دراسات قانونية
التقادم الجنائي وضرورات العدالة الجنائية (بحث قانوني)
التقادم الجنائي و ضرورات العدالة الجنائية
جامعة محمد الخامس – السويسي-
كلية العلوم القانونية و الاقتصادية و الاجتماعية بسلا
الماستر المتخصص
العلوم و المهن الجنائية
الفوج الأول
رسالة لنيل شهادة الماستر المتخصص في
“العلوم و المهن الجنائية”
تحت عنوان:
إعداد الطالب الباحث:
يوسف الشوفاني
تحت إشراف الأستاذ:
عبد الحكيم الحكماوي
لجنة المناقشة:
الأستاذ إدريس السفياني …………………………………………………. رئيسا
الأستاذ عبد الحكيم الحكماوي…………………………………………….. مشرفا
الأستاذ(ة)نوال بلفقير……………………………………………………. عضوة
السنة الجامعية: 2011-2012
التقادم الجنائي و ضرورات العدالة الجنائية
تقديـــــــم:
إن موضوع التقادم من الموضوعات الهامة في قانون المسطرة الجنائية، وذلك لما تستتبعه دراسته من التصدي للعديد من المشكلات الفقهية والعملية، وما يثيره من تساؤلات يحرص الفقه علي إيجاد حلول قاطعة لها، ناهيك عن تشعب عناصر البحث وتعدد موضوعاته و تلازمه الدائم بنظام العدالة الجنائية.
وتبدو أهمية هذا الموضوع واضحة جلية لتحقيق توازن بين أمرين هما: حق المجني عليه في ملاحقة الجاني لما ارتكبه من جرم، وذلك تحقيقاً لأهداف العقوبة، إذ ليس من العدالة أن يفلت مجرم من عقاب، والثاني: حق المتهم في سرعة حسم إجراءات الدعوى والبت فيها خلال فترة زمنية معينة تحقيقاً للعدالة، وحتى لا يصبح الاتهام سيفاً مسلطاً علي رقبته طيلة حياته.
وقد أصبح نظام التقادم الجنائي من الأنظمة المعترف بها في السياسة الجنائية الحديثة، ليقرر تغلب المصلحة في إنهاء النزاع- تحقيقاً للاستقرار القانوني- علي العدالة، وقد بدأ ذلك في صورتين: الأولي قبل صدور حكم بات في الدعوى، وفي هذه الحالة يؤثر مضي المدة في إنهاء الدعوى الجنائية تبعاً لانقضاء سلطة العقاب، والثانية بعد صدور حكم بات، وفي هذه الحالة يؤثر مضي المدة في إنهاء سلطة الدولة في تنفيذ العقاب .
و الهدف من تبني نظام التقادم الجنائي، استتباب الأمن – كما تدعي بعض الاتجاهات التي سنراها فيما بعد – و ضمان استقرار المصالح تحقيقا لغايات العدالة الجنائية.
بالإضافة لما سبق فموضوع التقادم في المادة الجنائية من أهم الموضوعات التي كثيراً ما يتناولها الفقه، ويعرض لها القضاء في أحكامه، لما له من انعكاسات عديدة في المجالين الموضوعي و المسطري، وهو موضوع متعدد الزوايا وتختلف زواياه باختلاف النظرة التي نرى من خلالها، فتارة يتعلق بالدعوى الجنائية و تارة أخرى يتعلق بالعقوبة المحكوم بها.
من اجل ذلك، ارتأينا أن نتناول كلا من مؤسسة التقادم الجنائي تأصيلا و تفصيلا، و ربطها بنظام العدالة الجنائية و ضروراته، بيد أن التوجهات التشريعية الراهنة، أصبحت تعترف بنظام التقادم كضرورة لا غنى عنها في تحقيق العدالة الجنائية. و سنحاول بالقدر المستطاع معالجة إشكالنا المطروح والذي حددناه في التساؤل الأتي:
” هل من تأثير لنظام التقادم الجنائي على تحقيق العدالة الجنائية؟ “
في خضم معالجة إشكال هذه الرسالة، سنتعرض لموضوع التقادم في المسائل الجنائية وحسب، دون الخوض في المسائل المدنية أو غيرها، و نحن نعالج موضوع التقادم سنتناول الجانب المتعلق بالتطور التاريخي لنظام التقادم الجنائي، كيف نشأ، وكيف تطور من فكرة بدائية إلى مؤسسة لها أحكامها و قواعدها. كذلك سنحاول الإجابة عن مجموعة من الفرضيات، من خلال التطرق إلى أحكام نظام التقادم الجنائي على ضوء ما جاد به الفقه و ما أتى به العمل القضائي المغربي، حيث سنجيب عن مدى تأثير هذا النظام على العدالة الجنائية، و كيف أن ضرورات هذا النوع من العدالة ساهمت في بلورة نظام التقادم الجنائي.
و عليه سيأتي تصميم الموضوع على الشكل الآتي:
فصل أول: التطور الزمني لنظام التقادم الجنائي و القواعد المؤسسة له
فصل ثاني: مدى فعالية أحكام التقادم في تحقيق العدالة الجنائية على ضوء التشريع و العمل القضائي
الفصل الأول: التطور الزمني لنظام التقادم الجنائي و القواعد المؤسسة له
مر نظام التقادم الجنائي بعدة متغيرات قبل أن تتأسس قواعده، و يرتبط ارتباطا وثيقا بفكرة العدالة الجنائية، و سنمهد في هذا الفصل بإعطاء صورة واضحة عن تاريخ هذا النظام تعكس لنا تطوره و نشأته، لنطل من خلالها على ماضيه، و المراحل التي مر بها، حتى نقف على حقيقة ما وصل إليه حاليا، و ما أصبح يحتله من مكانة عالية ضمن منظومة العدالة الجنائية.
من اجل ذلك، سنقوم أولا بسرد مجمل التطورات التي مر بها نظام التقادم عبر الأنظمة القديمة، على أن نتطرق في وقت لاحق إلى القواعد المؤسسة له، قبل أن يصل إلى ما هو عليه الآن.
الفرع الأول: التطور الزمني لنظام التقادم الجنائي
سنعرض في هذا الفرع أهم المحطات الزمنية التي مر بها نظام التقادم الجنائي، و كيف ارتقى هذا الأخير من فكرة معزولة عن العدالة، إلى نظام لصيق بها.
المبحث الأول: التقادم الجنائي في الأنظمة القديمة
نتناول في هذا الفرع التقادم الجنائي عند الفراعنة، ثم نبين التقادم عند الرومان، ثم نوضح التقادم عند الشعوب الجرمانية، و كذا في العصر الإقطاعي، و في العصر الكنسي.
المطلب الأول:ظهور ملامح التقادم الجنائي عند الفراعنة وقواعده البدائية لدى الرومان
كانت الأنظمة القانونية البدائية في عصر ما قبل التاريخ جلها متشابهة، و كانت في مجملها مرتبطة بأفكار دينية، فالتشريع آنذاك كان يوضع باسم الآلهة، و كان مفهوم العدالة هو أن لا يخرج المرء عما رسمه كهنة الحاكم من توجيهات، و هي طريقة كانت تستعمل كخدعة لضمان استمرار الحكم و السلطان. و لم تكن لفكرة العدالة الجنائية بمعناها الحالي كذلك أي مكانة أو معنى فلسفي دقيق، حتى أن فكرتي الأمن و الاستقرار كانتا مرتبطتين بمصلحة الحاكم و حاشيته.
و لتشابه تكوين الأنظمة القديمة، سنأخذ النظام الفرعوني نموذجا في دراستنا باعتبار أن الدولة الفرعونية هي من أقدم الحضارات و أعرقها. بعد ذلك سنتحدث عن التقادم الجنائي عند الرومان بيد أن أول من وضع اللبنات الأولى لهذا النظام هم الرومان، و بيد أن أولى الأفكار المؤسسة لفكرة العدالة الجنائية انتمت لفلاسفة الإمبراطورية الرومانية.
الفقرة الأولى: التقادم الجنائي في النظام الفرعوني
إن مصادر القانون الجنائي الفرعوني لا تكفي للوقوف على الأخذ بنظام التقادم من عدمه في تلك الحقبة من الزمن، حيث لا يمكن الوصول إلى معلومات مباشرة عن موضوع التقادم الجنائي أو غيره من مواضيع القانون الجنائي. إلا انه عن طريق الثوابت و الشواهد التاريخية يمكن أن نستخلص بعض الاجتهادات ذات الدلالة الواضحة حول هذا الموضوع .
ففي نطاق الدعوى الجنائية، فالثابت تاريخيا أن وفاة المتهم لم تكن لتحول دون اتخاذ أي إجراء من إجراءات الدعوى الجنائية، و لم تكن سببا من أسباب انقضاء الدعوى الجنائية في مواجهة المتهم .
و من هذا الأثر التاريخي، يمكن القول بأن العدالة الجنائية في عصر الفراعنة لا تتلاءم و فكرة التقادم الجنائي الحالية، و إلا كان موت المتهم كافيا لانقضاء الدعوى الجنائية لهذا السبب
و ما يبرر موقف النظام الفرعوني في هذا الموضوع هو اندماج التفكير الديني و الدنيوي في العقلية القانونية آنذاك، باعتبار أن الإنسان إذا ما ارتكب جريمة معينة، فيجب أن يحاكم عنها جنائيا، مهما مضى عليها من الوقت و أيا كان سبب الوفاة. حتى ينال عقابه تحقيقا للعدالة .
فالملاحظ أن العديد من الوقائع الجنائية الواردة في الآثار و الشواهد التاريخية الفرعونية في شان رفع الدعوى الجنائية، كانت تتصل بدعاوى يرفعها العبيد في مواجهة اضطهاد سادتهم لهم جراء جرائم اقترفها هؤلاء ضدهم. مما يعني أن جرائم التعذيب هذه – ولو بعد موت المتهم – لا تنقضي بها الدعوى الجنائية بالتقادم، لآن غالبية الجرائم التي يرتكبها السادة ضد عبيدهم هي من هذه النوعية. و بذلك كانت محاكمة المتوفى و إن لم تكن محاكمة جنائية على النحو المتعارف عليه حاليا، إلا أنها في الوسط الديني الفرعوني المسيطر على حياة قدماء المصريين كانت تمثل محاكمة أخروية تحقيقا للعدالة الأخروية الرادعة.
و لهذا كانت الدعوى الجنائية بمثابة دعوى عامة ضد الأموات، و كان عدم دفن المتوفى في المقابر يعد عقابا شرعيا تكفيريا .
فهذه فلسفة القانون الجنائي الفرعوني في تقادم الدعوى الجنائية، و التي نخلص منها إلى أن النظام الفرعوني و إن لم يكن قد تبنى التقادم الجنائي في صورته الحالية، إلا أن هناك من الشواهد ما يدل على رفض تقادم بعض الجرائم و عدم انقضائها بمضي المدة، كجرائم تعذيب العبيد التي كانت ترفع منهم ضد سادتهم بعد موتهم.
مما يعني بمفهوم المخالفة أن النظام الفرعوني قد جعل هذه الجرائم غير قابلة للانقضاء بالتقادم تحقيقا للعدالة الأخروية الزاجرة.
الفقرة الثانية: نظام التقادم الجنائي لدى الرومان
نشأ نظام التقادم الجنائي -على نحو يقترب مما عليه الآن- كأول مرة في أحضان الشريعة الرومانية، و ذلك في عهد الإمبراطور “قسطنطين”، حيث كانت تسقط الديون في عهده، بتقادم العهد على عدم المطالبة بالوفاء بها. و من تم تسقط الجريمة، باعتبارها من قبيل الدين في ذمة الجاني، و يسقط بالتراضي الحق في إقامة الدعوى الجنائية بعد مضي فترة من الزمن تتناسب و جسامة كل جريمة . و بعد فترة من الاجتهاد، انتهى العرف القضائي إلى تحديد ميعاد ثابت ينهي خلاله المدعي نشاطه الإجرائي، وقد تحدد هذا الميعاد بسنة واحدة، ثم تحدد بعد ذلك بسنتين في عهد الإمبراطور ” جوستنيان “. و كانت الفكرة من تقرير مبدأ انقضاء الدعوى الجنائية، أنها بمثابة رد فعل ، و أثر ايجابي لإهمال الادعاء و تقاعسه عن أداء مهمته .
و بعد مرور حقبة من الزمن، وضع القانون الروماني قاعدة عامة مفادها انقضاء الدعوى الجنائية بمرور عشرين سنة بالنسبة لأغلب الجرائم، إلا انه تخللت هذه القاعدة بعض الاستثناءات لدعاوى تتقادم بمرور خمس سنوات، وأخرى لا يشملها التقادم بحيث يبقى مرتكبها عرضة للملاحقة الجنائية مهما طال الزمن على ارتكابها. فاستبعدت بذلك بعض الجرائم من نظام التقادم و اختصرت مدة التقادم بالنسبة للنوع الأخر منها .
و لعل من ابرز الجرائم التي لا تقبل التقادم جريمة قتل الأب ، و استبدال مولود بآخر . أما الجرائم ذات التقادم القصير فمثالها جريمة الزنا و التي ورد ذكرها في قانون جوليا الخاص بالزناة ، و جريمة اختلاس الأموال الأميرية، حيث كانت مدة التقادم في كليهما خمس سنوات .
كما كانت بعض الجرائم البسيطة كجريمة السب تنقضي بمضي سنة واحدة، إذا حصل السب بالقول، و بمرور عشرين سنة إذا وقع السب كتابة . أما بدأ سريان التقادم فقد كان من اليوم الذي وقعت فيه الجريمة، و ليس من تاريخ آخر. و لم يرد في القانون الروماني ما يدل على إطالة مدة التقادم لآي سبب كان، كأسباب انقطاع التقادم أو وقفه .
و كان الرومان يعتبرون التقادم، تقنية خاصة وضعت لمصلحة المتهم، فان لم يتمسك به صاحب الشأن، لم يجز للمحكمة أن تثيره من تلقاء نفسها، وبذلك لم يكن التقادم دفعا متعلقا بالنظام العام. ومرد ذلك أن سلطة البريتور كانت مقصورة على مجرد التثبت من توافر صفة الجريمة في الدعوى المعروضة عليه و الواقعة ضمن اختصاصه ، ثم البث فيما يطرح عليه من دفوع بعد القبول . من هنا أمكننا القول بأن الوصلات الأولى التي بدأت بربط نظام التقادم بفكرة العدالة الجنائية، انبثقت من رحم النظام الروماني، و أن التقادم الجنائي من خلال ما سبق كان يحقق شيئا ما من العدالة الجنائية بشكل عام.
