دراسات قانونية

ما هي الأحكام العامة للأهلية في القانون المغربي – بحث قانوني

مقال بعنوان:

الأحكام العامة للأهلية في ضوء مقتضيات مدونة الأسرة

يقول تعالى:

“وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها”

صورة الحجرات، الآية 26.

فاتحة:

تقوم العلاقات بين الأفراد على إبرام مجموعة من المعاملات فيما بينهم سواء تعلق الأمر بجانب التبرعات أو المعاوضات، فيتوقف إبرام هذه المعاملات باختلافها على توفر العديد من الأركان والشروط لعل أهمها الأهلية.

فالأهلية تعتبر من صميم الأحوال الشخصية للأفراد خصها المشرع في قانون الالتزامات والعقود بعشر فصول تمتد من الفصل الثالث إلى الثالث عشر، مشيرا في بداية الفصل الثالث إلى أن الأهلية المدنية للفرد تخضع لقانون أحواله الشخصية، حيث نجد بعضا من أحكامها في القسم الأول من الكتاب الرابع في مدونة الأسرة.

فالأهلية تعني الصلاحية والجدارة والكفاية لأمر من الأمور، يقول تعالى “وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها”[1] وقوله أيضا “هو أهل التقوى وأهل المغفرة”[2] كما تعني كذلك صلاحية الشخص لاكتساب الحقوق والتحمل بالالتزامات ومباشرة التصرفات القانونية، فالأهلية قاصرة على دائرة التصرفات القانونية دون الوقائع المادية، وتعتبر من النظام العام لا يجوز التنازل عنها أو مخالفة أحكامها.

من هذا وذاك، تطرح الإشكالية التي مفادها: ما هي الأحكام والقواعد العامة لأهلية الأداء والوجوب في ضوء مدونة الأسرة؟ ولأجل الإجابة عن الإشكالية المطروحة سنعمد إلى اعتماد التصميم المومأ إليه تبعا: المبحث الأول: تعريف الأهلية والتمييز بينها وبين ما يشتبه بها من نظم، المبحث الثاني: أقسام الأهلية والعوامل المؤثرة عليها.

المبحث الأول: تعريف الأهلية والتمييز بينها وبين ما يشتبه بها

تعتبر الأهلية ركن من أركان العقد إلى جانب كل من الرضا والمحل والسبب، حيث هناك من الفقه القانوني من يدرجها ضمن عناصر الرضا، بخلاف المشرع المغربي الذي فصلها عنه ووضع لكل منهما أحكام مستقلة، فالأهلية كمبدأ عام تعني الصلاحية والجدارة للقيام بتصرف قانوني معين يكون الشخص عاجزا عن القيام به إذا تخلف هذا العنصر، فلقد تعددت التعاريف المعطاة لهذا المفهوم سواء من طرف الفقه القانوني وكذا من طرف النصوص التشريعية المعتمدة. كما إن هذا العنصر يشتبه في كثير من أحكامها مع نظم أخرى تكاد تكون معها في صورة واحدة.

ففي هذا المبحث سنحاول إعطاء تعريف للأهلية سواء في جانبها القانوني والفقهي (المطلب الأول)، تم بعدها ننتقل للحديث عن التمييز الحاصل بينها وبين ما يشتبه بها من نظم (المطلب الثاني).

المطلب الأول: تعريف الأهلية فقها وقانونا

للأهلية تعاريف متعددة تنصب كثبر منها في مجرى واحد، فهناك تعاريف قانوني (الفقرة الأولى) ثم هناك تعاريف فقهي (الفقرة الثانية).

الفقرة الأولى: التعاريف القانونية للأهلية

في مدونة الأسرة لم يعرف المشرع المغربي للأهلية في شموليتها، إنما قام بإبراز أصنافها وعرف هذه الأخيرة وفصل فيها تفصيلا. حيث وردت هذه الأنواع في المادة 206 من نفس المدونة، والذي يستشف من مضمونها أنها نوعان أهلية وجوب وأهلية أداء.

