دراسات قانونية

بحث ودراسة حول الجزاء الجنائي الموضوعي في أحكام قانون العقوبات

تحديد مدلول الجزاء الجنائي الموضوعي :

الجزاء بمعناه الواسع هو الوسيلة التي تكفل للقاعدة القانونية صيغتها الآمرة، فالقاعدة القانونية تتكون من شقين: الشق الأول هو (التكليف) الذي يتضمن على الأمر أو النهي عن فعل ويخاطب به الكافة، و(الجزاء) هو الشق الثاني والذي يطبق فقط عند مخالفة شق التكليف وهو التهديد بتوقيع الأذى الذي نص عليه المشرع على من يخالف القاعدة القانونية(1). فجوهر الجزاء هو الإيلام ولكن إيلام الجزاء لا يقصد لذاته، بل لما يرجى منه من أغراض أخرى نفعية تحققها العقوبة للمجتمع، وتتمثل في إصلاح مرتكب الجريمة وتحقيق غاية مزدوجة وهي المنع العام (الردع العام) عن طريق التهديد بتوقيع الجزاء، والمنع الخاص (الردع الخاص) بتوقيع الجزاء على المدان، الأمر الذي يترتب عليه كف أذى المدان عن المجتمع وإعادة إصلاحه وتهذيبه مع الأنماط السائدة في المجتمع(2). والجزاء في المفهوم التقليدي يتميز بالطابع الزجري أو الردعي كونه يستهدف ردع الجاني وغيره من ارتكاب الجريمة، لذلك اتسم بالقسوه في أسلوب تنفيذه، وهذا الاتجاه بقي سائداً فترة طويلة من الزمن إلى أن بدأ في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين يتحول تحت ضغط الاعتبارات الإنسانية نحو أهداف إصلاحية ترمي إلى العلاج والتأهيل(3). ولكن هذا لا يعني تجرد الجزاء من الطابع الزجري في العصر الحديث، بل يعني استمراره إلى جانب الإصلاح وإن بدا أن الجانب الإصلاحي يعلو على الجانب الردعي، وما يؤكد ذلك تبني عقوبة الإعدام التي وجدت جذورها في التشريعات القديمة ومازالت تسود بعض تشريعات العصر الحالي(4). فالجزاء الجنائي بمفهومه الحديث تنفرد الدولة في فرضه بما لها من سلطة العقاب المقررة لمصلحة المجتمع الذي يصيبه ضرر الجريمة، فهو ليس مقرر لمصلحة المجني عليه أو المتضرر من الجريمة، فالمجتمع وحده صاحب الحق بفرض العقاب عن طريق الأجهزة التي تُناط بها تلك المهمة(5)، وبهذا فإن الجزاء الجنائي لا يكون ناتجاً عن اتفاق بين طرفين، فعندما يرى المشرع تجريم فعل معين أو امتناع ما فإنه بذلك يعلن عن خطورته وبالتالي فإنه يفرض له جزاءاً جنائياً(6). ولما كان الجزاء الجنائي يتميز بالخطورة بالنسبة لغيرة من الأجزية، فإنه من اللزوم إخضاعه لقاعدة شرعية العقوبات، وبالتالي فلا يستطيع القاضي أن يقضي بجزاء جنائي غير منصوص عليه ووفق الضوابط القانونية، كما أنه لا يجوز استخدام القياس ولا يسوغ تطبيق الجزاء الجنائي بأثر رجعي. وفي مجال تسويغ الجزاء الجنائي فلا بد من توقيعه على شخص تتوافر بحقه المسؤولية الجنائية حتى يمكن القول بجدوى الجزاء الجنائي، فإذا انتفى الإدراك او حرية الاختيار مثلاً فيتحقق مانع المسؤولية الذي يحول دون فرض عقوبة، إلا انه يمكن اتخاذ تدبير احترازي قبل الجاني لان العقوبة تدور وجوداً وعدماً مع المسؤولية، أما التدبير الاحترازي فلا شأن له بالمسؤولية الجزائية. فركيزة الوجود الاجتماعي لا بد من سبيل لصيانتها على نحو فعال، من أن يمتد الجزاء الجنائي لا إلى السلوك المخل بها مباشرة فحسب، وإنما إلى كل سلوك يعد خطوة في الطريق إلى هذا الإخلال المباشر(7).

