دراسات قانونية
نظرة متعمقة في شرط التحكيم المضمن في اتفاقية تأسيس صندوق النقد الدولي
محمد أوبالاك
محام
باحث في مجال القانون الدولي الاقتصادي.
مقدمة :
لم يعد خافيا على أحد، الدور المهم الذي أضحى يلعبه التحكيم كطريقة بديلة في حل المنازعات في شقيه الوطني الداخلي والدولي، وهي المنازعات الناتجة أساسا عن وجود صعوبات تتعلق بتنفيذ بنود اتفاق أو عقد مبرم بين أطرافه.
وأنه عادة ما يتم اللجوء إلى التحكيم بهدف استغلال المميزات التي يتمتع بها كالنجاعة والسرعة في تحقيق النتائج المرجوة بين الأطراف التي تتفادى خوض تجربة وضع ملف المنازعة بين يدي القضاء، توجسا منها لبطء اتخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب لتحقيق النتائج المنتظرة.
وإن الحديث عن تقنيات التحكيم في مدلولها العام (النظري والعملي) وكذا الحديث عن أنواعه، هو حديث عما يمكن أن يستوحي من خلال ما بسطه الجانب القانوني والفقهي من تعريفات أو ما يمكن أن يستقى من الواقع العملي في تطبيق مقتضيات التحكيم كشرط مشار إليه كبند من بنود العقد الأصلي أو كمشارطة تأتي بشكل لاحق.
فنجد أن التعريف المخصص للتحكيم على الصعيد القانوني هو ما تطرق له القانون الوطني والذي نتخذ منه كنموذج على سبيل المثال لا الحصر، ما نص عليه المشرع المغربي من خلال القانون رقم 05/08 الذي نسخ وعوض بمقتضاه الباب الثامن من القسم الخامس من قانون المسطرة المدنية وهو القانون الصادر بتاريخ: 2007/12/06، حيث أشار إلى أنه: ” يراد بالتحكيم حل نزاع من لدن هيئة تحكيمية تتلقى من الأطراف مهمة الفصل في النزاع بناء على اتفاق تحكيم”.
في حين نجد أن التعريف الفقهي للتحكيم هو ما أجمع عليه مجموعة من الفقهاء الرواد في هذا المجال، كموتوسكلي ودوبواسيسو وجون روبير ود.دافيد، الذين رأوا في التحكيم آلية لفض النزاع بواسطة شخص أو هيئة، يصدر عنها مقرر تحكيمي مضمن به اتفاق الأطراف التي اختارت سبيل فض النزاع وديا بعيدا عن دواليب المحاكم[1].
وكما أن للتحكيم مفهومه ومدلوله القانوني والفقهي، فإن له بالمقابل أنواعه، والذي يقسمه العارفون بالمجال إلى: تحكيم داخلي يتعلق بالمنازعات التي تجتمع فيه عناصر تعلقه بدولة واحدة لا غير من حيث وحدة جنسية الخصوم والمحكمين والقانون الواجب التطبيق ومكان انعقاد التحكيم وصدور مقرره، ثم تحكيم دولي الذي يتعلق بمصالح خصوم دوليون ذوي جنسيات مختلفة ويحتكمون لقوانين مختلفة، قد يتنازعون حول مكان انعقاد التحكيم والقانون الواجب التطبيق والجهة الموكول إليها مهمة المصادقة على المقرر التحكيمي وكذا البت فيه في حالة رفع مسطرة الطعن في مضمناته، ثم تحكيم حر يلبي رغبة الخصوم في تحديد القواعد والإجراءات التي قد يتبعها المحكم، وتحكيم مؤسسي تتولاه منظمات دولية أو وكالات متخصصة متفرعة عنها أو هيئات وطنية تنصاع لقواعد وإجراءات موضوعة ومحددة مسبقا، ثم نجد التحكيم الاختياري وهو لا يختلف اختلافا عميقا عن التحكيم الحر لكن ينفرد عنه في صيغة الاختيار بين اللجوء إلى محكم حر أو عرض الملف على جهة قضائية مختصة محليا ونوعيا أوحتى قيميا، وأخيرا نجد التحكيم الإجباري الذي تنعدم فيه إرادة الأطراف كونه يصدر عن جهة محتكرة لاتخاذ القرار من قبيل منظمة دولية أو هيئة حكومية لا يمكن الاتفاق على مخالفة إرادتها لسابق التوقيع على اتفاق أو اتفاقية ضمن بها شرط التحكيم كإجراء إجبار لا محيد عنه.