فأهلية الوجوب حسب المدونة[3] هي الصلاحية التي يتمتع بها الشخص وتخول له اكتساب الحقوق وتحمل الالتزامات التي يفرضها عليه القانون، وتعتبر الميزة الأساسية التي تميز هذا النوع من الأهلية أنها تلازم الإنسان وتصاحبه طول حياته ولا يمكن حرمانه منها، بل قد تثبت له هذه الأهلية في شقها الوجوبي منذ أن كان جنين في بطن أمه، وتوصف هنا بالأهلية الناقصة، كما قد تمتد بعد وفاته إلى أن تصفى تركته وتؤدى ديونه.

أما النوع الثاني من الأهلية فهو المنصوص عليه في المادة 208 من المدونة، حيث جاء فيها: “أهلية الأداء هي صلاحية الشخص لممارسة حقوقه الشخصية والمالية ونفاذ تصرفاته، ويحدد القانون شروط اكتسابها وأسباب نقصانها وانعدامها”. فبخلاف النوع الأول من الأهلية نجد أهلية الأداء لا تثبت للشخص إلا إذا تحققت الشروط التي نص عليها القانون، وانتفت أسباب نقصانها أو انعدامها.

فاستنادا إلى كل هذا، نجد المشرع المغربي في الدليل العملي للمدونة يعطي تفصيلا دقيقا له، حيث اقر أن “أهلية الوجوب هي صلاحية الشخص لاكتساب الحقوق والتحمل بالالتزامات التي يقررها القانون في ماله.

واكتساب الحقوق يبدأ من وقت استقرار في الرحم، وتكون الجنين، أما التحمل بالالتزامات فلا يكون إلا بعد ميلاد الطفل حيا…”[4]

أما أهلية الأداء حسب نفس الدليل هي” صلاحية الشخص لممارسة حقوقه طبقا للقانون، والتحمل بالالتزامات الناشئة عن تصرفاته المادية والقانونية حسب المقتضيات الآتية بعده، وتبدأ أهلية الصغير بإتمام سن التمييز، غير أنها تكون عنده ناقصة إلى أن يبلغ سن الرشد[5] فتصبح لديه كاملة”[6].

فانطلاقا من كل ما تقدم، يمكن القول بأن الأهلية من الناحية القانونية تعني “صلاحية الشخص لكسب الحقوق والتحمل بالالتزامات، ومباشرة التصرفات القانونية التي يكون من شانها أن تكسبه حقا أو إن تحمله التزاما على وجه يعتد به قانونا.

وتعتبر الأهلية من مسائل الأحوال الشخصية، وقد خص قانون الالتزامات والعقود لأهلية الالتزام المواد (من 3 إلى 13)”. وبالرجوع إلى المادة الثالثة من قانون الشريعة العامة[7] نجدها تقر بأن الأهلية المدنية للشخص تخضع فيما يخص تنظيمها لقانون أحواله الشخصية ـ أي مدونة الأسرة ـ وبالخصوص الكتاب الرابع منها المتعلق بالأهلية والنيابة الشرعية.

الفقرة الثانية: تعريف الأهلية في الفقه الإسلامي

بخصوص تعريف الأهلية في الفقه الإسلامي ففي اللغة: يقال فلان أهل لكذا، أي هو مستوجب له، ويقال استأهله بمعنى ستوجبه. فتكون بمعنى الاستحقاق، وهي عند علماء أصول الفقه بمعنى الصلاحية. كما يتضح من تعريفاتهم لأقسامها، فقد قام الأصوليون بتقسيم الأهلية إلى قسمين وعرفوا كل منهما: فالقسم الأول تمثله أهلية الوجوب وتعني صلاحية الإنسان لوجوب الحقوق المشروعة له وعليه[8]، أما القسم الثاني وتمثله أهلية الأداء، وهي صلاحية الإنسان لأن يطالب بالأداء، لان تعتبر أقواله وأفعاله، وتترتب عليها آثارها الشرعية[9].