ذاتية صور الجزاء الجنائي الموضوعي :

تأخذ العقوبة في القانون الجنائي صوراً متعددة ومختلفة عن صور الجزاء في أفرع القانون الأُخر، ففي بعض الأفعال الخطيرة تطبق العقوبات البدنية كالإعدام وقطع اليد، وفي بعض الأفعال الأقل منها خطورة تطبق العقوبات السالبة للحرية كالسجن المؤبد أو المؤقت والحبس الشديد أو البسيط أو العقوبات المقيدة للحرية كالوضع تحت مراقبة الشرطة، كما يمكن أن تتناول العقوبة الجنائية مال الفاعل وتتخذ شكل الغرامة أو المصادرة. وقد يجتمع الجزاء الجنائي مع الجزاء المدني في بعض الجرائم(1)، لكون السلوك الإجرامي قد ترتب عليه بعض الأضرار المادية سواءاً كانت مباشرة أو غير مباشرة كما في جريمة القتل، حيث ينتج عنها خسارة حياة إنسان فضلاً عن خسارة مادية للأسرة والمجتمع، فإذا حكم على الفاعل بالإعدام أو السجن لا يمنع ذلك من الحكم عليه بالتعويض إلى ورثة القتيل لإصلاح الضرر المادي الذي لحق بأسرته. ولكن اجتماع الجزائين لا يعني تبعية أي منهما للآخر، فكل جزاء أوتي به بسبب مخالفة مست القانون الذي يتبعه، فالقانون الجنائي في هذا المثال يحمي الحق في الحياة لذلك حكم على الفاعل بالإعدام أو السجن، والقانون المدني يحمي الذمة المالية لشخص ما ومن ثم حكم على الفاعل بالتعويض عن الضرر الذي لحق بعائلة المقتول، فلكل جزاء طبيعته وهدفه ونظامه الخاص به. فالعقوبات الجنائية تنقسم(2) إلى عقوبات أصلية أي مقررة بالنص القانوني للجريمة التي وقعت ويمكن فرضها لوحدها وقد حددتها المادة (85) من قانون العقوبات العراقي بالإعدام والسجن المؤبد أو المؤقت والحبس بنوعيه البسيط والشديد والغرامة والحجز في مدرسة الفتيان الجانحين والحجز في مدرسة إصلاحية، وعقوبات تبعية وهي عقوبات لا تقرر إلا مع العقوبة الأصلية فلا يمكن تطبيقها إلا تبعاً للعقوبة الأصلية وتلحق بالمحكوم عليه بنص القانون دون الحاجة إلى ذكرها في الحكم القضائي الصادر(3)، وقد حددتها المواد (96-100) من قانون العقوبات العراقي بالحرمان من بعض الحقوق والمزايا ومراقبة الشرطة، كما هناك العقوبات التكميلية(4) وهي جزاء ثانوي للجريمة تستهدف توفير الجزاء الكامل لها وهي مرتبطة بالجريمة دون عقوبتها الأصلية ويجب أن تقضي بها المحكمة فضلاً عن عقوبة أخرى، فلا توقع إلا إذا نطقت بها المحكمة خلافاً للعقوبة التبعية(5) لذلك تسمى أحياناً (بالعقوبة الإضافية)، وقد تكون وجوبية أو جوازية للمحكمة وحددتها المواد (100-103) من قانون العقوبات العراقي بالحرمان من بعض الحقوق والمزايا والمصادرة ونشر الحكم. فالأهمية من هذا التقسيم تدور حول دور المحكمة في النطق بالعقوبة، فإذا كانت عقوبة أصلية تعين على المحكمة النطق بها ولها أن تنطق بها وحدها، أما إذا كانت تبعية فلا يلزم القاضي بالنطق بها، وإذا كانت تكميلية فلا تفرض ما لم ترد في الحكم فضلاً عن عقوبة أصلية وهي من هذا الجانب تشبه العقوبة الأصلية(6). كما حدد المشرع العراقي التدابير الاحترازية بالمواد (104-124) من قانون العقوبات، وتنقسم هذه التدابير بصورة عامة إلى نوعين: تدابير شخصية وتدابير مادية، فالتدابير الشخصية تكون إما سالبة للحرية كالحجز في مأوى علاجي، أو مقيدة للحرية كحظر ارتياد اماكن شرب المسكرات ولعب القمار ومنح الإقامة ومراقبة الشرطة، أو مانعة للحقوق كإسقاط الولاية والوصاية والقوامة، أما التدابير المادية فهي المصادرة والتعهد بحسن السلوك وغلق المحل ووقف الشخص المعنوي وحله(7). بعد حصر أنواع العقوبات في القانون الجنائي يتعين التعرض إلى صور أجزية بعض القوانين الأُخر لبيان الفارق بينها، ففي القانون المدني ينحصر الجزاء المدني بالتعويض كمحاولة لإعادة الوضع إلى ما كان عليه قبل ارتكاب المخالفة(8). وفي القانون الإداري ينحصر الجزاء التأديبي بالعقوبات الانضباطية وهي لفت النظر الإنذار وقطع الراتب والتوبيخ، والعقوبات التأديبية وهي إنقاص الراتب وتنزيل درجة والفصل والعزل(9). وعلى هدي ما تقدم فإن صور الجزاء الجنائي تختلف كلياً عن صور كل من الجزاء المدني والجزاء التأديبي، وهذا بدوره ما يؤكد صحة ما تم التوصل إليه من قبل حول ضرورة الاعتراف بذاتية الجزاء الجنائي الموضوعي الذي ينسحب بدوره إلى التسليم بذاتية القواعد الجنائية الموضوعية.