واستنادا إلى ما سلف ذكره بخصوص التحكيم كشرط من حيث تعريفه ومدلوله ونطاقه، وهي الأمور التي قد لا تثير إشكالا أو خلافا كبيرا لو أقرنا تقنيات التحكيم بالمنازعات التي تحكمها وتؤطرها مقتضيات القانون الخاص الوطني أو القانون الدولي الخاص والجهة القضائية الوطنية التي سوف تقضي بالمصادقة على القرار التحكيمي، في حين نجد أن الإشكال قد يتسع مجاله و تفتح له أقواسا كثيرة، إذا ما أقرناه بالمنظمات الدولية أو الوكالات المتخصصة المتفرعة عنها، التي تضمن شرط التحكيم باتفاقيات تأسيسها، وهنا يجدر الحديث عن تحكيم من نوع خاص، يمكن إدخاله في زمرة التحكيم المؤسسي والإجباري والدولي في آن، وهو التحكيم الرامي إلى حل منازعات استثنائية تدخل في زمرة مهام المنظمة الدولية أو الوكالة الدولية المتخصصة، وهو ما سوف يكون موضوع بحثنا المتواضع هذا الذي سوف يسلط الضوء على إشكالية ” شرط التحكيم المضمن باتفاقية تأسيس صندوق النقد الدولي” كنموذج لوكالة متخصصة عهد إليها بمهام تنظيم العلاقات المالية والنقدية الدولية ومراقبة نظام الصرف والبحث عن حلول جذرية للصعوبات الاقتصادية التي قد تعصف بالدول الأعضاء بها، وهو ما سوف يتيح لنا الفرصة في استعراض الإطارين القانوني والمؤسساتي المنظمين لعملية تفعيل شرط التحكيم المنصوص عليه في اتفاقية تأسيس هذه الوكالة.
وتسهيلا لمأمورية التحكم في خيوط البحث ومحاولة استجماع المعلومات اللازمة حوله، تحقيقا للهدف وتعميما للفائدة المرجوتين من طرح ومناقشة الموضوع، سوف نعمد أولا إلى معالجة إشكالية الإطار القانوني المنظم للوكالة المتخصـــصة ” صندوق النقد الدولي” من حيث إلزامية قراراتها تجاه الدول الأعضاء في مبحث أول، ثم ننتقل في مبحث ثان إلى التطرق لشرط التحكيم المضمن باتفاقية التأسيس والجهة المعهود إليها بتفعيله والبت فيه، ثم رصد أهم الإشكالات القانونية والواقعية الناتجة عنه.
المبحث الأول: الإطار القانوني المنظم لعمل الوكالة المتخصصة “صندوق النقد الدولي”:
إن الحديث عن إلزامية بنود اتفاقية تأسيس منظمة دولية ما، أو وكالة دولية متخصصة معينة، يجرنا للحديث عن الآليات القانونية والواقعية الممنوحة لهذه الكيانات الدولية التي تستمد سيادتها واستقلاليتها من سيادة واستقلالية الدول الأعضاء بها، لأداء المهام المنوطة بها.
ف”صندوق النقد الدولي” كوكالة دولية متخصصة في المراقبة المالية والنقدية لدول الأعضاء بها وكذا منح الوصفة الصحيحة في علاج الاختلالات الاقتصادية من خلال ما تنجزه من تقارير استشارية ومن دراسات تقنية، هي وكالة ذات كيان قانوني واقتصادي وسياسي دولي، وأن تعد أحد الأجنحة الاقتصادية لمنظمة الأمم المتحدة إلى جانب الصندوق البنك الدولي للإنشاء والتعمير وجيبها المالي المتمثل في البنك الدولي أو العالمي، وهما الوكالتين اللتين انبثقتا سنة 1944 عن مقررات مؤتمر بروتن وودز بالولايات المتحدة الأمريكية[2].
وإن الجواب عن الإطار القانوني المنظم لصندوق النقد الدولي، هو ما نجده في المواد 57 و58 و59 و60 و 63من ميثاق الأمم المتحدة كنص عام مؤطر لمهام المنظمات الدولية وما يتفرع عنها من وكالات دولية متخصصة، كما نجده بالمادة التاسعة من اتفاقية التأسيس – النص الخاص – التي تشير في القسم الأول منها على أن الصندوق يتمتع بشخصية قانونية كاملة ولديه القدرة على وجه التحديد، على ممارسة حق التعاقد وحق اكتساب الأموال الثابتة والمنقولة والتصرف فـيها والحق في التقاضي.