فمن خلال هذا التعريف الذي أعطاه الأصوليون للأهلية، يمكن أن نقسم الأهلية إلى خمس أمور أساسية وهي:

ﺇﻥَّ ﺃﻫﻠﻴﺔ ﺍﻟﻮﺟﻮﺏ ﺍﻟﻨﺎﻗﺼﺔ ﺛﺎﺑﺘﺔ ﻟﻜﻞ ﺇﻧﺴﺎﻥ ﺣﺘﻰ ﻟﻮ ﻛﺎﻥ ﺟﻨﻴﻨﺎً ﻓﻲ ﺑﻄﻦ ﺃُﻣﻪ، ﻟِﻤﺎ ﻟﻪ ﻣﻦ ﺣﻘﻮﻕ ﺃﻭﺟﺒﺘﻬﺎ ﺍﻟﺸﺮﻳﻌﺔ ﺍﻟﻤﻘﺪَّﺳﺔ.
ﺇﻥَّ ﺃﻫﻠﻴﺔ ﺍﻟﻮﺟﻮﺏ ﺍﻟﻜﺎﻣﻠﺔ ﺛﺎﺑﺘﺔ للإنسان ﻣﻨﺬ ﺍﻧﻔﺼﺎﻟﻪ ﻋﻦ ﺑﻄﻦ أمه، ﻷﻧﻬﺎ ﺻﻼﺣﻴﺔ ﻟﺜﺒﻮﺕ ﺍﻟﺤﻘﻮﻕ ﻟﻪ ﻭﻋﻠﻴﻪ، ﺳﻮﺍﺀ ﻳﺆﺩﻯ ﺑﻬﺎ ﺑﺼﻮﺭﺓ ﻣﺒﺎﺷﺮﺓ ﻛﺎﻟﺒﺎﻟﻎ ﺍﻟﻌﺎﻗﻞ، ﺃﻡ ﺗﺆﺩّﻯ ﻋﻨﻪ ﺑﺎﻟﻨﻴﺎﺑﺔ ﻛﺪﻓﻊ ﺍﻟﻨﻔﻘﺔ ﻟﻮﺍﻟﺪﻱ ﺍﻟﻤﺠﻨﻮﻥ ﻭﺍﻟﺼﻐﻴﺮ ﻣﻦ ﻣﺎﻟﻬﻤﺎ ﻣﻦ ﻗﺒﻞ ﻭﻟﻴّﻬﻤﺎ.
ﺇﻥ ﻗِﻮﺍﻡ ﺃﻫﻠﻴﺔ ﺍﻻﺩﺍﺀ ﺍﻟﻨﺎﻗﺼﺔ ﻫﻮ ﺍﻟﺘﻤﻴﻴﺰ ﻓﻘﻂ، ﻭﻟﻮ ﻛﺎﻥ ﺍﻟﻤﻤﻴِّﺰ ﻏﻴﺮ ﺑﺎﻟﻎ ﻟﺼﻼﺣﻴﺘﻪ ﻷﺩﺍﺀ ﺍﻟﻌﺒﺎﺩﺍﺕ، ﻭﺻﻼﺣﻴﺘﻪ ﻟﻠﺘﻌﺎﻣﻞ ﺑـﺈﺫﻥ ﻭﻟﻴّﻪ.
ﺇﻥ ﺃﻫﻠﻴﺔ ﺍﻷﺩﺍﺀ ﺍﻟﻜﺎﻣﻠﺔ ﻻ ﺗﺜﺒﺖ ﺇﻻ ﻟﻤﻦ ﺍﺳﺘﺠﻤﻊ ﺷﺮﻭﻁ ﺍﻟﺘﻜﻠﻴﻒ ﺍﻟﺸﺮﻋﻴﺔ[10]، ﻣﻀﺎﻓﺎً إلى ﺧﻠﻮِّﻩ ﻣﻦ ﺍﻟﻌﻮﺍﺭﺽ ﺍﻟﻤﺆﺛّﺮﺓ ﻋﻠﻰ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺸﺮﻭﻁ.
ﺇﻥّ ﺃﺳﺎﺱ ﺃﻫﻠﻴﺔ ﺍﻻﺩﺍﺀ ﺍﻟﻜﺎﻣﻠﺔ ﻫﻮ ﺷﺮﻭﻁ ﺍﻟﺘﻜﻠﻴﻒ ﺍﻟﺸﺮﻋﻴﺔ ﺍﻟﻜﺎﻣﻠﺔ، ﻭﺃﺳﺎﺱ ﺃﻫﻠﻴﺔ ﺍﻟﻮﺟﻮﺏ ﺍﻟﻜﺎﻣﻠﺔ ﻫﻮ ﺇﻣﻜﺎﻥ ﺃﺩﺍﺀ ﺍﻟﺤﻖ ﻭﻟﻮ ﺑﺎﻟﻨﻴﺎﺑﺔ، ﻭﺃﺳﺎﺱ ﺃﻫﻠﻴﺔ ﺍﻷﺩﺍﺀ ﺍﻟﻨﺎﻗﺼﺔ ﻫﻮ ﺍﻟﺘﻤﻴﻴﺰ، ﺃﻣﺎ ﺃﺳﺎﺱ ﺃﻫﻠﻴﺔ ﺍﻟﻮﺟﻮﺏ ﺍﻟﻨﺎﻗﺼﺔ، ﻓﻘﻴﻞ: ﺇﻧﻪ ﺍﻟﺤﻴﺎﺓ[11].
أما بخصوص تعريف الأهلية حسب بعض الفقه القانوني، فهو قريب في اعتقادنا المتواضع إلى حد كبير مع ذلك المعتمد من طرف فقهاء الشريعة، حيث نجد المرحوم مأمون الكزبري[12] يعرف الأهلية كونها” صلاحية الشخص لثبوت الحقوق والالتزامات له وعليه، وهي ملازمة للشخص تثبت للإنسان من وقت ولادته حيا إلى حين وفاته، بل وتبدأ للجنين قبل ذلك في حدود معينة”.

