق المبدأ ليشمل نطاقه الإجراءات الجنائية كافة التي تتخذ قبل المشتبه به أو المتهم، سواء في مرحلة التحري وجمع الأدلة ام في مرحلة التحقيق الابتدائي، وكذلك في مرحلة المحاكمة، حتى تثبت إدانته بحكم قضائي نهائي، يترتب عليه تعطيل ذلك المبدأ بصورة نسبية(1). الا ان البعض ذهب إلى القول انه بصدور حكم الإدانة من محكمة الموضوع، تنقضي معه قرينة البراءة، ومن ثم إذا طعن المحكوم عليه في هذا الحكم، وقع عليه وحده عبء إثبات البراءة. بيد ان معظم الفقه الجنائي يقرر بأن هذه القرينة تظل قائمة على الرغم من الحكم الأولي الصادر بالإدانة، لأن حق الإنسان بأصله البريء أمر ثابت – نسبياً – لا يدحضه ويغيره سوى صدور حكم قضائي بات. لذلك إذا مات المتهم أثناء مراحل الدعوى المختلفة، قبل ثبوت إدانته بصورة نهائية، فإنه يموت على البراءة، لأنها أصله الثابت(2). ولا يوصف الحكم بأنه بات (نهائي)(3) ، ما لم يكن قد استنفد طرائق الطعن العادية وغير العادية كافة، باستثناء حالات الطعن بإعادة المحاكمة(4). أي ان المتهم يظل متمتعاً بوصفه البريء ومعاملته على هذا الأساس في مختلف مراحل الدعوى الجنائية (الاستدلال، التحقيق الابتدائي، والمحاكمة) بإجراءاتها كافة، ومن ضمنها مراحل الطعن بالاعتراض على الحكم الغيابي، والطعن بالتمييز، والطعن بتصحيح القرار التمييزي. فإذا ما أصبح الحكم بالإدانة – بعد تجاوزه كافة المراحل السابقة – نهائياً، انقلبت قرينة البراءة، وتغيرت إلى قرينة تفيد ارتكاب الجريمة ومسؤوليته عنها، أي انه في اللحظة ذاتها التي يصبح فيها حكم الإدانة باتاً، تنهض قرينة ضد المتهم هي قرينة الجرم، لا يمكن إثبات عكسها الا من خلال الطعن بطريق اعادة المحاكمة، لذلك إذا طعن المتهم أو بالاحرى المحكوم عليه بطريق اعادة المحاكمة، يقع عليه وحده عبء اثبات براءته. ومع ذلك مبدأ البراءة يبقى قائماً للمحكوم عليه، حتى بعد صدور الحكم البات، بل وخلال مرحلة تنفيذ العقوبة، وذلك إذا ما نسبت اليه وقائع جديدة، تختلف عن الواقعة محل الحكم، فكل ما يقوم به حكم الإدانة البات، انتفاء حق المحكوم عليه بالبراءة، فيما يتعلق بالواقعة محل الإدانة فحسب، أي انه يظل متمتعاً بهذا الحق، في أية واقعة أخرى خلاف واقعة الحكم(5).

______________________

1- انظر في هذا المعنى: احمد ضياء الدين خليل، المرجع السابق، ص251.

2- محمد محي الدين عوض، “قانون الإثبات بين الازدواج والوحدة”، مجلة القانون والاقتصاد، ع3، 1967، القاهرة ص49 هامش رقم(1).

3- الحكم البات أو النهائي هو كل حكم اكتسب الدرجة القطعية، بأن استنفد اوجه الطعن القانونية جميعها أو انقضت المواعيد المقررة للطعن فيها. م(16) من قانون العقوبات العراقي رقم 111 لسنة 1969.

4- الطعن بطريق اعادة المحاكمة هو الطريق الثالث من طرائق الطعن غير العادية في القانون العراقي، بعدَّ الطريق الأول هو الطعن تميزاً، والثاني هو تصحيح القرار التميزي؟.

