دراسات قانونية
السلطات الإدارية المستقلة (بحث قانوني)
السلطات الإدارية المستقلة في الجزائر
Autonomous administrative authorities in Algeria
سلطان عمار، جامعة الإخوة منتوري – قسنطينة 1 – الجزائر
Soltane Amar, Mentouri University – Constantine 1 – Algeria
ملخص:
منذ تبني النظام الجزائري للنهج الليبرالي و مبادئ اقتصاد السوق بإعتماد دستور 1989 و تبعا لانسحاب الدولة من الاقتصاد نشهد حركة تكريس لمفاهيم قانونية جديدة تتعلق بالضبط الاقتصادي و أدواته التنفيذية )السلطات الإدارية المستقلة( المكلفة بضبط النشاط الاقتصادي في مختلف قطاعاته، و هي تعبر عن انفجار السلطة التنظيمية للدولة لصالح أشخاص عامة جديدة و متميزة تلعب دورا مهما في تنظيم السوق و ضبط منازعاته. يحاول هذا البحث التعريف بها و معرفة المبررات التي دفعت المشرع الجزائري لاعتمادها.
الكلمات المفتاحية: السلطات الادارية المستقلة ؛ الضبط الاقتصادي؛ المنافسة؛ تنظيم السوق؛ الاستقلالية، اقتصاد السوق.
Abstract:
Since the adoption by the Algerian regime of the liberal approach and the principles of market economy by adopting the Constitution of 1989 and due the withdrawal of the state from the economy, we are witnessing a movement of dedicating new legal concepts related to the economic regulation and its executive means (Autonomous Administrative Authorities) in charge of regulating the economic activity in various sectors, which reflects the explosion of the regulatory authority of the state in favour of new public and distinct people playing an important role in the regulation of the market and control of disputes. This research attempts to identify and know the justifications that prompted the Algerian legislator to adopt it.
Key words: Autonomous administrative authorities; Economic regulation; Competition; Market regulating; Autonomy; Market economy.
مـقـدّمــة :
تبنى النظام السياسي الجزائري مباشرة بعد الاستقلال النهج الاشتراكي و هو ما يعني سياسيا هيمنة الحزب الواحد، و اقتصاديا تبنى نظام الاقتصاد المخطط و سيطرة الدولة على وسائل الإنتاج و مبدأ التسيير المركزي، و كان من أهم الشعارات الثورية المعلنة تحقيق العدالة الاجتماعية. لكن واقع الحال أثبت فشل النظام السياسي الجزائري في تحقيق الأهداف المعلنة، و كانت أحداث أكتوبر 1988 الدموية جرس إنذار نبه النظام الحاكم إلى واقع جديد يتمثل في مأساة جيل جديد يعاني من مشاكل اجتماعية اقتصادية و بيروقراطية الإدارة و هي نتاج خيارات السلطة الحاكمة، مما دفع النظام إلى تبنى تحولات سياسية و اقتصادية جذرية، تمثلت على الخصوص في تكريس مبادئ الديمقراطية و الليبرالية من تعددية حزبية و اقتصاد السوق و حرية الإعلام و حرية الانتماء النقابي بمقتضى دستور 89. و هكذا انتقلت الجزائر من نظام الاقتصاد الموجه إلى نظام الاقتصاد الليبرالي.
