دراسات قانونية
بحث ودراسة قانونية حول الاباحة في مجال الدفاع الشرعي
مفهوم الإباحة في نطاق الدفاع الشرعي :
ان (المادة 42) من قانون العقوبات العراقي ، بينت شروط اباحة فعل الدفاع الشرعي ، حيث نصت على (لا جريمة اذا وقع الفعل استعمالا” لحق الدفاع الشرعي ، و يوجد هذا الحق اذا توافرت الشروط التالية :
1ـ اذا واجه المدافع خطر حال من جريمة على النفس او على المال ، او اعتقد قيام هذا الخطر ، و كان اعتقاده مبنيا” على أسباب معقولة .
2ـ ان يتعذر عليه الالتجاء إلى السلطات العامة لاتقاء هذا الخطر في الوقت المناسب .
3ـ ان لا يكون إمامه وسيلة أخرى لدفع هذا الخطر .
و يستوي في قيام هذا الحق ان يكون التهديد في الخطر موجها” إلى نفس المدافع او ماله او موجها” إلى نفس الغير او ماله ) . وخلافا” للمنهج السابق ، في تقسيم شروط الدفاع الشرعي إلى شروط متطلبة في الاعتداء، واخرى متطلبة في الدفاع ، نتفق وجانب من الفقه (1) الذي يرى ، ان الدفاع الشرعي يقوم بشرط واحد هو وجود خطر اعتداء يهدد بارتكاب جريمة ضد نفس الشخص(2) او ماله او نفس او مال غيره (3) . هذا الخطر له صفات لا بد من توافرها ، وهي كونه (غير مشروع ، وحال) ، فعدم مشروعية الخطر وحلوله صفتان تلحقان بالخطر ذاته ، اما شرط الالتجاء الى السلطات العامة، وشرط لزوم فعل الدفاع ، فهما من لوازم حلول الخطر (4) .
فلو لم يكن الخطر حالا” لكان لدى المدافع متسع من الوقت للاحتماء او اللجوء إلى السلطات العامة ، ولولا الحلول أيضا” للزم إقامة الدعوى دون استعمال القوة ، عليه فلا يمكن تصور نشوء حالة الدفاع الشرعي ، ومن ثم تصور وقوع تجاوز فيه ما لم يكن هناك خطر اعتداء ، سواء كان جسيما” او غير جسيم . وهذا ما يؤيده الفقه الإسلامي بجواز دفاع الإنسان عن نفسه او ماله في جميع المراتب وان قل(5) ، وهو ما مسلم به فقها” وتشريعا” وقضاءً ، بل وأكثر من ذلك تعتد بعض القوانين حتى بالخطر الوهمي ، الذي ليس لديه وجود الا في اعتقاد ومخيلة المهدد به ، بشرط ان يكون اعتقاده مبنيا” على أسباب معقولة ، وهذا ما نصت عليه (المادة 42 / 1) من قانون العقوبات العراقي المذكورة سلفا” . اما قانون العقوبات المصري ، فلم يصرح بالاعتداد بالخطر الوهمي ، لكن الفقه (6) والقضاء يستشف ذلك من نصوص (المواد 249/ا و 250/4) ومن عبارة (…فعل يتخوف ان يحدث منه الموت او جراح بالغة اذا كان لهذا التخوف اسباب معقولة ) . وتطبيقا” لذلك قضت محكمة التمييز في العراق (ان المتهم اعتقد خطأ بقيام حالة الدفاع الشرعي فيما فعل ، ذلك ان مطاردة الاخوين للمتهم بالسكاكين والمسدس واستمرارهما في المطاردة حتى داره ، أوهمه بأن الخطر ظل محدقا بحياته )(7) . ويذهب جانب من الفقه العراقي(8) ، ان ما اشارت إليه (المادة 43/1) من قانون العقوبات العراقي بعبارة ( … فعل يتخوف ان يحدث منه الموت او جراح بالغة اذا كان لهذا التخوف اسباب معقولة ) كان يراد به الاعتقاد الخاطئ بوجود خطر أيضا” . ومن جانبنا نعتقد ان (المواد 43/1 و 44/4) لم يقصد بها المشرع النص على الاعتقاد الخاطئ بوجود خطر ، وانما يتبين انه اراد اباحة او جواز الدفاع الشرعي عن أي فعل اخر غير ما ذكر في فقرات هذه المواد من خطر حقيقي ، حتى لو كان مشروعا” ، تدل الوقائع المعقولة إلى انه قد يسبب الموت او الجروح البالغة ، وذلك ان المشرع العراقي اشار إلـى الاعتداد بالاعتقاد الخاطئ بوجود خطر في (المادة 42/1) وليس هناك ما يدعو لتكرار النص عليه في مادتين أخريين . وما يؤيد ذلك ما نصت عليه (المادة 46) من قانون العقوبات العراقي بقولها ( لا يبيح حق الدفاع الشرعي مقاومة احد افراد السلطة العامة اثناء