دراسات قانونية

دراسة قانونية هامة حول الزمن القضائي في المنازعات الأسرية

مقدمة

الزمن مادة الحياة عنصر أصيل من عناصرها، وهذه الحياة تقاس[1] بنقطة بداية ونقطة نهاية، وذلك من خلال الزمن المرتبط بذلك. فالزمن يجتازنا ولكن إدراكنا له لا يتم إلا في فترة ضبط وتنظيم وتتضح حول العلاقة متواقت متتابع[2]، وهل الإنسان هو الذي ينظم الزمن أم أن الزمن هو الذي ينظم الإنسان؟، فالجميع يشكو من قصر الوقت ومع ذلك لدينا منه أكثر مما نعرف ماذا نفعل به، لذلك يحتاج الإنسان بشكل واعي في كيفية تدبير الزمن واستغلال المهارات التي تغير نمط حياته ضمن دائرة الوقت المتاح. وهذا كله ينعكس عليه نجاحا وتفوقا.

ليس هناك أي علم من العلوم[3] لم يواجه معضلة الزمن، ولذلك كان لعلم القانون نصيبه الخاص من هذه المشكلة، وعلى هذا الأساس ثم نسج خليط من العلاقات بين الزمن والقانون، فأحيانا تكون العلاقة مبنية على أساس الترابط والتكامل فيظهر الزمن خادما للقانون ينظم ممارسة الحقوق ويرسم الحدود الفاصلة للإجراء في الزمن فلا يسمح بمباشرته إلا داخله، إلا أنه في بعض الأحيان تكون العلاقة علاقة تضاد وتنافر فيظهر القانون تابعا للزمن محاولا اللحاق به ليطلب منه مهلة للتعرف عليه ويستدرك منه ما يمكن استدراكه[4]، وفي مقابل ذلك قد تكون العلاقة بينهما علاقة تأثير وتأثر، أي هل القاعدة القانونية هي التي تؤثر على الزمن، أم أن الزمن هو الذي يؤثر على خلق القاعدة القانونية؟.

إذن يتضح أن علاقة الزمن بالقانون، علاقة وثيقة لا انفصام لها، وإن هذه العلاقة تحتاج للمزيد من الدراسات المتعمقة، وأنه يستحسن في كل قاعدة قانونية ذات علاقة بالزمن أن يتم تحديدها بدقة بالغة وبعبارة واضحة لا تحتمل أكثر من معنى[5].

لذلك فالقانون حينما يتعرض للزمن – وكثيرا ما يحدث ذلك – فإنه يفترض فيه أن يحرص على تحديده بدقة، ومن الناحية الشرعية، نجد قوله تعالى: ” سلام هي حتى مطلع الفجر”[6] ثم قوله تعالى” أتموا الصيام إلى الليل”[7] وقوله ” إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا”[8]

فنلاحظ أنه من كلا الناحيتين الشرعية والقانونية للأفعال أحكام تتعلق بالظرف الزمني الذي تقع فيه ومع التحليل نجد أن لكل فعل، مطلوبين اثنين أحدهما الفعل والآخر هو الزمن الملابس له[9] أي يجب أن يحدث الفعل، وأن يحدث في الزمن المحدد والمخصص له لكي يحدث أثره الشرعي أو القانوني.

وعليه فكل مادة من مواد القانون تنفرد بزمن خاص يخدم الفلسفة التشريعية التي سنت من أجله ووفق ما يميزها من خصائص عن باقي المواد الأخرى، الأمر الذي يصدق على المادة الأسرية التي لم يتوقف المشرع بمناسبة تنظيمها عند حدود تنظيم نظام زمن التقاضي المعقول كمبدأ دستوري[10]، وإنما تعداه إلى تنظيم نطاق العلاقة بين أفراد مؤسسة الأسرة، ومن هنا يأتي البحث لبيان قيمة الزمن القانوني والقضائي والتنبيه إلى مكانته في القضايا الأسرية.