وترتبط أهلية الوجوب حسب الأستاذ عبد لله بن عبد العزيز العجلان بالشخصية القانونية[13]، بل إن بعض الفقه ـ ويمثله الدكتور محمد مومن والفقيه عبد الرزاق الصنهوري رحمه الله ـ يذهب للقول بأن أهلية الوجوب في واقع الشخص ذاته منظورا إليه من الناحية القانونية، فالشخص سواء كان شخصا طبيعيا أو شخصا اعتباريا إنما ينظر له القانون من حيث انه صالح لأن تكون له حقوق، وعليه التزامات. فكل إنسان ـ بعد إبطال الرق ـ شخص قانوني تتوافر فيه أهلية الوجوب[14].

كما عرفها جانب من الفقه أيضا، ويمثله الأستاذ إدريس العلوي العبدلاوي بأنها” صلاحية الشخص لاكتساب الحقوق والتحمل بالالتزامات، ومباشرة التصرفات التي من شأنها أن تكرس حقا، أو تحمل التزاما على وجه يعتد به قانونا”[15].

المطلب الثاني: تمييز الأهلية عما يشتبه بها

يختلط نظام الأهلية بشقيها الوجوبي والأدائي في الكثير من الأحيان مع بعض النظم الأخرى المشابهة لها، ومن أهمها نظام الولاية على المال ونظام عدم قابلية المال للتصرف فيه. ولمحاولة الإلمام وفك رموز هذا الاختلاط والتشابه بين مختلف هذه الأنظمة، فسنجري تمييز بينها ـ أي الأهلية ـ ونظام الولاية على المال (الفقرة الأولى)، تم نرجئ الحديث عن الفرق الحاصل بين الأهلية ونظام عدم قابلية المال للتصرف فيه (الفقرة الثانية).

الفقرة الأولى: الفرق الحاصل بين الأهلية والولاية على المال

إن من ضمن الأمور التي يجب على الباحث أن يتنبه لها، وهو بصدد البحث في عنصر من عناصر العقد ـ أي الأهلية ـ عدم الخلط بينها وبين نظام الولاية على المال، فإذا كانت الأهلية هي صلاحية الشخص للقيام بعمل مشروع على الوجه الذي يعتد به القانون، فإن الولاية على المال هي صلاحية الشخص للقيام بعمل ينتج أثر في حق شخص أخر، أي في مال الغير. فمثلا الولي والوصي… الخ، كل هؤلاء لهم الولاية على مال القاصر، والمحجور عليه والغائب، فإذا تولى الوصي على القاصر القيام ببعض الأعمال القانونية، فإن عمل الوصي هنا ينتج أثره في ذمة القاصر، ولا يقال الوصي يقوم بهذه الأعمال لأنه أهل لها، وإنما يقال أن الوصي يقوم بهذه الأعمال لأن له الولاية على مال القاصر، ومن تم تكون الأهلية صلاحية الشخص للقيام بعمل ينتج أثره في حقه، أي في ماله. بينما الولاية صلاحية الشخص للتصرف في أموال الغير ولحسابه[16].

