دراسات قانونية

دراسة مقارنة حول مكانة اللغة ضمن المنظومة القضائية

ذ/ الحسن أولياس
باحث في العلوم الإدارية والقانونية

استأثر اهتمامي بعرض تحت عنوان” اللغة العربية في الخطاب الإعلامي والإداري والتشريعي بالمغرب” قدم من قبل الدكتور عباس الجراري، خلال الندوة الوطنية التي عقدتها لجنة القيم والثرات بأكاديمية المملكة المغربية بالرباط خلال يومي20 و21 اكتوبر2010، وقد كان القصد من القاء العرض المذكور امكان إيجاد ملاءمة بين ظاهرة التعدد اللغوي في المغرب، وبين اعتبار اللغة العربية لغة رسمية له، وفق ما ينص عليه الدستور، وذلك من خلال ثلاثة محاور أساسية:

مفهوم الدستور وتعبيره عن الهوية الوطنية.
حلقات هذه الهوية وموقع اللغة فيها عربية فصيحة وغيرها
مدى أهلية اللغة العربية وما معها للنهوض بدورها (1)

وقد ركز المتدخل اهتمامه على التأكيد والبرهنة، بكون الهوية في المغرب مرتبطة أساسا بمبادئ الدين الإسلامي الحنيف، وأضحى اعتناق اللغة العربية رمز للانتماء الى هذه الهوية-فكل الدساتير المغربية نصت على ان لغة المغرب هي العربية أخدا بعين الاعتبار أيضا ” الامازيغية ” كما اقر بذلك الدستور الحالي، واستنادا أيضا لعدم وجود أي تعارض بين اللغة العربية وباقي اللهجات او اللغات – والتسمية لاتهم- المتداولة بوطننا .

ولعل مشروع القانون المتعلق بالتنظيم القضائي للمملكة المصادق عليه مؤخرا من طرف مجلس الحكومة بتاريخ 18فبراير2016، فطن للأمر، ونص ضمن المبادئ الموجهة للتنظيم القضائي، على ان اللغة العربية هي لغة التقاضي والمرافعات امام المحاكم وصياغة الاحكام، مع مراعاة المقتضيات الدستورية المتعلقة بتفعيل ترسيم اللغة الامازيغية، كما ان قانون التوثيق رقم 09.32، من خلال المادة42 منه أكد على وجوب تحرير العقود والمحررات باللغة العربية وجوبا، الا إذا اختار الأطراف تحريرها بلغة أخرى”. (2)

ان للغة العربية دور مهم ومميز ضمن العمل القضائي بالمغرب، ليس فقط باعتبارها نواة للتواصل والخطاب والترافع، بل أيضا استنادا لكونها، قاعدة أساسية من القواعد التي يرتكز عليها أي مجتمع، ومن ثمة فاستحضار هذه اللغة في المرافعات امام المحاكم وأيضا من خلال الجلسات التي تعقدها والمداولات والاحكام هو بمثابة حضور لهوية الانسان والمواطن المغربي، فالقضاء اليوم اصبح يعالج مجموعة من القضايا منها ما يكون احد أطرافها شخصا اجنبيا، ومنها ما تكون القضية المعروضة امامه مدعمة بحجج و وثائق اصلية محررة بلغة اجنبية( فرنسية، انجليزية، اسبانية…الخ)، ومن هنا سيتم التساؤل عن المكانة التي تحتلها اللغة العربية في العمل القضائي من خلال تدبير المنازعات القضائية امام طبيعة القضايا المتحدث عنها أعلاه،(3)

انطلاقا من ذلك، راودتني فكرة مفادها ربط لغة التقاضي امام المحاكم بالمبدأ الدستوري المذكور، انطلاقا من مجموعة من المحاور مرتبطة بالتطور التاريخي للفكرة” مبدا العروبة والتوحيد” مرورا بوجوب تطبيق اللغة العربية في المرافعات امام القضاء، وما يستتبعه الامر من الادلاء بالحجج المترجمة الى اللغة العربية ان كانت أصولها محررة بلغة اجنبية…. هذا مع الأخذ بعين الاعتبار أيضا مبدا دسترة اللغة الامازيغية ومدى ارتباط ذلك بالمجال القضائي بالمغرب، وهاته الأمور هي كنه موضوعنا الحالي الذي سيتم تناوله باقتضاب مع الاستدلال ببعض الاجتهادات القضائية التي لها صلة بموضوع البحث، دون اغفال تدعيمه بما بالمواقف المتبناة من بعض الأنظمة القانونية العربية في هذا الصدد.