يعتبر الزمن القضائي في القضايا الأسرية مقوم أساسي لتحقيق الأمن للأفراد والمجتمع والدولة، وبذلك يطمئن الناس على أنفسهم وأعراضهم وأموالهم وعلى سائر حقوقهم ويتجه تفكيرهم إلى ما يرفع شأن مجتمعهم وينهض بأمنهم، وإذا كان العدل أساس الأمن والطمأنينة في المجتمع، فإن الجور والظلم والعدوان مؤذن بخراب المجتمع.

إن للزمن تأثير كبير على الأمن القضائي الأسري، وإذا كان هذا الأخير بمفهومه الواسع يعكس ثقة المتقاضين في مؤسسة القضاء فهو الأمر نفسه بالنسبة للزمن عندما يكون ايجابيا.

وبغض الطرف عن صحة هذا الافتراض أو ذلك، فإن الأمن القضائي يعني الثقة في المؤسسة القضائية والاطمئنان إلى ما يصدر عنها من أحكام وقرارات وأوامر حماية لحقوق الأفراد، وتحقيق ذلك رهين بتوفر مجموعة من المبادئ الأساسية يبقى أهمها سهولة الولوج إليه بما يستتبع ذلك من تنظيم لحق التقاضي سيما من حيث التنظيم الزمني لأطوار الإجراءات المسطرية بالخصوص، انتهاء بجودة وفعالية الأحكام الصادرة عنه خصوصا على مستوى الإسراع في تنفيذها[11]، وفي الميدان الأسري لتحقيق كل ما سلف ذكره، لا بد أن يتم في ظل ما تستلزمه خصوصية نظام الزمن المؤطر للمنازعات الأسرية، وفي محاولة لاستكمال منظومة الأمن من داخل المادة الأسرية، واستجلاء الدور الذي يؤديه إحترام القواعد المنظمة لعنصر الزمن في سبيل تحقيق الأمن القضائي على اعتبار أن درجة الأمن في هذه المادة تقاس بالسرعة التي تحددها القواعد القانونية المنظمة لمدد زمنية قصيرة

ولإستجلاء كل ما سبق ذكره، سنحاول معالجة هذا الموضوع في فقرتين:

الفقرة الأولى: تكريس الزمن لخاصيتي السرعة والجودة في الأحكام الأسرية.

الفقرة الثانية: نجاعة الزمن القضائي الأسري.

الفقرة الأولى: دور الزمن في تكريس خاصيتي السرعة والجودة في الأحكام الأسرية.

فأمام الإرتفاع المهول لعدد القضايا الأسرية المطروحة، وقلة الموارد البشرية والمادية، و أجرأة وصول الحقوق إلى دويها، فإنه أصبح للزمن دور خاص في ذلك، فحسن تدبير هذا الزمن يؤدي إلى تكريس خاصية السرعة واختزال الوقت من جهة (أولا)، و كذا خاصية الجودة في الأحكام الأسرية الصادرة عن القضاء الأسري. (ثانيا).

أولا: التجليات القانونية للسرعة في البت في القضايا الأسرية.

من أجل تجاوز السلبيات التي كانت تعتري مسطرة التطليق والمتمثلة أساسا في البطء في البت في مختلف المنازعات وضع المشرع المغربي مجموعة من القيود القانونية من أجل البت في هذه القضايا في أقرب الآجال[12].ونفس الشيء عمدت إليه وزارة العدل و الحريات في إطار تفعيل المقتضيات القانونية المتعلقة بحق المواطن في الحصول على حكم قضائي في أجل معقول ، بإعداد منشور وزاري موجه إلى السادة القضاة ، بمختلف محاكم المملكة ، يروم إلى تحديد أجل البت في الدعاوى بما يمكن من التقليص من أمد التقاضي و طول المدة التي تستغرقها الملفات ف بأروقة المحاكم[13].

