دراسات قانونية

دراسة قانونية حول التوقيع الإلكتروني باعتباره جوهر حجية المحررات الإلكترونية

التوقيع الإلكتروني مناط حجية المحررات الإلكترونية

المحررات الكتابية لا تعد أدلة كاملة في الإثبات إلا إذا كانت تحمل توقيعا معينا، فهذا الأخير هو العنصر الثاني من عناصرها، سواء كانت رسمية أو عرفية، وإذا كانت المحررات الإلكترونية أدلة كتابية فإن ذلك مرتبط بتوفرها على توقيع وبطبيعة الحال لن يكون هذا التوقيع إلا إلكترونيا، مختلفا عن التوقيع العادي من حيث دعامته وسوف نرى ما إذا كان يختلف معه حتى في وظائفه القانونية.

وبطبيعة الحال فإن مفهوم التوقيع قبل صدور قانون التبادل الإلكتروني للمعطيات القانونية، كان محصورا في التوقيع اليدوي فقط، تبعا للأخذ بالمحررات الورقية فقط في الإثبات، مما يجعلنا نتساءل عن مفهوم التوقيع الإلكتروني ضمن القانون الجديد؟.

واعتبارا لكون التوقيع كي يعتد به في الإثبات يجب أن يستجمع مجموعة من الشروط القانونية، ويحقق مجموعة من الأهداف، فإن ذلك يجعلنا مرة أخرى نتساءل عن مدى توفر هذه الشروط في التوقيع الإلكتروني؟، ومدى تحقيقه لأهداف ووظائف التوقيع العادي؟، وتبعا لذلك التساؤل عن قيمته القانونية في الإثبات وفي استكمال عناصر المحرر الكتابي؟.

قصد الإحاطة بجوانب هذا الموضوع، ارتأينا أن نقسم هذا المبحث إلى مطلبين، نتحدث عن ماهية التوقيع الإلكتروني في (المطلب الأول)، ثم عن قيمته القانونية في (المطلب الثاني).

المطلب الأول: ماهية التوقيع الإلكتروني

يشكل التوقيع الالكتروني حجر الزاوية في منح القيمة القانونية للمحررات الإلكترونية، فأمام الأخذ بالتقنيات الحديثة في الإثبات، كان من اللازم البحث عن بديل للتوقيع اليدوي يتجاوب مع هذا التوجه.

وعلى اعتبار أن هذا النوع من التوقيع يتميز بجدته، يجعلنا ذلك نتساءل عن تعريفه ومفهومه القانوني؟، والتوقيع الإلكتروني مثله مثل التوقيع العادي يتخذ مجموعة من الصور، لذلك فمن الضروري البحث في صوره وأنواعه، وخصوصا الأنواع التي تستجمع الشروط القانونية المتطلبة في التوقيع.
لذلك سوف نتطرق أولا لمفهوم التوقيع الإلكتروني في (الفقرة الأولى)، ثم ثانيا نتحدث عن صور التوقيع الإلكتروني في (الفقرة الثانية).

الفقرة الأولى: مفهوم التوقيع الإلكتروني

يعتبر التوقيع الشرط الأساسي والمحوري الذي يعطي للمحررات حجيتها في الإثبات، بحيث يعتبر العنصر الثاني من عناصرها بعد الكتابة.
لأن المحرر بدون توقيع لا قيمة له من الناحية القانونية، فهو الذي يعبر عن نية الشخص في التعاقد أو الالتزام ، وهو الذي يمنحها الحجية.
وما دام التوقيع الالكتروني لا يخرج عن هذا الإطار، ونظرا لحداثته من جهة وأهميته الكبيرة في استكمال مقومات المحررات الإلكترونية، من اللازم الخوض في تعريفه(أولا)، ثم التعرض للخصائص المميزة له (ثانيا).

أولا: تعريف التوقيع الإلكتروني:

يمثل التوقيع الإلكتروني أحد أهم البيانات التي ينبغي أن تتوفر عليها المحررات الإلكترونية،وللتوقيع معنيين: فيطلق على عملية أو واقعة وضع التوقيع على محرر يحتوي على بيانات معينة، وأيضا على العلامة أو الإشارة المعينة التي تسمح بتمييز شخص الموقع، وهذا هو المعنى المقصود في ميدان الإثبات .

وبطبيعة الحال فإن التوقيع يفي بالغرض المقصود منه سواء كان توقيعا عاديا أو توقيعا إلكترونيا، فما المقصود بهذا الأخير؟.
بخصوص تعريف التوقيع الإلكتروني تجدر الإشارة في البداية إلى أن هناك تباين في التعريفات التي أعطيت له، بحسب الزاوية التي ينظر منها إليه، فهناك من يقوم بتعريفه بالنظر إلى الوسيلة المستعملة في وضعه، ومن عرفه على أساس الوظائف التي يقوم بها في إضفاء الحجية على المحررات الإلكترونية .

ومن بين التشريعات التي عرفت التوقيع الإلكتروني انطلاقا من وظائفه، نجد المشرع يقوم المغربي في الفصل 2-417 والذي حدد هذه الوظائف في التعريف بشخصية الموقع، والتعبير عن التزامه بمحتوى المحرر أو الوثيقة الإلكترونية ، متأثرا بتوجه المشرع الفرنسي الذي أخذ عنه هذا المقتضى وبشكل حرفي.

وقد أحسن المشرع المغربي والفرنسي صنعا عندما لم يتطرقا للطريقة أو الشكل الذي يكون عليه التوقيع الإلكتروني، وهو أمر سيجعل النص القانوني يستوعب جميع الأشكال التي يتم بها حاليا أو التي ستستجد في المستقبل.

بينما نجد المشرع المصري قد عرفه بكونه يتخذ شكل حروف أو أرقام أو إشارات أو غيرها ويكون له طابع متفرد يمكن من تحديد شخصية الموقع ويميزه عن غيره، وبالتالي يكون قد اعتمد على الشكل الذي يتخذه التوقيع الالكتروني والوظائف التي يقوم بها.
أما على المستوى الفقهي فمعظم التعريفات ركزت على وسيلة التوقيع ووظائفه، حيث عرفه أحد الفقهاء باعتباره “مجموعة من الإجراءات القانونية التي تسمح بتحديد هوية من تصدر عنه هذه الإجراءات، وقبوله بمضمون التصرف الذي يصدر بمناسبته”.