وفي هذا يتجلى الفرق بين الأهلية والولاية على المال، فالأهلية هي صلاحية الشخص لإبرام تصرفاته القانونية بنفسه، أي بإرادته، فهي صلاحية الشخص لما له هو نفسه، أما الولاية فهي السلطة التي تكون لشخص بمقتضى حكم القانون أو بناء على الاتفاق، والتي تسمح له أن يبرم تصرفات لمصلحة الغير كالوكيل أو المقدم…، فالولاية إذا كانت صلاحية بالنسبة لمال الغير لا لمال الشخص نفسه، ولا يرتبط ثبوتها لشخص بقدرته على الإرادة السليمة أو عدم قدرته، إنما تتوقف على وجود نيابة له عن الغير، كما أن فقدان الأهلية يختلف في آثاره عن فقدان الولاية، فيترتب عليه أن التصرف الذي يبرم لا ينتج أثره في حق الغير الذي يتم باسمه ولحسابه، تطبيقا لمبدأ نسبية التصرفات القانونية، الذي يعني أن الشخص لا يلزم بإرادته إلا نفسه[17].

الفقرة الثانية: تمييز الأهلية على نظام عدم قابلية المال للتصرف فيه

قد تختلط الأهلية في أحيان كثيرة مع نظام عدم قابلية المال للتصرف فيه، حيث في بعض الأحيان قد يكون هناك مال معين غير قابل لأن ترد عليه التصرفات القانونية سواء كلها أو بعضها، ومثال هذه الأموال نجد الأموال العامة أي تلك المملوكة للدولة او الجماعات المحلية والمخصصة لتحقيق المنفعة العامة كالطرقات والجسور…

ومثال الأموال التي لا يجوز التصرف فيها أيضا تلك الأعيان الموقوفة، بحيث يجب عدم الخلط بين أهلية الأداء عند نقصانها او انعدامها وبين عدم قابلية المال للتصرف فيه، فنقصان أو انعدام الأهلية وصف يلحق الشخص لانعدام إدراكه أو نقصانه، ويجعله غير صالح لأنه يجري التصرفات القانونية بنفسه، لكن هذا لا يعني أن هذه التصرفات ممنوعة في ذاتها، كل ما في الأمر أن إجراءها يمتنع على عديمي الأهلية (الإرادة).

فالقانون يجعل من صغير السن أو الحالة العقلية أو العاهات التي يصاب بها الشخص، علامات يقف عندها ليفترض أن هذا الشخص، بين حالته أو ظروفه غير قادر على إصدار إرادة لها من التصور والحرية ما يكفي لإنشاء تصرف قانوني.

المبحث الثاني: أقسام الأهلية والعوامل المؤثرة عليها

تنقسم الأهلية إلى قسمين أساسيين وهما ما سنتناوله في المطلب الأول، لنتطرق في المطلب الموالي له إلى بيان العوامل المؤثرة على الأهلية.

المطلب الأول: أقسام الأهلية

بعدما تبين لنا أن الأهلية هي الصلاحية لاكتساب الحقوق وتحمل الالتزامات وفقا لقانون الأحوال الشخصية للشخص حيث نص الفصل الثالث من ق.ل.ع على أن الأهلية المدنية الشخص تخضع لقانون أحواله الشخصية، الذي يتمثل حسب التشريع المغربي في مدونة للأحوال الشخصية الملغاة والملغاة بمدونة الأسرة لسنة 2004، وبحسب المادة 206 من هذه الأخيرة فان الأهلية قسمان: أهلية الوجوب وهي ما سنتطرق إليه في فقرة أولى ثم أهلية الأداء في الفقرة الثانية.

الفقرة الأولى : أهلية الوجوب

أهلية الوجوب هي صلاحية الشخص لكسب الحقوق والتحمل بالالتزامات وهي بذلك صفة تقوم بشخص تجعله صالحا لأن يتعلق به حق معينا له أو عليه[18]. وعرفتها مدونة الأسرة من خلال المادة 207 على أنها “أهلية الوجوب هي صلاحية الشخص لاكتساب الحقوق وتحمل الواجبات التي يحددها القانون وهي ملازمة له طول حياته ولا يمكن حرمانه منها”، كصلاحية الشخص لأن يرث وتثبت أهلية الوجوب للشخص وهو جنين في بطن أمه حيث تبدأ الشخصية الطبيعية لكل إنسان ببدء تكون الجنين بشرط ولادته حيا ولو حياة تقديرية، ويعتبر حيا عند الحنفية بظهور أكثر المولود حيا وتعتبر حياة تقديرية عندهم في حالة إسقاط الجنين بجناية، كما لو ضرب شخص امرأة حبلى فأسقط جنينا ميتا.