انظر: عبدالامير العكيلي، “اصول المحاكمات الجزائية”، الجزء الثاني، مطبعة المعارف، بغداد، 1974، ص336. وان كان البعض يرفض عد هذا الطريق من طرائق الطعن في الأحكام الجنائية، وبأنه ليس سوى التماس باعادة نظر الدعوى تأسيساً على ما استجد من وقائع بعد صدور الحكم. انظر في تفصيل ذلك: سعيد حسب الله، “اعادة المحاكمة وآثارها القانوني”، رسالة ماجستير، كلية القانون، جامعة بغداد، 1983، ص17.

5- انظر في هذا المعنى: احمد ضياء الدين خليل، المرجع السابق، ص251.

نطاق تطبيق البراءة في القوانين :

هل يقتصر تطبيق قرينة البراءة في القانون الجنائي فحسب؟ وبمعنى آخر هل هناك قوانين أخرى تطبق هذه القرينة؟. من الناحية العملية لا يتمتع أساساً بأصل البراءة سوى المتهمين بجريمة جنائية، أي ان تطبيق المبدأ ينحصر في القانون الجنائي وبصورة خاصة في الإجراءات المتعلقة بالتحقيق والمحاكمة، إلا ان الأصل في المتهم البراءة – وحسب القضاء الأوربي – يمكن التمسك به في مواجهة أي شخص ينسب اليه اتهاماً من قبل احد أجهزة الدولة، فلا ينحصر اصل البراءة في إجراءات الخصومة الجنائية حين تتحرك الدعوى الجنائية، بل ينعكس أيضا على إجراءات الاستدلال وإجراءات المحاكمة التأديبية ايضا(1). فلا جدال ان مبدأ البراءة منذ نشأته يتعلق بافتراض براءة الشخص الذي يتعرض لاتهام بارتكاب جريمة، وان تطبيقه واجب ومفروض في الدعوى الجنائية سواء نص عليها القانون الجنائي ام لم ينص، فالقضاء الجنائي عموماً يستند في تطبيقه إلى مبدأ البراءة – ان لم يوجد نص جنائي – إلى التشريع الدستوري أو التشريعات الدولية، أو في اقل تقدير يقوم بتطبيقه بصورة ضمنية من خلال أسس وضمانات المحاكمة العادلة. ومع ذلك بعض الأفكار الحديثة حاولت توسيع هذا المفهوم العملي – لقرينة البراءة – ليشمل حالة الشخص الذي يواجه اتهامات من شأنها ان تفضي إلى توقيع الجزاء عليه، لارتكابه بعض الوقائع التي قد لا تبدو جنائية، على وفق المفاهيم التقليدية للجرائم الجنائية، والعقوبات المقررة لها، بل هي وقائع اقرب إلى الطبيعة الإدارية أو المدنية. اذ ان تطبيق مبدأ البراءة يرتكز في المقام الأول على مفهوم الاتهام في معناه الموضوعي في المسائل الجنائية، من حيث ان ثبوت صحة الاتهام من شأنه ان يحقق عقوبة مؤلمة – أو تدبيراً احترازياً – ذا معنى رادع ومانع للفرد والمجتمع على حد سواء. ومن ثم أي قانون يحقق هذا المعنى للاتهام يكون كافياً لعده ذا طابع جنائي، لأغراض تطبيق مبدأ البراءة. تطبيقاً لذلك – ومنذ سنة 1967 – أكدت لجنة حقوق الإنسان في “استراسبورج” بأنه لا يجوز في مؤتمر صحفي نظمه وزير الداخلية، أثر وقوع جريمة قتل أن يصدر إعلاناً للرأي العام بأن شخصاً معيناً باسمه، قد حرض على ارتكاب الجريمة، لما ينطوي عليه هذا الإعلان من انتهاك صريح لأصل البراءة الذي يتمتع به الإنسان(2). كما أصدرت محكمة استئناف باريس – وايدتها في ذلك الدائرة التجارية لمحكمة النقض الفرنسية – حكماً في 7 من مايو (أيار) عام 1997 ألغت فيه قرار صادر من لجنة عمليات البورصة – وهي لجنة إدارية – تجاه رئيس مجلس إدارة شركة “فيونكس – Phenix”، نتيجة اعتداء هذه اللجنة على تمتع المدعي عليه بأصله من البراءة، وذلك قبل إصدار قرارها بمعاقبة الشركة بجزاء مالي. فالصفة العقابية والزاجرة للجزاءات المالية التي يجوز للجنة البورصة ان توقعها بسبب مخالفة لوائحها توجب كما في المسائل الجنائية، احترام السلطة – التي تتولى توقيع الجزاء – لقرينة البراءة التي يستفيد منها الشخص الملاحق(3). ومن أحدث القوانين التي نصت على مبدأ البراءة، التعديل الذي تم على التقنين المدني الفرنسي في يناير (كانون الثاني) 1993، بإضافة المادة 9/1 والتي أرست الحماية المدنية للحق في قرينة البراءة(4). في ظل ما تقدم، يمكن القول ان اصل البراءة لم يعد مجرد مبدأ من المبادئ التي تهيمن على سير الدعوى الجنائية وبصفة خاصة بشأن الإثبات الجنائي فحسب، بل انه اتخذ أبعاداً أكثر اتساعاً من نطاقه التقليدي، ليشمل الحماية المدنية بل والحماية الإدارية، إذا ما تعرض الشخص لأي اتهام من قبل احد أجهزة الدولة.