ولا شك أن إشكالية البطء تجر على العدالة الكثير من الانتقادات خاصة في عصرنا الحالي ، عصر السرعة والعقول الإلكترونية لأنها تنعكس سلبياتها على حسن سير العدالة و ترسم إنطباع سيء عن القضاء في نفوس المتقاضين .إن ما تتوخاه الزوجة، الطفل، الأب، الزوج…هو المعرفة العاجلة للحلول القضائية التي ستخصصها المحكمة لقضيته، مع الإلحاح في ذات الوقت على تمكينه من فرص كافية لإبداء مطالبه وتهيئ دفوعه ودفاعه في آجال مناسبة ومعقولة ، وفقا لما تخوله له مساطر التقاضي من مبادئ مقررة لفائدته ،وضمانات مسطرة لصيانة حقوقه ، و بالتالي يتعين التوفيق بين السرعة وتحقيق ضمانات العدالة [14] ، وذلك أن العدالة الحقة في القضاء الرصين لا بد أن يمارسا في إطار ضمانات مسطرية وموضوعية أساسية، من شأنها ضمان حقوق الطرفين في الطلب و الدفع و الدفاع وهذه الضمانات تقتضي بطبيعتها أجال معقولة ، قد تقصر وقد تطول بحسب ما تمليه ظروف و ملابسات كل منازعة من المنازعات الأسرية . فالأمر إذن نسبي يختلف من حالة إلى أخرى، فما يمكن اعتباره تعطيلا في دعوى النفقة و الشقاق ، فهو حتما يعتبر تأنيا وثريتا في دعوى نفي بنوة أو إثبات نسب …إذ العجلة في مثل هذه القضايا تكون مضرة بحسن سير العدالة فالعجلة ليست دائما سلوكا مرضيا ، و العدالة الفعالة هي التي تستطيع البت في أكبر عدد ممكن من القضايا في أجل معقول مع اعتبار أهمية كل نزاع وخطورته ووقائعه مع ضمان التنفيذ الفعلي لقراراتها .

ومن أهم المبادئ التي يمكن الوقوف عليها بمجرد استقراء نصوص مدونة الأسرة حرص المشرع على الإسراع في البث وذلك من خلال وضع آجال محددة يجب على القضاء احترامها[15]. فقد نصت مدونة الأسرة في الفقرة الثانية من المادة 97 منها المتعلقة بالتطليق للشقاق على أنه: ”يفصل في دعوى الشقاق في أجل لا يتجاوز ستة أشهر من تاريخ تقديم الطلب”.

وقد هدف المشرع المغربي من خلال هذه المادة إلى الرفع من سرعة التقاضي والحث على القيام بالإجراءات في وقتها، لتجنب السلبيات التي كانت سائدة قبل صدور مدونة الأسرة خاصة في مسطرة التطليق، كما أن هدف المشرع من وراء ذلك يرمي إلى الرفع من وثيرة الممارسة القضائية والضبطية وجعلها متناغمة مع التطورات التي عرفتها الأسرة المغربية في شتى المجالات وبموجب هذه المادة فإن المشرع قد يكون حدد التاريخ الذي تبتدئ منه فترة الستة أشهر والتي تنطلق من وقت تقديم الطلب أمام قسم قضاء الأسرة.

ومن المعلوم أن تسجيل مقال الدعوة يمر من عدة مراحل تبتدئ من وضع مقال الدعوى المتضمن لطلب التطليق بكتابة الضبط التي تقوم بالتأشير على مقال الدعوى ثم بعد ذلك إحالته على رئيس المحكمة الذي يقوم بدوره بتعيين القاضي المقرر، وهذا الأخير يعمل على تعيين أول جلسة ستعقد للنظر في الدعوى المقامة من أحد الزوجين والرامية إلى إنهاء العلاقة الزوجية[16].