فإنه يرث ويورث [19]، غير أنها تبقى قاصرة على ثبوت الحقوق له لا عليه، وتستمر إلى الوفاة وقد تمتد إلى ما بعد الموت أي إلى حين تصفية التركة و أداء الوصية .

ويقر الفقه الإسلامي ما يسمى قانونا الشخصية الاعتبارية أو المعنوية أو الشخصية المجردة عن طريق الاعتراف لبعض الجهات العامة كالمؤسسات والجمعيات والشركات والمساجد بوجود شخصية تشبه شخصية الأفراد الطبيعيين في أهلية التملك وثبوت الحقوق والالتزام بالواجبات وافتراض وجود ذمة مستقلة للجهة العامة بقطع النظر عن ذمم الأفراد التابعين لها أو المكونين لها [20]

تنقسم أهلية الوجوب إلى قسمين:

أهلية وجوب ناقصة وهي تثبت للإنسان وهو جنين في بطن أمه إلى حين ولادته، حيث يستفيد من بعض الحقوق كحقه في الحياة والإرث إذ أنه شخصية احتمالية له مصلحة في أن تثبت له أهلية من نوع معين لحماية حقوقه[21].
أهلية وجوب كاملة ويتمتع بها الشخص طيلة حياته ابتدءا من فترة ولادته حيث تثبت له حقوق و تقع عليه التزامات.
فأهلية الوجوب إذن لا علاقة لها بمجال التصرفات القانونية فهي تثبت للجنين في بطن أمه الذي يستفيد من مجموعة من الحقوق المترتبة أثارها بعد الولادة و تثبت كذلك لعديم الأهلية كالصغير الذي لم يبلغ 12 سنة والمجنون والمعتوه .

الفقرة الثانية: أهلية الأداء

يقصد بأهلية الأداء قدرة الشخص على إبرام التصرفات القانونية لحسابه[22]، وعرفتها مدونة الأسرة من خلال المادة 208 بأنها صلاحية الشخص لممارسة حقوقه الشخصية والمالية ونفاذ تصرفاته ويحدد القانون شروط اكتسابها وأسباب نقصانها أو انعدامها. فأهلية الأداء إذن تعني تمتع الشخص بالحقوق التي يحميها له القانون والتحمل بالالتزامات التي تنشأ عن تصرفاته القانونية، فإن كان مناط أهلية الوجوب هو الحياة فإن مناط أهلية الأداء هو التمييز والإدراك فهي تدور معه وجودا وعدما. وأهلية الأداء فكرة قاصرة على دائرة التصرفات القانونية التي تتجه فيها إرادة الشخص إلى إحداث أثر قانوني كالبيع والهبة، ولا تمتد إلى دائرة سائر الوقائع القانونية باعتبارها كل أمر مستجد في الكون متى اعتبره القانون ورتب عليه أثرا قانونيا كإلحاق الضرر بالغير الذي يترتب عنه التزام بالتعويض لفائدة المتضرر، وكواقعة الموت فيرتب عليها القانون انتقال أموال الميت إلى ورثته وتنفيذ الوصية[23].

وتنقسم أهلية الأداء بدورها إلى:

أهلية أداء ناقصة فهي تثبت لثلاثة أصناف من الأشخاص أهلية أداء كاملة و يتمتع بها الشخص إبتداءا من بلوغه سن الرشد القانوني أي ثمانية عشر سنة شمسية كاملة فيصبح بذلك مؤهلا بقوة القانون لممارسة كافة التصرفات القانونية ما لم يلم به عارض من عوارض الأهلية.
حصرتهم المادة 213 من مدونة الأسرة في كل من الصغير المميز[24] وغير البالغ سن الرشد والمحدد بناءا على المادة 209 من نفس المدونة في 18 سنة شمسية كاملة والسفيه ثم المعتوه
المطلب الثاني: العوامل المؤثرة على الأهلية

سبقت الإشارة إلى أن أهلية الشخص تمكنه من الاستفادة من الحقوق وإبرام كافة التصرفات القانونية، لكن أهلية الشخص تتأثر بمجموعة من العوامل التي تقصرها على بعض التصرفات دون الأخرى أو تعدمها، وسنتناول في الفقرة الأولى تأثر الأهلية بالسن ثم في الفقرة الثانية سنقصر الحديث عن أهم عوارض الأهلية.

