دراسات قانونية
بحث ودراسة قانونية حول أثر الحكم بعدم الدستورية في حماية الحقوق والحريات الاجتماعية
دور الحكم بعدم الدستورية في حماية الحقوق والحريات الاجتماعية في قضاء المحكمة الدستورية العليا في مصر :
حرص الدستور المصري النافذ لسنة 1971 على كفالة العديد من الحقوق الاجتماعية. فقد قام بوضع أساس الديمقراطية الاجتماعية في مادتين:- المادة السابعة، التي جعلت المجتمع يقوم على التضامن الاجتماعي. والمادة الثامنة، التي أوجبت على الدولة أن تكفل تكافؤ الفرص لجميع المواطنين. ولقد تتابعت في دستور 1971 المواد التي تذهب الى إقرار العديد من الحقوق الاجتماعية. ففي المادة العاشرة ينص الدستور على أن: تكفل الدولة حماية الأمومة والطفولة وترعى النشأ والشباب وتوفر لهم الظروف المناسبة لتنمية ملكاتهم . وفي المادة الحادية عشر : تكفل الدولة التوفيق بين واجبات المرأة والرجل نحو الأسرة وعملها في المجتمع ومساواتها بالرجل .. والعمل بعد ذلك حق وواجب وشرف تكفله الدولة (م13) ، ويتمتع المحاربون القدماء والمصابون في الحرب أو بسببها وزوجات الشهداء وأبناؤهم بأولوية في فرص العمل (م15) . وتكفل الدولة الخدمات الثقافية والاجتماعية والصحية ، وتعمل بوجه خاص على توفيرها للقرية في يسر وانتظام (م16) . كما تكفل خدمات التأمين الاجتماعي والصحي ، ومعاشات العجز عن العمل والبطالة والشيخوخة للمواطنين جميعاً (م17). والتعليم حق تكفله الدولة ، وهو إلزامي في المرحلة الابتدائية (م18). والنصوص في معظمها توجيهية ، تحتاج إلى تدخل البرلمان لاصدار تشريعاته بصددها ووضعها موضع التنفيذ ، على ان لا تخالف هذه التشريعات النصوص الدستورية والا تعرضت للحكم عليها بعدم الدستورية . ولما كانت الأحكام الصادرة بعدم الدستورية في مجال الحقوق والحريات الاجتماعية من الكثرة بحيث تستعصي على الحصر – نظراً لتنوع الحقوق الاجتماعية – لذا فاننا سنكتفي بإيراد البعض منها كأمثلة على دورها البارز في هذا المجال. أولاً: حق التعليم وحظر التمييز في المجال التعليمي.
أدت المحكمة الدستورية العليا دوراً بارزاً في حماية الحق في التعليم من خلال إبطالها للعديد من النصوص التشريعية التي حاولت إهدار هذا الحق أو الانتقاص منه. ويتضح ذلك من خلال أحكامها الآتية:-
أ. حكمها الصادر في 1/2/1992 ، بعدم دستورية القرار الصادر من المجلس الأعلى للجامعات بتاريخ 20 سبتمبر 1984 ، فيما تضمنه من قبول افراد الفئات المشار إليها فيه ، في الكليات والمعاهد العالية بمجموع يقل عن الحد الأدنى للقبول العادي في كل كلية بما لا يجاوز 5% من مجموع الدرجات في شهادة الثانوية العامة أو ما يعادلها. وقد استندت المحكمة الدستورية العليا إلى الأسس الآتية في حكمها اعلاه:-
1-ان كفالة الدستور لحق التعليم انما جاء انطلاقاً من حقيقة ان التعليم يعد من أهم وظائف الدولة وأكثرها خطراً – وأنه أداتها الرئيسية التي تنمي في النشأ – القيم الخلقية والتربوية والثقافية وتعده لحياة أفضل يتوافق فيها مع بيئته ومقتضيات انتمائه إلى وطنه ويتمكن في كنفها من اقتحام الطريق إلى افاق المعرفة وألوانها المختلفة.