المبحث الأول: التأصيل التاريخي لفكرة استخدام اللغة العربية امام المحاكم بالمغرب

الفقرة الأولى: المرجعية التاريخية لاستخدام اللغة العربية امام المحاكم بالمغرب

من المؤكد ان الظهير الشريف عدد64-3 الصادر بتاريخ 26/01/1965، ( ظهير التعريب والمغربة والتوحيد ، هو الركيزة الأساسية في توحيد استعمال اللغة الغربية إدارة وقضاء، بعدما كان العمل في ” لغة التقاضي” مقسما شكلا وجوهرا الى اكثر من لغة، نالت منها اللغة العربية الهامش الضيق في الاستخدام، اذ كانت مقتصرة في الاستعمال امام القضاء الشرعي الذي كان عربيا صرفا، او القضاء المخزني متى كان الامر يتعلق بالترافع امام القائد او الباشا في درجته الابتدائية، وفي المقابل ظلت اللغة الفرنسية او الاسبانية مهيمنتين على الساحة القضائية بالمغرب الى غاية فجر الاستقلال والتخلص من قبضة المستعمر الأجنبي.

فمنذ سنة1956، أضحت اللغة العربية هي اللغة الرسمية امام القضاء بمختلف مستوياته وانماطه ودرجاته وكان للقرار الصادر عن وزير العدل بتاريخ29/06/1965، دور فعال وبارز في تطبيق وسريان مقتضيات الظهير أعلاه. (4)

ومن اهم المبادئ الفلسفية والتوجهية لسياسة المشرع من خلال هذا الظهير، نورد التالي:

التوحيد: اذ تم توحيد جميع المحاكم بالمملكة المغربية، وتم الغاء المحاكم الدينية المسلمة منها واليهودية، وصارت المحاكم الموحدة مختصة بالنظر في كل القضايا التي كانت مسندة للمحاكم الملغاة، ومن أبرزها المحاكم التقليدية والمحاكم القنصلية.

المغربة: وتهدف الى إعادة النظر في المنظومة القضائية بالمغرب، سواء على تطاق الموارد البشرية او على مستوى الاليات المعتمدة في اصدار الاحكام وفض النزاعات القضائية.

التعريب: والهدف من هذا المرتكز، اعتماد اللغة العربية لغة للتقاضي امام الهيئات القضائية مع الحفاظ على مكانة الترجمة باعتبارها حلقة للتواصل والخطاب بين الأطراف الغير العارفة باللغة العربية، وذلك كله في احترام لمبادئ العدالة والانصاف وتقديس لمبدأ الحق في الدفاع وتحقيق مبتغيات المحاكمة العادلة. (5).

الفقرة الثانية : اللغة العربية كلغة للتقاضي في التشريعات العربية

ان المبادئ السابقة وخاصة منها ما يتعلق باعتماد اللغة العربية كلغة للتقاضي، والمكرسة من الناحيتين الدستورية والتشريعية بالمغرب، هي المجسدة أيضا من خلال القوانين المعمول بها في التشريعات العربية ، وبيان الامر على سبيل المثال فقط دون الحصر، ما يلي:

– قانون الامارات العربية المتحدة: تنص المادة5 من القانون الاتحادي لسنة1983 على ان لغة المحاكم هي اللغة العربية وعلى المحكمة ان تسمع اقوال الخصوم او الشهود الذين يجهلون اللغة العربية بواسطة مترجم بعد حلف اليمين، وهو نفس المبدأ المكرس من خلال المادة9 من قانون تشكيل المحاكم في امارة دبي والمادة12 من قانون سنة2006 بشان دائرة القضاء في امارة أبو ظبي.
– القانون المصري: يقرر هذا القانون ذات المرتكز المتحدث عنه في المادة19 من قانون السلطة القضائية المصري رقم46 لسنة1972.
– القانون اليمني: نفس المرتكز يتأكد من خلال المادة3 من قانون السلطة القضائية اليمني لسنة1991.