المطلب الثاني: تأثر التقادم الجنائي بالتعاليم الرومانية و العقيدة الكنسية
ترك التشريع الروماني أثرا كبيرا على أعراف الحضارات اللاحقة، فالعديد من الشعوب تبنت في أعرافها ما أتى به الرومان من أحكام تعلقت بالتقادم الجنائي، إلا أن في حقبة من التاريخ و بعد وضع الكنيسة يدها على زمام الأمور، أصبح القانون ذا طابع عقائدي يتعلق في مجمله بالتعاليم الدينية، و في هذا الإطار سنتناول تأثير القانون الروماني على أعراف الشعوب الأوروبية، بعدها سنتحدث عن النظام الكنسي و دوره في بلورة أحكام التقادم الجنائي.
الفقرة الأولى: التقادم الجنائي عند الشعوب الجرمانية و الأنظمة الإقطاعية
في هذه الفقرة سنتناول الحديث عن كل من الشعوب الجرمانية و النظام الإقطاعي وكيف نظرتا إلى العدالة الجنائية من خلال أحكام التقادم الجنائي المتبنى من رحم الشريعة الرومانية.
أ- التقادم الجنائي عند الشعوب الجرمانية
جاءت تشريعات الشعوب البربرية التي غزت بلاد الغال ، في القرن الخامس بعد الميلاد خالية من تنظيم التقادم في المواضيع الجنائية . و بعد انقضاء الغزوات البربرية لفرنسا تم تطبيق الأعراف المنبثقة عن القانون الروماني في الأقاليم الفرنسية، إلا أن هذه الأعراف ظلت متأثرة بالأعراف البربرية .
و قد ذهب جانب من الفقه، إلى أن التقادم الجنائي قد ورد ذكره في القوانين التي سنها ملوك فرنسا من السلالتين الأولى و الثانية، إلا أن تطبيقه كان يحكمه الانتقام الخاص، و التفسيرات الشخصية، بل و قد يكون ذلك عرضا أو صدفة ، و هذا في حقيقة الأمر يتنافى و مقاصد العدالة الجنائية في تلك الحقبة.
و قد اخذ تشريع الغوطيين Wisigothsبنظام التقادم الجنائي في اغلب الجرائم، حيث كان ينص على أن من خطف أنثى بكرا أو أرملة، و سواء تزوج بها بعد أم لا، تعذرت ملاحقته أو محاكمته بعد مضي ثلاثين سنة . إلى جانب هذا التشريع كان هناك منشور ” تيودريك Théodric ” و الذي يقرر بأن الخطف كان يتقادم بمرور خمس سنوات .
ب- التقادم الجنائي في النظام الإقطاعي
كان النظام الإقطاعي في القرنين الحادي عشر و الثاني عشر بعد الميلاد، لا يعرف قاعدة محددة تنظم مسائل التقادم الجنائي، حيث تميز ذلك العصر بالخلط و الفوضى التشريعية، و كانت المصلحة هي أساس الحكم، فحلت العادات محل التشريعات، و ترك لكل مقاطعة أمر تنظيم التقادم وفقا للأعراف و طبقا للتقاليد الخاصة بها، باعتبارها حكومة قائمة بذاتها لها تشريعاتها و أعرافها و عاداتها. و بات من غير اليسير في ظل هذا النظام أن توجد قواعد عامة تنظم القانون الجنائي بصفة عامة. أو قواعد محددة تنظم التقادم الجنائي بصفة خاصة .إلا انه في النظام الإقطاعي الذي ظهر في الشرق بعد الحروب الصليبية، عرف نوع من التقادم تنقضي به الدعوى الجنائية في القتل بمضي سنة واحدة و يوم .
ثم جاء تشريع ” سان لوي ” الإقطاعي في الجزء الثاني من القرن الثاني عشر – فيما يتعلق بأملاكه الخاصة– دون الإشارة إلى التقادم في المواضيع الجنائية. و هذا لا يعني عدم معرفة التقادم في ذلك الحين و إنما أريد بذلك التشريع المكتوب أن يترك لكل عرف تنظيم التقادم وفقا للتقاليد و العادات السائدة.
بعد سنة 1242 تطورت شيئا ما فكرة العدالة الجنائية، حيث جاء ميثاق Aigues Morts، و أخذ بمبدأ التقادم الجنائي، و حدد مدته بعشر سنوات لأغلب الجرائم – بيد أن تلك العشر سنوات كافية لتناسي المجتمع لفاجعة القتل- باستثناء جريمة السب التي كانت تتقادم فيها الدعوى الجنائية بمضي سنة واحدة .
و إلى جانب نظام تقادم الدعوى الجنائية، عرف نظام آخر أطلق عليه نظام السقوط استهدف حث القضاء على البت في الدعوى الجنائية خلال سنة واحدة من تاريخ رفعها، ما لم تستأنف أحكامها، و في هذه الحالة يسقط الاستئناف بعد ستة شهور من إجرائه، و لا يجوز تجديده .
و في القرن الثالث عشر اتسعت السلطة الملكية، و حاربت الاغتصاب الإقطاعي و أضفت على التشريع صبغة موحدة. كما ادخل الفقهاء على الأعراف السائدة تعاليم القانون الروماني التي كان لها عظيم الأثر على القانون الجنائي بالذات، و كان من الطبيعي أن ينعكس هذا التأثير على تنظيم التقادم الجنائي .
الفقرة الثانية: التقادم الجنائي في النظام الكنسي
كان لتعاليم الكنيسة التي كانت تعتمد على الإيمان أكثر من اعتمادها على القهر و التسلط، الأثر الكبير في القانون الجنائي، و ذلك عندما امتد سلطانها الروحي على الشعوب الأوروبية بهدف تهذيب أخلاقها و صقل عاداتها الاجتماعية، إذ كان يسود شعوب أوروبا تشريعان مستقلان هما القانون الكنسي و القانون الإقطاعي .
و قد تلقفت الكنيسة في العصور الوسطى الكثير من قواعد القانون الروماني، و من بين هذه القواعد القانونية، قواعد التقادم الجنائي .
و بذلك يكون التشريع الكنسي قد استمد أحكام التقادم الجنائي من التشريع الروماني ، و كانت قواعده لا تقبل التقادم القصير، لأنه وضع قاعدة عامة مناطها انقضاء الدعوى الجنائية بمرور عشرين سنة في جميع الجرائم باستثناء جريمتي الاعتداء على الملك و المبارزة فلم تكونا مشمولتين بأحكام التقادم ، و هذا راجع إلى الأهمية السياسية التي كان يتحلى بها الملك في تلك الحقبة و إلى أن العدالة الجنائية كان لها طابع خاص تنطبق على أفراد المجتمع أكثر مما تنطبق على العائلات الملكية.
المبحث الثاني:نظام التقادم الجنائي بين النظامين اللاتيني و الانجلوسكسوني
في هذا المقام سنحاول الحديث عن مدى إسهام النظرة المتقدمة لفكرة العدالة الجنائية في بلورة قواعد التقادم الجنائي و التوسيع من نطاقه. و سنجعل من النظام القانوني اللاتيني موضوعا لحديثنا فيما يتعلق بأحكام التقادم الجنائي، كما سنتحدث كيف أن اختلاف نظرة النظام الانجلوسكسوني لفكرة العدالة الجنائية أدت إلى عدم الأخذ بمؤسسة التقادم.
المطلب الأول: نظام التقادم الجنائي في النظام القانوني اللاتيني
يعتبر النظام القانوني اللاتيني من أهم الأنظمة التي تبنت نظام التقادم الجنائي و حرصت على بلورته مع فكرة العدالة الجنائية. و عليه سوف نتولى الحديث عن أحكام التقادم الجنائي اخذين بذلك القانون الفرنسي نموذجا لدراستنا.
الفقرة الأولى: التقادم الجنائي في القانون الفرنسي القديم
اخذ المشرع الفرنسي القديم، و هو تشريع ما قبل الثورة الفرنسية سنة 1783 بمبادئ القانون الروماني، إلا انه ادخل عليها بعض التغيير و وسع من نطاق التقادم بان جعل اغلب الجرائم الخطيرة – و التي استثناها التشريع الروماني – مشمولة بأحكام التقادم. و من هذه الجرائم قتل الأب، الأخ، السرقة الواقعة على الطريق العام، الحريق، التزوير، القتل، و تغيير المولود، و كانت مدة التقادم كقاعدة عامة عشرين سنة .
و ذهب جانب من فقهاء القانون الجنائي إلى أن جرائم قتل الأب، الإجهاض، القتل، و الردة “الكفر”، و تزييف النقود، الغدر، تغيير المولود، كانت لا تقبل التقادم. إلا أن هذا الرأي لم يحظى بالقبول و كانت هذه الجرائم كغيرها خاضعة لأحكام التقادم و مدته عشرون سنة .
وقد احتفظ القانون الفرنسي القديم بالتقادم القصير و وسع من نطاقه نسبيا، و عرف نوع جديد من التقادم ألا و هو التقادم الخمسي للدعوى الجنائية. وطبق هذا النظام على الدعاوى الخاصة بجرائم اختلاس الأموال الأميرية. و زنا غير المحارم من النساء. إلا أن هذا الرأي لم يؤخذ به بالنسبة للجريمة الأولى نظرا لخطورتها فكانت تتقادم بمرور عشرين سنة . أما الجريمة الثانية فبقيت خاضعة للتقادم القصير الخمسي .
و إلى جانب هذا النوع من التقادم الخمسي، عرف نظام آخر هو التقادم الحولي. أي تقادم الدعوى الجنائية بمضي سنة واحدة، كما هو الحال في جريمة السب إذا وقع بالقول .
و قد أفسح النظام السياسي في فرنسا قبل الثورة المجال لبعض الأعرف المحلية على الرغم من تبنيه مبدأ التقادم، فأثر العرف السائد في بعض المقاطعات الفرنسية في مدة تقادم الدعوى الجنائية العادي. من ذلك قانون Hainaut الذي اخضع جرائم الجنح و الجنايات البسيطة لتقادم مدته عشر سنوات. أما الجنايات الجسيمة فكانت تخضع لتقادم مدته أحدى و عشرون سنة .
و بالنسبة لوقف التقادم لم يعرف القانون الفرنسي القديم أسباب وقف التقادم الجنائي. فحتى العوائق المادية و إن كان مصدرها القوة القاهرة لا تحول دون سريان التقادم حيث كان يسري أوقات الاضطرابات و العدوان . كما كان يحتسب في مواجهة البالغين و القصر على حد سواء .
أما انقطاع التقادم، فان القانون القديم ما كان يقبل الانقطاع إلا في حالات ضئيلة، حيث لم تكن إجراءات التحقيق أو المحاكمة ذات اثر في قطع التقادم . فنجد الأحكام الحضورية التي لم تنفذ على المحكوم عليه بسبب هربه، كانت تخضع لمدة تقادم أطول من التقادم العادي، و هي ثلاثون سنة تبدأ من يوم صدور الحكم الحضوري .
أما الأحكام الغيابية فالقاعدة العامة فيها أنها لا تقطع التقادم ما لم يتم تنفيذها أو استئنافها خلال مدة التقادم العادي و هي عشرون سنة، نظرا لأنها إجراءات عادية لا تجدي في قطع التقادم. أما تنفيذها جزئيا فانه يطيل مدة التقادم إلى ثلاثين سنة، إلا أن ذلك لا يعد سببا قاطعا لتقادم الدعوى الجنائية بالمعنى الصحيح، و إنما قاصر على العقوبة وحدها .
الفقرة الثانية: التقادم الجنائي في القانون الفرنسي الحديث:
في الحديث عن التقادم الجنائي بالقانون الفرنسي الحديث سنتطرق الى كل من قانون 1791 و قانون السنة الرابعة من الثورة.
أ- قانون سنة 1791:
بعد سنتين من اندلاع الثورة الكبرى، التي أطاحت بالنظام الملكي، و حاربت الاستخفاف بسلطة القاضي، صدر قانون 25 شتنبر و 6 أكتوبر لعام 1791 الذي نظم قواعد التقادم في الباب السادس منه على أسس أكثر منطقية و انسجاما مع مبادئ العدالة الجنائية، إذ حوى لأول مرة مجموعة متكاملة من القواعد التي تنظم التقادم الجنائي .
فجعل جميع الجرائم خاضعة للتقادم الجنائي دون استثناء، و قصر مدة التقادم لحد كبير، فأصبحت ثلاث سنوات إذا لم يتخذ أي إجراء في الدعوى خلال هذه المدة. و ست سنوات فيما إذا اتخذ إجراء في الدعوى أثناء مدة الثلاث سنوات التي تنقضي بها الدعوى الجنائية .
كما ادخل هذا القانون معيارا جديدا فيما يتعلق بسريان مدة التقادم، مضمونه أن التقادم لا يبدأ إلا من اليوم الذي عرفت فيه الجريمة أو ثبت وقوعها وفقا للقانون، و ليس من سوم ارتكابها وفقا لما هو معمول به من قبل في ظل القانون القديم.
إلا أن هذا التحديد و إن كان يبرره اختصار مدة تقادم الدعوى الجنائية، إلا انه لا يتفق مع المبادئ التي يستند إليها التقادم. إذ انه يؤخر بدء سريان ميعاد التقادم لفترة طويلة بعد تقادم الجريمة، في وقت تكون فيه قد تلاشت آثارها، مما يشكل تهديدا للمتهم طالما لم تكشف الجريمة. فضلا عن أن هذا التحديد يؤدي إلى مفارقة غريبة بين الجرائم البسيطة و الجرائم الجسيمة، بحيث يطيل أمد التقادم في الأولى دون الثانية. باعتبار أن الجرائم الجسيمة يشيع صدى وقوعها في المجتمع بصورة سريعة مما يكون له عظيم الأثر في سرعة اكتشافها و احتساب بدء سريان تقادمها منذ ذلك الوقت، على عكس الجرائم البسيطة التي قد يصعب معرفتها، مما يعني تأخير بدء سريانها
كما خلا تقنين 1791 مما يعرف بالجرائم غير القابلة للتقادم، و بذلك لم يخرج أية جريمة من الخضوع لأحكام التقادم سواء كانت جناية أم جنحة أم مخالفة .
ب- قانون السنة الرابعة من الثورة:
لم يدخل تقنين “بورمير” من العام الرابع ، في المواد 8، 9، 10 منه تجديدا كبيرا على نظام التقادم، و إنما أخذ بمبدأ وحدة التقادم بالنسبة لجميع الجرائم بحيث تنقضي بمضي ثلاث سنوات. كما وحد كل من الدعويين الجنائية و المدنية التابعة. و كان تقادمهما يبتدئ من اليوم الذي اكتشفت فيه الجريمة، و تم إثباتها وفقا للقانون. و بذلك يتطلب هذا القانون حتى ينتج التقادم أثره بمرور ثلاث سنوات، تحقق الشرطين معا، و هما العلم بارتكاب الجريمة و إثبات ذلك قانونا .