وعرفه آخر بأنه “إجراء معين يقوم به الشخص المراد توقيعه على المحرر سواء كان هذا الإجراء على شكل رقم أو إشارة إلكترونية معينة أو شفرة خاصة، المهم في الأمر أن يحتفظ بالرقم أو الشفرة بشكل آمن وسري تمنع استعماله من قبل الغير وتعطي الثقة في أن صدور هذا التوقيع يفيد أنه بالفعل صدر من صاحبه أي حامل الرقم أو الشفرة”.

وذهب الأستاذ أحمد شرف الدين إلى تعريفه بكونه “يقوم على مجموعة من الإجراءات أو الوسائل في التقنية التي يتيح استخدامها عن طريق الرموز أو الأرقام، إخراج رسالة إلكترونية تتضمن علامة مميزة لصاحب الرسالة المنقولة إلكترونيا”.

وهناك من ركز على طريقة إنشاء التوقيع الإلكتروني، حيث عرفه أحدهم بكونه “التوقيع الناتج عن اتباع إجراءات محددة تؤدي في النهاية إلى نتيجة معينة معروفة مقدما فيكون مجموع هذه الإجراءات هو البديل للتوقيع التقليدي”.

فالملاحظ بخصوص هذا التعريف الأخير أنه ركز أساسا على الوسيلة المستعملة في إنشاء التوقيع الإلكتروني مثل الرموز والأرقام، وأغفل التركيز على وظيفته الأساسية والرئيسية، التي تضفي الحجية على المحررات الإلكترونية، ألا وهي تحديد الشخص الموقع والتعبير عن إرادته، وبالتالي تنقصه الدقة.

أما الأستاذ أسامة روبي فقد عرف التوقيع الإلكتروني بأنه “كل حروف أو أرقام أو رموز أو أصوات أو نظام معالجة ذي شكل إلكتروني أو غيرها ويكون له طابع متفرد يسمح بتحديد شخص الموقع ويميزه عن غيره، بحيث تعبر عن رضاء الموقع بمضمون التصرف وتضمن سلامته”، فهذا التعريف الأخير أقرب إلى الصحة وإلى الوضوح من التعاريف التي سبقته، على اعتبار أنه أحاط بكل الجوانب المؤطرة لعملية التوقيع الإلكتروني، من ناحية الشكل والوظائف، لأن غرض المشرع هو وظيفة التوقيع ومدى تحققها وليس الوسيلة المستعملة في حد ذاتها.

ما نخلص إليه في الأخير أن التصور التقليدي للتوقيع ككتابة بخط اليد، لم يعد واردا وليس له معنى في ظل التقنيات الحديثة وظهور التوقيع الإلكتروني، وهو الأمر الذي جعل المشرع الفرنسي يدخل تعديلا مهما على نص المادة 1326 من القانون المدني، يغير فيه عبارة « de sa main » بعبـارة « par lui-même » ، لكي تستجيب لمقتضيات التقنيات الجديدة، وبالتالي فالمهم في التوقيع الإلكتروني والتوقيع بصفة عامة هو التحديد الدقيق لشخصية الموقع ورضاه بالالتزام أما وسيلته فلا اعتبار لها، سواء تعلق الأمر بإمضاء بخط اليد أو بإمضاء معلوماتي ، فيجب أن يعرف بمعزل عن طريقته، حتى يستطيع استيعاب جميع أشكال التوقيع، الحالية والمستقبلية .

ثانيا: خصائص التوقيع الإلكتروني:

انطلاقا من التعريفات السابقة التي أشرنا إليها والتي تهم التوقيع الإلكتروني، يتضح أن هذا الأخير يشتمل على عدة خصائص تجعله متميزا عن التوقيع التقليدي، وتتمثل في كونه ليس له شكل خاص (1)، ولا يتم عبر وسيط مادي (2)، بالإضافة إلى أنه توقيع شخصي (3)، وليس دليلا على حضور الأطراف (4).

1- التوقيع الإلكتروني ليس له شكل خاص:

فالتوقيع الإلكتروني ليس له وضع أو صورة معينة، ومدلول هذه الخاصية أن التوقيع العادي إذا كان يجب أن يتم بخط يد الموقع أو بالختم أو بالبصمة ، فإن التوقيع الإلكتروني لا يشترط فيه شكل خاص، فيتحقق باتباع إجراءات تقنية قد تتخذ شكل حروف أو أرقام أو إشارات أو غيرها، شريطة أن يكون ذا طابع متفرد يسمح بالكشف عن الهوية الحقيقية للموقع، ويميزه عن غيره ، وبالتالي فليس الشكل الذي يتم به التوقيع الإلكتروني هو المهم بل إن الأساس فيه أن تعبر هذه الأشكال عن شخص معين يكون هو الموقع نفسه، وبمفهوم المخالفة فإن أي شكل أو أي رمز لا يؤدي إلى معرفة الشخص الذي صدر عنه التوقيع لا تكون له أية قيمة ولا يصلح لأن يشكل توقيعا إلكترونيا معترف به قانونا.

2- التوقيع الإلكتروني لا يتم عبر وسيط مادي:

يتم التوقيع الإلكتروني عبر وسيط غير مادي وغير ملموس، أي وسيط إلكتروني في جهاز الحاسوب، على عكس التوقيع العادي التقليدي ، الذي يتم عبر دعامة أو وسيط ورقي، مادي، والذي تذيل به الورقة الكتابية، بعبارة أخرى فالتوقيع الإلكتروني مرتبط بالدعامة الإلكترونية، أضف إلى ذلك أن المحررات التقليدية يوفر فيها التوقيع اليدوي انضمام الموقع لمضمون المحرر، نظرا لكونهما معا يوجدان على نفس الدعامة، بينما العلاقة بين المحررات الإلكترونية والتوقيع الإلكتروني تتم برنامجيا logiciellement عبر أجهزة الحاسب الآلي والتي تضمن كذلك ارتباط هذا التوقيع بالمحرر فكلاهما يشكلان وحدة واحدة.

3- التوقيع الإلكتروني توقيع شخصي:

يتجلى مضمون هذه الخاصية في أن التوقيع الإلكتروني علامة شخصية، تمكن من معرفة هوية الموقع، إذ يتميز بالارتباط الشخصي بصاحبه، وليس بمقدور أحد الاطلاع عليه أو استعماله، إلا باختراق منظومته، لأنه يعبر عن إرادة الموقع بما وقع عليه وما التزم به، ومع ذلك هناك من يرى بأن التوقيع الإلكتروني ليس مرتبطا بشخصية صاحبه، حيث أن هذا الأخير قد يمكن أحدا من الغير من ذوي الثقة لكي يستعمل هذا التوقيع نيابة عنه، دون أن يتمكن المتعاقد معه من كشف ذلك.