2- تنقسم العقوبات الجنائية في القوانين التي تأخذ بالشريعة الإسلامية كمصدر وحيد في تشريعها إلى عقوبات أصلية أي مقررة أصلاً للجريمة كالقصاص في جريمة القتل والرجم في جريمة الزنا للمحصن والقطع في جريمة السرقة، وعقوبات بديلة تحل محل العقوبة الأصلية إذا امتنع تطبيقها لسبب شرعي مثل الدية إذا درئ القصاص والتعزير إذا درئ الرجم أو حد السرقة. وعقوبات تبعية تصيب المحكوم عليه تبعاً للحكم عليه بالعقوبة الأصلية دون الحاجة للحكم عليها كحرمان القاتل من ميراث المقتول وكذلك عدم أهلية القاذف للشهادة، وعقوبات تكميلية تصيب المحكوم عليه بناءاً على الحكم بالعقوبة الأصلية بشرط أن ينص عليها في الحكم القضائي مثل تعليق يد السارق في رقبته بعد قطعها كحد لارتكاب جريمة السرقة.

ذاتية تطبيق الجزاء الجنائي الموضوعي :

إن طبيعة القانون الجنائي الخاصة تجعل لتطبيق الجزاء الجنائي الموضوعي وضعاً مختلفاً عن تطبيق أجزية القوانين الأُخر، فإذا كان التحديد الموضوعي للقانون الجنائي قد أدى إلى وضوح الاختلاف بين الجريمة الجنائية والجرائم الأخرى، فإن التحديد الموضوعي ذاته يؤدي إلى اختلاف تطبيق الجزاء في نطاق القانون الجنائي الموضوعي عن تطبيقه في نطاق القوانين الأُخر غير الجنائية. وسيتم بحث تطبيق الجزاء الجنائي الموضوعي في نقاط عدة سيتم بحثها تباعاً، حيث استخدم القانون الجنائي أنظمة خاصة في تطبيق جزائه الموضوعي لا يمكن استخدامها في تطبيق أجزية القوانين الأُخر ويمكن حصر هذه الأنظمة بنظام إيقاف التنفيذ والإفراج الشرطي، والعفو العام والخاص، وتقادم العقوبة، ووفاة المحكوم عليه، ولعدم الحاجة الى الإسهاب، فقد آثرنا بحث هذه الأنظمة بشيء من الاختصار فهي بمجموعها تقضي إلى إبراز ذاتية القواعد الجنائية الموضوعية.