الفقرة الأولى: تأثر الأهلية بالسن

قسم المشرع المغربي من خلال مدونة الأسرة الأهلية بحسب السن إلى ثلاثة أقسام نميز من خلالها بين مرحلة الصبي غير المميز، ثم مرحلة الصبي المميز، وأخيرا مرحلة بلوغ سن الرشد.

أولا: مرحلة الصبي غير المميز: الصغير غير المميز هو دون سن التمييز المحدد في 12 سنة طبقا للمادة 214 من المدونة و يكون بحسب سنه عديم الأهلية لإجراء التصرفات القانونية مفتقرا لأهلية الأداء دون أهلية الوجوب، إضافة إلى الحالات الأخرى التي تنعدم فيها الأهلية والتي نصت عليها صراحة المادة 217 من المدونة بما يلي “يعتبر عديم أهلية الأداء:

أولا: الصغير الذي لم يبلغ سن التمييز.

ثانيا: المجنون و فاقد العقل”.

ثانيا: مرحلة الصبي المميز الذي لم تكتمل أهلية أدائه: وهو الذي تتوفر له بعض أسباب التمييز دون أن يكتمل تمييزه، ويكتسب الأهلية لإجراء بعض التصرفات القانونية دون الأخرى، حيث يحق للشخص البالغ من العمر 15 سنة أن يختار العيش مع أمه أو أبيه حالة افتراقهما لكنه لا يملك أهلية الزواج المحددة في 18 سنة شمسية كاملة إلا استثناءا طبقا للمادتين 20 و 21 من مدونة الأسرة. وتنص المادة 213 من نفس المدونة على أنه “يعتبر ناقص أهلية الأداء:

1- الصغير الذي بلغ سن التمييز و لم يبلغ سن الرشد.

2- السفيه.

3- المعتوه”.

و في مرحلة نقصان الأهلية هذه نميز بين ثلاثة أقسام للتصرفات القانونية:

تصرفات نافعة نفعا محضا: وهي التصرفات التي تثري المتصرف أو تبرئ ذمته دون أن يدفع مقابل ذلك بأي تكليف كقبول هبة بلا عوض أو قبول براءة من دين عالق بالذمة[25] وتقع صحيحة ولو وقعت بمعزل عن النائب الشرعي.

التصرفات الضارة ضارا محضا: وهي التصرفات التي تؤدي إلى افتقار من يباشرها دون أن يكسب مقابلا وذلك كأن تصدر عن ناقص الأهلية هبة أو وصية أو ابراء من الدين لفائدة الغير وهي باطلة إذا صدرت عن ناقص الأهلية ولو بموافقة نائبه الشرعي.

التصرفات الدائرة بين النفع والضرر: وهي تلك التي من المحتمل أن يحصل منها ربح أو خسارة وهي التصرفات المتصلة بإدارة المال واستثماره كالإيجار والقرض والتصرفات التي تتصل بالتصرف في المال كعقد البيع والمقايضة وغيرها[26]، وهذه التصرفات يتوقف نفاذها على إجازة نائبه الشرعي حسب المصلحة الراجحة للمحجور وفي الحدود المخولة لاختصاصات كل نائب شرعي.

ثالثا: مرحلة البالغ الرشيد: بعد أن كان سن الرشد في مدونة الأحوال الشخصية 20 سنة أتت المادة 209 من مدونة الأسرة فحددته في 18 سنة شمسية كاملة، فإذا بلغ الشخص هذه السن ولم يتبث عارض من عوارض أهليته اكتسب حق ممارسة جميع التصرفات القانونية على وجه صحيح دون قيد أو شرط .