وإمعانا منا في مقتضيات هذا القسم، وتفكيكا للحمولة القانونية للعبارات المضمنة به وقياسا على الإجراءات المنصوص عليها في قانون المسطرة المدنية وقانون الالتزام والعقود المغربيين، على سبيل المثال، سوف نلاحظ أن عبارات من قبيل:
“يتمتع الصندوق بشخصية قانونية كاملة” وله ” حق التقاضي”، وهي العبارات التي تحيل على أن للصندوق شخصية معنوية عـــــــامة وأنها مؤسسة قائمة الذات، وهو بذلك كيان قانوني وواقعي يتمتع بالصفة والأهلية والمصلحة في رفع الـدعاوى والتصدي لها وحق الدفاع عن مصالحه أمام المحاكم المختصة نوعيا ومحليا.
كما يمكن أن نستشف إلزامية بنود الاتفاقية، من واقعة أن الدول الأعضاء وبمجرد التوقيع والمصادقة على اتفاقية التأسيس تمنح مباشرة للصندوق الحق في تمثيلها بكل ما يتعلق بالمهام الموكولة إليه، وهو ما تنص عليه صراحة المادة الواحدة والثلاثون من اتفاقية تأسيس صندوق النقد الدولي خاصة الفقرة (ز) التي تنص على أنه:”تصبح الحكومات بمجرد التوقيع على هذه الاتفاقية ملتزمة بأحكامها…”[3]، إذ أنه تنصهر سيادة واستقلالية الدول الأعضاء في سيادة واستقلالية هذه الوكالة[4].
بيد أن الحسم الناجع لهذه الجزئية، سوف يبنى على واقعة سمو الاتفاقية أو المعاهدة على بعض القوانين الوطنية، إذ تعتبر الاتفاقية مصدرا من مصادر التشريع في القانون الدولي العام، وهو المصدر الذي يؤخذ في تأطير الأحكام والفتاوى الصادرة عن محكمة العدل الدولية بلاهاي، وهو ما نستنبطه من خلال إطلاعنا على مقتضيات المادة 38 من النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية[5]، إذ أن تقنية التنزيل والملاءمة تمنحها هذه القيمة القانونية والسياسية، وهو ما قد نجده على سبيل المثال لا الحصر في تصدير دستور المملكة المغربية لسنة 2011 الذي جعل من الاتفاقيات الدولية التي صادق عليها المغرب وفي نطاق أحكام الدستور، وقوانين المملكة، وهويتها الوطنية الراسخة، تسمو- فور نشرها- على التشريعات الوطنية، والعمل على ملاءمة هذه التشريعات، مع ما تتطلبه تلك المصادقة[6].
أنه وبعد أن بسطنا مجموعة التبريرات القانونية والسياسية التي تقر بسمو الاتفاقية الدولية على القانون الوطني، بمجرد توقيعها من طرف دولة معينة، فإن المجال يصبح مناسبا لننتقل إلى بسط مضمنات المبحث الثاني من هذا الموضوع، في شقه المتعلق بتضمين شرط التحكيم في اتفاقية تأسيس صندوق النقد الدولي.
المبحث الثاني: شرط التحكيم من خلال مقتضيات الفقرة (ج) من المادة التاسعة والعشرون
من اتفاقية تأسيس صندوق النقد الدولي[7]:
تنص الفقرة (ج) من المادة التاسعة والعشرون من اتفاقية تأسيس صندوق النقد الدولي على أنه: “عند نشوء خلاف بين الصندوق وعضو منسحب أو بين الصندوق أو أي عضو خلال تصفية الصندوق، يحال هذا الخلاف إلى التحكيم أمام هيئة تحكيم مؤلفة من ثلاثة محكمين، أحدهم يعينه الصندوق، وآخر يعينه العضو أو العضو المنسحب، وثالث هو المحكم المرجح الذي يعينه رئيس محكمة العدل الدولية أو أي سلطة أخرى بموجب الأنظمة التي يعتمدها الصندوق، ما لم يتفق الطرفان على غير ذلك، ويتمتع المحكم المرجح بكامل الصلاحية للفصل في جميع المسائل الإجرائية والحالات التي التي يختلف فيها الطرفان”.
وبناء على تفكيك مقتضيات هذه الفقرة من حيث صياغتها وإجراءاتها والأطراف المخول لهم تفعيل شرط التحكيم، سوف نجد أن الصيغة آمرة ولو لم تسبق بكلمة “يجب” أو “يلزم” فكلمة “يحال” المبنية لفعل أمر، تعني أنه يجب اتخاذ القرار المأمور به بشكل لا خيار فيه، مما يعني أن التحكيم هنا إجباري وليس اختياري، وأنه صادر عن مؤسسة لها كيان قانوني وسياسي دولي مما يعني أن التحكيم مؤسسي ودولي، وأن شرط التحكيم هذا، يفعل في حالات عدة : عند قرار حكومة معينة الانسحاب اختياريا من الصندوق أو عند قرار الصندوق بإلزام العضو بالانسحاب مجبرا أو عند تصفية الصندوق لحساباته، وهي كلها تقنيات مالية ونقدية جد معقدة، تدخل في مهام الصندوق التي يناط القيام بها إلى خبراء الصندوق وموظفوه المختصين، تحت وصاية المدير العام ومجلس المحافظين والمجلس التنفيذي للصندوق.