و تبعا لإنسحاب الدولة من الاقتصاد نشهد حركة تكريس لمؤسسات قانونية منقولة مباشرة عن التشريع الفرنسي، و هذا الانسحاب ليس معناه ترك عالم الاقتصاد بلا ضوابط فهذا أمر لا يتقبله عقل و لا منطق، بل يتطلب خلق آليات جديدة تتولى مهام السلطات العمومية في جزء منها، فكانت السلطات الإدارية المستقلة هي البديل الذي يقوم بهذا الدور في تنظيم السوق. و من ثم فهي تعبر عن انفجار السلطة التنظيمية للدولة لصالح أشخاص عامة جديدة و متميزة و من هنا تأتي أهميتها، و هي علاوة على ذلك مزودة بصلاحيات تنظيمية و أخرى قضائية، فهي تمارس دور المراقب و دور الحكم في نفس الوقت. بل نستطيع القول أن لها دور تشريعي إذ أنها كثيرا ما تستشار فيما يخص التشريعات المتعلقة بالقطاع الذي تشرف عليه. فما الذي يبرر تبنيها من قبل المشرع الجزائري؟
في البداية نسجل أن موقف المشرع الجزائري اتجاه هذه السلطات الجديدة كان يسوده الغموض فلم يسلم بمبدأ استقلاليتها بسهولة رغم نصه على تمتعها بالاستقلال الإداري و المالي، إذ أنه لم يوفر الأدوات القانونية التي تؤكد ذلك، فلم تكن رؤيته واضحة اتجاه مفهوم السلطة الإدارية المستقلة، فالمصطلح يثير إشكالات قانونية عديدة و يحمل في طياته ما يشبه التناقض بين صفة السلطة الإدارية التي تتميز بالتبعية و تخضع إلى رقابة رئاسية أو وصائية و إلى رقابة القضاء الإداري و بين صفة الاستقلالية. و كمثال فقد انتهى المشرع الجزائري عبر القانون رقم 12.08 المتعلق بالمنافسة المعدل لسلفه الأمر رقم 03.03 المتعلق بالمنافسة،[1] إلى الاعتراف صراحة بمجلس المنافسة ك » سلطة إدارية مستقلة«، و هو ما يعني عدم خضوعه لإشراف أي من الوزارات القطاعية.
لم تكن المؤسسات الجزائرية مؤهلة لتسيير هذا التحول وفق خطوات منطقية مدروسة، و نظرا لمعطيات التاريخ و بتأثير من ظاهرة العولمة و بضغط من الشركاء الاقتصاديين، و تحت ضغط الظروف الداخلية لجأ المشرع الجزائري إلى تبني القواعد القانونية الفرنسية ضمن المنظومة القانونية الوطنية. و هذه القواعد رأسمالية في جوهرها فرضت نفسها على أغلب دول العالم الثالث التي تسعى للدخول إلى نادي اقتصاد السوق، و عليه نشهد اليوم ما يشبه نظام ” إرسال- استقبال”[2] للقواعد القانونية الليبرالية و ما تتطلبه من إجراءات لازمة لوضعها موضع التطبيق. و تعتبر ” السلطات الإدارية المستقلة ” ذات مفهوم جديد طارئ على المنظومة القانونية الجزائرية يحمل في طياته تناقضات و نقاط مبهمة تتطلب تسليط الأضواء عليها، و لا يخلو المصطلح من إشكالات قانونية عديدة. و هي مكلفة بتسوية النزاعات المحتملة بين شركاء السوق إضافة إلى ضبط النشاط الاقتصادي في مختلف قطاعاته، و قد أراد لها المشرع أن تكون بديلا لجهاز قضائي بطيء لا يتلاءم مع الدينامكية السريعة لعالم الاقتصاد.
و إن كان يغلب على الظن أن لجوء المشرع الجزائري إلى اعتماد هذه الهيئات الجديدة كان بدافع التقليد فإن ذلك لا يمنع من الاستفادة منها و من أن يكون لها ايجابيات عديدة تبرر تبنيها ضمن المنظومة القانونية الوطنية. فما المقصود بالسلطات الإدارية المستقلة؟ و كيف نشأت في بيئتها الأصلية؟ ما مبررات اعتمادها في الجزائر؟ و ما هي أهم الوظائف المكلفة بها؟ سنحاول الإجابة على هذه الأسئلة و غيرها من خلال هذا البحث المتواضع، و من ثم تقويم بعض النقائص الملازمة لها و الإشارة إلى بعض الثغرات التي قد تتضمنها القوانين التي صدرت من أجل تجسيدها ميدانيا، و في سبيل ذلك نستعمل منهج دراسة الحالة و المنهج المقارن. و منهجيا نتطرق إلى التأصيل المفاهيمي للسلطات الإدارية المستقلة (المبحث الأول)، قبل التطرق إلى اختصاصات السلطات الإدارية المستقلة (المبحث الثاني).