أولاً: نظام إيقاف تنفيذ العقوبة

يعد نظام إيقاف تنفيذ العقوبة من الأنظمة الخاصة بالقانون الجنائي دون غيره من القوانين، حيث أنه يعطي للقاضي الجنائي سلطة إيقاف تنفيذ العقوبة(1) قِبل المحكوم عليه إذا رأى أن هذا الأسلوب أجدى في تأهيله من إيقاع العقوبة الجنائية عليه بشكل فعلي(2). فهذا النظام يتيح للمحكوم عليه فرصة التخلص من العقوبة إذا التزم بالشروط المفروضة عليه من قبل المحكمة وأثبت جدارته خلال مدة التجربة ولم يرتكب أي جريمة (جناية أو جنحة) عمدية ضمن هذه المدة، كما أنه من جانب آخر يوفر أعباء مالية للدولة تستلزمها في تنفيذ العقوبة السالبة للحرية(3). ولا يعني أن إيقاف التنفيذ لا يؤدي دور العقوبة، فهو يحقق أهدافها في أكثر من ناحية، إذ يبقى المحكوم عليه في حالة تخوف من تنفيذها إذا أخل بالشروط الواجب عليه الالتزام بها، وبهذا يحقق الردع والإصلاح والألم ولو بصورة غير مباشرة. ويرجع في تقدير جدوى إيقاف التنفيذ للقاضي الجنائي على ضوء فحص شخصية المحكوم عليه وظروف ارتكاب جريمته، فهناك حالات يستلزم فيها تنفيذ العقوبة لتحقيق عملية الإصلاح والتأهيل، وهناك حالات أخرى على العكس من ذلك يكفي فيها الإنذار بتوقيع العقوبة، فللقاضي الجنائي سلطة تقديرية وفق الضوابط القانونية في إيقاف التنفيذ، كما أنه يمنح عن بعض العقوبات دون الأخرى، فإذا حكم على شخص بعقوبتين هما الحبس والغرامة فإنه يمكن أن يمنح عن الغرامة وحدها أو عن الحبس وحده أو عن العقوبتين(4). والحكم بإيقاف تنفيذ العقوبة لا يعني عدم إمكانية نقضه والرجوع عنه(5)، فإذا أقدم المحكوم عليه خلال فترة التجربة على ارتكاب جريمة أخرى (جناية أو جنحة) عمدية قضي عليه من أجلها بعقوبة سالبة للحرية لأكثر من ثلاثة أشهر، أو لم يقم المحكوم عليه بتنفيذ الشروط المفروضة عليه وفقاً للمادة (145) من قانون العقوبات العراقي، أو ظهر خلال فترة التجربة أن المحكوم عليه كان قد صدر عليه حكم نهائي لجناية أو جنحة عمدية ولم تكن المحكمة قد علمت به حين أمرت بإيقاف التنفيذ، فإنه يجوز الحكم بإلغاء إيقاف التنفيذ في أية حالة من هذه الحالات. ويترتب على إلغاء إيقاف التنفيذ، تنفيذ العقوبات الأصلية والتبعية والتكميلية والتدابير الاحترازية، وإذا لم يُلغَ وانقضت مدة التجربة دون نقضه فيترتب عليه اعتبار الحكم لاغياً بحق المحكوم عليه وكأنه لم يجرم ولم يُدَن، وبذلك لا يعد الحكم سابقة في العود أو الاعتياد على الإجرام(6). وهذا النظام في تطبيق الجزاء الجنائي الموضوعي غير متوافر في تنفيذ الجزاء المدني أو الجزاء الإداري أو الجزاء الدولي، فهذه القوانين خالية من النص عليه، لأنه لا يتفق مع طبيعتها الخاصة وأهدافها الذاتية على أساس أن الجزاء المدني مقرر لمصلحة المحكوم له، وفي القانون الإداري فان الجزاء مقرر لمصلحة الوظيفة العامة فلا يملك القاضي الإداري أو رئيس الدائرة إيقاف تنفيذه وإنما له الحق في سحبه بوصفه قراراً إدارياً قابل للسحب، أما الجزاء الجنائي الموضوعي فمقرر لمصلحة المجتمع، والمجتمع مستعد للتنازل عن مصلحته إذا كانت هناك مصلحة أكثر جدية وفاعلية من المصلحة المتنازل عنها، أي ترجيح الأهم على المهم من المصالح الاجتماعية. وفي هذا النظام بروز واضح لذاتية تطبيق الجزاء الجنائي الموضوعي إزاء تطبيق أجزية القوانين الأُخر، وبالتالي تترتب عليه النتيجة المنطقية وهي ذاتية القواعد الجنائية الموضوعية.