2-أن الحق في التعليم – الذي أرسى الدستور أصله – فحواه أن يكون لكل مواطن الحق في ان يتلقى قدراً من التعليم يتناسب مع مواهبه وقدراته – وأن يختار نوع التعليم الذي يراه اكثر اتفاقاً وميوله وملكاته – وذلك كله على وفق القواعد التي يتولى المشرع وضعها تنظيماً لهذا الحق بما لا يؤدي إلى مصادرته أو الانتقاص منه – وعلى الا تخل القيود التي يفرضها المشرع في مجال هذا التنظيم بمبدأي تكافؤ الفرص والمساواة امام القانون اللذين تضمنهما الدستور بما نص عليه في المادة 8 من أن “تكفل الدولة تكافؤ الفرص والمساواة لجميع المواطنين” وفي المادة 40 “المواطنون لدى القانون سواء – وهم متساوون في الحقوق والواجبات العامة – لا تمييز بينهم في ذلك بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين أو العقيدة” .
3-لما كانت الدولة مسؤولة عن كفالة التعليم العالي الذي يخضع لإشرافها حسبما نصت عليه المادة 18 من الدستور ، وكانت الفرص التي تلتزم بأن تتيحها للراغبين في الالتحاق بالتعليم العالي ، مقيدة بإمكانياتها الفعلية التي قد تقصر عن استيعابهم جميعاً بكلياته ومعاهده المختلفة ، فإن السبيل إلى فض تزاحمهم وتنافسهم على هذه الفرص المحدودة ، لا يتأتى الا بتحديد مستحقيها وترتيبهم فيما بينهم على وفق شروط موضوعية ترتد في أساسها إلى طبيعة هذا التعليم وأهدافه ومتطلبات الدراسة فيه ، ويتحقق بها ومن خلالها التكافؤ في الفرص والمساواة لدى القانون ، بما يتولد عن تلك الشروط في ذاتها من مراكز قانونية متماثلة تتحدد على ضوئها ضوابط الأحقية والتفضيل بين المتزاحمين في الانتفاع بهذه الفرص ، بحيث إذا استقر لأي منهم الحق في الالتحاق باحدى الكليات او المعاهد العالية على وفق هذه الشروط ، فلا يحل من بعد أن يفضل عليه من لم تتوافر فيه ، وإلا كان ذلك مساساً بحق قرره الدستور (1).
ب. وحكمها الصادر في 7/4/2001 ، بعدم دستورية نص الفقرة (ب) من المادة (11) من اللائحة الداخلية لكلية الطب بجامعة الاسكندرية – مرحلة البكالوريوس – الصادرة بقرار وزير التعليم رقم 1479 في 24/9/1996 ، فيما تضمنه من بقاء الطالب للإعادة في الفرقة الثانية وعدم نقله إلى السنة الثالثة اذا رسب في غير العلوم الطبية المقررة في المرحلة الاولى.
وأستندت المحكمة في حكمها هذا الى الأسس الآتية:-
1-المادة 18 من الدستور تنص على أن “التعليم حق تكفله الدولة .. وتكفل استقلال الجامعات ومراكز البحث العلمي ، وذلك كله بما يحقق الربط بينه وبين حاجات المجتمع والانتاج ” وكفالة الدستور لحق التعليم – على ما جرى به قضاء هذه المحكمة – انما جاء انطلاقاً من حقيقة أن التعليم يعد من أهم وظائف الدولة ، وأكثرها خطراً ، بحسبانه أداتها الرئيسية في تنمية القيم الخلقية والتربوية والثقافية لدى النشأ والشبيبة ، إعداداً لحياة أفضل يتوافق فيها الإنسان مع بيئته ومقتضيات انتمائه إلى وطنه ، ويتمكن في كنفها من اقتحام الطريق إلى آفاق المعرفة والوانها المختلفة.
2-لما كانت الدولة مسؤولة عن كفالة حق التعليم ، وكانت العلوم الطبية الأساسية هي عماد التعليم في المرحلة الأولى من الدراسة بكلية الطب ، فان تقييد انتقال الطالب إلى المرحلة الثانية من هذه الدراسة بأمر اخر غير النجاح في تلك العلوم ، يعني إهدار عام جامعي كامل في دراسة صنوف من العلوم أدنى إلى المواد الثقافية ، ولا تربطها صلة عضوية بالدراسات الطبية ، ونزفاً لموارد الجماعة التي توجهها إلى هذا النوع من التعليم . وتعطيلاً لثروتها البشرية ، بما يناقض حقيقة أن سلطة المشرع في تنظيم الحق في التعليم مقيدة بأن يكون هذا التنظيم على وفق شروط موضوعية ترتد في أساسها إلى طبيعة هذا التعليم، ومتطلبات الدراسة فيه ، وما يرنو اليه المجتمع من ورائه.