فعملية انسحاب عضو من الصندوق مثلا، تنظمها مقتضيات المادة السادسة والعشرين من اتفاقية التأسيس المتعلقة بالانسحاب من عضوية الصندوق، وهو إما أن يكون انسحابا إلزاميا يجبر عليه العضو في حالة تماطله أو امتناعه عن الوفاء بالالتزامات المضمنة بالاتفاقية وذلك عملا بمقتضيات القسم الثاني من نفس المادة وهو لا يثير أي إشكال في وجود نزاع حول القدر المستحق له في حالة انسحابه، فالانسحاب الإجباري يعني أنه مدين للصندوق وأنه مطلب بالسداد وليس بعرض منازعته وفق مسطرة التحكيم[8] ، أو أن يكون انسحابا اختياريا من الصندوق وهو ما يجعل العضو المنسحب خاضع لمسطرة تسوية الحسابات مع مراعاة مقتضيات القسم الأول من نفس المادة وكذا الملحق “ياء” من الاتفاقية وما ينتج عنها من إجراءات ومساطر دقيقة محددة بآجال [9].
في حين نجد أن مسطرة تصفية حسابات الصندوق المشار إلى مقتضياتها بالمادة السابعة والعشرين المتعلقة بأحكام الطوارئ من اتفاقية تأسيس الصندوق (القسم 2)، وهي المادة التي تحيل على ما ينص عليه الملحق “كاف” من اتفاقية التأسيس المفسر لإجراءات ومساطر مقيدة بشروط وآجال معينة، والتي ترتبط ارتباطا كبيرا بكمية احتياطي الذهب وقيمته وكذا بسلة العملات المقبولة للتداول دوليا، وكذا بحقوق السحب الخاصة التي تطلق على العملات الورقية الافتراضية التي تحل محل الذهب وعملات التداول المالي والنقدي، وهي التقنية التي تمكن من سد الفراغ الذي قد يحدثه نقص المعدن الثمين أو النقد ذي القوة الشرائية الكبيرة عالميا[10].
أنه وبعد أن تم الحديث عن صيغة المادة السادسة والعشرين من اتفاقية التأسيس، ومحاولة تفسيرنا لمصطلحي الانسحاب والتصفية، فإن ذلك يمهد لنا السبيل للحديث عن الهيئة الموكولة إليها تفعيل شرط التحكيم المضمن بالفقرة (ج) من المادة التاسعة والعشرون، إذ أنه تم الإشارة بهذه المادة إلى: تنصيب محكم عن الصندوق ومحكم عن العضو المنسحب أو المستفيد من نتائج التصفية ، ثم محكما ثالثا يدعى المحكم المرجح والذي يعهد بمهمة تعيينه إلى رئيس محكمة العدل الدولية أو إلى أية هيئة معتمدة من طرف الصندوق نفسه، مع مراعاة السلطات الواسعة الممنوحة للمحكم المرجح في حالة وجود خلاف مستعص عن الحل بين طرفي النزاع (العضو والصندوق).
وتجدر الإشارة إلى أنه لا نجد الصعوبة الكبيرة لدى صندوق النقد الدولي في اختيار محكم يمثلها، فهي تتوفر على أطر كفؤة في المجالين الاقتصادي (المالي والنقدي) وكذا في المجال القانوني، من خيرة الخبراء والتقنيين ذووا التكوين العالي في مجالات المال والأعمال والاستشارات القانونية، يتقنون فن التفاوض والتحاور بناء على استيعابهم لمهام الصندوق استنادا إلى المقتضيات المضمنة باتفاقيات تأسيس الصندوق وما نتج عنها من تفسيرات وتعديلات على مر التطبيق العملي لمقتضياتها على أرض الواقع.
كما أنه – وفي اعتقادنا – فلن يجد العضو (الدولة) المنسحب إجباريا أو اختياريا، أو الذي يريد الاستفادة من ثمار تصفية حسابات الصندوق، صعوبة في ترشيح محكم ينوب عنه، فنفس ممثليه في علاقته العادية بالصندوق، هم من قد يرشح منهم أحدهم ليتخذ صفة محكم، فالمغرب مثلا يمثله لدى الصندوق، الوزير المكلف بالاقتصاد والمالية بما في هذه الوزارة من أطر كفؤة ومتخصصة في العلاقات الاقتصادية الخارجية، أو أنه قد يعهد بالمهمة إلى والي بنك المغرب، بحكم العلم والتجربة التي يتوفر عليهما، أو إلى أي محكم ملم بعلم وفن العلاقات الاقتصادية بالشق القانوني.