المبحث الأول :
التأصيل المفاهيمي للسلطات الإدارية المستقلة
من المبادئ الراسخة في نظام اقتصاد السوق الرأسمالي الغربي حرية المبادرة و المنافسة الحرة التي عبر عنها عالم الاقتصاد آدم سميث بقوله )دعه يعمل دعه يمر(، و بمقتضى ذلك لا تتدخل الدولة في مجال الاقتصاد إلا بقدر يسير. لكن الأزمات التي مر بها الاقتصاد الغربي على مر الزمن جعلت الدولة تتدخل كل مرة لتصحيح مسار السوق و معالجة الأزمات الطارئة. و بعد الاستقرار النسبي للاقتصاد الغربي في أواخر القرن العشرين بل و هيمنته على الاقتصاد العالمي انسحبت الدولة مجددا من مجال الاقتصاد كوظيفة تمارسها بشكل مباشر و لكن الحقيقة أنها وكلت من ينوب عنها في مراقبة السوق و لم تنسحب تماما. ومن ثم نبحث في نشأة السلطات الادارية المستقلة في التجارب المقارنة )المطلب الأول (قبل التطرق إلى واقع السلطات الادارية المستقلة في الجزائر) المطلب الثاني .(
المطلب الأول :
نشأة السلطات الادارية المستقلة في التجارب المقارنة
وجدت هذه السلطات إذن في البيئة الغريبة انطلاقا من حاجة ماسة إليها و لمعالجة مشكلات حقيقية مرتبطة بالنظام الاقتصادي الرأسمالي. و أما المشرع الجزائري و على غرار أغلب دول العالم الثالث فلم يعتمدها إلا من باب التقليد. و بما أن السبق في نشأةالسلطات الإدارية المستقلة كان لأمريكا فإننا نتطرق بداية إلى مبررات المشرع الأمريكي) الفرع الأول( ، قبل التطرق إلى مكانة السلطات الإدارية المستقلة في التشريع الفرنسي ) الفرع الثاني .(
الفرع الأول :
السلطات الإدارية المستقلة في النظام الانجلوسكسوني
يرى أحد الفقهاء أن الهدف من هذه السلطات هو محاولة التحييد السياسي لإدارة آخذة في التضخم و الهيمنة و ترقية الخبرة المهنية و تفعيل دورها، و ضمان استقرار الهيئات الخاضعة لحماية الكونغرس”السلطة التشريعية”، و كذلك لإصباغ العقلانية على نشاط الإدارة.[3] و قد برر بعض الفقهاء تأسيس هده السلطات بتصحيح مسار انسحاب الدولة من ميدان الاقتصاد باسم المصلحة العامة، و هذا لكون هذا الانسحاب مترافقا مع نشوء وظائف جديدة لا تستطيع الإدارة العامة أدائها. و على العموم فإن الانتقال إلى مفهوم الدولة الضابطة هو الذي تطلب في الأصل وضع آليات قانونية جديدة للضبط الاقتصادي بسبب أن المؤسسات الإدارية لم تعد ملائمة لموازنة الحاجة المستجدة للضبط الاقتصادي و ضرورة حماية الحريات.[4]
و من ثم فإن السلطات الإدارية المستقلة مستمدة من النظام السياسي و القانوني الغربي المبني على أساس السوق الحرة التنافسية، و على وجود اليد الخفية التي تضبط سير السوق و عدم تدخل الدولة فيه، و بالخصوص استبعاد السلطات السياسية عن ممارسة بعض النشاطات الاقتصادية تاركة مكانها لصالح الأعوان الاقتصاديين أنفسهم للمساهمة في إضفاء شرعية أكبر على نشاط الإدارة و لتدعيم مصداقيتها. و بهذا الصدد يقول أحد الفقهاء أن السلطات الإدارية المستقلة مرتبطة بتيار اجتماعي يدعو إلى تبني صنف طموح يلخص في تعويض مخطط إدارة عمودية بمخطط لإدارة أفقية، و هذا تحت ضغط من القوى الاقتصادية التي تسعى لوضع قانونها الخاص مكان قانون السلطة العامة. و عليه فان استحداث سلطة إدارية مستقلة يمكن أن يساهم في معالجة التناقض الكامن في النظام الاقتصادي الرأسمالي، و هو ما تلخصه هذه العبارة: “الهيمنة الاقتصادية التي يهدف إليها التركيز يتطلب تدخل الإدارة في العلاقات الاقتصادية، و لكن هذه العلاقات تضبطها قاعدة الفصل النسبي بين القوى السياسية والقوى الاقتصادية “.[5]