3-ان التعليم بقدر ما هو حق للفرد على مجتمعه ، فانه – وبذات القدر – أداة هذا المجتمع إلى التقدم والنماء ، وإذ لم يلتزم النص المطعون فيه – هذه القاعدة ، وعد الرسوب في غير العلوم الأساسية الطبية قيداً على النجاح والنقل إلى الفرقة الثالثة بكلية الطب جامعة الاسكندرية من دون نظيراتها من كليات الطب بالجامعات الأخرى ، متحيفاً الحق في التعليم ، ومتنكباً بالتالي الهدف الذي ابتغاه الدستور من تقريره ، ومنتهكاً مبدأ المساواة في هذا الحق، فإنه يكون من ثم مخالفاً لحكم المادتين (18،40) من الدستور (2).
ثانياً: الحق في التأمين الاجتماعي .
في مجال حماية الحق في التأمين الاجتماعي برز دور المحكمة الدستورية العليا ، حيث أرست العديد من المبادئ التي تكفل الحماية الفعالة لهذا الحق ، بما يفي للمواطنين باحتياجاتهم الضرورية التي يتحررون بها من العوز ، وينهضون معها بمسؤولية حماية أسرهم والارتقاء بمعاشها ، تحقيقاً للتكافل والتضامن بين أفراد المجتمع . ومن أحكامها بهذا الصدد:-
أ. حكمها الصادر في 4/12/1999 ، بعدم دستورية عجز الفقرة الأولى من المادة 197 من قانون المحاماة الصادر بالقانون رقم 17 لسنة 1983 فيما نصت عليه من “ويخفض المعاش إلى النصف بالنسبة للمحامين العاملين بأحكام قانون التأمين الاجتماعي وذلك عن كل سنة من سنوات التأمين الاجتماعي”. ومن المبادئ المهمة التي أرستها المحكمة في هذا الحكم ، هي :-
1-إن مبدأ مساواة المواطنين امام القانون – وبقدر تعلقه بالحدود التي تباشر فيها هذه المحكمة ولايتها – مؤداه ، انه لا يجوز أن تخل السلطتان التشريعية أو التنفيذية في مجال مباشرتهما لاختصاصاتهما التي نص عليها الدستور بالحماية المتكافئة للحقوق جميعها ، سواء في ذلك تلك التي قررها الدستور أو التي ضمنها المشرع . إذ كان ذلك ، وكان النص المطعون فيه قد مايز بين فئتين من المحامين الذين اكتملت في شأنهم شرائط استحقاق المعاش الكامل ، إحداهما تلك التي يباشر أفرادها المحاماة لحسابهم الخاص وأخراهما هي التي يمارس أفرادها المحاماة بالتبعية للجهات التي يعملون فيها ، والمعاملين – من ثم – بنظام التأمين الاجتماعي ، من دون أن يستند هذا التمييز إلى أسس موضوعية ، ذلك أنه اختص الفئة الأولى بصرف الحق التأميني كاملاً بينما حجب عن الفئة الثانية نصف هذا الحق ، ومن ثم فإن إقامة ذلك التمييز التحكمي بين الفئتين يكون مناقضاً للمساواة التي فرضتها المادة 40 من الدستور.
2-إن الأصل في سلطة المشرع في مجال تنظيم الحقوق – على ما جرى به قضاء هذه المحكمة – هو إطلاقها ما لم يقيدها الدستور بقيود معينة تبين تخوم الدائرة التي لا يجوز أن يتدخل المشرع فيها هادماً لتلك الحقوق أو مؤثراً في محتواها بما ينال منها ، فلا يكون تنظيم المشرع لحق ما سليماً من زاوية دستورية إلا فيما وراء هذه الحدود ، فإن اقتحمها بدعوى تنظيمها إنحل عدواناً عليها. متى كان ذلك ، وكان النص المطعون فيه قد توخى اقتطاع نصف ما استحقه المؤمن عليهم – الذين عناهم – من المعاش ، مخلاً بذلك – بمركزهم القانوني الذي اكتملت في شأنهم شرائط تكوينه ، بما مؤداه حرمان هؤلاء المؤمن عليهم مزية تأمينية كفلتها أحكامه ، مخالفاً بذلك ما استهدفه الدستور من ضمان حق المواطن في المعاش.