لكن الإشكال الجوهري هو الذي ينصب حول اختيار المحكم المرجح الثالث، فهو يعهد باختياره إلى رئيس محكمة العدل الدولية بلاهاي، عن طريق جسر التواصل المتمثل في منظمة الأمم المتحدة التي لها الوصاية على الصندوق وعلى محكمة العدل الدولية في آن، أو أن هذا المحكم قد يعتمد من طرف الصندوق نفسه، فصندوق النقد الدولي – إذن- لما لديه من سلطة فرض الرأي استنادا إلى بنود الاتفاقية التي نجد بها علامات شروط نموذجية وإذعانية، له حق اختيار المحكم الأول و المحكم الثالث المرجح كذلك، مما قد يجعل الصندوق بمثابة خصم وحكم في نفس الوقت.
فاختيار المحكم المرجح عن طريق رئيس محكمة العدل الدولية بحكم اختصاصه المنصوص عليه في المادة 21من النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية وما يناط للمحكمة التي يترأسها من مهام نابعة من ولايتها على جميع القضايا التي يعرضها عليها المتقاضون، كما تشمل جميع المسائل المنصوص عليها بصفة خاصة في ميثاق “الأمم المتحدة” أو في المعاهدات والاتفاقات المعمول بها، عملا بمقتضيات المادة 1-36 من نفس النظام الأساسي، يعني أن انعقاد الاختصاصين المحلي والنوعي يكون لهذه المحكمة، بخصوص البت في مقتضيات اتفاقية تأسيس صندوق النقد الدولي وكذا تفسير مضمنات هذه الاتفاقية أو انتداب محكم من لدنها.
بيد أننا نعتقد – غير جازمين – بكون المحكم المرجح الثالث إن لم يكن معينا من طرف رئيس محكمة العدل الدولية، أو أنه لم يكن شخصا عاما أو خاصا ينتمي لهيئة تحكيم خاصة معتمدة من طرف الصندوق[11]، فإنه قد يعهد بمهمة اختياره إلى الممثل القانوني للمحكمة الدائمة للتحكيم، التي قد يعهد إليها بانتداب عضو محكم مرجح ثالث، بمناسبة أنها هيئة دولية قضائية عهد إليها بالبت في المنازعات التي تنشأ بين الدول والوكالات الحكومية والمنظمات الدولية، ولكونها هيئة قضائية انبثقت عن مقتضيات معاهدتي سنتي1899 و1907 ، وهي المعاهدتين التي تستمد منهما المهام والاختصاصات، خاصة ما أشير إليه بالمواد20 و29 و37 من اتفاقية لاهاي[12].
بيد أنه وإلى حدود الساعة وعلى رغم من طفو الإشكالية التي تدور حول الصيغة والطريقة التي يتم بها اختيار المحكمين الثلاثة تفعيلا لشرط التحكيم المنصوص عليه في الفقرة (ج) من المادة التاسعة والعشرين من اتفاقية تأسيس صندوق النقد الدولي، فإن الأمور تبدو – إلى حد ما – واضحة ، لكن الإشكال المحوري الآخر الذي قد يطرح، مع مراعاة تطبيق – قياسا- مقتضيات التحكيم الذي يؤطره القانون الوطني الخاص أو القانون الدولي الخاص وكذا ما قد نستخلصه من نصوص اتفاقية نيويورك لسنة1958 بشأن الاعتراف وتنفيذ أحكام المحكمين الأجنبية[13]، ثم مراعاة للاختصاصين النوعي والمحلي المنعقدين لمحكمة العدل الدولية وللقوة القانونية والسياسية لاتفاقية تأسيس الصندوق، ثم لعدم وجود أي قانون ينظم جهة مختصة يعهد إليها بمهام التحكيم في المنازعات التي تنشب بين صندوق النقد الدولي وأي عضو منسحب أو راغب في الاستفادة من ثمار تصفية حسابات الصندوق،
وذلك على غرار ما نجده حاضرا في تخصيص مقتضيات تحكيم وجهة مختصة للبت في كل ما قد ينشأ من منازعات عن تنفيذ اتفاقية قانون البحار ومنطقة التجارة العالمية[14]، ثم لانعدام أية مسطرة واقعية مست إجراءات انسحاب أو تصفية حسابات أي عضو بالصندوق، اتبع فيها المسطرة وظهرت بمقتضاها صعوبات أو إشكاليات في التطبيق، اللهم مثال الانسحاب السياسي الاختياري لفنزويلا [15] أو الانسحاب الإجباري لدولتي ليبيريا والسودان، الذي كان في جوهر مجرد تجميد عضوية وهو الإجراء الذي سرعان ما توصل بشأنه إلى تسوية ودية عن طريق جدولة ديون الدولتين، والاتفاق على صيغة معينة لسداد الديون المتراكمة[16].