ولا يقصد هنا اختراق أنظمة التوقيع والاستيلاء عليها، وإنما المقصود هو منح وتمكين الغير من استعمال التوقيع بالإرادة الحرة، مع استثناء بعض أنواع التوقيع كالتوقيع البيومتري، لارتباطه واعتماده على جسم الإنسان وأعضائه والتي تختلف من شخص لآخر، هذا خلافا لما عليه الأمر في التوقيع العادي حيث لا يمكن للشخص التوقيع مكان آخر إلا بصفة قانونية.

4- التوقيع الإلكتروني ليس دليلا على حضور لأطراف:

فإذا كان التوقيع التقليدي يفيد بأن أطراف العقد أو التصرف القانوني قد حضروا مجلس العقد أو أثناء التوقيع عليه، أو من يمثلهم قانونا أو اتفاقا، بدليل التوقيع الموجود على المحرر الورقي، فإن التوقيع الإلكتروني المصحوب بالمحرر الإلكتروني لا يدل على ذلك، لأن التصرفات القانونية المرتبطة به غالبا ما تتم عن بعد ، الأمر الذي يجعل حضور الأطراف مستبعد من الناحيتين القانونية والواقعية، لأن طبيعة هذه العمليات الوطنية والدولية تقتضي ذلك، فلا يمكن إلزام الأطراف على الحضور في مجلس واحد، لأن ذلك سيجعل من المقتضيات القانونية التي نظمت التوقيع والمحررات الإلكترونية غير ذات معنى.

5- وحدة المحرر والتوقيع الإلكتروني:

من المسلم به أن المحررات الورقية تقوم على دعامة مادية ملموسة، بحيث يمكن فصل الوثيقة الورقية عن التوقيع المذيل بها، أو اقتطاع جزء منها واستبداله وبالتالي وإن كانت الوثيقة والتوقيع يمثلان وحدة المحرر، فإنه من السهل فصلهما عن بعضهما البعض.

أما في التوقيع الإلكتروني فذلك غير وارد، أي أن إمكانية الفصل بين المحرر الإلكتروني وتوقيعه غير ممكن، لأن هذا الأخير لا يثبت الشخص صاحب الوثيقة فقط ولكن يثبت بشكل محدد الوثيقة محل التوقيع ، لذلك فالملاحظ أن المحرر الإلكتروني محمي أكثر من المحرر الورقي العادي.

خلاصة القول أنه رغم هذه الخصائص المميزة للتوقيع الإلكتروني عن التوقيع العادي، إلا أن الغاية والهدف منهما مشتركة، مادام أن الأمر يتعلق بنسبة التوقيع إلى صاحبه والتعبير عن إرادته والالتزام بمضمونها عن طريقه، وكل ما في الأمر مجرد اختلاف شكلي فقط، بحيث يمكن أن يؤدي نفس الدور الذي يؤديه التوقيع العادي.

الفقرة الثانية: صور التوقيع الإلكتروني

مثل ما عليه الأمر بالنسبة للتوقيع التقليدي والذي يتخذ صورا متعددة، فإنه من المنطقي أن يسري نفس الأمر على التوقيع الإلكتروني، فهو إذن ليس على نوع واحد.
وهذا التنوع في صور التوقيع الإلكتروني يعود لكونه مجرد حروف أو رموز أو أصوات أو إشارات أو غيرها، منها ما يستخدم الخواص الذاتية كجسم الإنسان ويعتمد على أعضائه، ومنها ما يعتمد على التشفير أو الترميز لجعل المحرر غير مقروء.
من هنا نتساءل عن صور التوقيع الإلكتروني؟ وطبعا عن أوسعها انتشارا واستعمالا، إذ سوف نتطرق للتوقيع البيومتري (أولا)، ثم نتحدث عن التوقيع الرقمي (ثانيا).

أولا: التوقيع البيومتري:

يتيح هذا النوع من التوقيع التحقق من شخصية المتعامل أو الطرف في العلاقة التعاقدية، اعتمادا على الخواص الفيزيائية والطبيعية والسلوكية للأفراد .
هذه الخواص جعلها الله سبحانه وتعالى تختلف من شخص لآخر، فلكل شخص خواصه الذاتية التي لا يتشابه معه فيها أحد، ومثال ذلك الاعتماد على بصمة الأصبع، مسح العين، وهاتين الخاصيتين أو ما يسمى “بالبيومتركس” لا تتكرر من شخص لآخر مطلقا ، أو اعتماد مخططات الرسم الحراري للوجه، باستخدام الأشعة تحت الحمراء، أو عن طريق القياسات الحيوية للصوت، بمعرفة قوة الموجات الصادرة عنه ونبراته وكيفية نطق الحروف ، وأيضا بصمة الكف والشفاه ، وغيرها من الخواص الذاتية التي يتميز بها الجسم البشري.

ويتم التحقق من شخصية الموقع بواسطة هذه الخواص، عن طريق تخزين صورة لإحداها بشكل رقمي مشفر في ذاكرة الحاسوب ، وذلك للحيلولة دون استعمالها من قبل الغير، مما يجعل استخدام هذه الوسائل في التوقيع الإلكتروني يتم بشكل آمن، على أساس التشفير الذي تخضع له الصورة، والذي لا يسمح باستخدام نموذج التوقيع المشفر إلا إذا كانت الخاصية الذاتية للشخص تتطابق تمام التطابق مع الصورة المسجلة والمخزنة في ذاكرة الحاسوب ، وإلا فإن عملية فك التشفير ستصبح مستحيلة وبهذا تنعدم القدرة على التوقيع، مما يمكن معه القول أن هذا النوع من التوقيعات يحقق الأمان اللازم ويكتسي بذلك قيمته القانونية.