– القانون القطري: تم تقنين نفس المبدأ أيضا من خلال المادة 16 من قانون السلطة القضائية القطري.

– القانون الجزائري: اكدت المادة 8 من قانون الإجراءات المدنية والإدارية الجديد الصادر سنة2008، على ان اللغة العربية هي اللغة الوطنية والرسمية للجمهورية الجزائرية، كما الزم هذا القانون استعمال اللغة العربية في جميع مراحل التقاضي، اذ تم التنصيص على ما يلي:

” يجب ان تتم الإجراءات والعقود القضائية من عرائض ومذكرات باللغة العربية، تحت طائلة عدم القبول.
يجب ان تقدم الوثائق والمستندات باللغة العربية او مصحوبة بترجمة رسمية الى هذه اللغة، تحت طائلة عدم القبول
تتم المناقشات والمرافعات باللغة العربية
تصدر الاحكام باللغة العربية، تحت طائلة البطلان المثار تلقائيا من القاضي…………………….”(6)

كما نصت جملة من القوانين العربية الأخرى على اعتماد اللغة العربية كلغة للقضاء، ومن بينها القانون الليبي والقانون الفلسطيني، هذا دون اغفال ان كثيرا من الدول الأخرى الأجنبية وعلى راسها فرنسا مثلا، حرصت في دستورها على النص صراحة بكون اللغة الفرنسية هي لغة الدولة، رغم كون هذه اللغة لا تنافسها اية لغة أخرى في الاستعمال الاجتماعي والإداري والقضائي، ومن ثمة تظهر مكانة وقدسية اللغة باعتبارها أساس هوية ومجتمع.

-المبحث الثاني: استخدام اللغة العربية امام القضاء، مع رصد لبعض الإشكالات المطروحة

الفقرة الأولى: اللغة العربية كأساس للتقاضي وتحرير المذكرات وصياغة الحجج

انطلاقا مما سبق سرده، فان اللغة العربية هي لغة التجاوب في المحاكم، وهي الأساس كذلك في صياغة وتقديم المذكرات والحجج امام القضاء، والكل ينصب في اتجاه تحقيق محاكمة عادلة وصون حقوق دفاع الأطراف المتنازعة.

غير انه اذا كان تحرير المقالات الافتتاحية والمذكرات المدلى بها امام القضاء المتبادلة بين الأطراف وكذا الطعون ضد الاحكام والقرارات باللغة العربية لا يثير أي اشكال، فان مسالة صياغة الوثائق المرفقة بالمذكرات بلغة اجنبية ( أي بغير العربية)، قد يطرح مجموعة من نقط الاستفهام، هل يمكن للقاضي ان يبت في الدعوى انطلاقا من هذه الوثائق باعتبارها الوثائق الاصلية الدالة على ما ورد بها من مقتضيات دلالة قطعية، ام ان الامر يستدعي ترجمتها، وهل يعتبر وجوب تحرير هذه الوثائق باللغة العربية من النظام العام، بمعنى ان المحكمة تثيره من تلقاء نفسها، ام انه لابد للطرف المعني ان يثيره امام القاضي، وهل الترجمة تنقل النص المترجم كما هو في اصله ام انه من الممكن ان تفرز تأويلات معينة لهذا النص….

ويطرح هذا الاشكال عموما في جملة من المنازعات ومنها ما يتعلق بدعوى الاستحقاق والتحفيظ العقاري، ففي المناطق الشمالية على الخصوص نجد ان اغلب منازعات التحفيظ يتم الادلاء فيها بالرسوم الخليفية وهي رسوم محررة باللغة الاسبانية، وفي المناطق الخاضعة لنفوذ الاستعمار الفرنسي نلقى انفسنا امام بيوعات وهبات ومحاضر للتسليم محررة باللغة الفرنسية، هذا إضافة الى المنازعات الناشئة عن تطبيق مقتضيات ظهير02مارس 1973المتعلق باسترجاع الأراضي الفلاحية او القابلة للفلاحة من المعمرين، حيث ان المعنيون بالأمر يدلون بعقود محررة باللغة الفرنسية من قبيل عقود البيع او الهبة او ما شابه ذلك من عقود مبرمة بينهم وبين الأجانب المسترجعة املاكهم ، مما يفرض دراسة تلكم العقود سواء في اطار تسوية المنازعات إداريا او قضائيا….الخ.