و معالجة هذا التناقض هو الذي دفع إلى إنشاء السلطات الإدارية المستقلة، و التي ينتظر منها تنفيذ سياسات عمومية مع أنها لا ترتبط في سيرها بالإدارة التقليدية و ليست موضوعة تحت إشراف وزاري. بمعنى أنها تمارس مهامها بتأثير مزدوج من الدولة و من قوى السوق. مما يجعلنا نقول أن السلطات الإدارية المستقلة خلقت في أمريكا من أجل التوفيق بين منطق السوق و منطق المرفق العمومي، أو بعبارة أخرى فإن هذه الهيئات ” تتموقع بين القانون الخاص للقوى الاقتصادية و قانون السلطات العمومية المعبر عن رد الفعل اتجاه هذه القوى.”[6] و من جهتها فقد ذهبت دراسة إلى القول بإلزامية وضع أهداف بعيدة المدى لمواجهة مسعى السلطات السياسية لمراعاة الأهداف قريبة المدى التي تحقق لها قبولا شعبيا مرتبطا بالفترات الانتخابية، ولأجل التحكم في أخطار نشوب تضارب في المصالح لما تكون الدولة مالكا لقيم مالية ومساهما في التعاملات الاقتصادية مما يصعب معه فرض النظام على الدولة كمتعامل اقتصادي، و تفادي أداء الدولة لوظيفتين متناقضتين هما وظيفة المتعامل الاقتصادي )دور المنتج أو الموزع( و وظيفة الضابط الاقتصادي ) دور المراقب(.[7]
الفرع الثاني :
السلطات الإدارية المستقلة في النظام الفرنسي
أما ما في أأأأاالفي فرنسا فقد تم تجاوز هذا الإشكال عن طريق الإعتراف للسلطات الإدارية المستقلة بوضع قانوني خاص (هجين)، بتدخل من المجلس الدستوري الذي نص في قرار له أن إنشاء سلطات الضبط المستقلة و تحديد صلاحياتها و مجالاتها لا يتناقض مع المبادئ الدستورية، و هذا بخضوع هذه الهيئات إلى سلطة القانون وحده و حصر سلطاتها الضبطية و مجال نشاطها بشكل لا يمس بجوهر إمتيازات السلطة العامة و لا ينتقص من السلطة التنظيمية العامة للحكومة.[8] و هكذا إستطاع أن يوفق بين الطبيعة الإدارية لهذه الهيئات و بين إستقلاليتها عن السلطة التنفيذية، لكن هذه النتيجة تكون بمراعاة شروط ثلاث هي : أولا : خضوع سلطة الضبط إلى سلطة القانون وحده ، فلا دخل للوائح التنظيمية في إنشاء أو تحديد إختصاصات هذه الهيئات بل يختص بذلك القانون وحده. ثانيا : حصر سلطاتها الضبطية و مجال نشاطها، فيجب أن يحدد القانون بدقة حدود صلاحياتها و مجال نشاطها حتى لا يحدث تداخل في الصلاحيات بين مختلف الهيئات الممارسة للضبط من جهة، و حتى لا تتوسع الصلاحيات و تتعاظم سلطة الضبط فتصبح في وضع مواز للحكومة من جهة أخرى. ثالثا : عدم الإنتقاص من السلطة التنظيمية للحكومة أو المساس بجوهر إمتيازات السلطة العامة أو كل الإمتيازات بل بعض منها فقط، إذ أن السلطة التنظيمية تحتفظ بمكانتها و مجالاتها.[9]
بمعنى أن السلطة التنفيذية يمكن لها عبر التنظيم أن تتدخل في مجالات نشاط هيئات الضبط و تطبيق التدابير العائدة لها. و لا يتصور أن تستولي أي من هيئات الضبط مهما كانت أهميتها على كل إمتيازات السلطة العامة و إلا لأصبحت حكومة قائمة بذاتها. فنلاحظ أنه وفق هذه الشروط تحتفظ الحكومة بإمتيازاتها، و تعطي بعض منها على سبيل التفويض لسلطة الضبط لتمارس صلاحيتها المحددة حصرا في مجال نشاطها المحدد أيضا، على أن تحتفظ الحكومة بسلطتها التنظيمية و السهر على تطبيق و تنفيد النصوص القانونية، كما أن الحكومة تملك أن تسترد بعض إمتيازاتها التي فوضتها بطريق غير مباشر يمر عبر علاقتها بالهيئة التشريعية و حقها في إقتراح مشاريع القوانين.