ثم إن مرور مقال الدعوى من هذه المراحل قد يتطلب زمنا طويلا من شأنه أن يزيد عن مدة الستة أشهر التي يجب أن لا تتعداها مسطرة التطليق للشقاق مع العلم أن أي دعوى ينبغي أن يحترم فيها آجال استدعاء الأطراف والتي لا يجب أن تقل عن خمس أيام بين تاريخ التوصل وتاريخ انعقاد الجلسة وإذا كان المعني بالأمر يقيم في نفس الدائرة للمحكمة المعروضة عليها النزاع. وفي نفس الإطار واحتراما لنفس الفلسفة التي يرجى منها الإسراع في البت نجد المادة 112 من مدونة الأسرة بالنسبة للتطليق بسبب الإيلاء والهجر، فالمحكمة ملزمة بالبت بعد أربعة أشهر من تاريخ رفعة الزوجة طلب التطليق إلى المحكمة[17].

أما بخصوص مسطرة التطليق المتعلقة بالأسباب الواردة في المادة 98 من مدونة الأسرة. فإن المشرع عمل بموجب المادة 113 على تحديد حيز زمني للبت فيها، لا يتعدي بدوره الستة أشهر بإسثتناء التطليق للغيبة، تضمنت المادة 113 ما يلي: ” يبث في دعوى التطليق المؤسسة على أحد الأسباب المنصوص عليها في المادة 98 أعلاه بعد القيام بمحاولة الإصلاح باستثناء حالة الغيبة وفي أجل أقصاه ستة أشهر ما لم توجد ظروف خاصة”.

وما يمكن ملاحظته هو أن هذا الأجل مطابق للأجل المنصوص عليه في المادة 98 ومع وجود فارق بين المادتين، هو أن المادة 97 حددت بداية احتساب الأجل الستة أشهر من تاريخ الطلب وهو الأمر الذي لم تتضمنه المادة 113 من مدونة الأسرة، وهذه المادة رغم تضمنها لمدة الستة أشهر فإن المشرع سمح بتجاوزها في حالة وجود ظروف خاصة وهو ما لم يشر إليه في المادة 97، وهذا لا يعني الأجل الوارد في المادة 97 ملزم للمحكمة بالبت في مسطرة الشقاق داخل الأجل القانوني، قد يتم الفصل فيها خارج الأجل المقرر لها[18] لإنعدام أي جزاء قانوني عن تجاوز المدة المحددة قانونا.

لكن مع ذلك فإن الالتزام بأجل الستة أشهر للبت في مسطرة التطليق يبقى متوقفا على عدة شروط أهمها:

_ السرعة في جدولة التعيينات التي يقوم بها رئيس المحكمة والتي تتطلب بذل الكثير من الجهد في أقرب الجلسات.

_ السرعة في جدولة الجلسات التي يقوم بها القاضي المقرر لإدراج القضايا في أقرب الجلسات.

_ السرعة في التبليغ بكيفية يتم فيها احترام آجال الاستدعاء للجلسات.[19]

عموما فتحديد آجال محددة من شأنه أن يخلق في نفوس المتقاضين ارتياحا ويشجعهم إلى اللجوء إلى هذا القضاء لأن التجربة أثبتت أن المساطر الطويلة لا تبعث على الارتياح وتدخل اليأس في نفوس الخصوم كما أنها تفقد الناس الثقة في مرفق القضاء[20].

غير أن هذه السرعة تظل مجرد حبر على ورق أمام غياب جهاز قضائي متخصص، ومن هنا تبرز الغاية من إحداث أقسام قضاء الأسرة، فسبب كون اختصاصه مقصور على القضايا الأسرية فسيكون بإمكان المسؤولين عليه وضع تنظيم داخلي يتوافق مع هذه السرعة.

كما يشكل إغلاق باب الطعن في الحكم القاضي بالتطليق أهم تجليات السرعة في حل النزاعات الأسرية والذي من شأنه – الطعن في الحكم في جزئه القاضي بإنهاء العلاقة الزوجية- أن يؤدي إلى تطويل أمد النزاع لعدة سنين أمام القضاء وتبقى الزوجات معلقات لا هن من المتزوجات ولا هن من المطلقات بسبب الطعون الكيدية التي قد يمارسها بعض الأزواج.