كما شهد هذا القانون ميلاد فكرة جديدة تكاد تشبه انقطاع التقادم و إن اختلفت عنه. مضمونها انه إذا تخلل سريان التقادم إجراء معين من إجراءات الدعوى الجنائية أدى ذلك إلى مضاعفة مدة التقادم اعتبارا من اليوم الذي اتخذ فيه هذا الإجراء . فمدة تقادم الدعوى الجنائية في قانون “برومير” هي ثلاث سنوات إذا لم يتخللها أي إجراء من إجراءات الدعوى، أما إذا اتخذ أي إجراء فان مدة التقادم تتضاعف إلى ست سنوات. إلا أن ذلك لا يعد انقطاعا للتقادم، حيث أن الانقطاع يترتب عليه إعادة احتساب مدة التقادم كاملة .
كانت هذه أهم التطورات التي مر بها التقادم الجنائي منذ مهد النظام اللاتيني. و ما لاحظناه انه رغم أن هذا النظام أظهر في كثير من المناسبات مراعاة فكرة العدالة في التشريع، إلا أن ذلك لم يكن له التأثير الايجابي في بلورة أحكام التقادم الجنائي، حيث أن طابع المصلحة كان لا يزال طاغيا على الكثير من أحكامه و التقصير من مدد التقادم كان أهم تجسيد لذلك الطابع.
المطلب الثاني: مبدأ السرعة في محاكمة المتهم بالقانون الانجلوسكسوني كنظام مواز للتقادم الجنائي
لم يأخذ التشريع الانجلوسكسوني عامة بنظام التقادم المعروف في النظام اللاتيني ، بل فضل عليه مبدأ آخر هو “مبدأ السرعة في محاكمة المتهم” الذي يمثل ضمانة هامة من ضمانات العدالة بالنسبة لكل من المتهم و المجتمع. والعلة في عدم الأخذ بنظام التقادم الجنائي هو الاستناد إلى القاعدة العامة الشهيرة ” الملك لا يستطيع أن يعمل شرا” .
الفقرة الأولى: مبدأ السرعة في المحاكمة
يعد مبدأ سرعة البث في الدعاوى الجنائية في القوانين الانجلوسكسونية قاعدة جوهرية تتقيد بمقتضاها كل سلطة من سلطة الاتهام و الحكم لما يترتب عليه من نتائج قانونية هامة، على خلاف ضمان سرعة الإجراءات الجنائية في القوانين اللاتينية، الذي يمثل قاعدة إرشادية توجه القاضي دون أن يترتب على مخالفتها أي جزاء قانوني . ولذلك قد يحث المشرع على سرعة الفصل في الدعاوى ، آو يعمل على إيراد مهلة محددة تسترشد بها المحكمة ، و تصدر حكمها أثناءها ضمانا لسرعة الإجراءات الجنائية . إلا أن مخالفة هذه المهلة لا يعني بالضرورة سلب سلطة القاضي في الفصل في الدعوى الجنائية، لآن الهدف من هده القاعدة الإرشادية حسن سير العدالة .
و يقصد بالمحاكمة السريعة تلك المحاكمة التي تجري في مدة معقولة وهي بذلك تختلف عن المحاكمة المتسرعة التي تتم بالمخالفة لضمانات الدفاع أو لشرط القاضي الطبيعي و طرق الطعن .
و يرجع الأصل التاريخي للسرعة في المحاكمة الجنائية إلى العهد الآعضم ” الماجناكارتا” في بريطانيا سنة 1215 م الذي جاء فيه ” إننا لن ننكر على إنسان حقه في العدالة ، ولن نؤجل النظر في القضايا ” .
وضمان سرعة المحاكمة مقرر أساسا لمصلحة المتهم ولازم لحسن سير العدالة الجنائية فمصلحة المتهم تقتضي في اغلب الأحوال أن تنتهي دعواه خلال مدة معقولة ذلك أن البطء في الإجراءات يسبب له أضرارا أكيدة كتلك التي تلحق أدلة الإثبات و أدلة النفي على السواء كموت احد الشهود مثلا أو نسيانه لبعض الوقائع . كما تؤدي إلى زيادة مدة الاعتقال الاحتياطي إذا كان المتهم محبوسا . فضلا عن زيادة معاناته المادية و النفسية .
و بالتالي فان ضمان سرعة المحاكمة يقضي على كل تأخير لا مبرر له بين رفع الدعوى و إجراءات المحاكمة . إلى جانب انه يكفل حسن سير العدالة. فالعدالة البطيئة نوع من الظلم، وهو في ذلك يلتقي مع نظام التقادم الذي يحمي المتهم من تعريضه لخطر المحاكمة بعد مضي مدة طويلة على وقوع الجريمة على نحو يحول بينه و بين التمكن من إثبات أدلة براءته .
الفقرة الثانية: التفرقة بين مبدأ السرعة في المحاكمة و نظام التقادم الجنائي
يمكن التمييز بين نظام التقادم و نظام مبدأ سرعة المحاكمة على الوجه الأتي:
يهدف مبدأ سرعة المحاكمة إلى منع تأخير المحاكمة حماية لمصلحة المتهم، لآن ذلك يؤثر على الأدلة، كما يولد أضرار مادية و اجتماعية و نفسية و عائلية تصيب المتهم نتيجة لطول الإجراءات على نحو غير معقول، و لأسباب لا ترجع إليه. بينما يرمي التقادم إلى حماية المصلحة العامة. و وضع حد للنزاع الدائر بحسم إجراءات الدعوى الجنائية في أسرع وقت ممكن .
و يعتبر مبدأ سرعة المحاكمة الجنائية قاعدة إرشادية في القوانين اللاتينية، فلا يترتب عن إهداره جزاء قانونيا معينا، و إنما تكتفي بنظام التقادم بديلا عنه، بينما يعد هذا النظام في القوانين الانجلوسكسونية قاعدة جوهرية تتقيد بمقتضاها كل من سلطة الاتهام و الحكم و يتطلب إهدارها جزاء معينا كما ذكرنا .
الفرع الثاني: ارتسام معالم نظام التقادم الجنائي في التشريع الجنائي المغربي
لم يكشف لنا الصدر الأول من تبني الدولة المغربية للتشريع الجنائي فيما قبل الاستعمار، عن نوع من القضايا كان مضي الزمن عاملا مؤثرا فيها، فقد كانت القضايا و الإجراءات القضائية وليدة وقتها. لآن التشريع آنذاك، كان متبنى من رحم الشريعة الإسلامية.
و قد ظل الأمر على ما هو عليه إلى حدود خمسينيات القرن الماضي، حيث ظهر نظام التقادم في التشريع الجنائي المغربي، بمقتضى أول قانون للمسطرة الجنائية صدر في عهد الاستقلال بتاريخ 10 فبراير 1959، و الذي ظلت مقتضياته مطبقة لمدة حوالي 30 سنة، إلى أن صدر في الجريدة الرسمية بتاريخ 30 يناير 2003 الظهير الشريف رقم 1.02.255 المؤرخ في 03 أكتوبر 2002، تنفيذ القانون رقم 22.01 المتعلق بالمسطرة الجنائية، والذي دخل حيز التنفيذ بتاريخ فاتح أكتوبر 2003.
بمقتضى قانون رقم 22.01 نص المشرع على مدد التقادم الجنائي حيث حددها في الجنايات بعشرين سنة ، و حددها في الجنح بخمس سنوات، و المخالفات في سنتين، و بقي العمل جاريا بهذه القواعد إلى أن صدر قانون 35.11 سنة 2011 حيث عدل في قواعد التقادم بأن قلص مدد التقادم، فجعلها في الجنايات تقدر بخمس عشرة سنة، و في الجنح بأربع سنوات، و في المخالفات بسنة واحدة.
في هذا الفرع، سنحاول تبيان المبررات الفلسفية التي دفعت المشرع المغربي إلى تبني نظام التقادم الجنائي و الإبقاء عليه عوض تبني نظام بديل، كما سنحاول الإجابة على مجموعة من الإشكالات التي طرحتها التعديلات الجديدة بمقتضى قانون 35.11.
المبحث الأول: مدلول التقادم الجنائي و المبررات الفلسفية لتبني المشرع المغربي نظام التقادم الجنائي
في هذا المبحث سنحاول سرد أهم المبررات التي استند إليها المشرع المغربي في تأسيس نظام التقادم الجنائي و الحفاظ على صلته بفكرة العدالة الجنائية. لكن سنقوم أولا بإعطاء مدلول لنظام التقادم الجنائي.
المطلب الأول: مدلول التقادم في المنظومة التشريعية الجنائية
ترمي فكرة التقادم الجنائي إلى التسليم بسقوط الحق في المتابعة أو تنفيذ الحكم بسبب مرور الوقت، حيث تفترض هذه الفرضية أن المجتمع يكون قد تناسى الفعل الجرمي، و لم يعد بحاجة إلى فتح جرح قد تعافى، و تحريك الدعوى العمومية أو تنفيذ العقوبة عن فعل نسيه الضحايا و المجتمع و لم تعد لديهما المصلحة في إعادته للواجهة من جديد، عملا بالقاعدة القائلة كم حاجة قضيناها بتركها .
الفقرة الأولى: مدلول تقادم الدعوى الجنائية
يعني تقادم الدعوى الجنائية مضي فترة من الزمن على وقوع الجريمة دون أن تتخذ السلطات المختصة الإجراءات القانونية لتحريك الدعوى الجنائية أو السير فيها، فيرتب القانون على ذلك انقضاء سلطة الدولة في العقاب و عدم تحريك الدعوى الجنائية تبعا لذلك .
كذلك ففكرة تقادم الدعوى الجنائية تلزم بوجوب استقرار الأوضاع و المراكز في المجتمع، ذلك أن أوضاع الناس تستقر بعد حين من الزمن، و أن تهديدهم بالدعاوى الزجرية باستمرار يجعل هذه الأوضاع غير مستقرة. و الاضطراب يضر بأحوال المجتمعات و يمنع تقدمها، و لذلك تقضي المصلحة الاجتماعية إنهاء الخصومات الجنائية في أسرع الأوقات .
كما تلقى فكرة هذا النوع من التقادم تبريرها في فرضية ضياع أدلة الجريمة، حيث تضيع مع مرور الوقت ذاكرة الشهود أو يموتون أو ينتقلون لاماكن بعيدة، كما تندثر بعض أدوات الإثبات بمرور المدة، مما يبرر ترك الدعوى العمومية .
الفقرة الثانية: مدلول تقادم العقوبة
يقصد بتقادم العقوبة، سقوط الحق في تنفيذها بسبب مضي المدة المقررة قانونا، و تبني هذا النوع من التقادم الجنائي، جاء ملازما للفكرة القاضية بأن المجتمع يكون قد نسي الجريمة و المحاكمة الذي أنتجت عقوبتها و يكون المحكوم عليه عاش معاناة حقيقية من جراء هروبه و اختفائه، و حسنت سلوكه و أهلته للاندماج من جديد في وسطه الطبيعي ، مما يجعل العقوبة تفقد معناها لنسيان المجتمع لظروف صدورها .
بالإضافة إلى ما سلف ذكره، يرى بعض الفقه أن فلسفة تقادم العقوبة تجد تبريرها في فكرة العقاب المعنوي و التكفير عن الجريمة حيث يكون المجرم الهارب من ملاحقة العدالة في وضع نفسي سئ ، و يبقى طيلة فترة التقادم ملاحقا بشبح الجريمة و يعتريه الندم و الخوف و الاضطراب ، مما يجعل هذه المعاناة النفسية كافية لمعاقبة الجاني الذي ظل مختفيا عن الأنظار طيلة الفترة المقررة للتقادم .
لكن في نظرنا، أن هذا الموقف ليس متكاملا، ذلك أن الكثير من المجرمين يجدون في نظام التقادم منفذا للفرار من أيدي العدالة، بل و يجدون الملاجئ المريحة التي ستوفر له الأمن و الحماية، من ذلك نجد أن الكثير من المجرمين يعمدون إلى اقتراف جرائمهم بشكل مخطط له مسبقا، ثم يفرون إلى بلد لم تشمله مع المغرب اتفاقية تبادل المجرمين و يظلون فارين إلى أن تنتهي مدة الدعوى الجنائية، أو تنفيذ العقوبة.
المطلب الثاني: المبررات الفلسفية لتبني المشرع المغربي نظام التقادم الجنائي:
باسم الحفاظ على حسن سير العدالة الجنائية و قدسيتها، ارتأى المشرع المغربي أن السبيل الأمثل لتحقيق ذلك، هو تبني مجموعة من الضمانات القانونية لتسيير الخصومة الجنائية، و نظام التقادم الجنائي، يعد من بين تلك الضمانات التي قام المشرع بتبنيها، و يبرر موقفه في ذلك بجملة من الاعتبارات، منها أن قيام العدالة من سباتها بعد مدة – هي المدة المفترضة للتقادم – لمتابعة الجاني و محاكمته أو لتنفيذ العقاب عليه قد يوحي بوجود خلل في سير العدالة التي تأخرت في القيام بواجبها، ويؤدي تهاون القائمين بها في تفعيل الإجراءات في الوقت المناسب، إلى تكريس صورة سلبية عنها تفقدها ثقة المجتمع و تهز عرش قدسيتها الذي هو أساس اعتبار العدالة و احترامها في المجتمعات .
فيما يلي سنحاول الحديث عن الآراء المؤيدة لتبني نظام العدالة الجنائية، و التي ارتكز عليها المشرع المغربي لضم هذا النظام إلى المنظومة التشريعية الجنائية، كما سنشير إلى الاتجاهات المعارضة لفكرة التقادم الجنائي، بسبب اختلاف الرؤيا لضرورات العدالة الجنائية.
الفقرة الأولى: المبررات الفلسفية لتأييد نظام التقادم الجنائي
إن المحبذين لفكرة التقادم الجنائي يقولون بعدة ذرائع لاعتناق التقادم المسقط لعل أهمها:
أ- أن مرور الوقت الذي يتحقق به التقادم وهو ليس باليسير، ومن دون ممارسة أي إجراء لمعاقبة مرتكب الجريمة، يجعل وقع هذه الأخيرة يتلاشى في الرأي العام الذي يكون قد تناسها، ومن ثم فلا حاجة والحالة هذه لنبش الماضي وإثارة المتابعة بغية توقيع العقوبة التي لن تحقق- ربما- أغراضها في الردعين العام أو الخاص .