3-إن الحماية الخاصة التي كفلها الدستور لحق الملكية الخاصة ، تمتد إلى كل حق ذي قيمة مالية ، سواء أكان حقاً شخصياً ام عينياً ، ام كان من حقوق الملكية أو الأدبية أو الصناعية، وهو ما يعني اتساعها للأموال بقدر عام . وكان النص المطعون فيه قد أنتقص – دون مقتض – من الحقوق التي تثرى الجانب الايجابي للذمة المالية للمخاطبين بحكمه ، فإنه يكون قد انطوى بذلك على عدوان على الملكية الخاصة بالمخالفة للمادتين 32،34 من الدستور (3).
ب. وحكمها الصادر في 14/12/2003 ، أولاً: بعدم دستورية نص البند “2” من المادة 106 من قانون التأمين الاجتماعي الصادر بالقانون رقم 79 لسنة 1975 . وثانياً: بعدم دستورية نص البند “4” من المادة 112 من القانون المذكور فيما لم يتضمنه من أحقية الزوج في الجمع بين معاشه عن زوجته وبين معاشه بصفته منتفعاً بأحكام هذا القانون ، وكذا الجمع بين معاشه عن زوجته وبين دخله من العمل او المهنة وذلك دون حدود . وقد استندت المحكمة الدستورية العليا في حكمها هذا على الأسس الآتية:-
1- إن مبدأ مساواة المواطنين امام القانون يعد ركيزة أساسية للحقوق والحريات على اختلافها. وأساساً للعدل والسلام الاجتماعي ، غايته صون الحقوق والحريات في مواجهة صور التمييز التي تنال منها ، أو تقيد ممارستها ، وباعتباره وسيلة لتقرير الحماية المتكافئة للحقوق جميعها ، إلا أن مجال إعماله لا يقتصر على ما كفله الدستور من حريات وحقوق وواجبات ، بل يمتد – فوق ذلك – إلى تلك التي يقررها التشريع . وإذا كانت صور التمييز المجافية للدستور يتعذر حصرها إلا أن قوامها كل تفرقة أو تقييد أو تفضيل أو استبعاد ينال بصورة تحكمية من الحقوق والحريات التي كفلها الدستور أو القانون. أو يحول دون مباشرتها على قدم المساواة الكاملة بين المؤهلين قانوناً للانتفاع بها.
2- إن من المقرر في قضاء هذه المحكمة ، أن مناط دستورية أي تنظيم تشريعي أن لا تنفصل نصوصه أو تتخلف عن أهدافها ، ومن ثم فاذا قام التماثل في المراكز القانونية التي تنتظم بعض فئات المواطنين وتساووا بالتالي في العناصر التي تكونها ، استلزم ذلك وحدة القاعدة القانونية التي ينبغي ان تنتظمهم ، ولازم ذلك ، أن المشرع عليه أن يتدخل دوماً بأدواته لتحقيق المساواة بين ذوي المراكز القانونية المتماثلة . أو لمعالجة ما فاته في هذا الشأن . و تطبيقاً لما سلف فان قانون التأمين الاجتماعي الصادر بالقانون رقم 79 لسنة 1975 وإن وحد بين الزوج والزوجة الخاضعين لأحكامه سواء في حقوقهما التأمينية أم التزاماتهما المالية وفي الأسس التي يتم على ضوئها حساب معاشيهما ، إلا أنه حين نظم شروط استحقاق كل منهما للمعاش المستحق عن الاخر أضاف بالنسبة للزوج بنص المادة 106/2 شرطاً مؤداه أن يكون عاجزاً عن الكسب ، ثم قرر بنص المادة 112/4 أحقية الأرملة في الجمع بين معاشها عن زوجها وبين معاشها بصفتها منتفعة بأحكام هذا القانون . من دون تقرير ذات الحق للزوج ، وهما النصان محل الطعن الماثل ، ومن ثم يكون قد أقام في هذا المجال تفرقة غير مبررة مخالفاً بذلك مبدأ المساواة المنصوص عليه في المادة 40 من الدستور (4).