ان الجواب على التساؤلات الواردة أعلاه، لا يمكن ان يتم بمعزل عما ذهب اليه الاجتهاد القضائي بالمغرب في هذا الباب بالذات مع الاستئناس بالعمل القضائي المقارن، ويمكن ان نستحضر الموقف من خلال الاجتهادات التالية:

* على صعيد الاجتهاد القضائي المغربي:

– قرار محكمة النقض عدد 1346 بتاريخ 28/12/2005، في الملف عدد 87/3/1/2002،جاء فيه:” حيث تنعى الطاعنة على القرار المطعون فيه خرق قانون المغربة والتوحيد والتعريب وقانون المسطرة المدنية والدستور وحقوق الدفاع، ذلك انها اثارت كون الوثائق المرفقة بالمقال الافتتاحي غير محررة باللغة العربية وان القاضي الابتدائي لم يأمر بترجمتها لتلك اللغة، وان قانون 1965 المتعلق بالمغربة والتعريب وكذا الدستور المغربي وحقوق الدفاع توجب ان تكون جميع المذكرات والوثائق المدلى بها امام القضاء محررة باللغة العربية، وان مقتضيات الدستور تعتبر من النظام العام ويجب الالتزام بها وعدم مخالفتها من طرف القضاء بصفة تلقائية…..وما ذهب اليه القرار من ان قانون المغربة لا يتضمن ما يفيد ترجمة الوثائق هو تفسير خاطئ اذ ان القانون يكمل بعضه البعض الاخر، ومحكمة الاستئناف بردها الدفوع التي اثارتها الطاعنة تكون قد خرقت عدة نصوص تشريعية وعرضت قرارها للنقض “.(6)

– وفي قرار اخر صادر عن محكمة النقض تحت عدد 1579 بتاريخ 17/06/1992، تم الإقرار بكون اصل الوثيقة المحرر باللغة الأجنبية هو الواجب الأخذ به مادام بإمكان القاضي استنتاج مضمونه وفهمه، اذ جاء في هذا القرار ما يلي : ” ان من حق المحكمة بل من الواجب عليها الرجوع الى وثيقة قدمت لها بصفة قانونية لمعرفة مضمونها مادام انست من نفسها القدرة على فهمها دون الاستعانة بمترجم ومادام ان اللغة العربية هي مطلوبة في المرافعات وتحرير المذكرات لا في تحرير العقود والاتفاقات” .(7)

– في قرار اخر ادلى أحد الخصوم بمجرد ترجمة لوثيقة اصلية دون الادلاء بالأصل، فاعتبرت المحكمة انه لا مناص للإدلاء بالأصل لان الترجمة لا يمكن باي حال ان تقوم مقامه، فقد جاء في القرار:” لكن حيث ان المعتبر في الحجج المدلى بها هي أصولها لا ترجمتها، وان القاضي لا يمكنه ان يستند الى الترجمة وحدها، لان الترجمة انما هي نقل للنص من لغته الاصلية الى لغة اجنبية، ولا يمكنها باي وجه من الوجوه ان تقوم مقام الأصل الذي لا غنى عنه لتقدير قيمة الحجة…………” (8).