ب- أن المعاناة التي يعانيها مرتكب الجريمة ليل نهار طوال فترة التقادم التي هي من الطول بمكان حيث لا يهدا له بال ولا يقر له قرار خوفا من الملاحقة الثابتة للنيابة العامة طول مدة التقادم تكفي للتسامح في العقاب بمضي هذه المدة مادامت المعاناة النفسية وعذاب الضمير بل والخوف من الملاحقة قد نالت من المجرم ربما ما لم يناله منه توقيع العقاب فيما لو نفذ فيه قبل انصرام مدة التقادم .
ج- أن الجريمة التي تهملها الجهة المختصة في تحريك الدعوى العمومية مدة طويلة ( قد تصل لخمس عشرة سنة )، يستحسن ترك المتابعة فيها بقصد العقاب عنها أصلا خوفا من السقوط في الأخطاء القضائية التي هي أمر محتمل جدا أمام تلاشي وسائل الإثبات بعد انصرام مدد طويلة جدا، إذ لا ينكر أحد بأن الشهادة وهي أهم أدلة الإثبات في النطاق الجنائي تعتمد على الشهود اللذين إن هم وجدوا أحياء فان ذاكرتهم قد لا تتذكر الوقائع كما حدثت بسبب اختلاطها في الذهن بعامل الزمن، وإذا كان ما سبق لا يستطيع احد نكران جديته بالنسبة للشهادة، فان وسائل الإثبات من غير الشهادة لا يرتفع التشكيك في مدى سلامة الاطمئنان إليها بسبب عوامل أخرى للزمن عليها سلطان لا يتجاهله اللبيب .
د- أن الاستقرار القانوني هو ما يتوخاه المجتمع بوضعه لمختلف القوانين كيفما كانت، وبالنسبة لموضوعنا بالذات فان احتكار الدولة لمؤسستي التجريم والعقاب يضع عليها واجب الأخذ بعين الاعتبار أن توقيع العقاب العائد لها قبل مرتكبي الجرائم يجب أن يمارس خلال مدة معقولة تحددها هي ابتداء، لذلك بحيث إذا انقضت هذه المدة سقط حقها في تحريك الدعوى العمومية لتوقيع العقاب، والقول بغير هذا، معناه إبقاء النزاعات بين الدولة والأفراد مؤبدة، وهذا ما ينبغي تجنبه بكل الوسائل التي من أهمها ربما الأخذ بنظام التقادم خدمة لفكرة وجوب تحقيق الاستقرار القانوني
.
الفقرة الثانية: نقد فكرة التقادم الجنائي:
تنتقد فكرة الأخذ بالتقادم الجنائي، كل من المدرسة التقليدية ( بزعامة بكاريا الايطالي وبنتام الانجليزي) ، والمدرسة الواقعية ( الوضعية) الايطالية بالنسبة لنوع خاص من المجرمين الذين لا أمل في إصلاحهم، وهم المجرمون بالطبيعة والمعتادون للإجرام، واهم ما اخذوا به- مفكرو هذه المدارس عموما- على اعتناق هذا النظام هو انه نوع من المكافأة للمجرم الذكي الذي استطاع بوسائله الخاصة الإفلات من اتخاذ آي إجراء لتحريك الدعوى العمومية قبله، خصوصا وان تأسيسه على كفاية ما عاناه المجرم طوال مدة التقادم من خوف وترقب وندم والتي ربما في أثرها الإصلاحي ( الردع الخاص) قد تفوق ما ستحققه العقوبة إن هي أوقعت به، هي أقوال غير مؤكدة ولها قيم منطقية واحدة إذ هي كما تحتمل الصواب تحتمل الخطأ كذلك وبنفس القيمة .
خلاصة القول، انه مهما كانت المآخذ التي يمكن أن تقع على اعتناق التقادم المسقط للدعوى العمومية، فان المشرع المغربي المؤيد بالفقه قد غلب محاسنه على مساوئه واخذ به في الفصل 4 من ق.م ج وزاد القضاء المغربي في رفع قدره فربطه بالنظام العام وجعله من متعلقاته ، وفي الحالة هذه يتم التنازل عنه من المتهم ، كما يتعين إثارته تلقائيا من طرف المحكمة التي تنظر في الدعوى العمومية إن هو ثبت لديها قيامه بشروطه القانونية، كما أن هذه الإثارة التلقائية له واجبة في كل أطوار الدعوى ولو أمام محكمة النقض .
المبحث الثاني: نظام التقادم الجنائي في ظل قانون رقم 35.11
نفذ القانون رقم 35.11 بمقتضى الظهير الشريف رقم 1.11.169 الصادر في19 من ذي القعدة 1432 الموافق ل17 أكتوبر 2011، تغييرا وتتميما للقانون رقم 22.01 المتعلق بالمسطرة الجنائية. و قد نص هذا القانون في المادة 1-653. على أنه لا تتقادم العقوبات الصادرة بشأن جرائم ينص على عدم تقادمها القانون أو اتفاقية دولية صادقت عليها المملكة المغربية ونشرت بالجريدة الرسمية. و هذا دليل على التزام المغرب بملائمة تشريعه الوطني مع ضرورات العدالة الجنائية، لكن رغم ذلك أتى بتقليص مدة تقادم الدعوى الجنائية و العقوبة، فهل هذا يخدم مصالح العدالة الجنائية أم لا ؟
سنعالج هذا الإشكال من خلال التطرق إلى مضمون التعديلات التي أتى بها هذا القانون، و كذا من خلال الملاحظات التي سنبديها يما بعد.
المطلب الأول: تقادم الدعوى الجنائية و العقوبة في ظل قانون 35.11
في هذا المقام سوف نحاول سرد أهم المستجدات التي اتى بها قانون 35.11، و سنحاول مقارنة تلك المستجدات بالواقع الذي تفرضه العدالة الجنائية، لنصل الى أي مدى ساهمت التعديلات في التأثير على العدالة الجنائية.
الفقرة الأولى: تقادم الدعوى الجنائية
قلص قانون 35.11 من أمد تقادم الدعوى الجنائية بالنسبة لكل من الجنايات و الجنح و المخالفات، حيث أصبحت الجنايات تتقادم بخمس عشرة سنة ميلادية كاملة تبتدئ من يوم ارتكاب الجناية، و في الجنح بأربع سنوات ميلادية كاملة تبتدئ من يوم ارتكاب الجنحة، أما في المخالفات فبسنة ميلادية كاملة تبتدئ من يوم ارتكاب المخالفة .
من خلال ما سبق نجد أن المشرع المغربي عمد إلى التقليص من مدة التقادم، و هذا في منظورنا لا يخدم ضرورات العدالة الجنائية، ذلك أن من أوجه تلبية حاجيات هذه العدالة عدم التوفير للجناة الوقت القصير للتملص من المسائلة. لكن إذا ما بحثنا قليلا في المنظومة التشريعية اللاتينية، سنجد أن جميع الدول التي تنتمي إلى هذه المنظومة، تبنت في تشريعها الجنائي نفس المنهج الذي سار عليه تشريعنا الوطني، و هذا راجع إلى انتماء تلك الدول – بما فيها المغرب – إلى نفس المدرسة الفلسفية التي أيدت الأخذ بالتقادم الجنائي.
الفقرة الثانية: تقادم العقوبات
نص التعديل الجديد لقانون 35.11 فيما يخص تقادم العقوبات على ما يلي:
– تتقادم العقوبات الجنائية بمضي خمس عشرة سنة ميلادية كاملة… (المادة 649).
– تتقادم العقوبات الجنحية بمضي أربع سنوات ميلادية كاملة… (المادة 650).
– تتقادم العقوبات عن المخالفات بمضي سنة ميلادية كاملة…( المادة 651).
في هذا التعديل قام المشرع المغربي بملائمة تقادم العقوبات مع مدة تقادم الدعوى الجنائية، ربما لحاجيات تحقيق العدالة، إلا انه في منظورنا الشخصي كان على المشرع تمديد مدة هذا التقادم لفترة أطول، لتحقيق غاية العقوبة بالنسبة للجاني.
في رأينا كذلك، أن خاصيتي العقوبة العامة و الخاصة، فقدتا شيئا من القوة، فتقليص مدد تقادم العقوبات، هو بمثابة تبشير للجناة بانفتاح باب للفرار السريع، كما أنه لا يخدم مصالح العدالة في شئ، فالعدالة تعني زجر الجناة وردع كل من سولت له نفسه إيذاء حقوق الغير. وتقليص مدد التقادم كما سبق الذكر، هو تراجع عن هذا المبدأ.
المطلب الثاني: الإرهاصات التي فرضها تعديل 35.11
فرض تعديل قانون 35.11 عدة أمور من الناحية الإجرائية و كذا من الناحية النظرية.
في هذا الإطار سنتحدث عن أهم الإرهاصات التي شكلها تعديل 35.11 على المستوى الإجرائي و مظاهرها، ثم سنسرد صور الإرهاصات التي طرحت على المستوى النظري.
الفقرة الأولى: الإرهاصات التي فرضها تعديل قانون 35.11 على المستوى الإجرائي
إن المشرع المغربي في ظل التعديل الجديد الذي قلص من خلاله مدد التقادم، فيما يرجع للدعوى العمومية، أصبح يفرض أكثر من أي وقت مضى على النيابات العامة أن تبادر للقيام بكل الإجراءات التي من شأنها قطع التقادم خاصة في القضايا التي يتتبعها أصحابها وقاموا برفعها إلى النيابة العامة، إذ من واجبها، بل من مسؤوليتها أن تتتبع القضايا التي بين أيديها لأن تركها للتقادم يسري بدون وقفه بشكل تقصيرا منها في أداء عملها، كما أنه يجب عليها قطع التقادم في الجرائم الخطيرة، أو التي تكتسي أهمية بالنسبة إلى الرأي العام الوطني أو المحلي، أو التي لها حساسية خاصة كتلك الماسة بأمن الدولة أو بالسلم أو الأمن العموميين أو الجرائم التي تخلف عددا كبيرا من الضحايا .
كما أنه ينبغي التذكير بأنه آن الأوان لأن يتدخل المشرع المغربي لتعديل مدد رد الاعتبار سواء منه القانوني أو القضائي، لأنه لم يعد مقبولا في ظل الوضع الراهن أن يستفيد أشخاص أجرموا ويسقط عنهم العقاب بمرور مدة تقادم الدعوى العمومية والعقوبة بينما لا يستفيذ أشخاص قضوا العقوبة وأدوا الغرامات المالية المحكوم بها من مدد قصيرة، فهؤلاء هم أولى بالحماية، خاصة أن التجربة العملية أبانت أنه في كثير من الحالات يحرم هؤلاء من إعادة إدماجهم داخل المجتمع بسبب طول مدة رد الاعتبار، خاصة أنه قد تتاح لهم فرص للحصول على عمل كعقود العمل بالخارج أو الاشتغال داخل أرض الوطن، لكن المدة المطلوبة للاستفادة من رد الاعتبار تكون طويلة فتضيع فرصة إدماجهم داخل المجتمع .
الفقرة الثانية: الإرهاصات التي فرضها تعديل قانون 35.11 على المستوى النظري
على المستوى النظري، نجد أن المشرع المغربي قام بتقليص مدد تقادم الجرائم و حتى العقوبات، و هذا في نظرنا يتنافى و ضرورات العدالة الجنائية، التي تحتم على أجهزتها القيام بكل المهام التي من شأنها الحفاظ على الأمن و الاستقرار بما في ذلك عدم السماح للجناة بالفرار، كذلك في رأينا أنه كان على المشرع بالموازاة مع هذا التقليص، أن يحث على الزيادة في تفعيل إجراءات الوقف و القطع، لخلق التوازن بين مدد التقادم القصيرة و ضرورات العدالة الجنائية، و بذلك سنكون أمام نظام ذو آليات فعالة و كفيلة لسد باب الهروب من المسائلة و العقاب.
مما سبق يتضح لنا جليا أن نظام التقادم بتشريعنا الوطني، لازال في مراحله الأولية، ذلك أن ما سار إليه المشرع الجنائي في الآونة الأخيرة، لا يتماشى مع ما تنادي به مبادئ العدالة الجنائية، فرغم التأييدات التي نادت بتبني هذا النظام، إلا انه لا زال قاصرا على التصدي لإشكال الفرار من المسائلة الجنائية.
و كاستنتاج، نقول أن الحفاظ على التوازن الأمني داخل البلد، في ظل وجود نظام التقادم الجنائي، يستوجب منح العدالة الجنائية دور استباقي في مكافحة الجريمة إلى جانب دورها الوقائي –حتى يحد من الجرائم ذات الوقع الكبير على المجتمع- و ذلك من خلال الإلمام بجميع الظواهر و المؤثرات السوسيو اقتصادية المؤدية إلى الانحراف و معالجتها.
بذلك سنتمكن شيئا ما بالحد من السلوك الإجرامي داخل المجتمع، و من تم سنكون فقط أمام بعض الجرائم البسيطة التي لا يخلو أي مجتمع منها. كذلك في رأينا الشخصي أن السبيل الأمثل للتوفيق بين ما يقتضيه نظام التقادم الجنائي و ضرورات العدالة الجنائية، هو تعزيز سرعة الإجراءات التي تقوم بها أجهزة العدالة الجنائية بما فيها الإجراءات القضائية المتخذة لمتابعة الجناة.
الفصل الثاني:مدى فعالية أحكام التقادم في تحقيق العدالة الجنائية على ضوء التشريع و العمل القضائي
إن العدالة هي الوجه الحقيقي للحضارة الإنسانية حيث بمقدار تطور المجتمع وتطور جهاز العدالة فيه وبموازاة لهما، يمكن قياس مدى سمو حضارة هذا المجتمع أو مدى انحطاطها، وتدخل العدالة الجنائية في هذا الإطار باعتبارها جزء من العدالة بصفة عامة، حيث هي التي تعكس السياسة الجنائية للدولة، وكما قيل عنها- العدالة الجنائية- هي بلا ريب أخطر مرفق في أي مجتمع متحضر، يعطي للعدالة قيمتها وللكرامة الإنسانية قدرها، وذلك باعتبار أن خارج العدالة لا يمكن أن نجد سوى البغي والاستبداد وكل صور الهمجية والاستعباد التي لا يصلح معها الحديث عن حضارة المجتمع في الفرد أو عن كرامة للفرد في المجتمع .
و يعتبر نظام التقادم مؤسسة حقوقية لا غنى عنها، وعلى ثوابتها ومبادئها الراسخة، إذ أن سن هذا النظام جاء على أساس اعتبارات اجتماعية واقتصادية وأمنية، لولا قيامه لما استقرت المعاملات والأحوال، ولا اضطرت المحاكم للانكباب على قضايا مر عليها زمن طويل، واندثرت أدلتها. فنظام التقادم يعمل على استقرار المعاملات والأحوال وبالتالي فهو يقوم على فكرة وجوب احترام الأوضاع المستقرة التي مضى عليها ردح من الزمن .