ومن خلال الإطلاع على مجموعة من القرارات السابقة قبل صدور مدونة الأسرة تمت ملاحظة أن الدعوى قد تستغرق عدة سنين وهو ما من شأنه أن يرتب عدة نتائج سلبية على مستقبل بعض الزوجات اللواتي يطمحن إلى بدء حياة جديدة ويرجع سبب إغلاق الطعن في الجزء الثاني بإنهاء العلاقة الزوجية. إلى حرص المشرع المغربي على تفادي المزيد من النفقات التي كانت ترهق نتيجة زيادة الجهات القضائية من محاكم الاستئناف ومحكمة النقض.

إضافة إلى ذلك فإن المشرع عمل على تلافي عناد الأزواج ورغبتهم عند الانتقام، من خلال تفادي بعض المساطر الكيدية التي قد يلجأ إليها بعض الأزواج كما أشرنا سابقا.

فاحل القول ، إن تحقيق الزمن الافتراضي للدعوى يستلزم تحديد أجال مضبوطة ، وفعالية تراعي هاجس المعقولية ، وتحرص على تحقيقه و تنضبط لأحكامه و تتقيد بها ، وهذا هو المطلوب مادام أن الغاية المنشودة في ضوء واقع الحال هي ضبط إجراءات المنازعات الأسرية ضمن زمن محدد و ملائم.

ثانيا: ضمان جودة الأحكام الصادرة في المادة الأسرية.

إن من أهم مقومات العدالة جودة الخدمة القضائية، حيث يتم تعزيز ثقة المتقاضين في مؤسسة القضاء، وقد عرفت الجودة في الأداء العملي لقطاع العدالة بأنها نظام تفصيل للعمل القضائي لتحسين مستوى أدائه وللرفع من الثقة به، وذلك عبر محاكمة عادلة عدالة أقل تكلفة، وحياد تام للقاضي وسهولة الوصول إلى المعلومة القضائية[21]، إلا أن هناك رأي يذهب إلى أن معايير الجودة ينبغي أن تنصب على صحة الفصل في النزاعات وجودة الأحكام القضائية إضافة إلى المدة التي تستغرقها الملفات بالمحكمة قبل الحكم فيها، وفريق أخر يرى أن ثقة المواطن هي المعيار الأساسي ضمن معايير الجودة والهدف الرئيسي من أهدافها[22].

وهكذا فإن التعدد في المعايير المتبعة في تحديد جودة العدالة، يدل على أن مسألة الجودة في المرفق هي مسألة نسبية، وغايتها الكبرى هي جودة الأحكام القضائية التي تؤدي إلى رضى أطراف المنازعات الأسرية أو أطراف الخصومة بصفة عامة عن مؤسسات العدالة، وتعزيز تقة المتقاضين في هذه المؤسسات، ويوفر الطمأنينة لكافة المواطنين، بحيث يشعرون بالأمن القانوني والقضائي على حد سواء، ويظل العنصر البشري الفاعل الأساسي في صناعة جودة الأحكام.

وجدير بالذكر أن جودة الأحكام القضائية لا تتحقق إلا بتأهيل العنصر العامل في قطاع العدالة باعتباره قطب الرحى في إنتاج هذه الأحكام، ابتداءا بالقاضي و إنتهاءا بمساعدي القضاء من محامين ومفوضين قضائيين وخبراء ومترجمين وعدول وموثقين والشهود أنفسهم،فجميع هؤلاء يساهمون في جودة الحكم القضائي.

بالنسبة للقاضي:

لقد تطورت مهنة القضاء بمرور الزمن إلى أن أصبحت سلطة ثالثة من السلط المكلفة بتسيير شؤون المجتمع موازاة مع سلطة التشريع وسلطة التنفيذ[23].