– وبعيد عما سبق، ورد في قرار اخر انه ليس هناك أي مانع من اعتماد الوثيقة المحررة بلغة اجنبية، مادام ان الدستور لم يرد به أي مقتضى يمنع استعمال تلكم اللغة، فقد جاء في القرار:” …حيث ان كانت اللغة العربية هي اللغة الرسمية، فان الدستور لا يمنع استعمال لغة اجنبية إذا دعت الضرورة لذلك…”

– وفي اتجاه مماثل، ذهبت محكمة النقض الى تقرير ما يلي:” حيث من جهة أولى فان تطبيق النصوص التشريعية الصادرة باللغة العربية هي الواجبة التطبيق ولا يعيبها ان تحرر اول الامر بلغة غير العربية، ولهذا فانه لا يتأتى القول بالأخذ بالنص الفرنسي واعطائه الطابع التشريعي بدعوى وجود غلط في الترجمة، طالما انه من الممكن ادخال تعديل او تغيير لتلك النصوص بنصوص تشريعي لاحقة”.

– في موقف اخر، ذهبت محكمة الاستئناف التجارية الى التأكيد على ان اللغة العربية مطلوبة فقط في المرافعات دون الحجج التي يمكن دراستها حتى ولو كانت محررة بلغة اجنبية.

* على صعيد الاجتهاد القضائي المقارن:

– بخصوص استعمال اللغة الرسمية للدولة في المرافعات امام القضاء، ذهبت محكمة النقض المصرية الى تأكيد ما يلي:” الأصل ان تجرى المحاكمة باللغة الرسمية للدولة – وهي اللغة العربية – ما لم يتعذر على احدى سلطتي التحقيق او المحاكمة مباشرة إجراءات التحقيق دون الاستعانة بوسيط يقوم بالترجمة او يطلب منها المتهم ذلك، ويكون طلبا خاضعا لتقديرها، فلا يعيب إجراءات التحقيق ان تكون الجهة القائمة به قد استعانت بوسيطين تولى احدها ترجمة اقوال الطاعن من الهندية الى الإنجليزية ثم قام الاخر بنقلها من الإنجليزية الى العربية ، اذ هو امر متعلق بظروف التحقيق ومقتضياته خاضع دائما لتقدير من يباشره”(9).

– وفي نفس السياق، قضت المحكمة الاتحادية العليا في دولة الامارات العربية المتحدة، ان اللغة الرسمية للمحاكم هي اللغة العربية وهي مسالة متعلقة بالنظام العام. (10).

– وفي المقابل اعتبرت نفس المحكمة وجوب الاستعانة بمترجم اثناء محاكمة الأجنبي الذي لا يعرف اللغة العربية (11)،

الفقرة الثانية: الترافع امام المحاكم المغربية من قبل محام اجنبي

صدر القانون رقم 28.08 المتعلق بتعديل القانون المنظم للمهنة المحاماة ونشر بالجريدة الرسمية عدد 5680 بتاريخ 6 نوفمبر 2008 بالصحفة 4044، وأكد في مادته الأولى أن المحاماة مهنة حرة مستقلة تساعد القضاء وتساهم في تحقيق العدالة، والمحامون بهذا الاعتبار جزء من أسرة القضاء.
وهو نفس الاتجاه الذي سار فيه القانون التونسي عدد 87 لسنة 1989، المؤرخ في 7 شتنبر 1989 المتعلق بتنظيم مهنة المحاماة الذي نص بدوره في الفصل الأول على أن المحاماة مهنة حرة ومستقلة غايتها المساعدة على إقامة العدل.

غير ان هذا المبدأ يجب ان يتطور ليرقى الى وضع تعريف للمحاماة وفق ما ذهب إليه المشرع المصري الذي نص في المادة الأولى من قانون المحاماة لسنة 1983 على أن المحاماة مهنة حرة تشارك السلطة القضائيةفي تحقيق العدالة وفي تأكيد سيادة القانون، وفي كفالة حق الدفاع عن حقوق المواطنين وحرياتهم. ويمارس مهنة المحاماة المحامون وحدهم في استقلال ولا سلطان عليهم في ذلك إلا لضمائر وأحكام القانون وعلى هذا الأساس تكون المحاماة:

ـ أولا: مهنة حرة ولكنها مهنة قانونية هدفها إحقاق الحق ومجابهة الظلم كيفما كان نوعه.

ـ ثانيا: إنها مهنة تشارك القضاء في تحقيق العدالة، ومن ثم فإن المحامي المصري ليس مساعدا للقضاء وإنما مشاركا له في إحقاق العدل على قدم المساواة مع القاضي.