فيما يلي سنقوم بمعالجة هذا النظام على ضوء ما أتى به التشريع، و ما جاد به الفقه محاولين قدر المستطاع، تقريب الجانب الفلسفي في كل المحطات التي سنعالجها، مرفقين بذلك ما أتت به تطبيقات العمل القضائي، كلما سمحت الفرصة بذلك.
الفرع الأول: مظاهر تأثر التشريع المغربي بالقواعد المؤسسة لفكرة تقادم الدعوى الجنائية
في هذا الفرع، سنتطرق لأهم ما نقله النظام اللاتيني إلى تشريعنا الجنائي من قواعد و أحكام متعلقة بالتقادم الجنائي، و كيف تلاءم هذا النظام مع وضع العدالة الجنائية المغربية و ذلك على ضوء الفقه و العمل القضائي، محاولين بذلك الإجابة عن أهم ما سيطرح من إشكالات فرعية، كذلك، و للتذكير فان ما يهم في هذه الدراسة هو الجانب الفلسفي لنظام التقادم، لذلك سنقوم جاهدين على معالجة كل الجوانب بالموازاة مع الجانب الفلسفي.
المبحث الأول: تقادم الدعوى العمومية في التشريع الجنائي المغربي.
ارتأينا انه من اللازم سرد مجموع القواعد و الأحكام التي تبناها المشرع المغربي تنظيما لمؤسسة التقادم الجنائي، و ذلك وفقا لمستجدات قانون رقم 35.11 المعدل لقانون المسطرة الجنائية. دون إغفال لأراء الفقه و القضاء التي أبديت في ذاك الشأن.
المطلب الأول:القواعد المؤسسة لتقادم الدعوى العمومية
.
في هذا المقام، سنتحدث عن كل من الآجال القانونية لتقادم الدعوى العمومية، و عن طرق احتسابها.
الفقرة الأولى: الآجال القانونية لتقادم الدعوى العمومية
سنقوم في هذا المقام بدراسة مدد تقادم الدعوى العمومية أولا، بعدها سنتطرق إلى دراسة احتساب مدة تقادمها ثانيا.
اعتبرت المادة الرابعة من ق.م.ج التقادم من أسباب تقادم الدعوى العمومية . و يترتب عن هذا الحكم انه لا يمكن إقامة الدعوى العمومية إذا انصرمت المدة المقررة لتقادمها، كما أن هذه الدعوى تتوقف و لا يمكن مواصلتها إذا طالها التقادم بعد تحريكها .
و تتقادم الدعوى العمومية في المغرب تبعا لنوع الجريمة المتابع من اجلها المتهم، و بذلك نجد المشرع الجنائي ينص في المادة الخامسة من قانون المسطرة الجنائية على أن الدعوى العمومية تتقادم ما لم تنص قوانين خاصة على خلاف ذلك بمرور:
– خمس عشرة سنة ميلادية كاملة تبتدئ من يوم ارتكاب الجناية.
– أربع سنوات ميلادية كاملة تبتدئ من يوم ارتكاب الجنحة .
– سنة ميلادية كاملة تبتدئ من يوم ارتكاب المخالفة .
غير انه إذا كان الضحية قاصرا و تعرض لاعتداء جرمي ارتكبه في حقه احد أصوله أو من له عليه رعاية أو كفالة أو سلطة ، فان أمد التقادم يبدأ في السريان من جديد لنفس المدة ابتداء من تاريخ بلوغ الضحية سن الرشد المدني .
و مما تجدر بنا الإشارة إليه ، أن قواعد التقادم من القواعد الشكلية، التي يتعين تطبيقها فور دخولها حيز التنفيذ، و ما يؤكد قولنا هذا ذهاب قضاء محكمة النقض في نفس المنوال، حيث قضت بأن قوانين التقادم تطبق فور صدورها حتى على ما كان منها مطولا للأجل طالما أن الأمد القانوني السابق لم يكن قد انقضى .
من خلال ما سبق يمكن ملاحظة ما يأتي :
أ- انه من البديهي أن يأخذ المشرع المغربي في المادة الخامسة من قانون المسطرة الجنائية بطبيعة الجريمة و يحدد أجالا مختلفة لتقادم الجنايات و الجنح و المخالفات بحسب طبيعة الأفعال التي تتشكل منها الجريمة . مما يترتب عن هذا المبدأ أن تطبيق القواعد القانونية المتعلقة بحالة العود أو ظروف التخفيف لن تؤثر على طبيعة الجريمة ، فالجنحة لن تصبح جناية من جراء تطبيق أحكام العود مثلا . كما أن الجناية لن تصبح جنحة من جراء إعمال ظروف التخفيف أو الأعذار القانونية ، فهذه الظروف لا تغير الطبيعة القانونية للجريمة ، و قد نص الفصل 112 من مجموعة القانون الجنائي على ذلك صراحة بقوله انه ” لا يتغير نوع الجريمة إذا حكم بعقوبة متعلقة بنوع آخر من أنواع الجرائم لسبب تخفيف أو لحالة العود “.
و أما ظروف التشديد فإنها تغير طبيعة الفعل، بحيث أن الجنحة تصبح جناية من جراء اقترانها بظروف التشديد إذا كانت العقوبة المقررة لها من جراء ارتباطها بظروف التشديد عقوبة جنائية. و قد نص الفصل 113 من ق.ج على ذلك بقوله: » يتغير نوع الجريمة إذا نص القانون على عقوبة متعلقة بنوع آخر من أنواع الجرائم لسبب ظروف التشديد «.
ب- إذا كانت مدد التقادم عموما هي كما ذكرها الفصل 4 من ق م ج ، فان بعض القوانين المقارنة اعتدت بمدد أخرى، فالقانون المصري مثلا في المادة 15 من قانون الإجراءات الجزائية، جعل مدة التقادم في الجنايات عشر سنوات، وفي الجنح ثلاث سنوات وفي المخالفات سنتين، بينما جعل المشرع الجزائري مدة تقادم الجنايات في عشرين سنة ( المادة 7 من ق م ج ) ومدة تقادم الجنح في ثلاث سنين ( المادة 8 من ق م ج ج ) وسنة واحدة في تقادم المخالفات ( المادة 9 من ق ج ج ) .
الفقرة الثانية: طرق احتساب مدة التقادم:
الأصل أن حساب مدة التقادم يبدأ من تاريخ وقوع الجريمة كما تم التنصيص على ذلك في المادة 5 من ق.م.ج وتعتبر جميع الآجال المنصوص عليها في ق.م.ج. آجالا تامة (المادة 750 ق.م.ج) لا تشمل اليوم الأول والأخير ضمن الأيام المحتسبة، وتحسب مدة التقادم بالتقويم الميلادي لا الهجري، والمحكمة ملزمة قانونا بتبيان تاريخ وقوع الجريمة حتى تستطيع محكمة النقض أن تتحقق من حجة تطبيق القانون، وإذا أثير نزاع حول هذا التاريخ تعين على المحكمة أن تجيب عليه لأنه وسيلة دفاع موضوعية .
و ما تجدر الإشارة إليه في هذا المنوال، أن احتساب المدة التي يبتدئ منها سريان التقادم تختلف بحسب نوع الجريمة، و فيما يلي سنسرد بعض الجرائم التي تطرح إشكالا فيما يخص احتساب أمد التقادم:
أ – الجريمة الفورية:
إن تحديد ارتكاب الفعل الجرمي لا يطرح أي مشكل قانوني بالنسبة للجرائم الفورية ( أو الوقتية ) التي تتم و تنتهي بمجرد ارتكابها، و أن احتساب تقادمها يتم ابتداء من اليوم الموالي لوقوعها( يوم الارتكاب و يوم النهاية لا يحتسبان في تعداد الآجال الكاملة). فجريمة القتل قد تتم في لحظة واحدة و كذلك السرقة حيث يتم الاستيلاء على المنقول مرة واحدة في العادة ، و لذلك فهذه جرائم وقتية يستغرق ارتكابها وقتا معينا يكون قصيرا في العادة و ينتهي ارتكابها بارتكاب الأفعال المادية للجريمة ، و لذلك فان احتساب أمد التقادم يتم الشروع فيه غداة ارتكاب الجريمة . غير أن تاريخ ارتكاب بعض الجرائم تعتريه بعض الصعوبة ، و يتعلق الأمر بالجرائم المستمرة ( أو الجرائم المتتالية) و الجرائم المتوقفة على نتيجة آو ضرر .
ب- الجريمة المستمرة:
وهي التي يستمر فيها النشاط الإجرامي أو يتجدد بإرادة الجاني، فنقطة الابتداء في حساب سريان التقادم فيها يتجدد باليوم الموالي لوضع حد للنشاط الإجرامي إما من تلقاء نفس الجاني أو لأي سبب خارجي عنه، و من صور الجرائم المستمرة: جرائم المؤامرة ( الفصل 172ق.ج)، والاعتقال التحكمى ( ف 225 ق ج)، وحمل السلاح بدون ترخيص ( الفصل 2 من ظ 2/9/1958)، أو إخفاء أشياء متحصلة من جناية أو جنحة ( 571 ق ج) التي يبتدئ تقادمها كلها منذ اليوم الموالي لوضع حد للنشاط الإجرامي سواء من المجرم ( عدول المتآمرين في المؤامرة) أو المجني عليه ( فرار المعتقل تحكميا ونجاته من الاعتقال) أو الغير (إلقاء القبض على حامل السلاح بدون ترخيص) أو حتى بفعل من غير الإنسان( احتراق الأشياء المتحصلة من جناية أو جنحة) .
غير أن بعض الجرائم قد تكون بطبيعتها فورية آو مستمرة حسب طريقة ارتكابها ، فجريمة التزوير تكون فورية إذا ما تم تزوير الوثيقة في فترة زمنية واحدة كمن يعمل على تزوير عقد رسمي في ساعة من الزمن و يدلي به للمحافظة العقارية التي تعتمد عليه لنقل الملكية، ففي هذه الحالة يحتسب تاريخ البداية لاحتساب التقادم لجريمة التزوير منذ تغيير الوثيقة، وهو على كل حال قبل الإدلاء بها للمحافظة العقارية الذي هو تاريخ ثابت .
وقد يتم التزوير على مراحل كان يعمد الجاني إلى تزوير ورقة رسمية عن طريق رسمها يدويا و يستمر في ذلك عدة سنوات حيث تصبح جريمته مستمرة و لا يبدأ احتساب التقادم بالنسبة لها إلا من يوم انتهائه من صناعة الورقة المزيفة ، خلافا لتزوير الورقة النقدية عن طريق تصويرها الذي قد يتم في دقائق تصبح بعدها الورقة جاهزة للتداول ، فاحتساب مدة التقادم يتم الشروع فيه انطلاقا من تاريخ ارتكاب الفعل الجرمي .
و ليس من تاريخ اكتشافه ، فالعبرة في تاريخ الفعل و ليس في تاريخ اكتشافه ، فإذا تم اكتشاف ورقة نقدية تم تزويرها منذ أكثر من خمس عشرة سنة أو اكتشفت ورقة رسمية تم تحريفها بعد مرور مدة خمس عشرة سنة على صناعتها أو تحريفها ، فان جريمتي التزييف أو التزوير تكونان قد سقطتا بالتقادم ، و كل ما قد يطرأ هو الاختلاف حول تاريخ صانعة الورقة النقدية أو تحريف الوثيقة الرسمية و الذي يتعين على الأطراف إثبات ادعاءاتهما بشأنه ، و على محكمة الموضوع البث فيه .
و لذلك لا يمكن إدانة شخص بتزوير رخصة قيادة مثلا إذا اثبت انه قام بها أكثر من أربع سنوات ( أمد تقادم الجنح) بان اثبت انه أدلى بها الإدارة التي وظفته أو لشركة التامين لتأمين سيارته منذ أكثر من أربع سنوات (أمد تقادم الجنح) بأن اثبت بأنه أدلى بها للإدارة التي وظفته أو الشركة التامين لتامين سيارته منذ أكثر من أربع سنوات. نعم يمكن إدانة هذا الشخص من اجل استعمال وثيقة مزورة في كل مرة يستعملها ما لم يمر على أخر استعمال مدة التقادم. وإذا كان من زور الوثيقة هو غير مستعملها وتبين تقادم جريمة التزوير، فان مستعمل الوثيقة يتعرض للمتابعة في كل مرة يستعملها فيها متى كان عالما بأنها مزورة.
أما جريمة التزوير في محرر عرفي فتعتبر من الجرائم الفورية، ويبتدئ أمد التقادم بالنسبة إليها من يوم ارتكاب الجرم .
ج- الجريمة المتوقفة على نتيجة:
قد يتطلب القانون حصول النتيجة لقيام الجريمة، كجريمة القتل الخطأ، فهذه الجريمة لا تقوم إلا بتحقق النتيجة وهي إزهاق الروح، و أما الفعل المؤدي إلى هذه النتيجة فلا يعتبر وحده لقيام الجريمة، ولذلك فان وقوع الخطأ لا ينطلق به احتساب التقادم لان الجريمة لم تتم بعد، وهي لا تصبح جريمة إلا بتحقق النتيجة التي هي حصول الوفاة ( نتيجة للخطأ)، وبالتالي فان الجريمة تصبح ناجزة بحدوث النتيجة فقط، ولذلك فتاريخ تحقق النتيجة هو التاريخ المعتمد لاحتساب التقادم. وأما الجرائم التي لا يتوقف ارتكابها على حدوث النتيجة كالمحاولة، فان مدة التقادم تحتسب بشأنها منذ تاريخ ارتكاب الفعل أو الامتناع الذي يشكل السلوك الإجرامي .
المطلب الثاني: الإجراءات القاطعة أو الواقفة للتقادم
إن مرور مدة التقادم تؤدي إلى سقوط الدعوى العمومية التي لا تمكن إقامتها كما نصت على ذلك المادة الرابعة من قانون المسطرة الجنائية .
غير أن القانون أورد على احتساب مدة التقادم استثناءين اثنين يؤدي حدوثهما إلى قطع المدة أو توقيفها حسب الأحوال .
الفقرة الأولى: قطع تقادم الدعوى الجنائية
يقصد بقطع التقادم توقف احتساب مدته بسبب إجراء من الإجراءات التي يعتبرها القانون قاطعة للتقادم، ويشرع في احتساب مدة جديدة كاملة للتقادم بحيث لا تعتبر المدة السابقة ضمن الحساب الجديد . و تعتبر إجراءات القطع من الضرورات التي فرضتها العدالة الجنائية لعدم السماح للجناة بالفرار في وقت وجيز كما أنها تساعد على إعادة المتابعة كلما ظهرت أدلة جديدة.