_________________

1- احمد فتحي سرور، “الحماية الدستورية للحقوق والحريات”، المرجع السابق، ص601.

2- احمد فتحي سرور، “القانون الجنائي الدستوري” دار الشروق، القاهرة، 2001، ص 258.

3- تتلخص هذه القضية في ان ( لجنة عمليات البورصة الفرنسية – COB) عاقبت السيد (اوري – Oury) رئيس مجلس شركة فيونكس، بجزاء مالي قدره نصف مليون فرنك، لقيام الشركة بتوزيع نشرة مالية – بشأن عملية خاصة بأحد فروعها – غير صادقة وغير دقيقة. فطعن (اوري) بقرار الإدانة امام محكمة استئناف باريس، فصدر الحكم بالغاء هذا القرار بسبب اعتداء اللجنة على حق المدعي عليه بقرينة البراءة، عندما ادانه رئيس لجنة البورصة بتهمة مخالفة الالتزام بالادلاء بمعلومات غير صحيحة للجمهور، وذلك عندما تحدث إلى جريدة الحياة الفرنسية مؤكداً ادانة الشركة، قبل صدور حكم نهائي بالقضية. يمكن الرجوع إلى هذا الحكم وملحقاته في موقع محكمة النقض الفرنسية على شبكة الانترنت: www.courdecassation.fr .

مشار اليه لدى – اسامة ابو الحسن مجاهد، المرجع السابق، ص78- 80.

4- انظر في ذلك، مدحت رمضان، “تدعيم قرينة البراءة في مرحلة الاستدلالات – في ضوء تعديلات قانون الإجراءات الجنائية الفرنسي”، دار النهضة العربية، القاهرة، 2001، ص8.

نطاق تطبيق البراءة في الإثبات الجنائي :