ثانياً: نظام الإفراج الشرطي

الإفراج الشرطي هو إخلاء سبيل المحكوم عليه بعقوبة سالبة للحرية قبل انقضاء مدة العقوبة المحكوم بها عليه إذا اثبت أن ما انقضى من مدة العقوبة كان مجدياً في إصلاحه، بشرط أن يبقى المفرج عنه مستقيم السلوك إلى أن تنتهي المدة المحكوم بها عليه وإلا استئنف تنفيذ ما تبقى من مدة العقوبة عليه، والحكمة من تقرير هذا النظام هي تشجيع السجناء على حسن السلوك أثناء التنفيذ والتدرج بالمحكوم عليه بإخضاعه بعد الإفراج لنظام من الحرية المقيدة(7).

وللإفراج الشرطي شروط عدة يجب الالتزام بها لكي يفرج عن المحكوم عليه
شرطياً وهي(8):

أن يكون سلوكه أثناء وجوده في السجن يدعو إلى الثقة بتقويم نفسه.
أن لا يكون في الإفراج عنه خطر على الأمن العام.
أن يكون قد وفى التزاماته المالية المحكوم بها عليه من المحكمة الجنائية ما لم يكن من المستحيل عليه الوفاء بها.

كما يشترط أن يقضي المحكوم عليه ثلاثة أرباع المدة المحكوم بها إذا كان بالغاً وثلثي المدة إذا كان حدثاً، على أن لا تقل بأي حال من الأحوال عن ستة أشهر(9)، وفي القانون المصري إذا كانت العقوبة الأشغال الشاقة المؤبدة يجب أن يقضي المحكوم عليه في السجن عشرين عاماً(10). وتختص بنظر طلب الإفراج الشرطي محكمة الجنح التي يقع ضمن اختصاصها المكاني السجن أو المؤسسة الإصلاحية، التي يقضي فيها المحكوم عليه عقوبته عند تقديمه الطلب ولو تم نقله بعد ذلك إلى سجن أو مؤسسة أخرى، ويكون لرئيس محكمة الاستئناف أن يخصص محكمة جنح أو أكثر لنظر طلبات الإفراج الشرطي، والقرار الذي تصدره محكمة الجنح يكون قابلاً للطعن فيه تمييزاً من قِبل الادعاء العام أو طالب الإفراج الشرطي لدى محكمة الجنايات بصفتها التمييزية خلال ثلاثين يوماً من اليوم التالي لصدوره م(331) أصول محاكمات جزائية. ويستثنى من أحكام الإفراج الشرطي من صدرت بحقهم أحكام من المحاكم العسكرية المؤلفة بموجب قانون أصول المحاكمات العسكرية والمجرم العائد الذي حكم عليه بأكثر من الحد الأقصى للعقوبة المقررة للجريمة التي تم الإفراج شرطياً عن تنفيذ جزء من عقوبتها المحكوم عليه عن جريمة ضد أمن الدولة الخارجي، والمحكوم عليه عن جريمة وقاع أو لواط أو اعتداء على عرض بدون رضا أو جريمة وقاع أو اعتداء بغير قوة أو تهديد أو حيلة على عرض من لم يتم الثامنة عشر أو جريمة وقاع أو لواط بالمحارم أو جريمة التحريض على الفسق والفجور، كذلك يستثنى المحكوم عليه بالسجن عن جريمة سرقة إذا كان قد سبق الحكم عليه بالسجن عن جريمة سرقة أخرى، والمحكوم عليه بالسجن عن جريمة اختلاس الأموال العامة إذا كان قد سبق عليه الحكم أيضاً بالسجن عن جريمة من هذا النوع أو الحبس عن جريمتي اختلاس متعاقبتين أو أكثر أو عن جريمة اختلاس مكونة من فعلين متتابعين أو أكثر(11). ويجوز للمحكمة المختصة أن تقرر إلغاء قرار الإفراج عن المفرج عنه إفراجاً شرطياً إذا حكم عليه بعقوبة سالبة للحرية مدة لا تقل عن ثلاثين يوماً في جناية أو جنحة عمدية ارتكبها خلال مدة التجربة أو اكتسب الحكم الصادر فيها درجة البتات، أو أخل المفرج عنه بشروط الإفراج على الرغم من إنذاره م(333) أصول محاكمات جزائية عراقي، حيث أن الإفراج الشرطي ليس حقاً للمحكوم عليه يطالب به متى استوفى شروطه بل هو منحه تعطى له ولو بغير طلب مقدم من قبله، فيكون لدائرة إصلاح الكبار أو الادعاء العام الطلب من المحكمة المختصة النظر في الإفراج الشرطي عن المحكوم عليه ولو لم يقدم طلباً بذلك م(332) أصول محاكمات جزائية عراقي. وإذا لم يُلغَ قرار الإفراج الشرطي حتى التاريخ المقرر لانتهاء مدة العقوبة المحكوم بها، أصبح الإفراج نهائياً وسقطت عن المفرج عنه العقوبات التي أوقف تنفيذها م(334) أصول محاكمات جزائية، وفي عقوبة الأشغال الشاقة المؤبدة في القانون المصري لا يصبح الإفراج نهائياً إلا بعد مضي خمس سنوات من تاريخ الإفراج(12). وهذا النظام يضاف إلى نظام إيقاف التنفيذ بوصفهما من مظاهر تقرير الجزاء الجنائي الموضوعي دون غيره من الأجزية، فالجزاء المدني بوصفه متعلقاً بحقوق الأفراد وينحصر بالتعويض لا يمكن تطبيق نظام الإفراج الشرطي عليه، لأن في ذلك إهدار لمصلحة قانونية أوجب القانون المدني حمايتها، كما أن طبيعة الجزاء المدني المالية لا تسمح بتطبيقه، وفي القانون الإداري أيضاً لا يمكن تطبيقه لأن طبيعة الجزاء التأديبي لا تسمح بذلك أيضا فهو جزاء غير سالب للحرية، ونظام الإفراج الشرطي محصور تطبيقه على العقوبات السالبة للحرية.