وقد نصت المادة السادسة من ق م ج أن أمد تقادم الدعوى العمومية ينقطع “بكل إجراء من إجراءات المتابعة أو التحقيق أو المحاكمة تقوم به السلطة القضائية أو تأمر به، وبكل إجراء يعتبره القانون قاطعا للتقادم” .
” ويطبق هذا الانقطاع حتى على الأشخاص اللذين لا يشملهم هذا الإجراء. ويبتدئ اجل جديد للتقادم من اليوم الذي يقع فيه أخر إجراء ينقطع به أمده. وتكون مدة الأجل الجديد مساوية للمدة المحددة في المادة السابقة ( أي المادة الخامسة من ق.م.ج )” .
وينتج عن انقطاع التقادم، الشروع في احتساب اجل جديد وإلغاء ما مضى من الأجل الأول، كأن يكون قد مضى على تاريخ ارتكاب الجنحة ثلاث سنوات ولم يبق لتقادمها سوى سنة واحدة فيقع الإجراء القاطع، آنذاك يتم الشروع في احتساب اجل جديد كامل لأربع سنوات ابتداء من تاريخ الإجراء القاطع . ولا تعتبر المدة السابقة ( ثلاث سنوات التي مضت منذ تاريخ ارتكاب الجنحة) .
واضح أن القانون قد حدد الإجراءات القاطعة للتقادم في إجراءات المتابعة أو إجراءات التحقيق أو إجراءات المحاكمة.
أ- قطع التقادم من خلال إجراءات البحث التمهيدي:
كانت تعتبر إجراءات البحث التمهيدي في القانون رقم 22-01 من الإجراءات القاطعة للتقادم إلى جانب التحقيق والمتابعة، فكان نص المادة 6 منه ينص على أن التقادم ينقطع بإجراءات البحث أو التحقيق أو المتابعة التي تنجزها الشرطة القضائية أو تأمر بها، إلا أن قانون رقم 35.11 بشأن تعديل قانون م.ج أسقط عبارة البحث من النص وأصبح التقادم ينقطع بإجراءات المتابعة والتحقيق والمحاكمة وذلك بعدما لاحظ المشرع أن أمد التقادم في القانون المغربي طويل نسبيا مع القانون المقارن وأن جعل إجراءات البحث قاطعة للتقادم سيؤدي إلى عدم تقادم الجرائم مما يؤدي إلى ضياع الغاية المتوخاة من إقرار نظام التقادم والرامية إلى القضاء على استمرار الخصومات بمرور الوقت .
إن أهم ما يمكن ملاحظته في هذا الصدد، هو أن فصل إجراءات البحث التمهيدي عن الإجراءات القاطعة للتقادم بمقتضى تعديل قانون 35.11 عيب جوهري في فهم مغزى العدالة الجنائية. فمثلا عندما تقوم الشرطة القضائية بناء على تعليمات النيابة العامة بتحرير مذكرة بحث محلية أو وطنية، فان من المفترض أن يدخل هذا الإجراء ضمن الإجراءات القاطعة للتقادم، لكن العكس هو الواقع، و هذا يترك ثغرة أمام الجناة للبقاء خارج دائرة المسائلة إلى حين مرور اجل التقادم.
ب- قطع تقادم الدعوى العمومية من خلال إجراءات المتابعة
بالنسبة لإجراءات المتابعة التي تقوم بها السلطة القضائية وتكون قاطعة للتقادم تتمثل في الإجراء القانوني الذي يتم بمقتضاه رفع الدعوى العمومية إما إلى قاضي التحقيق أو إلى المحكمة، وبالرجوع إلى القانون رقم: 35.11 بشأن تعديل قانون المسطرة الجنائية نجده قد أضاف فقرة سادسة لتعريف إجراءات المتابعة جاء فيها ” يقصد بإجراءات المتابعة في مفهوم هذه المادة كل إجراء يترتب عنه رفع الدعوى العمومية إلى هيئة التحقيق أو هيئة الحكم”.
وتتم المتابعة بالنسبة للجنح إما عن طريق أمر قضائي يصدره القاضي في غيبة المتهم بناء على ملتمس النيابة العامة إذا تعلق الأمر بجنحة معاقب عليها بغرامة لا يتجاوز حدها الأقصى 5000 درهم، وكان ارتكابها مثبتا بمحضر أو تقرير ولا يظهر فيها متضرر. ويكون الأمر القضائي قابلا للتعرض وفقا للشروط المشار إليها في المادة 383 من ق.م ج.
كما تتم المتابعة ( بالنسبة للجنح) عن طريق الاستدعاء المباشر الذي يسلمه وكيل الملك أو المطالب بالحق المدني أو احد أعوان الإدارات المأذون لها بذلك قانونا ( إذا كان القانون يسمح بذلك)، أو عن طريق التقديم الفوري للجلسة في حالة سلوك مسطرة التلبس المنصوص عليها في المادتين 47 و74 من ق.م.ج . أو بإحالة من قاضي التحقيق إذا كانت الجنحة تقبل التحقيق وقدمت فيها مطالبة بإجراء تحقيق.
وتحال قضايا الجنايات على المحكمة إما من طرف قاضي التحقيق الذي طلب منه إجراء تحقيق حين يكون ذلك إلزاميا أو اختياريا. كما تحال مباشرة من طرف الوكيل العام للملك وفقا للمادة 73 من ق.م.ج ، أو قد تحال من طرف محكمة ترى نفسها غير مختصة للبت في الجناية.
ينضاف إلى ذلك بعض المساطر الخاصة للإحالة كالمساطر المتعلقة بالأحداث ( انظر الكتاب الثالث من ق.م.ج. المواد من 462 إلى 517)، أو بالقضايا المرفوعة إلى المحكمة العسكرية ( انظر قانون العدل العسكري) أو بالمساطر الخاصة المتعلقة بالامتياز القضائي ( المواد من 264 إلى 268 من ق.م.ج.).
وهكذا يمكن القول أن إجراءات المتابعة التي تقوم بها السلطة القضائية التي تكون قاطعة للتقادم تتمثل في الإجراء القانوني الذي يتم بمقتضاه رفع الدعوى العمومية إما إلى قاضي التحقيق أو إلى المحكمة . ولذلك فان القانون رقم 35.11 بشان تعديل قانون المسطرة الجنائية قد أضاف فقرة إلى المادة السادسة لتعريف إجراءات المتابعة جاء فيها : ” يقصد بإجراءات المتابعة في مفهوم هذه المادة، كل إجراء يترتب عنه رفع الدعوى العمومية إلى هيئة التحقيق أو هيئة الحكم.”
ج- قطع تقادم الدعوى الجنائية من خلال إجراءات المحاكمة:
معلوم أن المحكمة، بعد أن تتحقق من حضور الأطراف والشهود والترجمان والخبراء، تشرع في دراسة الدعوى. وتشمل دراسة الدعوى البحث والمناقشات ( المادة 304 من قانون المسطرة الجنائية ).ويتضمن بحث القضية استنطاق المتهم والاستماع الى الشهود والخبراء وتقديم أدوات الإثبات وتقديم الدفوع والطلبات ( المادة 305 من ق م ج). وتتضمن المناقشات التي تجري بعد انتهاء البحث، تقديم المطالب المدنية وملتمسات النيابة العامة وعرض دفاع المتهم والمسئول عن الحقوق المدنية ثم الكلمة الأخيرة للمتهم ( المادة 306 من ق م ج) .
ويعتبر تأخير القضية من طرف المحكمة إجراء قاطعا للتقادم بدوره لأنه يدخل ضمن الإجراءات القضائية للتحقيق النهائي في القضية من طرف هيئة المحكمة. ونعتقد انه يكفي إدراج الملف في جلسة من جلسات الحكم لقطع التقادم حتى دون أن تجري مناقشات في الملف، كما أن إجراءات بحث القضية أو مناقشتها قد تتطلب أكثر من جلسة مما يدعو إلى تأخيرها،وقد لا يتم تحديد التاريخ فورا مما يطلب توجيه استدعاء جديد للبحث أو المناقشة وفقا للمادة 307 من قانون م ج . فهذا الاستدعاء يعتبر قاطعا للتقادم. ولذلك فان تأخير قضية لمدة تفوق مدة التقادم يؤدي إلى تقادمها كما لو تم تأخير قضية من قضايا الصحافة لمدة تزيد عن ستة أشهر.
كذلك يعتبر الحكم الغيابي الذي تصدره المحكمة و هي تنظر في دعوى ما إجراء قاطعا للتقادم، وبمقتضاه يبتدئ اجل جديد لأمد تقادم آخر .
الفقرة الثانية: وقف تقادم الدعوى الجنائية
يقصد بوقف التقادم توقف احتساب اجله إلى حين زوال سبب التوقف، فيتم استئناف حساب الأجل، كأن يحدث السبب الواقف بعد مرور 3 سنوات من بداية احتساب التقادم ( تاريخ ارتكاب الجنحة مثلا )، فيتوقف الحساب لمدة سنتين لا تعتبر في الحساب، ثم يزول السبب فينطلق العداد لإضافة السنة الباقية من المدة إلى السنوات الثلاث التي انصرمت قبل حدوث سبب التوقف .
وحسب المادة السادسة من ق.م.ج، فان تقادم الدعوى العمومية يتوقف فيما إذا كانت استحالة إقامتها ترجع إلى القانون نفسه، فالأمر لا يتعلق بإهمال إقامة الدعوى العمومية وإنما بوجود مانع قانوني يحول دون ممارستها خلال فترة من الفترات، فمن الطبيعي أن لا تحتسب تلك الفترة ضمن مدة التقادم لان السبب القانوني هو الذي حال دون إقامة الدعوى العمومية كما لو كان مرتكب الفعل متمتعا بحصانة قضائية تمنع متابعته، حيث يتوقف احتساب الأجل طيلة وجود الحصانة باعتبار ان القانون نفسه يمنع من تحريك الدعوى العمومية بسبب وجود الحصانة، ويتعين انتهاؤها أو رفعها لانطلاق احتساب الأجل، كان يرتكب شخص من الأشخاص جنحة ثم يكتسب حصانة قضائية ( برلمانية أو دبلوماسية مثلا ).
بعد مرور سنة من ارتكاب الجريمة مما يستحيل معه إمكانية تحريك الدعوى العمومية ، فتلجا النيابة العامة إلى المطالبة برفعها من البرلمان و لا يبت البرلمان فيها طيلة الثلاث سنوات ونصف ( أي لا يبت إلا بعد مرور أربع سنوات ونصف على ارتكاب الجنحة ) مما يؤدي عمليا إلى مرور وقت اكبر من مدة التقادم، غير انه لا يكون هناك تقادم خلال الأربع سنوات ونصف المشار إليها لان القانون نفسه يمنع من إقامة الدعوى العمومية قبل رفع الحصانة، ولذلك فإنها لا تحتسب في عداد مدة التقادم، و أن الحساب ينطلق بعد قرار البرلمان بالموافقة على رفع الحصانة أو بعد فقدها ليضاف إلى السنة الأولى التي انصرمت من المدة قبل حدوث المانع .
فالداعي إلى عدم احتساب المدة يرجع إلى كون السبب القانوني هو الذي يحول دون ممارسة الدعوى العمومية. و قد نص القانون المغربي صراحة على بعض الحالات التي يتوقف فيها تقادم الدعوى العمومية، كما هو الشأن حينما يتضح للمحكمة أن الشخص المتابع بجناية أو جنحة كامل المسؤولية أو ناقص المسؤولية بالنسبة للأفعال المنسوبة إليه، و لكن خللا عقليا طرأ عليه أو اشتد أثره بعد ارتكاب الفعل فأصبح معه غير قادر على الدفاع عن نفسه، حيث يتعين على المحكمة أن تأمر بوقف النظر في الدعوى العمومية و إحالته على مؤسسة للعلاج، حيث يتم استئناف المحاكمة بعد العلاج دون احتساب مدة الإيداع ضمن اجل التقادم. فالقانون نفسه منع من مواصلة الدعوى العمومية خلال العلاج في هذه الحالة ( الفصل 79 من القانون الجنائي) و لذلك فان مدة العلاج تنقطع من الأجل .
كذلك و مما يجب التنبيه إليه، أن وقف التقادم قد يتم كذلك بأي إجراء غير قضائي، و من ذلك ما نصت عليه المادة 25 من قانون حرية الأسعار و المنافسة، و التي جاء فيها ما يلي:
“يدرس مجلس المنافسة ما إذا كانت الممارسات المحال أمرها إليه تعتبر خرقا لأحكام المادتين 6 و7 أعلاه أو فيما إذا كان من الممكن تبرير هذه الممارسات بتطبيق المادة 8 أعلاه.
و يبلغ رأيه إلى الوزير الأول أو إلى الهيئات التي استصدرت الرأي و يوصي إن اقتضى الحال بالتدابير أو الشروط أو الأوامر المنصوص عليها في هذا القسم.
لا يجوز أن تحال إليه الأفعال التي يرجع تاريخ وقوعها إلى أكثر من خمس سنوات إن لم ينجز أي عمل يهدف إلى البحث عنها أو إثباتها أو المعاقبة عليها داخل ذلك الأجل.
يوقف سريان التقادم باستشارة مجلس المنافسة” .
المبحث الثاني: الاستثناءات الواردة على القواعد الثابتة لنظام التقادم الجنائية
تلعب التشريعات الجنائية الخاصة دور القاعدة الاستثنائية في مجال تقادم الدعوى العمومية و تقادم العقوبات، إذ نجد باستقراء العديد من القوانين الجنائية الخاصة، خروج المشرع عن القاعدة العامة لعدة اعتبارات، منها الخصوصية التي تتميز بها تلك التشريعات و منها صبغة الأفعال التي تنص على تجريمها.
و نضيف كذلك الجرائم التي حث النسق الدولي على عدم تقادمها و التي اخذ بها المشرع المغربي لغاية تحقيق العدالة الجنائية داخل المجتمع.
المطلب الأول: حدود القاعدة العامة لتقادم الدعوى الجنائية
سنتناول في هذا المقام كلا من الاستثناءات التي وردت على القاعدة العامة لتقادم الدعوى العمومية عبر الحديث عن التشريعات الجنائية الخاصة و كذلك عن طريق التطرق لبعض الجرائم التي رفع عنها المشرع ستار التقادم بالمرة.