إذا كان تمتع المتهم بالبراءة المفترضة لا يتوقف على جسامة الجريمة المرتكبة أو خطورتها الإجرامية، فهو لا يتوقف كذلك على مدى قوة الأدلة المتوافرة ضده، فكونه متلبساً بالجريمة أو انه قد صدر من المتهم اعتراف مفصل أو غيره من الأدلة، لا يغني أبداً عن الحكم البات الصادر بالإدانة لدحض تلك البراءة، اذ ان تطبيق اصل البراءة – ونحن في صدد المحاكمة الجنائية – يعد قرينة قانونية بسيطة، أي ليست قطعية، ومن ثم يمكن إثبات عكسها، حيث يترتب على هذه القرينة، ليس فقط عدم التزام المتهم (المدعى عليه ) بإثبات براءته، لأن ذلك اصل مفترض فيه، وإنما يلتزم الادعاء العام والمتضرر من الجريمة ( إذا أقام نفسه مدعياً بحقوق مدنية )، بإثبات وقوع الجريمة قانوناً ومسؤولية المتهم عنها(1). اذ ان هذه القرينة لا يكفي لدحضها وأبعادها، الأدلة أو الوقائع المقدمة أو مجرد الادعاءات من اية جهة كانت، بل تستمر قائمة ومرافقة للمتهم، إلى ان تثبت إدانته بحكم قضائي بات، ذلك انه مهما توافرت الأدلة أو قويت ضد المتهم أو المشتبه به، فإن القانون يعد الحكم القضائي البات، وحده فقط عنوان الحقيقة التي لا تقبل المجادلة. ومادام الأمر كذلك فان المتهم يبقى متمتعاً بما كان عليه من اصل البراءة، حتى حصول ما يغير ذلك الوصف أو ينفيه بأمر يقيني(2). فإذا كان الدليل قاصراً أو غير كافٍ، وجب القضاء بالافراج عن المتهم – على وفق المادة (182/ب) اصولية -، لأن الشك ينبغي ان يفسر لمصلحته بعدَّ هذه القاعدة من ابرز نتائج قرينة البراءة، فيما يتعلق بتقدير أدلة الإثبات، وعليه يجب الإقرار ان الأصل في المتهم البراءة يفرض على سلطة الاتهام عبء الإثبات منذ بدء الإجراءات الجنائية حتى نهايتها. إذ من مقتضى تطبيق قرينة البراءة القاء عبء الإثبات كاملاً على عاتق الادعاء العام، فيكون على سلطة الاتهام ان تثبت صحة وقوع الفعل وإسناده إلى المتهم مادياً ومعنوياً، ومن ثم اثبات أركان الجريمة، والعناصر المكونة لها كافة، والشرط المفترض في بعض الجرائم، بل والظروف المشددة الشخصية والمادية وتحديد صفة المتهم ما إذا كان فاعلاً ام شريكاً في الجريمة(4). ولا يتوقف اثر قرينة البراءة في عملية الإثبات الجنائي على أدلة الإدانة، بل يلتزم الادعاء العام باثبات الأسباب التي تصب في صالح المتهم، في حالة دفع المتهم بأحد تلك الأسباب، سواء أكانت أسباباً للإباحة أو موانع مسؤولية أو موانع عقاب وغيرها من الأسباب التي تحول دون عقاب المتهم(5).

___________________

1- انظر: محمد زكي ابو عامر: “الإثبات في المواد الجنائية”، الفنية للطباعة والنشر، الإسكندرية، 1985، ص45.

2- انظر في هذا المعنى كل من:

– احمد فتحي سرور، “الشرعية والإجراءات الجنائية”، دار النهضة العربية، القاهرة، 1977، ص124.

– حسين جميل، “حقوق الإنسان والقانون الجنائي”، معهد البحوث والدراسات العربية، 1972، ص207.

– محمد محدة، المرجع السابق، ص226.

3- رأفت عبدالفتاح حلاوة، “الإثبات الجنائي – قواعده وادلته “، دراسة مقارنة بالشريعة الإسلامية، دار النهضة العربية، القاهرة، 2003، ص21، 22.

4- محمد محي الدين عوض، “الإثبات بين الوحدة والازدواجية”، المرجع السابق، ص52.

نطاق استفادة المتهم من البراءة :