قيامه بعمل تنفيذا” لواجبات وظيفته ولو تخطى حدود وظيفته ، ان كان حسن النية ، الا اذا خيف ان ينشأ عن فعله موت او جراح بالغة وكان لهذا التخوف سبب معقول ) ، فالخطر هنا حقيقيا” ، وصادر عن فعل مشروع ، ولكن المشرع اباح الدفاع ضده حماية للنفس من الموت او الجراح البالغة . والدفاع الشرعي شرع لمنع الاعتداء او الحيلولة دون تحول الخطر إلى اعتداء ، سواء كان في جملته او في جزء منه ، ولم يشرع لمعاقبة المعتدي ، فاذا تحقق الاعتداء كله ، فلا محل للدفاع عندئذ ، او ان الخطر نشأ ابتداءا” ثم زال بزوال وجوده او حلوله ، ولا يصح اعتبار ذلك تجاوزا” ، بل هو فعل يكون جريمة اذا اكتملت لها عناصرها ، وهذا ما قضت به محكمة التمييز في العراق في قرار لها قائلة ( ان المتهم بعد ان انتزع المسدس من يد المجنى عليه ، انتهت حالة الدفاع الشرعي بالنسبة له ، اذ زال الخطر الذي كان يهدد حياته ، فقيامه بعد ذلك بأطلاق النار من المسدس واصابة المجنى عليه بأكثر من طلقة واحدة ، ما هو الا ارتكاب لجريمة قتل المجنى عليه عمدا” ، وليس هناك من تجاوز لحالة الدفاع الشرعي )(9) . ولكن هناك جانب من الشراح العراقيين(10) ، يذهب إلى ( ان اعتقاد شخص بوجود خطر وهمي بدون اسباب معقولة ، يعتبر اعتقادا” خاطئا” منه بأنه في حالة دفاع شرعي ، وبذلك يكون متجاوزا” لحدود الدفاع الشرعي ومسؤولا” عن الجريمة التي ارتكبها ، وانما يجوز للمحكمة في هذه الحالة ان تحكم بعقوبة الجنحة بدلا” من عقوبة الجناية ، وبعقوبة المخالفة بدلا” من عقوبة الجنحة ، طبقا” لما هو منصوص عليه في (المادة 45) من قانون العقوبات العراقي ) . نعتقد ان هذا الرأي يخالف اتجاه المشرع العراقي في (المادة 42/1) المذكورة سلفا” ، حيث نجده قد ساوى بين الخطر الحقيقي والخطر الوهمي القائم على أسباب معقولة أي انه جعل الخطر الوهمي القائم على اسباب معقولة شرطا” لقيام حالة الدفاع الشرعي بقوله ( … ويوجد هذا الحق اذا توافرت الشروط الاتية :
1: اذا واجه المدافع خطر حال … او اعتقد قيام هذا الخطر وكان اعتقاده مبينا على اسباب معقولة ) ، وبانتفاء هذا الشرط تنتفي الاباحة اصلا ، ولا مجال للحديث عن تجاوز الحدود فيما بعد . فمفهوم المخالفة للنص يعني ، انه لا قيام لحالة الدفاع الشرعي اذا لم يكن هناك خطر حال ، او ان الاعتقاد وبوجود الخطر لم يكن مبنيا على اسباب معقولة ، عليه فتجاوز حدود الحق لا تعرض على بساط البحث ، الا بتوافر الشروط كافة اللازمة لنشوء الحق ، وهذا ما مسلم به فقها” وتشريعا” وقضاءً ، فكيف وقد انتفى شرط وجود الخطر ، بأنتفاء الاسباب المعقولة ، ومع ذلك يعد المدافع متجاوزا” ؟ عليه فان النتيجة المنطقية لذلك تتحصل في عدم الاعتداد بتلك الاباحة الوهمية ، وتبقى جريمة الجاني محتفظة بوصفها واقعة عمدية ، ومن ثم تحقق مسؤوليته عنها (11) .
وهذا ما اقره الفقه(12) الاسلامي ايضا” ، من ان استعمال القوة بعد زوال الخطر ليس تجاوزا” في حدود الاباحة ، وانما هو جريمة ، اذ لا دفاع بعد زوال الخطر ، عليه لا يصح للمحكمة ان تقضي بالتجاوز في حالات ثبت فيها زوال الخطر ، وهذا ما قضت به محكمة التمييز في العراق ( بادانة المتهم الذي اطلق النار على المجنى عليه عندما دخل البستان ، وفر هاربا” بعد الصياح عليه بتجاوز الدفاع الشرعي ، وانطباق فعله والمادة (405) بدلالة المادة (45) من قانون العقوبات العراقي )(13) . كذلك ما قضت به محكمة النقض المصرية في احد احكامها القديمة على المتهم ( بتجاوز الدفاع الشرعي عندما رأى شخصا” يتلف زراعته بعد ان اطلق عليه عيارا” ناريا” وشرع المجني عليه بالهرب ، فألحقه بعيارا” ناريا” ثانيا” عقب الهرب )(14) .