فقد مارس هذه الولاية الرسول صلى الله عليه وسلم وكبار الصحابة والتابعين من بعده، واهتموا اهتماما بالغا بمواصفات وأخلاقيات القاضي، واشترطوا فيه أن يكون غير مستكبر عن مشورة من معه من أهل العلم، وأن يكون ذكيا فطنا، متأنيا غير عجول وقورا مهيبا عبوسا من غير غضب، متواضعا من غير ضعف ولا يخشى في الله لومة لائم[24]. كما يجب أن يكون متبحرا في العلم وله قدرة فائقة على تنزيل الأحكام على الواقع والقدرة كذلك على تكوين الرأي القضائي والقدرة على تطوير النصوص القانونية الأقل تطورا وسد النقائص وثغرات النصوص القانونية باجتهاده الخلاق المنصف، لأنه قد تكون هناك نصوص قانونية متطورة، وإذا كان تطبيقها سيئا قد تنتج أحكام سيئة، وفي مقابل ذلك إذا كانت تشوب النصوص القانونية عدة عيوب فيستطيع القاضي بحنكته وفطنته صناعة أحكام جيدة لحسن تنزيله وتطبيقه لهذه القوانين.

عموما فللقاضي دور كبير في تحقيق الجودة في الأحكام الأسرية من خلال سلطة الضبط المسطري والسلطة التقديرية التي يتمتع بها في التحكم في زمن الخصومة وبالتالي إنتاج أحكام جيدة في وقت مناسب يتماشى مع متطلبات المتقاضين. غير أن عنصر الجودة في الأحكام الأسرية لا يمكن تحقيقه بالاكتفاء بقاض بالموصفات المذكورة فقط، وإنما لا بد من مقومات مهنية يقع على الدولة عاتق توفيرها.

ومن هذه المقومات نشير إلى تعزيز استقلال القاضي وعدم التأثير فيه بأي طريقة ومن أي جهة، وتوفير عنصر بشري من القضاة يتناسب مع القضايا المعروضة من أجل إعطاء كل قضية وقتها المطلوب وحلها في زمنها الافتراضي. ثم النهوض بالوضعية المادية والاجتماعية للقضاة.

من أهم مساعدي القضاة الذين لهم علاقة مباشرة في حسن تدبير الزمن القضائي وإنتاج أحكام جيدة أشير هنا على سبيل المثال لا الحصر إلى، المفوضين القضائيين وأعوان كتابة الضبط مما لهم من مهام التبليغ التي تخضع لآجال دقيقة قد تعرقل سير المسطرة عن طريق التبليغ خارج الآجال …إلخ، وأشير كذلك إلى أطراف الخصومة والمحامون، فهؤلاء لما لهم من حقوق مخولة لهم بمقتضى النصوص القانونية قد يسيئون استخدام هذه الحقوق، حيث قد يقدم محامي أحد الأطراف إلى الطعن بسوء نية في أحكام قصد تأخير البت في الدعوى أو تقديم طلبات عارضة أو مقابلة أو المطالبة بإجراء الخبرة أو الطعن بالزور في محرر رسمي، فيوقف القاضي البت في الدعوى الأصلية إلى حين البت في الدعوى الفرعية فيتم بذلك إهدار زمن التقاضي، وبالتالي إطالة أمد النزاع من جهة وإصدار أحكام رديئة كونها لم تصدر داخل الأجل المعقول من جهة أخرى.

الفقرة الثانية: نجاعة الزمن القضائي الأسري.

تعتبر الحكامة القضائية مقدمة لكل إصلاح مرتقب للجهاز القضائي، هذا الشرط يتأسس على الاستقلالية والحيادية والشفافية والفعالية في العمل القضائي، وانعدام سيادة منطق التعليمات تحقيقا لرهان منطق دعوة الحق والقانون[25]، ومن بين أهم المواضيع التي حضيت بالاهتمام تجسيدا للحكامة القضائية المبتغاة هو ضرورة تدبير وعقلنة الزمن القضائي بما يكفل تعزيز الثقة في مرفق العدالة، وضمن منظومة الزمن في المادة الأسرية، فإن المشرع فعلا أوكل بالقضاء مهمة تحديد مجموعة من الآجال لأطراف النزاع الأسري سواء بعد ولوج جهاز المحكمة أو حتى قبل ولوجها، وهو ما يعكس طبيعة نظام الزمن الأسري من هذا الجانب ويحملنا بالضرورة على التساؤل، كيف يمكن التحكم في عمر الخصومة القضائية المتعلقة بالنزعات الأسرية، بما لا يتنافى وتحقيق العدالة والحكامة القضائية؟ نعتقد أن نجاعة الزمن القضائي الأسري أمر يقع على عاتق مكونات منظومة العدالة (أولا)، رغم اصطدامه بمجموعة من المعيقات (ثانيا).