ورغم ما يظهر بأن التوقيع البيومتري يمكن الاعتماد عليه لإنشاء توقيعات إلكترونية آمنة، تكفل الاستقرار والطمأنينة والثقة في ميدان المعاملات بشتى أنواعها، فإن هذا الأمر يبقى محل نظر، لكونه يتطلب تكلفات باهضة، وتكتنفه تعقيدات كبيرة عند التنفيذ ، بالإضافة إلى الثغرات التي تعتريه، على هذا الأساس وجهت له مجموعة من الانتقادات، من بينها:

– قابليته للتلاعب والتزوير: إذ أنه مادام هذا التوقيع أو هذه الخاصيات مخزنة في جهاز الحاسوب، فهي معرضة للقرصنة والنسخ والاستعمال من قبل الغير، كتسجيل نبرة الصوت وإعادة استعمالها ، خاصة في ظل التطورات التكنولوجية الحديثة حيث أصبح بالإمكان إدخال تغييرات على الصوت بالشكل الذي يجعله موافقا لما هو مسجل على الحاسوب.

كما يمكن طلاء الأصابع ، أو الشفاه بمادة معينة لجعلها مطابقة للأصل المخزن على جهاز الحاسوب ، أو وضع عدسات لاصقة على العين تتيح إمكانية مطابقتها للأصل.

إن انتحال شخصية الموقع بهذه الطرق، سوف توقعه في مشاكل لا حصر لها، تضر بمصالحه ومصالح المتعاملين معه.

– قابلية الصفات المميزة للإنسان للتغيير: فالخصائص البشرية عرضة دائما للتحول، فقد تصاب باضطرابات وتتعرض لتأثيرات خارجية تحول دون التعرف على صاحبها ، كتآكل بصمات الأصابع مع مرور الزمن، أو نتيجة تعرض الشخص لحروق، أو بفعل بعض الأعمال التي يقوم بها الإنسان في حياته اليومية والتي تؤثر عليها، أو التوترات الحاصلة على مستوى الصوت نتيجة الاضطرابات التي تصيب الجهاز التنفسي، إضافة إلى التشابه الحاصل بين التوائم، فهذا الانتقاد في محله لأن هذه الحالات ممكنة الوقوع، وفي حالة وقوعها ستؤثر لا محالة في الحجية والمصداقية التي تتمتع بها التوقيعات البيومترية.

– لا تعبر عن الإرادة الحرة للشخص: فإذا كان التوقيع البيومتري يحدد هوية الشخص الموقع – نسبيا- فإنه لا يعبر بشكل صريح وأكيد على الإرادة الحرة والكاملة للشخص في التعاقد، تحمل الالتزامات الناشئة عنه، لذلك هناك من يرى بأن هذه التقنية تستعمل فقط في المجالات والميادين التي تحتاج إلى التأكد من هوية الشخص والتعريف به، وليس في مجال تحديد مدى تعبيره عن الإرادة، وبالتالي تفقد شرطا من الشروط المتطلبة في التوقيع قانونا وهو التعبير عن الإرادة، وحتى إذا ما سلمنا بكون هذه التواقيع تصلح لميادين إثبات الهوية فإن ذلك لا يمكن الجزم به أمام تطور أعمال القرصنة والتزوير.

زيادة على هذه الانتقادات، ذهب أحد الباحثين إلى كون التوقيع البيومتري لا يقيم الدليل الكافي والجازم على ارتباطه بالوثيقة محل التوقيع، بالإضافة إلى غياب عنصر الأمان والسرية، لأن الشركات المنتجة للطرق البيومترية تعمل على توحيد نظم عملها.

لذلك تبقى هذه التقنية رغم أهميتها محل نظر، ما دامت المعاملات الإلكترونية تقتضي توافر عنصر الأمان والثقة والاطمئنان، فمن الصعب التسليم بكون هذا التوقيع تتحقق فيه هذه المواصفات.

ثانيا: التوقيع الرقمي:

يعتبر التوقيع الرقمي من أهم صور التوقيع الإلكتروني في الوقت الحاضر، فهو يعتمد على وسائل تمكنه من معرفة الشخص الصادر عنه معرفة دقيقة ومميزة ، وتقوم هذه التقنية بوظيفتها عن طريق تحويل المحرر الإلكتروني باستخدام معادلات وحسابات رياضية، من أسلوب الكتابة المفهومة للإنسان إلى معادلة رياضية، يصعب فهمها، ثم يقوم بالدور الثاني والذي يعيد المحرر إلى صيغته الأصلية المفهومة ، كل ذلك يتم عن طريق تقنية التشفير ، بواسطة مفتاحين أحدهما يستعمل لتشفير المحرر من طرف المرسل، والآخر لفكه من طرف المرسل إليه.

وبطبيعة الحال فمسألة فك التشفير والاطلاع على محتوى الوثيقة لا يتعدى إلى إمكانية إدخال تعديلات بالإنقاص أو الزيادة في المحرر فهذه الإمكانية مقصورة فقط على صاحب المفتاح الخاص الذي قام بتشفير المحرر بمعنى أن الوثيقة بعد وضع التوقيع عليها لن يكون بمقدور أحد أن يقوم بتغييرها أو تحريفها، بل أبعد من ذلك أنه لا يمكن التوصل إلى المفتاح الخاص عن طريق المفتاح العام الذي يمكن لأي شخص الاطلاع عليه.

وتعزيزا لنظام الحماية المتوفر في هذا النوع من التوقيعات الإلكترونية، يتم اعتماد تقنية المصادقة أو التوثيق الإلكتروني ، والتي يقوم بها طرف ثالث إلى جانب الأطراف المتعاقدة وبمقتضى القانون، وهي التي تقوم بمنح مفاتيح التشفير، وهي التي تضفي الحجية على المحررات الإلكترونية بصفة عامة.

وهناك طرق أخرى التي اعتبرها البعض توقيعا رقميا رغم عدم توفرها على مقومات ذلك، مثل التوقيع اليدوي المنسوخ حيث يتم نسخ صورة عن التوقيع بخط اليد باستخدام الماسح الضوئي (سكانير) وهذه الوسيلة لا تعتبر توقيعا إلكترونيا بالمفهوم القانوني .

وقد أشار البعض إلى العديد من مميزات التوقيع الرقمي، واعتبره في نفس مرتبة التوقيع العادي أو أكبر من ذلك ومنها:

– أن التوقيع الرقمي يسمح بإبرام الصفقات عن بعد: وبطبيعة الحال هذه الميزة منطقية إذ أن الغرض الأساسي أصلا من وجود المحررات والتواقيع الإلكترونية هو المعاملات والتصرفات التجارية التي تتم عبر العالم وبدون حضور الأطراف بشكل مادي في مجلس العقد، بالشكل الذي يؤدي إلى إبرام التصرفات بسرعة وفي وقت أقل وبضمانات مهمة .