هل البراءة الأصلية مفترضة للجميع، ام يتمتع بها المتهم فقط، وان كانت كذلك هل هي حصر على بعض المتهمين ام يستفيد منها المتهمون جميعهم؟ وبتعبير آخر هل للخطورة الإجرامية أو للسوابق القضائية تأثير سلبي على تمتع المتهم بالبراءة المفترضة وهل لجسامة الجريمة أو تعددها مثل هذا الأثر؟. يتميز مبدأ البراءة بعده ضمانة جوهرية يتمتع بها الأفراد كافة منذ ميلادهم، علاوة على ما يتسم به من استمرارية تحول دون امكانية انهياره، فضلاً عن عموميته مما يجعل نطاقه يمتد ليشمل كافة تصرفات الأفراد بصفة عامة، وبصفة خاصة عندما يكون الإنسان في موضع الاتهام(1). ذلك ان قرينة البراءة ضمانة مطلقة يستفيد منها المتهمون جميعهم، يستوي في ذلك من كان مبتدئاً – يرتكب الجريمة لأول مرة – ومن كان عائداً أو محترفاً، وسواء أكان من طائفة المجرمين بالصدفة ام من طائفة المجرمين بالتكوين أو المرضى(2). كما ليس للإدانة السابقة أو الخطورة الإجرامية لدى المتهم أو مدى جسامة ونوع الجريمة، أي دور في منع تمتع المتهم بالبراءة المفترضة قبل ثبوت الإدانة، ذلك لا يعني إنكار أثرها البالغ في نطاقه العقوبة من حيث قدرها ونوعها(3). بل ان كل من يتمتع بالأهلية الجنائية، ووضع في موضع الاتهام الجنائي، سواء أكان شخصاً طبيعياً أم شخصاً معنوياً، وسواء اتهم بعده مساهماً اصلياً في الجريمة ام مساهماً تبعياً، وسواء اتهم بعده مسؤولاً عن فعله الشخصي، ام مسؤولاً عن فعل الغير، له الحق في التمتع بأصل البراءة. اما فيما يتعلق بالحرية الفردية للمتهم، فإن الحاجة تبدو مسيسة إلى حمايتها منذ بداية الإجراءات الجنائية، ففي هذه المدة قد يقتضي البحث عن الأدلة وجمعها – وهو ما يحدث غالباً – اتخاذ بعض الإجراءات الجبرية المسيسة بحرية المتهم، كالقبض أو التفتيش، أو التوقيف، هنا تبدو أهمية قرينة البراءة بالنسبة للمتهم، غير ان ذلك لا يعني انه في مرحلة المحاكمة لا تثور مشكلة الحرية الفردية، إذ أباح القانون للمحكمة استكمال التحقيق الذي بدأته سلطات التحقيق، الأمر الذي يعني إباحة اتخاذ إجراءات جبرية مشابهة لتلك التي تتخذ أثناء التحقيق الابتدائي، ولكن لما كانت المرحلة الأولى مقررة بصفة أساسية للبحث عن الأدلة وجميعها، فإن مخاطر المساس بالحرية الفردية خلالها تبدو اكثر احتمالاً. اما مرحلة المحاكمة فهي مخصصة أساسا لفحص وتقدير عناصر الإثبات، ومن هنا قد لا تكون ثمة حاجة لاتخاذ الإجراءات الجبرية إزاء المتهم، إذا كانت عناصر التحقيق مكتملة(4).عليه فإن أصل البراءة التي يتمتع بها المتهم، يجب أن تفضي إلى معاملة ثابتة له، تستند إلى عده شخصاً بريئاً في الإجراءات كافة التي تتخذها السلطات المعنية بالدعوى الجنائية.

________________

1- انظر في ذلك: احمد ضياء الدين خليل، “قواعد الإجراءات الجنائية”، ج2، مطابع الطوبجي، القاهرة، 1999، ص250.

2- اذ يتصف المجرمين وفقاً لعلم العقاب، على أساس خطورتهم الإجرامية، إلى مجرم عرضي، مجرم بالتكوين، مجرم مرضي، وعليه تختلف باختلافهم معاملة كل منهم والجزاء أو التدبير المناسب له.

انظر في تفصيل ذلك: علي عبدالقادر القهوجي، “أصول علمي الإجرام والعقاب”، منشورات الحلبي الحقوقية، بيروت، 2002، ص310 وما بعدها.

3- انظر في ذلك: محمد محمد مصباح القاضي، المرجع السابق، ص50.

4- انظر في ذلك: السيد محمد حسن شريف، “النظرية العامة للإثبات الجنائي”، المرجع السابق، ص468.

المصدر : البراءة في القانون الجنائي

المؤلف : رائد احمد محمد

إغلاق