أولا: علاقة الزمن القضائي الأسري بمكونات منظومة العدالة.

إن مكونات منظومة العدالة لها دور رائد في نجاعة الزمن القضائي الأسري المرتبط بالمنازعات القضائية، فمن جهة قضاة الحكم فإن عقلنة زمن الخصومة يقتضى تمكين المتقاضي من حكم قابل للتنفيذ وداخل أجل معقول وتسيير تنفيذ هذا الحكم واقعيا وقانونا[26]. حيث إذا ما عدنا إلى أحكام القضايا الأسرية خاصة المتعلقة بمقررات الطلاق وأحكام التطليق والشق المتعلق بالمستحقات نجدها تواجه صعوبات جمة في تنفيذها، فبالنسبة لمرحلة تنفيذ مقرر الطلاق وحكم التطليق، فإنه يتم على مستوى الشق المتعلق بانحلال ميثاق الزوجية ملخص إرسال وثيقة الطلاق أو التطليق إلى ضابط الحالة المدنية قصد تضمين بيانات ملخص وثيقة الطلاق والتطليق لهامش رسم ولادة الزوجين وفق ما قررته المادة 140 من مدونة الأسرة[27].

والإشكال المثار في هذا الموضوع هو أنه إذا كان التطليق ينفذ بصدور الحكم دون الحاجة إلى توثيقه لدى العدلين، فإن الطلاق يطرح إشكالية تتعلق بتهاون العديد من الأزواج في تنفيذ الطلاق، مما يجعل الزواج قائما رغم صدور المقرر، لذلك يقترح البعض[28]وبحق، إسناد مهام مسطرة توثيق الإذن بالطلاق للمحكمة بدل إسنادها للزوج.

وبخصوص تنفيذ أثار الحكم بالتطليق أو مقرر الطلاق، فإن الشق المتعلق بالمستحقات المالية الذي يبقى قابل للطعن فتنفيذها نسبي رغم شمول العديد من هذه الأحكام بالنفاذ المعجل، والنسبية تتمثل في أن الطعن في الشق المتعلق بالمستحقات يوقف التنفيذ وذلك بغل يد الزوجة من تحصيل المستحقات من صندوق المحكمة على الرغم من إلزام الزوج على إيداعها داخل أجل 30 يوما، أي أن الأمر المحدد للمستحقات يتم تنفيذه ولا يمكن للزوجة تحصيلها، وفي هذا تناقض جلي، فإخضاعها لهذه المقتضيات لا يحقق أي فائدة لذلك كان من الأجدر أمام هذه المقتضيات ترك المسألة على قواعدها العامة، أي تنفيذ الأمر المحدد للمستحقات المقررة لا يتم إلا بعد نيل الحكم قوته التنفيذية، وفي المقابل تتدخل المحكمة عن طريق الإذن للزوجة بسحب جزء من المستحقات بقدر ما تدبر به أمور عيشها وأطفالها في انتظار نهاية الحكم.

أما قضاة النيابة العامة، باعتبارها طرفا أصليا في جميع القضايا الأسرية الرامية إلى تطبيق أحكام مدونة الأسرة وطبقا لما تنص عليه المادة الثالثة من المدونة[29]، يتعين عليهم التدخل في الوقت المناسب بإجراءات حاسمة وحازمة لضبط مخالفي القانون وتقديمهم للعدالة في احترام مطلق: لضمانات المحكمة العادلة، مع ترشيد الاعتقال في الدعاوى المتعلقة بالخيانة الزوجية والسهر على تنفيذ التدابير المؤقتة المتخذة[30] من طرف المحكمة والتي تراها مناسبة بالنسبة للزوجة والأطفال تلقائيا أو بناء على طلب، على الرغم من أن المشرع لم يحدد وسائل تدخل النيابة العامة لإجبار الأطراف على تنفيذها فإنه نص على تنفيذها فورا وفي أقرب وقت ممكن حتى تؤدي هذه التدابير المؤقتة أهدافها المقررة لها من طرف مدونة الأسرة، وبالتالي تلافي تعريض الأسرة للتشرد والإهمال، كما تحرص النيابة العامة أيضا على إرجاع المطرود من الزوجين دون مبرر إلى بيت الزوجية في أقرب وقت مع اتخاذ الإجراءات الكفيلة بأمنه وحمايته[31].