الفقرة الأولى : حدود التقادم المسقط للدعوى في التشريعات الجنائية الخاصة
ينص المشرع المغربي في المادة 5 من ق.م.ج على ما يلي:
تتقادم الدعوى العمومية ما لم تنص قوانين خاصة على خلاف ذلك بمرور :
1. خمس عشرة سنة ميلادية كاملة تبتدئ من يوم ارتكاب الجناية
2. أربع سنوات ميلادية كاملة تبتدئ من يوم ارتكاب الجنحة
3. سنة ميلادية كاملة تبتدئ من يوم ارتكاب المخالفة
إن المشرع لما اقر الآجال المذكورة كحد للتقادم بالنسبة لكافة الجرائم ، استثنى بعضها الأخر بقوله ( ما لم تنص قوانين خاصة على ذلك )، حيث أكد على إمكانية الأخذ بآجال أخرى في الحالات الخاصة التي يقررها القانون نفسه ، كتقادم الدعوى العمومية بالنسبة للجرائم المنصوص عليها في قانون الصحافة التي تتقادم بمرور ستة أشهر من تاريخ ارتكاب الفعل أو تاريخ أخر وثيقة من وثائق المتابعة إذا كانت هناك متابعة .
و جرائم العصيان و الفرار وقت الحرب والفرار إلى العدو التي لا يبدأ احتساب التقادم بشأنها إلا ابتداء من بلوغ الجاني خمسين سنة . و المخالفات الغابوية التي تتقادم بمرور ستة أشهر من تاريخ تحرير المحضر او بمرور ثلاث سنوات على ارتكاب المخالفة اذا لم يحرر بشأنها محضر وفقا لما نص عليه الفصل 75 من ظهير 10 أكتوبر 1917 بشان المياه و الغابات .
و كما الشأن بالنسبة لجريمة التفالس و جرائم أخرى في حال افتتاح مساطر المعالجة المنصوص عليها في المواد 721 ، 722 ، 723 ، 724 من مدونة التجارة التي لا يسري فيها تقادم الدعوى العمومية إلا من يوم النطق بحكم فتح مسطرة المعالجة حينما تكون الأفعال المجرمة قد ظهرت قبل هذا التاريخ .
الفقرة الثانية: الجرائم الغير القابلة للتقادم
اعتبر المشرع أن بعض الجرائم – نظرا لخطورتها و فضاعتها – لا يمكن تناسيها ابدا مهما مضى من الوقت. و في هذه الحالة ينص على عدم تقادمها، كما هو الشأن لما جاء في الفقرة الثانية من الفصل 150 من قانون العدل العسكري بشان الجريمة المنصوص عليها في الفقرة الأولى من الفصل 147 من نفس القانون التي لا تقادم فيها سواء فيما يخص الدعوى العمومية أو العقوبات، و يتعلق الأمر بفرار جندي في صفوف العدو أو لجوء جندي عاص إلى الخارج أو يبقى بالخارج في زمن الحرب لكي يتخلص من أعبائه العسكرية، حيث تصادر المحكمة العسكرية جميع أمواله الموجودة أو التي ستوجد في المستقبل لفائدة الأمة . مع الإشارة أن الجريمة معاقبة بمقتضى الفصول 141 إلى 149 من قانون العدل العسكري.
كما ان بعض الاتفاقيات الدولية تنص على عدم تقادم بعض الجرائم كالجرائم ضد الإنسانية ، و هي تلك الجرائم التي يرتكبها أفرادٌ من دولةٍ ما ضد أفراد آخرين من دولتهم أو من غير دولتهم، وبشكل منهجي وضمن خُطَّةٍ للاضطهاد والتمييز في المعاملة بقصد الإضرار المتعمَّد ضد الطرف الآخر، وذلك بمشاركةٍ مع آخرين لاقتراف هذه الجرائم ضد مدنيِّين يختلفون عنهم من حيث الانتماء الفكري أو الديني أو العِرْقي أو الوطني أو الاجتماعي أو لأية أسبابٍ أخرى من الاختلاف.
وغالبًا ما تُرتكب هذه الأفعال ضمن تعليماتٍ يصدرها القائمون على مُجْرَيَات السلطة في الدولة أو الجماعة المسيطرة، ولكن ينفذُها الأفراد، وفي كل الحالات، يكون الجميع مذنبين، من مُصَدِّرِي التعليمات إلى المُحَرِّضين، إلى المقْتَرِفين بشكلٍ مباشر، إلى الساكتين عنها على الرغم من علمهم بخطورتها، وبأنها تمارَس بشكلٍ منهجيٍّ ضد أفراد من جماعة أخرى.
وتطورت الملاحقة الدولية لها، حسبما جاء في نظام روما للمحكمة الجنائية الدولية، بحيث إنه يصبح الفرد مذنبًا بجريمة ضد الإنسانية حتى لو اقترف اعتداءً واحدًا أو اعتداءين يُعتبران من الجرائم التي تنطبق عليها مواصفات الجرائم ضد الإنسانية، كما وردت في نظام روما، أو أنه كان ذا علاقة بمثل هذه الاعتداءات ضد قلة من المدنيين، على أساس أن هذه الاعتداءات جرت كجزء من نمطٍ متواصلٍ قائمٍ على سوء النيَّة يقترفه أشخاصٌ لهم علاقة بالمذنب .
كذلك من الجرائم الغير القابلة للتقادم بشكل عام، نذكر جرائم الحرب و العدوان و الإبادة الجماعية المنصوص عليها في المادة 29 من معاهدة روما حول المحكمة الجنائية الدولية و المادة الثانية من اتفاقية عدم تقادم جرائم الحرب و الجرائم ضد الإنسانية المؤرخة في 26 نونبر 1968 .
الفرع الثاني: مظاهر تأثر التشريع المغربي بالقواعد المؤسسة لفكرة تقادم العقوبة الجنائية
عرف تقادم العقوبة لأول مرة كنظام قانوني عام في المدونة الفرنسية الصادرة سنة 1791، كما ورد في المدونة الايطالية سنة 1889، وقد جعل المشرع المغربي على غرار هذه التشريعات التقادم من بين مسقطات العقوبة، كما جعله من مسقطات الدعوى العمومية، و إن كان الاختلاف بينهما واضحا. و من منطلق هذا الاختلاف فان تقادم الجريمة ينصب على الفعل الجرمي ، الذي يعد ضابطا أساسيا يمكن الركون إليه على أي تقادم نعني ، اهو التقادم الجنائي أم التقادم الجنحي أم التقادم في المخالفات. أما تقادم العقوبة ، فانه يجعل هذه الأخيرة هي السبيل في الاهتداء إلى المدة القانونية التي جعلها المشرع كافية للقول بسقوط العقوبة ، اعتبارا لكون التقادم قد طالها .
و فضلا عما سبق ، فان تقادم الجريمة جعله المشرع خاضعا لإجراءات الإيقاف و الانقطاع، و ذلك بواسطة الإجراءات و الأحداث القانونية التي أتى على تحديدها كل في مجاله . أما تقادم العقوبة، فانه غير خاضع مبدئيا لإجراءات الإيقاف و الانقطاع ، إذا ما استثنينا ما ادخل على ما كان يقضي به قانون المسطرة الجنائية القديم في الفصل 688. بحيث اصبح عندئذ تقادم العقوبات المالية قابل للانقطاع بكل إجراء من إجراءات التحصيل .
و تقادم الجريمة طالما جعله المشرع مرتبطا ارتباطا وثيقا بالفعل المقترف، فانه لا يطرح أي إشكال في تحديد مدة التقادم التي ينبغي تطبيقها على الفعل المقترف. أما تقادم العقوبة، فانه يطرح أكثر من سؤال، خاصة تلك المنطوق بها بشكل لا يناسب الفعل موضوع المحاكمة، إما بسبب ظروف التشديد، أو حالة العود، أو بسبب ظروف التخفيف، أو الأعذار المخففة للعقوبة. وهذا ما دفعنا إلى مقاربة هذا النوع من الإشكالات على مستوى تقادم العقوبة، بالشكل الذي يثور معه التساؤل حول ما إذا كان يعتد بالفعل أم بمقدار العقوبة المحكوم بها في الاهتداء إلى نظام تقادم العقوبة المناسب ؟ . و إذا كان هناك مبدأ ، فما هي الاستثناءات الواردة عليه ؟ . و هما التساؤلان اللذان سنحاول الإجابة عنهما تباعا .
المبحث الأول: تقادم العقوبة اعتداد بالفعل أم بمقدار العقوبة
هل يعتد بالفعل أم بمقدار العقوبة؟ إن حقيقة هذا الإشكال يطرح بإلحاح على المستوى العملي، إذ نجد المتهم يحاكم من اجل جناية، إلا أن العقوبة التي صدرت في حقه هي عقوبة جنحية ، بسبب تمتيع المعني بالأمر إما بأعذار مخففة ، أو بظروف التخفيف بحسب الأحوال. و بالمقابل قد نجد أن المحاكمة قد تمت من اجل جنحة ، إلا أن العقوبة الصادرة هي عقوبة المخالفة. فما هي مدة التقادم التي سنعتمد في هذا المجال ، هل هي مدة التقادم الخاصة بالجريمة ، أم تلك المناسبة للعقوبة المحكوم بها ؟
المطلب ألأول إطار تحديد طبيعة أو وصف العقوبة
سنتناول في هذا المقام أهم المظاهر التي تحدد طبيعة و وصف العقوبة
الفقرة الأولى: الجهة المخول لها تحديد طبيعة و وصف العقوبة
إن تحديد طبيعة العقوبة أو وصفها من اختصاص المشرع وليس من شان القاضي في شئ، الذي خول الحق في تقدير العقوبة ليس إلا . ولذلك تكون العقوبة الحبسية المحددة في ثلاث سنوات بسبب البث في جناية هي عقوبة جنحية و ليست عقوبة جنائية ، نظرا لكونها لا تستمد هذا الوصف الأخير من الهيئة التي تبث في الجناية ، ولا من وصف الجرم موضوع المحاكمة . و لذلك كان لا بد من إثارة الانتباه إلى هذه الجزئية قبل التصدي للإشكال المشار إليه سلفا .
الفقرة الثانية: وصف العقوبة بين التشديد و التخفيف
أن المشرع تعرض لجانب من هذا الإشكال في حالة تشديد العقوبة الجنحية، لتصبح عقوبة جنائية ، إذ في هذه الحالة ذهب المشرع المغربي إلى تحديد مدة التقادم توازي مدة العقوبة ، و ذلك من خلال المادة 650 من ق.م.ج التي تنص على : (…غير انه إذا كانت عقوبة الحبس المحكوم بها تتجاوز خمس سنوات فان مدة التقادم تكون مساوية لمدة العقوبة)
فهذه الفقرة التي حافظ عليها المشرع في قانون المسطرة الجنائية الجديد ضمن محتوى
المادة 650 ق.م.ج، تثير ملاحظة أساسية ، وهي أن المشرع بالرغم من كون العقوبة الجنحية تتجاوز الخمس سنوات ، فانه أصر على تسميتها بالعقوبة الحبسية، و ليس العقوبة السجنية. مما يمكن معه تصور أن العقوبات السالبة للحرية تبقى دائما حبسا و لا تتحول إلى سجن، بالرغم من تجاوزها مدة خمس سنوات و انضوائها ضمن ما يعرف بالعقوبات السجنية و ليس الحبسية .
أما في حالة تخفيض العقوبة من الجناية إلى الجنحة ، فان المشرع – على ما يبدو – فضل السكوت عن هذا الموضوع و لم يقحم أي مقتضى ينظم هذه الحالة ، اعتبارا للاختلاف بين الفعل موضوع المحاكمة ( جناية) و بين العقوبة المحكوم بها فيه ( عقوبة جنحية) . و إذا كان لهذا السكوت ما يبرره في القانون القديم للمسطر الجنائية ، فان الأمر غير ذلك في نص المسطرة الجنائية الجديد ، لأنه إذا كان الفصل 689 يحدد مدة التقادم في القضايا الجنائية فان صياغة المادة 650 باستعمالها لعبارة ( تقادم العقوبات في القضايا الجنحية ) و ليس ( تقادم العقوبات الجنحية) إذ في ذلك اختلاف واضح له أثره على مستوى الإجراءات، بحيث إن مدة التقادم هي أربع سنوات سواء تعلق الأمر بالعقوبات الجنحية أو بالعقوبات الضبطية ، بعد تمتيع المعني بالأمر بظروف التخفيف .
ولكن بالرغم من هذه الصياغة الواضحة ، فان بعض الفقه المغربي قد ذهب مذهبا مخالفا لما يرومه المشرع من هذا النص ، إذ أكد على أن العبرة بالعقوبة المحكوم بها في تحديد مدة التقادم الموازية لها ، وليس بالجرائم التي تمت المحاكمة من اجلها .
المطلب الثاني: مدة التقادم المأخوذة بعين الاعتبار
في ظل القانون الجديد، فان ما يثير الانتباه هو أن هذا القانون قد عدل صياغة المواد في هذا الشأن تعديلا لم يرد له أن يكون شاملا لجميع النصوص و المقتضيات القانونية، بحيث حافظ على حرفية الفقرة الأولى من المادة 689 ق.م.ج بمقتضى الفقرة الأولى من المادة 649 ق.م.ج من القانون الجديد. و أن كان هناك اختلاف في تاريخ احتساب أمد التقادم، ثم إن المشرع عدل صياغة الفقرة الأولى من الفصل 690 بالفقرة الأولى من المادة 650. إذ بعدما كان يتحدث عن تقادم العقوبات في قضايا الجنح أصبح يتحدث عن تقادم العقوبات الجنحية . هذه الأخيرة التي قد تأتي نتيجة البث في الجنح أو بمناسبة البث في الجنايات. و هذا في الحقيقة من شانه أن يطرح إشكالا كبيرا من الناحية العملية .
فما هي إذن مدة التقادم التي يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار ، أهي تلك الموازية للعقوبة الجنحية، أم تلك المرتبطة بالفعل الجرمي موضوع الإدانة ؟
الفقرة الأولى: طبيعة العقوبة أساس لاحتساب مدة تقادم العقوبات الجنحية
لابد من الاحتكام إلى طبيعة العقوبة و ليس إلى الفعل الجرمي موضوع الإدانة ، و بالتالي فان مدة التقادم في العقوبات الجنحية هي أربع سنوات من صيرورة الحكم نهائيا ، سواء كانت العقوبة الحبسية نتيجة الإدانة من اجل جناية أو جنحة ، وهو نفس موقف الفقه المشار إليه سابقا .