إلا أن ذلك كله لن يمنعنا من افتراض نازلة تتعلق بوجود مقرر تحكيمي مفعل من خلال مقتضيات الفقرة (ج) من المادة التسعة والعشرون من اتفاقية تأسيس صندوق النقد الدولي، وهو الافتراض الذي لن لا يحول دون اقتراح الحلول المستقبلية لهذه النازلة، وذلك من باب إصدار “استشارة استباقية”، خاصة وأن بوادر فشل الصندوق في أداء مهامه ظهرت علاماتها لفترات متباعدة، وكان آخرها ما نتج عن الأزمة المالية والاقتصادية العالمية لسنة 2008 وتسجيل مدى الدور السلبي الذي لعبه الصندوق بخصوص عدم التنبؤ بانفجار الأزمة والاستعداد التقني لتفاديها بحكم وظيفته والمهام الموكولة إليه، وربما قد تظهر – مستقبلا- بوادر انسحاب أعضاء من الصندوق بشكل إجباري ناتج عن التوقف عن السداد أو أداء الاشتراكات، لسقوط مجموعة من دول عدة في أزمات مالية ونقدية كبيرة ومتكررة، أو قد يكون الانسحاب بشكل اختياري لتنامي الحركات السياسية والاقتصادية والاجتماعية المناوئة لتحكم الدول الغنية (الولايات المتحدة الأمريكية وانجلترا وفرنسا) في اتخاذ القرارات الانفرادية والتحكمية بالصندوق، وهو ما قد يعجل – كذلك- بالمضي في إجراءات الطوارئ وبالتالي تصفية حسابات الصندوق.
وأنه على ضوء ما هو مسطر أعلاه، يمكننا طرح التساؤلات المحورية التالية حول المقرر التحكيمي وآثاره ، وذلك من قبيل: ما هي اللغة التي يصدر بها المقرر التحكيمي الاتفاقي؟ وهل أن إصدار المقرر الاتفاقي مجاني أو مؤدى عنه؟ وأية جهة تراقب المقرر التحكيمي هذا ؟ وأية جهة تصادق عليه؟ وأية جهة تنظر في مسطرة الطعن في مضمناته؟
فإذا افترضنا مثلا أن هناك انسحاب إلزامي أو اختياري لعضو ما، أو أن هناك مضي في إجراءات تصفية حسابات الصندوق، ونتج عن هذا كله خلاف بين الصندوق والعضو المنسحب أو العضو الذي ينتظر تسلم قيمة اشتراكاته المالية في الصندوق والفوائد الناتجة عنها، وأنه نتج عن ذلك نزاع تم بمقتضاه تفعيل شرط التحكيم وتم اختيار المحكمين الممثلين للصندوق وللعضو، في حين عهد إلى رئيس محكمة العدل الدولية بلاهاي، اختيار المحكم الثالث المرجح، فإننا لا محال سوف نؤسس افتراضنا على مقتضيات النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية، بما فيه من مواد تنظم عملية إصدار حكم أو فتوى تقاس على إصدار مقرر تحكيمي.