ـ ثالثا: إن المحاماة مهنة مستقلة

والجدير بالتذكير، ان الترافع امام المحاكم المغربية لا يمكن ان يتم الا باللغة العربية ومن قبل محام يجمل الجنسية المغربية، أو من مواطني دولة تربطها بالمملكة المغربية اتفاقية تسمح لمواطني كل من الدولتين بممارسة مهنة المحاماة في الدولة الأخرى، مع مراعاة مبدأ التعامل بالمثل مع هذه الدول، ذلكم المقتضى الذي أكد عليه كذلك القانون المحدث للمحاكم التجارية بالمغرب.

غير ان الممارسة العملية افرزت مبدا تعاون المحامين عن طريق الانتداب، اذ من الممكن التعاون بين محام أجنبي ونظيره في المغرب مثلا للدفاع عن قضية أراد ان يمسك خيوطها المحامي الأجنبي بانتداب محام مغربي، والعكس أيضا صحيح.

الفقرة الثالثة : سمات لغة الاحكام والقرارات ودور القاضي في الصياغة

يمكن تعريف الحكم القضائي، بانه كل قرار تمهيدي او بات في الموضوع تصدره المحكمة بمناسبة نظرها في نزاع معين معروض عليها.

ويتألف الحكم من وقائع تبرز موضوع الادعاء من خلال نسق متسلسل، بالإضافة الى تعليل لمنطوق الحكم او القرار ويضم المبررات الواقعية والقانونية الممهدة لإصدار الحكم، ثم أخيرا المنطوق وهو إقرار لنتيجة معينة تكون لصالح خصم ضد الاخر.

وعند صياغة الاحكام عموما، نجد ان القاضي ملزم باختيار المصطلح القانوني المناسب لطبيعة ونوعية النزاع وموضوعه، لإسقاطه وتطبيق مدلوله على الواقع، (12) ومن ثمة يتضح ان القاضي يعد حلقة رئيسة ومهمة تلعب دورا بارزا خلال الفترة الممتدة ما بين رفع الدعوى اليه الى غاية اصدار الحكم فيها، فيتعين ان يكون ملما بالنص الواجب التطبيق، وان تكون لديه دراية كافية لملائمة ذلكم النص لوقائع الدعوى المعروضة عليه وان يتجاوز عقبة كل لبس او غموض من الممكن ان يترتب على ترجمة قانون معين او وثيقة محررة بلغة اجنبية.

غير ان ما ينبغي تجاهله او نسيانه على الاطلاق، ان بعض القضايا المعروضة على القضاء تستوجب الالمام بلغة أخرى للتقاضي، الا وهي اللغة الفقهية، فقاضي الاسرة مثلا او قاضي نزاع الاستحقاق او العقار الغير المحفظ، لا بد ان يرتكز في صياغة لغته على اللغة الفقهية المتوارثة عبر الزمان وهذا امر بديهي لان طبيعة تلكم القضايا تستوجب استخدام هذه اللغة، فاللغة الفقهية فرضت نفسها حتى على القوانين التشريعية ومنها على سبيل المثال فقط تأثيرها على صياغة بعض النصوص القانونية الحديثة كمدونة الحقوق العينية.

ومن ثمة، فان صياغة الحكم تستوجب الالمام باللغة أولا ثم النص القانوني ثانيا إضافة الى امتلاك ما يصطلح عليه” الملكة القانونية” بتوظيف النص القانوني المناسب على الواقعة المعروضة على القاضي.

-المبحث الثالت: دسترة اللغة الامازيغية ومدى ارتباط استعمال هذه اللغة في المجال القضائي

إذا كانت لغة التقاضي في المغرب هي اللغة العربية، فانه بعدما نص دستور المملكة لسنة2011 على رسمية اللغة الامازيغية، كان لزاما اتخاد كافة المبادرات الرامية الى تفعيل المقتضيات الدستورية المذكورة في جميع المجالات ذات الصلة، ومنها على الخصوص، التشريع، التعليم ، الخدمات العمومية والقضاء……. الخ.