وبهذا النظام الخاص بتطبيق الجزاء الجنائي الموضوعي تبرز لنا بوضوح ذاتية التطبيق، التي تنسحب بدورها على أساس مركزي وهو ذاتية القانون الجنائي الموضوعي (القواعد الموضوعية).

ثالثاً: نظام تقادم العقوبة

لقد حدد القانون الجنائي في بعض النظم مدة تسقط بانقضائها العقوبة في حالة عدم تنفيذها(13)، ومرد ذلك هو أن تنفيذ العقوبة بعد هذه المدة لا يحقق غرضاً من أغراضها، فالهدف من العقوبة هو تحقيق العدالة والمصلحة وقد لقي المحكوم عليه جزاءه بتواريه عن الأنظار طيلة المدة، كما أنه لا مصلحة للمجتمع في إثارة أمر طواه النسيان، وحدد المشرع الجنائي المصري مدة سقوط العقوبة بعشرين سنة بالنسبة لعقوبة الجناية ما لم تكن عقوبة الإعدام حيث حددها بثلاثين سنة، وخمس سنين بالنسبة لعقوبة الجنحة، وسنتين لتقادم عقوبة المخالفة(14). وتحسب هذه المدة من وقت صيرورة الحكم بالعقوبة نهائياً، فإذا كان محكوماً بها غيابياً من محكمة الجنايات في جناية فتبدأ تلك المدة من وقت صدور هذا الحكم الغيابي، حتى لا يكون المحكوم عليه غيابياً بمركز أفضل من المحكوم عليه حضورياً، فالقول بغير ذلك يجعل المحكوم عليه غيابياً يخضع لتقادم الدعوى العمومية(15) وهو عشر سنوات بدلاً من عشرين سنة على أساس اعتبار الحكم الغيابي إجراءاً من إجراءات التحقيق ولا يكتسب درجة البتات، حيث تعاد محاكمة الهارب متى ما تم القبض عليه. ولا تقبل التقادم إلا العقوبات التي يستلزم تنفيذها أعمالاً مادية على شخص المحكوم عليه أو على ماله كالإعدام والسجن والحبس والغرامة، فهي عقوبات قابلة بطبيعتها لعدم التنفيذ، أما العقوبات التي لا يتصور عدم تنفيذها أو تعتبر منفذة من ذاتها فلا يتصور أن تسقط بمضي المدة (التقادم) كالحرمان من بعض الحقوق والمزايا وعقوبة المصادرة(16).