ولكن أمام هذا الوضوح ، و هذه البساطة في قراءة المقتضيات القانونية نجد من ينتهي إلى القول بتطبيق مدة تقادم العقوبات الجنائية من اجل فعل له وصف جنحة ، و ذلك انطلاقا من صياغة الفقرة الأولى من المادة 649 ق.م.ج التي تنص على انه ((تتقادم العقوبات الجنائية بمضي خمس عشرة سنة ميلادية كاملة ، تحسب ابتداء من التاريخ الذي يصبح فيه الحكم الصادر بالعقوبة مكتسبا لقوة الشئ المقضي به …)). غير انه يجب ألا ننسى أن المشرع تصدى لهذه الجزئية من خلال الفقرة الثانية من المادة 659 ق.م.ج من خلال نصها على ما يلي : (( غير انه إذا كانت عقوبة الحبس المحكوم بها تتجاوز خمس سنوات ، فان مدة التقادم تكون مساوية لمدة العقوبة )).
الفقرة الثانية: احتساب مدة التقادم بالنسبة للعقوبات الحبسية
عقوبات المخالفة في القانون الجنائي المغربي هي الاعتقال لمدة تقل عن شهر والغرامة من 30 إلى 1200 درهم، وإن كان المشرع المغربي اعتمد معيار نوع العقوبة في تحديد مدة التقادم فإنه بالنسبة للمخالفات أخد بمعيار الوصف الجنائي للفعل، إذ أن وصف الفعل بالمخالفة هو الذي يحدد مدة تقادم العقوبة وهذه المدة هي سنة ميلادية كاملة من التاريخ الذي يصبح فيه المقرر الصادر بالعقوبة مكتسبا لقوة الشيء المقضي به . و بالنسبة للعقوبة الحبسية الناتجة عن الحكم من اجل مخالفة ، فهو فرض غير وارد من منطلق كون ظروف التشديد مرتبطة بالجنايات و الجنح و ليس لها علاقة بالمخالفات.
المبحث الثاني: حدود تطبيق القاعدة العامة لتقادم العقوبات
الأصل انه يعتد بالعقوبة في تحديد مدة التقادم المسقطة لها ، و مع ذلك فان المشرع أورد كعادته استثناءات على هذه القاعدة ، هذه الاستثناءات تنصرف إلى العقوبات الجنائية و الجنحية و الضبطية . و التي لا نجد لها مثيلا في التشريعات الجنائية المقارنة ، كالمشرع المصري و الفرنسي اللذان جعلا الضابط الأساسي في الاهتداء إلى مدة التقادم هو الفعل الجرمي موضوع المحاكمة أو الفعل المقترف . و هو شان المشرع الجزائري أيضا في المواد 613 614 615 من قانون الإجراءات الجزائية ، و المشرع المصري في المادة 763 من قانون الإجراءات الجنائية ، و المشرع الفرنسي في المواد 763 764 765 من قانون المسطرة الجنائية القديم و 133-2 133-3 133-4 من مجموعة القانون الجنائي الحالي .
و إذا كان الأمر كذلك ، فلا بد من الوقوف على هذه الاستثناءات في مادة الجنايات و الجنح و المخالفات . و ذلك بعد أن نسرد الضابط القانوني في الاهتداء أولا إلى مدة تقادم العقوبة السالبة للحرية و العقوبة المالية .
المطلب الأول: الضابط الأساسي في الاهتداء إلى مدد تقادم العقوبات
في هذا المقام سنحاول التطرق إلى تقادم مختلف العقوبات التي اقرها المشرع في مجموعة القانون الجنائي، و سنتحدث فيها عن العقوبات السالبة للحرية و كذا العقوبات المالية.
الفقرة الأولى: تقادم العقوبات السالبة للحرية
تتقادم العقوبات السالبة للحرية إذا مرت المدة التي يحددها القانون للتقادم، و لا ينص القانون على إجراءات من شانها قطع التقادم أو توقيفه بالنسبة لهذا النوع من العقوبات. فالمعيار الوحيد لسقوط العقوبة السالبة للحرية بالتقادم و تخلص المحكوم عليه منها، هو مرور المدة المقررة للتقادم، أي أن تمضي سنة واحدة على العقوبة الضبطية أو أربع سنوات على العقوبة الجنحية، ما لم تكن هذه الأخيرة أكثر من أربع سنوات حيث يتعين مرور مدة مساوية لمدة العقوبة المحكوم بها، أو خمس عشرة سنة بالنسبة للعقوبة الجنائية، و ذلك منذ التاريخ الذي يصبح فيه الحكم بالعقوبة حائزا لقوة الشئ المقضي به، و لا يمكن تغيير الأجل بقطعه أو توقيفه بسبب المساعي المبذولة لتنفيذ الحكم على المحكوم عليه الهارب، غير انه بالنسبة لحالات انعدام الأهلية المحكوم بها في مقرر الإدانة أو الناتجة عن المقرر بمقتضى القانون، فإنها تظل سارية المفعول و لا تتأثر بمرور الوقت.
و يجدر الذكر، أن الفصل 40 من القانون الجنائي يجيز للمحكمة في الحالات التي يحددها القانون، إذا حكمت بعقوبة جنحية أن تحكم عليه بالإضافة إلى ذلك بالحرمان من ممارسة حق أو أكثر من الحقوق المشار إليها في الفصل 26 من نفس القانون لمدة تتراوح من سنة و عشر سنوات.
و من بين الحالات التي يمكن فيها للمحكمة الحكم بهذا النوع من العقوبات الإضافية في الجنح ما نص عليه الفصل 40 ( الفقرة الأخيرة ) من القانون الجنائي، إذا حكمت المحكمة بعقوبة جنحية من اجل جريمة إرهابية، و كذلك ما نص عليه الفصل 379 من القانون الجنائي بالنسبة للعقوبات الجنحية المحكوم بها على الجرائم المنصوص عليها في الفرع السادس من الباب السادس المتعلق بشهادة الزور و اليمين الكاذبة و الامتناع عن الشهادة، و الأمثلة على ذلك كثيرة.
و إذا كان القضاء هو الذي يمكن أن يحكم بالحرمان من الأهلية كعقوبة إضافية إذا حكم على المعني بالأمر بعقوبة جنحية ( الفصل 40 من ق.ج )، فان هذا الحرمان ينتج بقوة القانون إذا تمت الإدانة بعقوبة جنائية و يتعين تطبيقه دون حاجة للنطق به من طرف المحكمة ( الفصل 37 من ق.ج ). و بالإضافة إلى استمرار تطبيق موانع الأهلية بالنسبة للمحكوم عليه الذي تقادمت عقوبته كما سبق، فان المحكوم عليه بعقوبة جنائية يخضع طيلة حياته، و بقوة القانون للمنع من الإقامة في دائرة العمالة أو الإقليم التي يستقر بها الضحية الذي ارتكبت الجريمة على شخصه أو على أمواله أو يستقر بها ورثته المباشرون.
الفقرة الثانية- تقادم العقوبات المالية :
إن ما يميز العقوبات المالية عن العقوبات السالبة للحرية هو إمكانية قطع التقادم بالنسبة للغرامات و المصاريف القضائية، ذلك أنه إذا كانت العقوبة السالبة للحرية لا يمكن قطعها بالتقادم، فان العقوبات المالية و المصاريف القضائية ينقطع تقادمها بكل إجراء من إجراءات تحصيل الغرامات يتم بمسعى من الجهات المأذون لها بتحصيل تلك الأموال و هي أساسا مصالح الخزينة و مصالح كتابة الضبط بالإضافة إلى قباض الجمارك و الضرائب غير المباشرة و قباض إدارة الضرائب…
و إجراءات التحصيل متعددة تشمل جميع أشكال المطالبة بالأداء التي يحددها القانون 15.97 بمثابة مدونة تحصيل الديون العمومية.
المطلب الثاني: الاستثناء الوارد على الضابط في الاهتداء إلى مدة تقادم العقوبات
يؤدي تقادم العقوبة إلى سقوطها و استحالة تنفيذها. وينص الفصل 49 من القانون الجنائي انه ” تنفذ على المحكوم عليه العقوبات الصادرة بتمامها إلا إذا طرأ سبب من أسباب الانقضاء أو الإعفاء أو الإيقاف الأتي بيانها : و من بينها التقادم”. و جاء في الفصل 45 من نفس القانون أنه يترتب عن تقادم العقوبة تخلص المحكوم عليه من مفعول الحكم وفق الشروط المبينة في قانون المسطرة الجنائية. و تنص المادة 648 من قانون المسطرة الجنائية أنه: يترتب على تقادم العقوبة، تخلص المحكوم عليه من أثار الإدانة إذا لم تكن العقوبة قد نفذت خلال الآجال المحددة في المادة 649 و ما يليها إلى المادة 651 من نفس القانون .
الفقرة الأولى:تحديد مختلف العقوبات
معلوم أن القانون الجنائي حدد العقوبات الجنائية في الفصل 16 و هي الإعدام و السجن المؤبد و السجن المؤقت من خمس سنوات إلى ثلاثين سنة، و الإقامة الجبرية و التجريد من الحقوق الوطنية، و لذلك فالأحكام الصادرة في تلك العقوبات تتقادم بمرور خمسة عشر سنة من التاريخ الذي يصبح فيه الحكم مكتسبا لقوة الشئ المقضي به .
و أما العقوبات الجنحية فقد حددها الفصل 17 من القانون الجنائي في الحبس و الغرامة التي تتجاوز 1200 درهم. و تتراوح مدة الحبس عادة – بين شهر و خمس سنوات – ، غير ان الحبس قد يتجاوز الخمس سنوات بالنسبة لبعض الجرائم كما هو الشأن بالنسبة لجرائم المخدرات المنصوص عليها في القانون الصادر في 21 ماي 1974، و كما هو الشأن بالنسبة للإشادة بالإرهاب النصوص عليها في الفصل 2-218 من القانون الجنائي المعاقبة بالحبس من سنتين إلى ست سنوات، و كما هو الشأن بالنسبة لجنحة النصب المنصوص عليها في الفقرة الثانية من الفصل 540 من القانون الجنائي التي تنص على أن عقوبة الحبس المحددة في الفقرة الأولى من سنة إلى خمس سنوات ترفع إلى الضعف ( أي الحبس من سنتين إلى عشر سنوات ) إذا كان مرتكب جريمة النصب قد استعان بالجمهور في إصدار أسهم أو سندات…
متعلقة بشركة أو بمؤسسة تجارية أو صناعية. فالعبرة في الوصف الذي يطلقه القانون أو القاضي على العقوبة السالبة للحرية، فالسجن عقوبة جنائية و الحبس عقوبة جنحية، فخمس سنوات سجنا هي الحد الأدنى للعقوبة الجنائية، و أما خمس سنوات حبسا فهي الحد الأقصى للعقوبة الجنحية، و لذلك إذا حكمت غرفة الجنايات بخمس سنوات سجنا فان الآمر يتعلق بعقوبة جنائية يلزم لمرورها خمس عشرة سنة، و أما إذا حكمت بخمس سنوات حبسا، فان الأمر ينحصر في عقوبة جنحية تتقادم بمرور أربع سنوات فقط .
و أما العقوبات الضبطية، أي الصادرة بشأن المخالفات فقد حصرها الفص 18 من القانون الجنائي في الاعتقال لمدة تقل عن شهر و في الغرامة المتراوحة ما بين 30 درهم و 1200 درهم، و هي تتقادم بمرور سنة واحدة.
الفقرة الثانية: الاستثناء الوارد على الضابط في الاهتداء إلى مدة تقادم مختلف العقوبات
تحدد المواد ( من 649 إلى 651 من ق.م.ج ) آجال التقادم بالنسبة للعقوبات الجنائية بمضي خمسة عشر سنة ميلادية كاملة منذ التاريخ الذي يصبح فيه الحكم الصادر بالعقوبة مكتسبا لقوة الشئ المقضي به، و بالنسبة للعقوبات الجنحية بمضي أربع سنوات كاملة تحسب بنفس الكيفية، غير أن مدة التقادم تكون مساوية لمدة العقوبة الجنحية إذا كانت هذه الأخيرة تتجاوز خمس سنوات. و بالنسبة للعقوبات الصادرة عن المخالفات بمضي سنة واحدة تحسب بنفس الطريقة، أي منذ حيازة الحكم بالإدانة حجية الشيء المقضي به.
و الملاحظ هنا انه، خلافا لما عليه الأمر بالنسبة للدعوى العمومية حيث العبرة في تحديد التقادم بطبيعة الجريمة ( جناية أو جنحة أو مخالفة )، كما مر معنا، فانه بالنسبة لتقادم العقوبات تحتسب مدة التقادم على أساس طبيعة العقوبة المحكوم بها – لا على أساس طبيعة الجريمة – حيث يتعلق الأمر بالإدانة من اجل جناية و لكن يحكم فقط بعقوبة جنحية ( كالحكم بثلاث سنوات حبسا نافذا من اجل السرقة الموصوفة مثلا ). ففي هذه الحالة تتقادم العقوبة بمرور الأربع سنوات المقررة للعقوبة الجنحية رغم أن الفعل الذي تمت الإدانة من اجله جناية ( السرقة الموصوفة ). فالعبرة بطبيعة العقوبة لا بطبيعة الجريمة لتحديد اجل تقادم العقوبات .
خاتمة
حاولت في هذا البحث أن أتعرض بقدر الإمكان لمجمل المسائل المتعلقة بنظام التقادم الجنائي و ضرورات العدالة الجنائية هادفا للربط بين للوصول إلى حقيقة وضع كلا العنصرين و مدى توافقهما في عصر خضعت فيه جل الأنظمة للدمقرطة.
وقد خلصت من البحث إلى بعض النتائج و الملاحظات منها:
أولاً– أن تبني المشرع المغربي لنظام التقادم الجنائي هو وليد فكرة محبذة له مفادها أن هذا النظام يساعد الجناة على التصالح مع المجتمع الذي يكون بعد فترة من الزمن قد تناسى الجريمة المقترفة و ليس مفرا من العقاب.
ثانيا– أن أحكام التقادم الجنائي هي سعي من المشرع لإحكام زمام الأمور لأولويات العدالة الجنائية، و عدم جعل هذا النظام ثغرة لإفلات الجناة من العقاب.
ثالثا– أن العدالة الجنائية مفهوم واسع لا يمكن حصره في مجال محدد و هو متغير بتغير حاجيات المجتمع للأمن، و نظام التقادم الجنائي سيظل خاضعا لضرورات العدالة الجنائية المتغيرة بتغير أحوال المجتمع.
رابعا- أن التقادم الجنائي لا يمكن الجزم بأنه يساعد في تحقيق العدالة الجنائية لأنه يتضارب بين التأييد و المعارضة. لكن في وجهة نظري أنه يكفي السهر على تطبيق أحكام الوقف و القطع من أجل ملائمته مع حاجيات المجتمع في الإحساس بالأمن و عدم السماح للجناة من الفرار بجرمهم.
و الحمد لله رب العالمين
(محاماه نت)