– أن صدور محرر إلكتروني موقع إلكترونيا يعبر على أن هذا المحرر صادر عن المنسوب إليه، ويعبر عن إرادته ، والذي يمكن من معرفة ذلك هو تقنية التشفير التي يعتمد عليها التوقيع الرقمي، والتي تسمح للمتلقي أو مستقبل المحرر الإلكتروني من التحقق من صحة بيانات المحرر ومصدره وسلامته .

ويعاب على التوقيع الرقمي أنه لا يعبر عن شخصية صاحبه كما هو الحال في التوقيع العادي ، أي بعبارة أخرى أن هذا التوقيع وهذا المحرر صادر عن الحاسب الآلي، وليس عن الشخص ذاته، أي صاحب التوقيع، وهذا الانتقاد لا محل له من الصحة لماذا؟ لأن جهاز الحاسوب يخضع لسيطرة صاحبه ولا يعمل لوحده، وبالتالي وكنتيجة منطقية فإن ما يصدر عن الحاسوب يعتبر صادرا عن صاحبه وليس عن الحاسوب .

فالعبرة بمن يتحكم في هذا الجهاز، تماما كما هو الحال بالنسبة للتوقيع بخط اليد، فلا يمكننا القول بأن التوقيع صادر عن القلم، لأن القلم يخضع لسيطرة الشخص الذي يستعمله للتوقيع به.
وبغض النظر عن ذلك تثار مسألة أخرى بالغة الأهمية، وهي هل يمكن اعتبار البطاقة البنكية ورقمها السري توقيعا إلكترونيا؟

بالرجوع إلى الفقه والذي عالج هذه المسألة نجد أنه يذهب في إطار اعتبار هذا الرمز السري توقيعا إلكترونيا، لكن في نظري حقيقة أن ما قلناه حول التوقيع الرقمي وشروطه والمميزات التي يمتاز بها لا تتوفر كلها في هذا الرمز السري والذي يمكن بسهولة كشفه والاطلاع عليه خصوصا وأن أغلب البطاقات رمزها السري لا يتجاوز أربعة أرقام فقط، وكل من استطاع أن يحصل على هذا الرمز يمكنه أن يقوم باستخدام الصراف الآلي لسحب النقود والوفاء الرقمي عبر الانترنت، خصوصا إذا علمنا أن هذه الحالات كثيرة الوقوع باستخدام بطاقات مزورة والاستحواذ على أرقام البطاقات بطريقة أو بأخرى، وبالتالي لا يعتبر الرقم السري للبطاقة البنكية توقيعا رقميا ولا البطاقة نفسها محررا إلكترونيا.

ومهما يكن فالتوقيع الرقمي يعتبر في الوقت الراهن الأكثر إقناعا ، إلا أن المشرع المغربي لم يتعرض لتقنيات التوقيع الإلكتروني وأنواعه ولا حتى المرسوم التطبيقي له لم يتعرض لصور التوقيع، وعلى ما يبدو أنه قصد من ذلك عدم التدخل في المسائل التقنية والتي تبقى حكرا على التقنيين، والاعتماد على الوسائل الجديرة بالحماية والأمان، بعد المصادقة عليها طبعا من قبل جهات التصديق الإلكترونية عن طريق شهادة المطابقة .

المطلب الثاني: القيمة القانونية للتوقيع الإلكتروني

إن التحول من ميدان التوقيع اليدوي إلى ميدان التوقيع الإلكتروني يستوجب الحفاظ على الوظائف الأساسية التي يوفرها الأول، وهذا ما شكل عقبة أساسية منذ البدء في طريق منح القيمة القانونية للتوقيع الإلكتروني في الإثبات، باعتباره يقوم على وسائط غير مادية.
فإذا ميزنا بين وظيفة التوقيع وشكله فسنعطي القيمة القانونية للتوقيع الإلكتروني، أما إذا افترضنا العكس فذلك سيجعلنا ننفي عنه الحجية في الإثبات.

لذلك يكون من اللازم البحث عن التوجه الذي اتخذه المشرع المغربي والتشريعات المقارنة، وهل منحت نفس القيمة القانونية التي يتمتع بها التوقيع العادي للتوقيع الإلكتروني؟، وهل كل توقيع إلكتروني حائز على هذه الحجية؟ وما مداها؟.

كل ذلك سوف يكون موضوع هذا المطلب، حيث سنتناول حجية التوقيع الإلكتروني في الإثبات في (الفقرة الأولى)، ثم مستثنيات الإثبات بالتوقيع الإلكتروني في (الفقرة الثانية).

الفقرة الأولى: حجية التوقيع الإلكتروني في الإثبات

ارتبط مفهوم التوقيع منذ ظهور الكتابة بالتوقيع اليدوي، الذي يتم بخط اليد، ولم يكن مقبولا آنذاك أي توقيع آخر يتم عبر وسيلة أخرى، لكن أمام التطور التكنولوجي والعلمي وتأثر المعاملات التجارية بهذه التطورات، أفرزت طريقة جديدة للتوقيع ألا وهي التوقيع الإلكتروني.
وقد تدخلت معظم التشريعات لإعطاء الحجية القانونية للتوقيع الإلكتروني، وتفاديا لكل خلاف منحت له نفس القيمة التي يتمتع بها التوقيع العادي، إلا أن المشرع المغربي ميز بين نوعين من التوقيع الإلكتروني: توقيع مؤمن وآخر غير مؤمن ، وما ينتج عن ذلك من اختلاف في الحجية.
إعمالا لذلك سوف نتطرق للتوقيع الإلكتروني المؤمن (أولا)، ثم نتحدث عن التوقيع الإلكتروني غير المؤمن (ثانيا).

أولا: التوقيع الإلكتروني المؤمن:

لقد منح المشرع المغربي للوثيقة المذيلة بتوقيع إلكتروني مؤمن درجة عالية من الثقة والأمان، وقوة إثباتية تفوق التوقيع الإلكتروني العادي، وهو الأمر الذي سيضفي الثقة والطمأنينة في نفوس المتعاملين في الميدان الإلكتروني، وبالضبط في المعاملات التجارية، بالنظر لكون هذا التوقيع يضفي الحجية على المحرر الذي يمكنهم من إثبات حقوقهم.
وبالرجوع إلى المادة السادسة من ق.ت.إ.م.ق نجدها تنص على مجموعة من الضوابط التي ينبغي أن يستجيب لها عند التوقيع الإلكتروني لكي يكون مؤمنا، وهذه الشروط هي أن يكون التوقيع خاصا بصاحبه (1)، ثم سيطرته على منظومة التوقيع (2)، وأخيرا أن يضمن ارتباط التوقيع بالوثيقة الإلكترونية (3).