إنه وقياسا عليه فإن مسطرة التحكيم غالبا ما تكون مسطرة مؤد عنها، كما أن التقاضي أمام محكمة العدل الدولية، هو تقاض مؤد عنه سواء من خلال المتقاضين أنفسهم أو من خلال إحلال منظمة الأمم المتحدة في الأداء عند الاقتضاء، وذلك وفق شروط وإجراءات معينة (المادة 33) من النظام الأساسي للمحكمة، في حين نجد أن اللغة التي تصدر بها الأحكام أو الفتاوى هي نفسها اللغة التي سوف تصدر بها المقررات التحكيمية نفسها في حالة عدم اختيار الطرفين للغة صدور المقرر، هي كقاعدة عامة تتوزع بين صدورها باللغتين الفرنسية أو الانجليزية أو كلاهما معا، مع وجود استثناءات في اختيار أحد المتقاضين للغة صدور الحكم (المادة 39) من نفس النظام الأساسي، لنجد أن الأحكام والفتاوى والمقررات الصادرة عن هذه المحكمة نهائية وغير قابلة للاستئناف كقاعدة عامة، مع وجود إمكانيات تتعلق بتطبيق مسطرة تفسير الحكم (المادة 60) من النظام الأساسي، أو تفعيل مسطرة طعن غير عادية متمثلة في مسطرة إعادة النظر، التي يحدد لها أجل ستة أشهر من تكشف الواقعة الجديدة وعشرة سنوات من تاريخ الحكم (المادة 61 )، مع السماح بإمكانية تدخل الغير الخارج عن الخصومة والذي لوحظ تضرره بصفة فعلية من المقرر التحكيمي والمتوفر على المصلحة والصفة في تقديم دعوى الطعن في المقرر التحكيمي، وذلك حالما توجد وقائع تثبت مساس هذا المقرر من خلال مقتضياته، وهو يبت في تمكين عضو منسحب أو مستفيد من تصفية حسابات الصندوق، بمصالح عضو آخر قد يرى في الأمر إجحافا فادحا في حقوقه المالية المكتسبة، خاصة و أن مالية صندوق النقد الدولي تعود للدول الأعضاء بها، وأن الصندوق – فقط – هو بمثابة تعاونية مالية ونقدية دولية، تزاول مهامها بناء على اشتراكات ومساهمات الأعضاء بها[17].
خاتمة:
إن قراءتنا المختصرة لتضمين شرط التحكيم باتفاقية تأسيس صندوق النقد الدولي من خلال الفقرة (ج) من المادة التاسعة والعشرون من الاتفاقية، جعلنا نقف على عدة إشكالات قانونية وعملية، فتحت أعيننا على وجود ثغرات عدة ناتجة أساسا عن عدم وجود وقائع فعلية تتعلق بانسحـاب عــضــــو
– اختياريا أو إجباريا – أو تصفية حسابات الصندوق، ليتسنى لنا الحديث عن تفعيل حقيقي لشرط التحكيم، وبالتالي استنباط التراكمات القانونية والقضائية التي تساعدنا على استجلاء الفكرة بوضوح.
غير أن هذه القراءة جعلتنا نقف عند وجود شرط تحكيم مؤسسي ودولي وإجباري مضمن باتفاقية تخص وكالة دولية متخصصة تابعة لمنظمة الأمم المتحدة ، خاضعة في مقتضياتها لبنود خاصة مضمنة باتفاقية تأسيسها، بها معطيات استثنائية بحكم المهمة الموكولة إليها في تسيير وتوجيه دواليب السياسة المالية والنقدية للدول الأعضاء وكذا مراقبة سعر الصرف الدولي ومنع التضخم ومحاربة الاستعمال الخطر للنقد، وهي الشروط التي قد لا نجدها في الاتفاقيات والعقود ذات الصبغة الوطنية أو الدولية في مجالات المال والأعمال – مثلا-، والتي تحتكم لمقتضيات القانون الخاص الوطني لدولة معينة أو القانون الدولي الخاص الذي قد يطبق حلما يلاحظ وجود دعاوى بها طرف أجنبي يثير مسألة تنازع القوانين من حيث المكان، ولا تحتكم للقانون الدولي العام ومبادئ القانون الدولي الاقتصادي كما هو الشأن لاتفاقية إنشاء صندوق النقد الدولي.
إلا أننا وعلى الرغم من ذلك، حاولنا أن نقيس مقتضيات شرط التحكيم الخاص هذا – من باب الإحالة – على شروط ومساطر التحكيم الدولي أو تطبيق الإطار التنظيمي لمساطر التحكيم المتعلقة بكل من اتفاقيتي قانون البحار ومنظمة التجارة العالمية، متخذين من الترجيح المتحفظ بشأنه بخصوص اختلاف توجهات هذه المساطر من حيث مجالات الاختصاص والمهام والأهداف، سبيلا للمقارنة واستجلاء النتائج.
انتهى بتوفيق من الله.
الهوامش
[1] في نظرنا المتواضع ومن الناحية العملية الصرفة الذي تنص عليه مقتضيات قانون المسطرة المدنية المغربية في باب التحكيم أو من خلال ما يستشف من العمل القضائي الصادر عن المحاكم المغربية، هو عدم الاعتداد بما ضمن بمقرر التحكيم دون اللجوء إلى قرار رئيس المحكمة، الذي يتولى مهمة مراقبة مدى انسجام المقرر التحكيمي هذا، مع المقتضيات القانونية الآمرة والنظام العام، وهي المراقبة التي تعطي الحق في المصادقة او عدم المصادقة على مضمناته ومنحه الصيغة التنفيذية، والجهة القضائية هي التي يرفع إليه طلب الطعن في مقرر تحكيمي ويطلب منها إبطاله عند وجود أي خلل شكل أو جوهري مس مقرر الحكيم هذا.