وبخصوص جهاز كتابة الضبط: فإن تدبير زمن الخصومة يقتضي السهر على تنفيذ الإجراءات القضائية في أقرب الآجال لتمكين الطفل والأرملة والمطلقة…من حقوقهم في وقت مناسب، وتيسيرا منه للحق في ولوج المواطن لمرفق العدالة، وتزكية كذلك للثقة التي يفترض أن يوفرها له باعتباره أول متلقي للخصومة مبدئيا.

فبالنسبة للخبراء فعليهم الامتثال للمهمة التي كلف بها داخل الآجال المحددة لذلك[32]، والامتثال لمبادئ الشرف والموضوعية إسهاما منهم في تحسين جودة العدالة والاقتناع بعطائها.

وبالنسبة للموظفين القضائيين فهم الساهرون على إجراءات التبليغ والتنفيذ في قضايا الأسرة، ويتعين عليهم انجاز مهامهم في أقرب الآجال بحرفية ومهنية عالية الجودة.

بالنسبة للمحامين فنجاعة زمن الخصومة تقتضي التعاطي بإيجابية مع أطراف الدعوى والمساهمة الفاعلة في تجهيز الملفات وتسيير المساطر بتبني تقنيات حديثة تتماشي والتقدم الرقمي المشهود وطنيا.

ويلاحظ أن القضاء المغربي ووعيا منه بنقل الالتزام الدستوري بعقلنة الزمن القضائي للخصومة، وبالرغم من إكراهات النص القانوني عمل على مستوى أعلى مؤسسة قضائية وهي محكمة النقض على تبني مجموعة من المنافع من بينها:

– اعتماد مخطط رقمنة المحكمة.

تقليص أمد البت في الملفات المعروضة.
تفعيل دور النيابة العامة في ممارسة الرقابة الإيجابية لفائدة القانون لتجاوز إمكانية إبطال الأحكام وبالتالي التقليص من أمد الخصومة[33].
ثانيا: صعوبات تحقيق نجاعة الزمن القضائي الأسري.

لا شك أن المجهودات التي بذلها مشرع مدونة الأسرة أعطت إلى حد ما نتائج ايجابية، غير أنه توجد مجموعة من الصعوبات تساهم في تعطيل زمن الخصومة القضائية وتضرب بذلك مبدأ النجاعة القضائية، ويمكن إجمالها في الأتي:

تسريع البت في المنازعات الأسرية ابتغاء الحصول على علامة مميزة لفائدة المحكمة، ذلك على حساب جودة المحكمة المحددة مقاييسها في مقرر اللجنة الأوربية حول النجاعة القضائية”.
إصدار أحكام بعدم الاختصاص المحلي أو أحكام بعدم قبول بعدما قضى الملف أشواط طويلة أمام المحكمة.
– تمديد النطق بالأحكام الأسرية ( التطليق للإيلاء والهجر حسب المادة 112[34] من مدونة الأسرة، بشكل غير مبرر ومعقلن.

اتخاذ القاضي الأسري مجموعة من إجراءات التحقيق دون تبرير معقول.
عدم الاعتماد في النصوص القانونية المنظمة لإجراءات التبليغ على آلية التبليغ الإلكتروني بما يتناسب ومعطى المحكمة الرقمية.
غياب تكوين قائم على تحقيق التوازن بين معطى تدبير الزمن والجودة في الأحكام.

إغلاق