1- أن يكون التوقيع خاصا بصاحبه:

المقصود بهذه الخصوصية أن التوقيع الإلكتروني لكي يصل إلى درجة اعتباره توقيعا مؤمنا، يجب أن يكون عند وضعه في ملك صاحبه، أي أنه هو الوحيد الذي سيتأثر به دون غيره، لأن هذا التوقيع تناط به مهمة كبيرة جدا، ألا وهي الإفصاح عن هوية الموقع وضمان تمامية الوثيقة ، فإذا كان التوقيع الإلكتروني ليس في ملك صاحبه أو أنه بإمكان الغير استعماله، ففي هذه الحالة تنعدم فيه الضوابط القانونية التي تعطي له قيمته القانونية.

ومن بين التشريعات التي أخذت بالتوقيع الإلكتروني المؤمن أو الموثق، نجد قانون إمارة دبي ، والذي اشترط في التوقيع الإلكتروني لكي يكون توقيعا محميا – مؤمنا – أن ينفرد به الشخص الذي استخدمه في الوقت الذي تم فيه، وبخصوص التشريع المصري لم ينص عليه في صلب قانون التوقيع الإلكتروني وإنما ترك ذلك للقرار التنفيذي ، حيث جاء في المادة الثانية من قرار إصدار اللائحة التنفيذية على أن منظومة تكوين بيانات إنشاء التوقيع الإلكتروني يجب أن تكون ذات طابع متفرد حتى تعتبر مؤمنة.

وبالتالي نجد أن هذه التشريعات نصت بصريح العبارة على شرط الخصوصية والذي يؤدي إلى نتائج جد مهمة كما رأينا، وفي هذا الإطار نص قانون التوجيه الأوروبي على ضرورة أن يكون التوقيع الإلكتروني قادرا على تحديد شخصية الموقع، وأن يكون مرتبطا بهذا الأخير وحده .

فيتبين أن التوقيع الإلكتروني المؤمن لا يكتسب هذه الصفة إلا إذا كان بمقدوره أن يعرف بالشخص الصادر عنه التوقيع، أو القائم بالتصرف القانوني بصفة يقينية ، وأن يكون التوقيع مرتبطا بصاحبه وحده دون غيره.

بالإضافة إلى كونه يعبر عن إرادة الموقع وقبوله للالتزامات الناشئة عن الوثيقة الإلكترونية، وهذا ما أشارت إليه جل التشريعات .

2- سيطرة الموقع على منظومة التوقيع:

مضمون هذا الشرط ما نص عليه البند الثاني من الفقرة الأولى من المادة السادسة من ق.ت.إ.م.ق “أن يتم إنشاؤه بوسائل يمكن للموقع الاحتفاظ بها تحت مراقبته الخاصة بصفة حصرية”، ويقصد بهذه الوسائل المعطيات المتمثلة في شكل حروف، أو أرقام، أو رموز، أو إشارات، تتضمن عناصر مميزة، خاصة بصاحب التوقيع ، وقد أورد المشرع المغربي مثالا على هذه العناصر المميزة وهو مفتاح الشفرة الخاصة به والمستخدمة في إنشاء التوقيع الإلكتروني.

بالتالي فإن سيطرة الموقع على منظومة التوقيع تتجلى في حيازته للمفتاح الخاص بالتشفير والاحتفاظ به تحت عهدته ومسؤوليته ، متحملا في ذلك أية مسؤولية عن الاستخدام غير المشروع للتوقيع، إذ أن هذا التوقيع عند صدوره يعتبر صادرا عنه، ولو لم يكن هو الذي أصدره، فعليه عدم الإفصاح عن هذه المفاتيح أو نشرها أو منحها للغير.

3- ضمان ارتباط التوقيع الإلكتروني بالمحرر الإلكتروني:

أي أن الارتباط بين التوقيع الإلكتروني والمحرر الموضوع عليه يجب أن يكون بمقدوره الكشف عن أي تغيير قد يلحق الوثيقة الإلكترونية فيما بعد، أثناء إرسالها أو تبادلها إلكترونيا أو حفظها، وهذه الإمكانية لا تتحقق إلا باستخدام تقنية التشفير، وبشكل أدق التشفير غير التماثلي والمعتمد على مفتاحين، والذي يمكن المرسل إليه من كشف أي تغيير قد يلحق الرسالة أثناء إرسالها جراء أعمال القرصنة، أو من طرف الموقع نفسه إذا ما تم حفظ هذه الوثيقة.

وقد نص على هذا الشرط ق.ت.إ.م.ق ، وفي نفس الاتجاه سارت التشريعات المقارنة .
ويشترط لكي يتمتع التوقيع الإلكتروني بحجيته في الإثبات، أن يكون اتصاله بالوثيقة الإلكترونية مستمرا .
لكن ما يعاب على المشرع المغربي أنه تطرق إلى هذه المسائل في صلب القانون في حين أن هذه الشروط ذات طابع تقني محض، كان عليه أن يتركه للمراسيم التطبيقية، على غرار ما فعله المشرع الفرنسي بهذا الخصوص.

ثانيا: التوقيع الإلكتروني غير المؤمن:

إذا كان المشرع المغربي قد منح حجية قانونية للمحررات الإلكترونية الموقعة بتوقيع إلكتروني مؤمن والمذيلة بتاريخ معين، مثل المحررات المصادق على صحة توقيعها والمذيلة بتاريخ ثابت، فإنه لم يتحدث عن التوقيع الإلكتروني الذي لا تتوفر فيه شروط التوقيع الإلكتروني المؤمن.

حيث نص على وظائفه، بكونه يحدد الشخص الموقع، ويعبر عن التزاماته في الوثيقة، وفرض شرطا واحدا ألا وهو أن على الموقع استعمال وسيلة موثوق بها تضمن ارتباطه بالمحرر.

وهو المقتضى الذي أخذه بشكل حرفي عن المشرع الفرنسي، مثل باقي فصول القانون الجديد، والذي تطرق له في الفقرة الأولى من المادة 4-1316 من القانون المدني.