واعتبارا لذلك تم اعداد مشروع قانون تنظيمي عدد26.16 يتعلق بتحديد مراحل تفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية وكيفيات ادماجها في مجال التعليم وفي مجالات الحياة العامة ذات الأولوية. (13)

ويهدف هذا القانون التنظيمي الى تعزيز التواصل باللغة الأمازيغية في مختلف المجالات العامة ذات الأولوية، باعتبارها لغة رسمية للدولة ورصيدا مشتركا لجميع المغاربة بدون استثناء ، وآلية لدعم قيم التماسك والتضامن الوطني ، وذلك من خلال المحافظة على هذه اللغة وحماية الموروث الثقافي والحضاري الأمازيغي، والعمل على النهوض به وترصيد المكتسبات الوطنية المحققة في هذا المجال وتطويرها، بما يضمن الانصهار مع باقي مكونات الهوية الوطنية الموحدة والمتعددة الروافد، والانفتاح على الثقافات والحضارات الانسانية جمعاء، وعموما فان مضامين المشروع المذكور تتحدد في التالي:

– المبادئ العامة المؤطرة لتفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية
– كيفيات ادماج الامازيغية في مجال التعليم
– كيفيات ادماج الامازيغية في مجال التشريع والعمل البرلماني
– كيفيات ادماج الامازيغية في مجال الاعلام والاتصال
– كيفيات ادماج الامازيغية في مختلف مجالات الابداع الثقافي والفني
– كيفيات ادماج الامازيغية في الادارة والمرافق والمؤسسات العمومية والجماعات الترابية
– كيفيات ادماج الامازيغية في الفضاءات والخدمات العمومية
– كيفيات ادماج الامازيغية في مجال التقاضي
– مراحل وآليات تتبع تفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية.
…………………………………………….

وفي سابقة قضائية، أصدر القضاء المغربي حكما اعتبر من خلاله الأمازيغية لغة مقبولة للتقاضي أمام المحاكم المغربية، اذ بتاريخ 28/06/2016، أصدر قسم قضاء الأسرة التابع للمحكمة الابتدائية بوجده أول حكم قضائي متضمنا تعليلات الأخذ بالأمازيغية كلغة مقبولة للتقاضي أمام المحاكم.(14)

وتعود احداث القضية التي صدر على إثرها الحكم المذكور، إلى لجوء مهاجرين من أصول مغربية الى القضاء الاسري في نازلة ترمي الى الحصول على حكم بالطلاق. وأثناء مناقشة القضية، كان من بين ملتمسات دفاع المدعية ان تتولى المحكمة تعيين مترجم لكون موكلته أمازيغية ولا تتكلم اللغة العربية. فأجابت المحكمة على هذا الطلب بأن سمحت بطرح الأسئلة والأجوبة باللغة الأمازيغية على اعتبار أن أعضاء الهيئة القضائية يتكلمونها بطلاقة على غرار الأطراف.

وجاء في قرار المحكمة:
“حيث تقدمت نائبة المدعى عليه بدفع يرمي إلى تعيين مترجم لكونها لا تفهم اللغة الأمازيغية ولكون القانون يستوجب هذا الاجراء في حالة عدم فهم لغة أحد أطراف النزاع الشيء الذي لم تستجب له المحكمة ونصبت نفسها مترجما وحكما في نفس الوقت، ملتمسة إعادة جلسة البحث مع الاستعانة بمترجم.

وحيث إنه من جهة، لا يوجد أيّ مقتضى قانوني لا في قانون المسطرة المدنية ولا في قانون الأسرة يلزم المحكمة بالاستعانة بمترجم إذا كانت تفهم اللغة التي يتحدث بها أحد الطرفين أو هما معا، على عكس قانون المسطرة الجنائية الذي يلزم رئيس الهيئة بالاستعانة به في الحالة التي يكون فيها المتهم يتكلم لغة أو لهجة يصعب فهمه على القضاة أو الأطراف أو الشهود، وترتب عن الاخلال بذلك جزاء البطلان.