الفقرة الثانية: عوارض الأهلية

تكتمل أهلية الشخص ببلوغه 18 سنة شمسية كاملة فيصبح بذلك كامل الادراك بالشكل الذي يمكنه من توقيع كافة التصرفات القانونية على وجه صحيح غير أنه قد يعرض له ما يؤثر على ادراكه و تمييزه أو حسن تدبيره و هذا العارض إما أن يكون جنونا أو سفها أو عته أو إفلاسا أو مرضا و في هذه الفقرة سيقتصر حديثنا عن الجنون و العته والسفه باعتبارها أهم العوارض المؤثرة على الأهلية .

الجنون: هو اختلال العقل بحيث يمنع جريان الأفعال والأقوال على نهج العقل إلا نادرا وهو عند أبي يوسف إن كان حاصلا في أكثر السنة فمطبق وما دونها فغير مطبق [27] ويعني الجنون أيضا خلل في العقل تجري معه الأقوال والأفعال على خلاف ما يوجبه العقل ومن ثم فان الجنون اضطراب في القوى العقلية يترتب عليه فقدان التمييز[28] وهذا الاضطراب قد يكون مستمرا أو متقطعا ويعتبر الشخص مسؤولا عن أفعاله التي يأتيها في الحالة التي يعود فيها اليها عقله طبقا للفقرة الثانية من المادة 217 من مدونة الأسرة، وإن كان الصغير محجورا عليه بطبيعته فان المجنون والسفيه يتوقف حكم الحجر عليهما على استصدار حكم قضائي وفي ذلك تنص المادة 220 من مدونة الأسرة على أن “فاقد العقل والسفيه والمعتوه تحجر عليهم المحكمة بحكم وقت ثبوت حالتهم بذلك و يرفع عنهم الحجر ابتدءا من تاريخ زوال هذه الأسباب”.

السفه: عبارة عن خفة تعرض للإنسان من الفرح والغضب، فيحمله على العمل بخلاف طور العقل وموجب الشرع[29]، وعرفته مدونة الأسرة من خلال المادة 215 بأنه “السفيه هو المبذر الذي يصرفه ماله فيما لا فائدة فيه وفيما يعده العقلاء عبثا بشكل يضر به وبأسرته” فالسفه كما يبدو لا يتعلق بخلل عقلي ولا يعد مساسا بالمدارك العقلية، بل هو عبارة عن تصرفات تنم عن سوء تدبير الشخص لأمواله بشكل يضر به و بأسرته كلعب القمار و ما يماثله، حيث يقوم القاضي هنا بالحجر على السفيه شأنه في ذلك شأن المجنون طبقا للمادة 220 من مدونة الأسرة، وفي ذلك يقول تعالى “ولا تأتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قيما وارزقهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولا معروفا”[30] وتعتبر تصرفات السفيه قبل الحجر صحيحة نافذة وبعد الحجر عليه تلحق بتصرفات الصبي المميز لأنه يماثله في نقص الأهلية عند جمهور الفقهاء[31].

الغفلة والعته: المعتوه هو من كان قليل الفهم مختلط الكلام فاسد التدبير[32]، وعرفته المادة 216 من مدونة الأسرة على أنه “المعتوه هو الشخص المصاب بإعاقة ذهنية لا يستطيع معها التحكم في تفكيره وتصرفاته” ويتضح إذن من خلال هذين التعريفين أن العته لا يرقى إلى مرتبة الجنون وإن كان عبارة عن خلل ذهني يخرج أفعال الشخص عن دائرة سيطرته، وقد ألحقت مدونة الأسرة من خلال المادة 213 المعتوه بالسفيه والصغير المميز حيث تقع تصرفاته القانونية صحيحة قبل الحجر عليه وبعده قابلة للإبطال لمصلحته كما أن قابلية التصرف للإبطال تشمل كذلك تصرفات المريض مرض الموت، ومن ذلك ما قضت به محكمة النقض في أحد قرارتها الذي نص على أن “إقدام الهالك المتصدق على إبرام عقد الصدقة أثناء إصابته بمرض السرطان المنتشر في جميع جسمه يعدم إرادته ويجعل صدقته قابلة للإبطال”[33] فكيفت المحكمة هنا مرض الموت كعارض للأهلية يجعل التصرف قابلا للإبطال، ويمكن لكل ذي مصلحة المطالبة بإبطال هذا العقد على أساس كون الأهلية من النظام العام.

إغلاق