ولكنه لم يتحدث عن القيمة أو الحجية القانونية التي يتمتع بها في الإثبات، أو بعبارة أخرى هل المحرر الإلكتروني المذيل بتوقيع إلكتروني، تتوفر فيه شروط التوقيع الإلكتروني المؤمن يتمتع بحجية كاملة في الإثبات؟.

هذا الأمر من الخطورة بمكان، لأنه سيفتح المجال أمام مجموعة من الاختلافات والتضاربات حول حجيته، في مجال لا يحتمل أصلا هذا الفراغ التشريعي.

وإن كنا نظن بأن صياغة الفصل 2-417 توحي بأن له حجية كاملة في الإثبات، وما يعزز قولنا هو أن المشرع أورد عبارة ” لإتمام وثيقة قانونية “، مما يوحي بأن هذا التوقيع الهدف منه هو إتمام الوثيقة القانونية لتصبح دليل إثبات معترف به قانونا.

بل أكثر من ذلك جاء في الفقرة الثانية من نفس الفصل وأقر رسمية المحرر الإلكتروني عندما يوضع توقيعه الإلكتروني أمام موثق.
لكن إن كانت له حجية، فما الداعي أصلا لتنصيص المشرع على هذا التمييز؟.

لأن ذلك يدل على نوع من التراتبية بينهما، أعتقد أن ما يحل هذا الإشكال هو ما جاءت به الفقرة الأولى من الفصل 3-417 من ق.ل.ع من حيث افتراض الوثوق في الوسيلة المستعملة في التوقيع الإلكتروني، عندما تمكن من استخدام توقيع إلكتروني مؤمن، لكن ذلك قابل لإثبات العكس.

ويمكننا هنا استعمال مفهوم المخالفة لأن النص يوحي بذلك، فالتوقيع الالكتروني الناتج عن وسيلة معينة لا تتيح الحصول على توقيع إلكتروني مؤمن، ليست محل ثقة، إلا إذا أثبت صاحب التوقيع عكس ذلك، وبغض النظر عن هذا وذاك، هناك من يرى بأن التوقيع الإلكتروني مفضل على التوقيع التقليدي، حيث أن هذا الأخير مجرد فن وليس علم، ومن ثم يسهل تزويره والعبث به، أما التوقيع الإلكتروني فهو علم وليس فن، ويعتمد على برامج معلوماتية متطورة تعمل على حفظه وتحصينه، فهو رهين بحماية مفتاح التشفير وهو على هذا النحو يصعب تزويره، وفي حالة ما إذا تم ذلك، فإنه لا يتم إلا بإتلاف المحرر برمته.

لأن هذا النظام المعتمد يستخدم في عملية التشفير المعطيات التي تحتويها الوثيقة الإلكترونية ذاتها ، وبالتالي ضمان الارتباط التام بينها وبين توقيعها، كشرط أساسي من شروط اعتمادها في الإثبات.

الفقرة الثانية: مستثنيات الإثبات بالمحررات الالكترونية

رغم تنصيص المشرع على أن للمحررات الإلكترونية نفس الحجية القانونية التي تتمتع بها المحررات التقليدية كمبدأ عام، إلا أنه وضع قيودا على هذا المبدأ باستثنائه بعض المعاملات التي لا يجوز إثباتها إلكترونيا، نظرا للعديد من الاعتبارات التي لم يشر لها المشرع ولكن الفقه تصدى لها.
وقد اختلفت التشريعات المقارنة في إقرار هذه الاستثناءات بين مضيق وموسع، وسوف نركز على الاستثناءات التي اتفقت حولها جل التشريعات ومن ضمنها التشريع المغربي .

لذلك سوف نتعرض للاستثناء المتعلق بميدان مدونة الأسرة (أولا)، ثم نتطرق لاستثناء المحررات العرفية المتعلقة بالضمانات الشخصية والعينية (ثانيا).

أولا: الاستثناء المتعلق بميدان مدونة الأسرة:

نظرا لما تتمتع به التصرفات المرتبطة بالميدان الأسري من أهمية، وارتباطها بمبادئ الشريعة الإسلامية والفقه الإسلامي، واشتراط حضور المتعاقدين لتبادل الإيجاب والقبول ، خصوصا فيما يتعلق بالزواج، وهذا ما نصت عليه المادة 11 من مدونة الأسرة ، التي اشترطت في الإيجاب والقبول التطابق وضرورة وقوعه في مجلس واحد، فهي بالتالي من النظام العام ، ولا يجوز مخالفتها.

وقد اختلف الفقه حول مدى إمكانية اعتبار الحضور في مجلس العقد الإلكتروني، حضورا بالمعنى القانوني، فمجلس العقد ينقسم إلى قسمين: حقيقي وحكمي، فالأول يعني حضور المتعاقدين في مكان واحد، والثاني يعني عدم حضور أحد الأطراف في مكان واحد كما هو الحال في التعاقد عبر الانترنت.

ويتضح أن كلا النوعين لا يتجاوبان مع مقتضى الفصل، فهو يبقى تعاقدا بين غائبين وإن كان مكانيا فقط،إلا إذا تدخل المشرع وعدل من مفهوم الحضور في مجلس العقد ليستوعب التقنيات الحديثة التي جعلت الحضور يتم زمانا ومكانا في بيئة افتراضية غير مادية، وهذا أمر مستبعد خصوصا في ميدان المعاملات الأسرية.

فالقضايا المتعلقة بالزواج والطلاق والهبة والوصية والميراث والنسب، وغيرها مما يدخل ضمن مدونة الأسرة الأحوال الشخصية، لا يمكن إبرامها إلكترونيا ولا يمكن قبول المحررات والتوقيع الإلكترونيين في إثبات مثل هذه التصرفات ولو كانت مستجمعة لكافة الشروط المتطلبة قانونا لصحتها، لأن المشرع عندما يشترط شكلا معينا لانعقاد التصرف القانوني فنفس الشكل يصبح متطلبا للإثبات .

وهذا ما ذهب إليه مجمع الفقه الإسلامي بخصوص إجراء العقود عبر وسائل الاتصال الحديثة عندما استثنى من ذلك مسائل الزواج لاشتراط الإشهاد فيه .

وقد سارت مجموعة من التشريعات على نفس النهج واستثنت مسائل الأحوال الشخصية من ميدان المحررات الإلكترونية والتوقيع الإلكتروني.
يرى أحد الفقهاء بأن المشرع في هذه الاستثناءات وضع في الحسبان أنه لا علاقة لهذه التصرفات بميدان المعاملات التجارية الإلكترونية، وإنما هي معاملات وتصرفات شخصية ومدنية، بصفة محددة تخرج عن نطاق المعاملات التجارية نظرا لخطورتها من الناحية الشرعية، فهي تحتاج إلى توثيق بالطرق التقليدية، ولا مانع من ذلك لكون هذه المعاملات تمس جانبا اجتماعيا ودينيا، ولأهميتها وخطورتها وعدم تصور قيامها عن بعد .