وحيث إنه من جهة ثانية، فالأساس القانوني للدفع المقدم من طرف نائبة المدعى عليه في المادة المدنية هو القانون رقم:03/64 الصادر بتاريخ:26/01/1965 المتعلق بتوحيد المحاكم، والذي ينص فصله الخامس على أن اللغة العربية هي وحدها لغة المداولات والمرافعات والأحكام، ولم يتعرض الظهير المذكور إلى الوثائق المثبتة للحقوق ولا للأبحاث التي تجريها المحكمة بغرفة المشورة في قضايا الطلاق والتطليق والتي يكون الهدف منها إصلاح ذات البين بين الطرفين بكل الوسائل واستقصاء أسباب النزاع والخلاف بين الزوجين لرأب الصدع وجمع شتات الأسرة ولو بالاستماع إليهما أو لأحدهما باللغة التي يتكلمها -وهي اللغة الأمازيغية في نازلة الحال.

وحيث أن دستور المملكة المغربية لسنة 2011 ارتقى باللغة الأمازيغية إلى لغة رسمية باعتبارها رصيدا مشتركا لجميع المغاربة بدون استثناء، وذلك من خلال الفصل الخامس منه والذي ينص على أنه: “تظل اللغة العربية اللغة الرسمية، وتعمل الدولة على حمايتها وتطويرها وتنمية استعمالها. وتعدّ الأمازيغية أيضا لغة رسمية للدولة باعتبارها رصيدا مشتركا لجميع المغاربة بدون استثناء”، فضلا عن كون المحكمة آنست من خلالها القدرة على فهم اللغة المذكورة خلال جلسة الصلح دونما حاجة إلى الاستعانة بمترجم، مما يكون معه الدفع المقدم من طرف نائبة المدعى عليه غير مؤسس وحليف الرد”.

الهوامش مع تضمين اهم المراجع المعتمدة:

(1)- عرض حول اللغة العربية في الخطاب الإعلامي والإداري والتشريعي بالمغرب، مداخلة للدكتور عباس الجراري، منشور بالموقع الالكتروني:www.abbessjirari.com
(2). القانون المنظم لمهنة التوثيق كما تم تعديله، منشور بالجريدة الرسمية عدد5998 بتاريخ24 نونبر2011، ص5611.
(3) أهمية اللغة العربية في التقاضي امام المحاكم، اعداد: ذ/ عبد الجبار بهم، رئيس جريدة الصويرة نيوز. الموقع الالكتروني: www.maghress.com/essaouiranews/2947
(4) نفس المقال السابق، للأستاذ عبد الجبار بهم.
(5) لغة المحاكم، مقال للدكتور احمد عبد الظاهر، أستاذ القانون الجنائي بالقاهرة،
(6) قرار منشور بمجلة المناهج القانونية، عدد مزدوج11-12، مطبعة النجاح الجديدة، البيضاء، ص247.
(7) قرار منشور بمجلة المحاكم المغربية، عدد67، نونبر-دجنبر1993.
(8) قرار محكمة النقض عدد 217 بتاريخ 8 ماي1968، مجلة القضاء والقانون.
(9) حكم محكمة النقض، الهيئة العليا، المواد الجنائية، بتاريخ24 فبراير1988، مشار اليه في مقال “لغة المحاكم”.
(10) حكم المحكمة الاتحادية العليا، بتاريخ27 يناير1993، مشار اليه في مقال ” لغة المحاكم”.
(11)، حكم المحكمة الاتحادية العليا، بتاريخ9 يونيو1993، نفس المرجع السابق.
(12) مقال” لغة التقاضي في القضاء المغربي”، ذ/ هشام العبودي، قاضي بالمحكمة التجارية بالدار البيضاء، منشور بالموقع الالكتروني: www.mahkamaty.com.
(13)، تمت إحالة مشروع القانون التنظيمي المذكور، على انظارلجنة التعليم والثقافة والاتصال بتاريخ 6 أكتوبر 2016
(14)، حكم مشار اليه في الموقع الالكتروني: http://bibliotdroit.blogspot.com/2016/07/blog-post_182.html
(15) مقال تحت عنوان: ” إشكالية التكافؤ الوظيفي عند ترجمة وثائق الأحوال الشخصية”، قانون الاسرة المغربي نموذجا: ذ/ عبد الرحمن السليمان،منشور بالموقع الالكتروني

إغلاق