[2] أنظر محمد أوبالاك، تمهيد الفصل الأول من الرسالة المقدمة لنيل شهادة الماستر المتخصص ” الاستشارة القانونية” بكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية بسلا، الموسم الدراسي 2015/2014.
[3] أنظر الترجمة العربية لاتفاقية تأسيس صندوق النقد الدولي على الموقع الإلكتروني:
www.imf.org/externa/ pubs/ft/aa/ara/index.pdf
[4] أنظر رأي أستاذ القانون الدولي فايز أنجاك على الموقع الالكتروني: www.arabsgate.com/showtheread.php?t=515747
[5] أنظر اتفاقية تأسيس محكمة تأسيس محكمة العدل الدولية على الموقع الرسمي: www.icj-cij.org/homepage/ar/icjstatute.php
[6] أنظر تصدير الدستور المغربي لسنة 2011 موضوع استفتاء الفاتح من يوليوز لسنة 2011 .
[7] اتفاقية تأسيس صندوق النقد الدولي المعتمدة بالمؤتمر النقدي والمالي للأمم المتحدة الذي انعقد في بروتن وودز بالولايات المتحدة الأمريكية سنة 1944 والتي دخلت حيز التنفيذ خلال شهر دجنبر 1945 وقد طرأت عليها تعديلات عدة، كان أولاها خلال شهر ماي 1968 ليكون آخرها خلال شهر أبريل 2008، وهي الاتفاقية التي تضم واحد وثلاثون مادة وثلاثة عشر ملحقا استعمل فيها الحروف الأبجدية، وهي الملاحق التي تعد بمثابة إطار تنظيمي وتفسيري للاتفاقية.
[8] تعلق الانسحاب الإجباري بكل من دولتي ليبيريا والسودان لتماطلهما وامتناعهما عن سداد الديون المتراكمة وأداء الاشتراكات والمساهمات، ولقد كان بمثابة تجميد عضوية أكثر منه انسحاب إجباري، انتهى بجدولة الديون ورفع قرار تجميد العضوية.
[9] لم يسجل – لحد الساعة – أي انسحاب اختياري لأي عضو من صندوق النقد الدولي، سوى دولة فنزويلا التي قررت الانسحاب الاختياري بواسطة قرار سياسي فقط لم تفعل فيه الإجراءات والمساطر المنصوص عليها بالمادة السادسة والعشرون من اتفاقية التأسيس.
[10] لمزيد من الإطلاع المعمق، المرجو مراجعة المادة السادسة والعشرون والملحقين “ياء” و”كاف” من اتفاقية تأسيس صندوق النقد الدولي، نفس المرجع السابق.
[11] توجد مؤسسات دولية وإقليمية ومتخصصة تتخذ التحكيم كوظيفة: والتي نجد منها على سبيل المثال: رابطة التحكيم الأمريكية/إيكدر ومعهد التحكيم التابع للغرفة التجارية في ستوكهولم ورابطة التحكيم الفرنسية ( أفا)..: https://international-arbitration-attorny.com
[12] أنظر مزيدا من المعلومات عن محكمة التحكيم الدائمة في موقع ويكيبيديا: https://ar.wikipedia.org/wiki/ ، كما يرجى كذلك الإطلاع على المقال المهم الذي يتطرق إلى نفس الموضوع :
Droit international -11eme édition de Dominique CARREAU et Fabrizio MARELLA : Chapitre 13 : LE RECOURS A L’ARBITRE INTERNATIONAL : www.pedone.info/di/carreau-Marella_Chap23.pdf
[13] أنظر مزيدا من التفاصيل حول اتفاقية نيويورك بالموقع الإلكتروني: aladalacenter.com/index.php/130-1958/3675-1958
كما يستحسن الإطلاع على المرجعين المهمين التاليين:
كمال عبد العزيز ناجي: ” دور المنظمات الدولية في تنفيذ قرارات التحكيم الدولي”، مركز دراسات الوحدة العربية، لبنان، 2007.
Stéphanie BELLIER Avant –propose d’Ahmed MAHIOU, Justice internationale, DROIT, JUSTICE : « LE RECOURS A L’ARBITRAGE PAR LES ORGANISATIONS INTERNATIONALES ».
[14] جميل محمد حسين: القضاء والتحكيم الدولي، تجميع وإعداد لنماذج من أهم الوثائق الدولية، راجع الموقع الإلكتروني: www.olc.bu.edu.eg/olc/images/326.pdf
[15] أنظر تفاصيل تبعات الانسحاب السياسي الاختياري لفنزويلا من صندوق النقد الدولي على الموقع الإلكتروني: www.aleq.com/2007/05/05/article_90384.html