ويترتب على تقادم العقوبة بانقضاء المدة المحددة قانوناً سقوطها ولا يمكن بعد ذلك تنفيذها ولو قبض على المحكوم عليه الهارب، ولكن يبقى الحكم الجنائي منتجاً لآثارةً القانونية باعتباره سابقة في حالة العود تستوجب التشديد ولا يؤثر على ما قضي به بالنسبة للدعوى المدنية المتفرعة عن الدعوى الجنائية(17). من كل ذلك تتوضح لنا صورة تقادم العقوبة في القانون الجنائي، وفي خضم ذلك يمكن إثارة السؤال التالي: هل يمكن تطبيق نظام تقادم العقوبة على جزاءات القوانين الأخرى؟ والإجابة على هذا التساؤل أصبحت أمراً بديهياً بأنه لا يمكن ذلك لأن أجزية القوانين الخاصة متصلة بحقوق فردية والقول بجواز التقادم فيها يفضي إلى انتفاء الحاجة أصلاً لتشريع أجزية هذه القوانين، فلا يكون أمام الملتزم بموجبها سوى تهريب أمواله من دائرة التنفيذ وبالتالي تحصل الفوضى في المعاملات الخاصة وتكثر الجرائم أو الأفعال الانتقامية، أما أجزية القانون العام ما عدا القانون الجنائي فهي أيضاً لا يمكن فيها تطبيق نظام التقادم، فالقانون التأديبي مثلاً يفرض عقوبة تأديبية على موظف معين، فلا يمكن للموظف التهرب من هذه العقوبة لأنها قابلة للتنفيذ بطبيعتها، فهو مرتبط بدائرة معينة ويقبض مرتبه الشهري أو الدوري منها فلا يمكنه الفرار من العقوبة التأديبية سواءاً كانت عقوبة معنوية كالإنذار والتوبيخ أو كانت عقوبة مادية كقطع الراتب أو إنقاصه، حيث أن طبيعة القانون التأديبي تفترض وجود علاقة نظامية بين الموظف من ناحية والدولة أو الدائرة من ناحية أخرى، بحيث لا تنقضي هذه العلاقة إلا بتنفيذ كافة الالتزامات الناشئة عن هذه العلاقة(18).وهنا بروز آخر لذاتية تطبيق الجزاء الجنائي الموضوعي تجاه أجزية القوانين الأخرى.