رغم أن جواز التعاقد في هذه المسائل قد تكون له أهمية قصوى عندما يتعذر الأطراف الحضور في مكان واحد، خصوصا وأن وسائل الاتصال الحديثة تطورت إلى الحد الذي يمكن سماع ورؤية الطرف الآخر المتعاقد معه مباشرة وكأنهما في مجلس مكاني وزماني واحد، وحتى مسألة الإشهاد يمكن القيام بها عبر هذه الوسائل.

ثانيا: المحررات العرفية المتعلقة بالضمانات الشخصية أو العينية ذات الطابع المدني أو التجاري

نظرا لكون هذه التعاملات المرتبطة بالضمانات الشخصية أو العينية المدنية أو التجارية، تتسم بنوع من الخطورة والأهمية، كالحقوق الواردة على العقار بصفة عامة أو كونها تصرفات شخصية أو مدنية محضة، كالمستندات المنشأة أو الناقلة لحقوق الملكية العقارية والكفالة ، فإن المشرع استثنى المحررات العرفية المتعلقة بها من ميدان الإثبات بالمحررات الإلكترونية، ويرى أحد الباحثين أن هذا الاستثناء جاء حماية للطرف الضعيف في العقد، عندما يكون شخصا عاديا، أما إذا لم يكن كذلك فهذا الاستثناء لا يكون له أي مغزى وأي دور.

ومادام المشرع المغربي قد استثنى المحررات العرفية فقط من مجال الإثبات في هذه المعاملات، فإن المحررات الرسمية الإلكترونية تكون لها حجية كاملة في إثباتها، ولعل ذلك جاء نتيجة القوة الإثباتية التي تتمتع بها المحررات الرسمية حيث لا يتم الطعن فيها إلا بالزور.

يلاحظ بالتالي أنه كان مضيقا من حيث الاستثناءات التي أشار إليها، ولم يستثن التبليغات و الأحكام القضائية أو القرارات الصادرة عن المحاكم، ولوائح الدعوى، أو بعبارة أخرى كل ما يتعلق بالميدان القضائي، عكس ما فعلته بعض التشريعات المقارنة كالتشريع الأردني، والذي استثناها بنص صريح ، ولعل هذا الأمر سيجعله مستقبلا يعتمد هذه الوسائل الحديثة في الميدان القضائي خصوصا فيما يتعلق بالتبليغ الذي يعتبر من أبرز معرقلات النظر في القضايا المعروضة على المحاكم.

لكن ذلك لن يكون بالمستطاع إلا بإنشاء بنية تحتية ملائمة، بمواءمة التشريعات المتعلقة بهذا المجال مع التقنيات الحديثة، ونشر الثقافة المعلوماتية لدى الأجهزة القضائية وبين المواطنين ، رغم أن هذا الأمر لا زال مستبعدا جدا في الواقع المغربي الحالي.

بعد ذلك يبقى أن نشير إلى مكانة الحقوق العينية في ظل التقنيات الحديثة في التعاقد، حيث يعتبر حق الملكية في مقدمتها والتي اعترفت بها مختلف الشرائع للإنسان ، وعرفه الفصل التاسع من ظهير 19 رجب1333 بكون” الملكية العقارية هي حق التمتع والتصرف في عقار بطبيعته أو بالتخصيص على أن لا يستعمل هذا الحق استعمالا تمنعه القوانين أو الأنظمة”، فنجد أن المشرع المغربي علق تطبيق مقتضيات ق.ت.إ.م.ق عليها بصدور مرسوم ، لاتخاذ الإجراءات القانونية لإحاطة العقد الإلكتروني في هذا المجال بكافة الضمانات التي تحمي الملكية العقارية مع مراعاة مقتضيات ظهير 12-08-1913 المتعلق بالتحفيظ العقاري ، رغم أن هذا الأمر مجال مهم من مجالات التشريع يجب أن يصدر به قانون ينظمه وليس مرسوم، خصوصا أن هناك مشروع لمدونة الحقوق العينية .

والذي يشترط شكليات خاصة للتعامل في إطار هذه الحقوق فنجد مثلا الفصل 65 يقضي بوجوب تسجيل جميع الأعمال والتصرفات التي يكون موضوعها حق عيني معين.

لذلك يتبين أن تطبيق مقتضيات القانون الجديد غير ممكن في الوضعية الحالية، إعمالا للنصوص القانونية القائمة والمنظمة للميدان العقاري خصوصا العقارات المحفظة، لأنها لا تستجيب ولا تستوعب التقنيات الحديثة في التعاقد والإثبات، لذلك على المشرع المغربي الإسراع في وضع حل لهذه الإشكالية لأن التعامل في الميدان العقاري من أبرز المعاملات التي تتم حاليا، ونتمنى أن يأخذ بعين الاعتبار هذه المسائل عند إصدار مدونة للحقوق العينية، تستجيب لتطلعات المتدخلين في الميدان العقاري.

وفي اعتقادي لا يقف الأمر عند وضع مرسوم ليساير المقتضيات القائمة في قانون التحفيظ العقاري، وإنما يجب تعديل هذا الأخير ليساير هذه التطورات الحديثة، لأنه إذا بقي على حالته الحالية سيكون من الصعوبة بمكان أن يستوعبها.

ليس ذلك وحسب، بل يجب العمل بالتقنيات الحديثة في المحافظات العقارية، بالشكل الذي يجعلها تقوم بوظيفتها وفق التوجه الحديث في ميدان المعاملات، الذي أصبح ينتقل تدريجيا من العالم الورقي إلى العالم الإلكتروني.

ولا يقف الأمر عند هذا الحد بل يجب أن تستجيب القوانين العقارية الأخرى المتعلقة ببيع العقار في طور الإنجاز ، وقانون الإيجار المفضي إلى تملك العقار ، وقانون الملكية المشتركة للعقارات المبنية ، لمتطلبات القانون الجديد لكي يتسنى التعامل في ظل هذه القوانين بالوسائل الحديثة، وهذا لن يتأتى إلا بتدخل المشرع لتعديلها.

إغلاق