رابعاً: نظام العفو

العفو تنازل من الهيئة الاجتماعية عن كل أو بعض حقوقها المترتبة على الجريمة، وقد يكون عفواً عاماً (شاملاً) عن الجريمة والعقوبة معاً، أو عفواً خاصاً ينحصر في العقوبة فقط، ويلجأ لهذا الأسلوب في تنفيذ الجزاء الجنائي الموضوعي لأسباب مختلفة منها الرغبة في تناسي جريمة أو جرائم من نوع معين لأنها ترجع إلى عهد بغيض تقتضي المصلحة العامة بعدم تجديد ذكره، أو تكون الحكمة منه إذا كان عفواً خاصاً هي تدارك ما يكون قد وقع من خطأ قضائي لم يعد يوجد سبيل لإصلاحه بالطرق القضائية أو التخفيف من شدة قانون العقوبات في ظروف تسوغ ذلك(19). ويملك حق العفو الخاص رئيس الدولة بوصفه ممثلاً عن المجتمع ويصدر بمرسوم جمهوري أو إرادة ملكية، أما العفو العام (الشامل) فلا يملكه رئيس الدولة بل يلزم لهذا النوع من العفو صدور قانون (تشريع)، وذلك لأنه يعطل تطبيق القانون في حالات يُرى ضرورة ذلك، فلا يعطل القانون إلا قانون مثله(20). ويترتب على العفو العام انقضاء الدعوى ومحو حكم الإدانة الذي يكون قد صدر فيها، ولا يكون هذا الحكم منتجاً لآثاره الجنائية أي لا يكون سابقة في العود، كما وتسقط جميع العقوبات الأصلية والتبعية والتكميلية والتدابير الاحترازية(21). أما العفو الخاص فيترتب عليه سقوط العقوبات الاصلية والفرعية ويبقى منتجا لاثاره الجنائية، أي يعد الحكم سابقة في العود، كما لا تسقط التدابير الاحترازية ولايمس بحكم التعويض او المصادرة(22). والعفو العام لا يمس ما قد يكون مترتباً على الفعل من جزاء مدني، إلا إذا نص قانون العفو على ذلك وهنا تتكفل الدولة بتنفيذ الجزاء المدني المترتب على الفعل لصالح الغير، كما لا يعد العفو الخاص عفواً عن الجزاء المدني المترتب على الجريمة فيبقى حق الغير فيه قائماً(23). فنظام العفو نظام خاص بالقانون الجنائي، وهو الآخر لا يمكن تطبيقه في القانون الخاص لأن طبيعة هذا القانون لا تتفق مع طبيعة القانون الجنائي، فكما هو معلوم أن القانون الخاص ينظم الالتزامات المتبادلة بين أفراد المجتمع وبالتالي لا يمكن لرئيس الدولة أو حتى المشرع أن يعفي الملتزم من الإيفاء بالتزامه، فرئيس الدولة لا يملك هذا الحق ومن لا يملك الحق لا يمكنه التسامح به، فصاحب الحق بالتنازل عنه هو المحكوم له، فالجزاء المدني يخرج من نطاق الإعفاء حتى ولو كان محكوماً به تبعاً للجزاء الجنائي لأنه متعلق بحقوق الغير لا بحق المجتمع، فإذا تسامح المجتمع بحقه بإيقاع الجزاء الجنائي فلا يمكنه ذلك عندما يتعلق الحكم بحق الغير لكونه يشكل مصلحة خاصة لا عامة. وهذا النظام بدوره ينفرد به الجزاء الجنائي الموضوعي عن الجزاء الخاص (مدنياً أو تجارياً…)، وهذا برهان على الذاتية الخاصة بالجزاء الجنائي الموضوعي تجاه الجزاء المدني أو غيره من الأجزية الخاصة.

خامساً: وفاة المحكوم عليه

تؤثر وفاة المحكوم عليه في تنفيذ الجزاء الجنائي الموضوعي كون العقوبة الجنائية عقوبة شخصية لا تمتد إلى غير مرتكب الجريمة، فإذا توفي المحكوم عليه قبل صيرورة الحكم نهائياً تسقط الجريمة ويكون لمن تضرر منها الحق في إقامة دعوى أمام المحكمة المدنية للمطالبة بالحق المدني، أما إذا توفي بعد صيرورة الحكم نهائياً فتسقط العقوبة والتدابير الاحترازية عدا العقوبات المالية والتدابير الاحترازية القابلة للتنفيذ بذاتها كالمصادرة وغلق المحل فإنها تنفذ في تركته بمواجهة ورثته(24).

فطبيعة بعض صور الجزاء الجنائي لا تسمح بتنفيذه إطلاقاً بعد وفاة المحكوم عليه مثل عقوبة الإعدام أو العقوبات السالبة للحرية، وذلك ما أدى إلى تسويغ وفاة المحكوم عليه بأنها تفضي إلى إسقاط الجريمة والعقوبة، على العكس من الجزاء المدني الذي ينحصر بالتعويض فإنه من الممكن تنفيذه حتى ولو بعد وفاة المحكوم عليه لكون الحكم يتعلق في تركته بمواجهة ورثته، كذلك لا تؤثر وفاة المحكوم عليه على تنفيذ بعض أنماط الجزاء التأديبي المتعلقة بالأمور المالية كإنقاص الراتب أو قطعه أو الفصل أو العزل أو تنزيل درجة أو وقف الترقية فهي تنفذ في مواجهة من لهم الحق في الحصول على الراتب التقاعدي. وهذه خصيصة ينفرد بها القانون الجنائي لكون طبيعة بعض صور أجزيته لا تسمح بذلك، على عكس القوانين الأُخر كالمدني أو التجاري أو الإداري حيث تسمح طبيعة أجزيتها الخاصة بتنفيذها على المحكوم عليه المتوفي لأنها لا تمس ذات الشخص بل ذمته المالية والذمة المالية حق تابع للشخصية وليست الشخصية ذاتها.

إغلاق