المطلب الثاني :
السلطات الادارية المستقلة في الجزائر
أما في الجزائر و تبعا لانسحاب الدولة من الاقتصاد على إثر الانقلاب على المنهج الاشتراكي و تبني دستور سنة 1989 ذي التوجه الليبرالي، و في إطار انطلاق مرحلة إصلاحات واسعة على المنظومة الاقتصادية فإن السلطات العمومية تبنت آليات و مبادئ اقتصاد السوق مثل حرية الصناعة و التجارة، و حرية المنافسة ورفع احتكار التجارة الخارجية. كان أول قانون مهم صادر في ظل الدستور الجديد هو قانون 89-12 المؤرخ في 05 جويلية 1989 المتعلق بالأسعار و الذي تبنى لأول مرة مبدأ المنافسة الحرة فكان نقلة نوعية نحو تكريس مبادئ اقتصاد السوق، و بمقتضاه تم تحرير الأسعار من الرقابة التي كانت تخضع لها في ظل تشريع سنة 1975.[10] كان هذا القانون عمليا هو نقطة التحول إلى نظام اقتصاد السوق و قد بدا متأثرا بالتشريعات الفرنسية، فتبنى أهم المبادئ التي كرسها المرسوم الرئاسي الفرنسي رقم 86-1243 المتعلق بالأسعار و المنافسة، و نخص بالذكر تجريم الممارسات التي تمس بمبدأ المنافسة و تسميتها: الاتفاقات غير المشروعة، استغلال وضعية الهيمنة، التجمعات الاقتصادية. و عليه نستعرض مبررات و ظروف نشأة هذه السلطات) الفرع الأول( قبل إحصاء أهم النماذج المعتمدة في الجزائر) الفرع الثاني(.
الفرع الأول :
مبررات و ظروف النشأة
إن التحول من مفهوم الدولة المتدخلة إلى مفهوم الدولة الضابطة آخذ في الانتشار في مختلف الأنظمة القانونية الدولية و هذا بتأثير من ظاهرة العولمة و الحاجة إلى التبادل التجاري الدولي. و هذا التحول يأخذ أشكالا جديدة باستحداث هيئات ذات طبيعة خاصة تشكل صنف قانوني جديد و تمارس وظيفة الضبط بدلا من الدولة دون أن تكون في تبعية مباشرة لها. تتميز هذه الهيئات بكونها سلطة بمفهوم السيادة و القدرة على إصدار القرار، فوحدة القرار و عدم تجزئته أي عدم الرجوع إلى سلطة أخرى لاتخاذه، هي في الأصل ميزة خاصة بالسلطة التنفيذية و قد فوضتها إلى السلطات الإدارية المستقلة بواسطة نصوص خاصة، و لكن بشكل جزئي و بشروط محددة و في نطاق اختصاص نوعي ضيق. و هي ليست هيئات استشارية حتى و لو خصها المشرع بوظيفة استشارية، فهي تشكل إضافة لها و جمع لوظائف عديدة بما في ذلك وظيفة قضائية. و من ثم فإن هذا الصنف القانوني الجديد مكلف بمهام ضبط مختلفة كانت في الأصل موزعة بين وزارات قطاعية عديدة، فهو يعبر عن “حركة انفجار السلطات العامة للدولة لصالح أشخاص خاصة”،[11] بما يعني تنازل السلطة التنفيذية عن بعض المهام المتعلقة أساسا بضبط السوق لصالح هذه الهيئات، و عليه فلم تعد من اختصاص الوزارات و الإدارات المرتبطة بها.
و في الجزائر و بضغط من القوى الاجتماعية و من تبعات الأزمة الاقتصادية الخانقة التي عرفتها المرحلة، عمد المشرع إلى نقل قواعد القانون الفرنسي بالخصوص في حركة تقليد أعمى لم تستثن الهياكل و لا حتى النظم الداخلية لهذه الهياكل. حدث هذا بالتوازي مع خصخصة القطاع العام و فتحه على المنافسة، و بهذا الصدد يقول أحد الفقهاء أن تحرير الاقتصاد و اعتماد سلطات الضبط المستقلة إجراءين يسيران بالتوازي.[12] إذ أن تنظيم النشاطات الاقتصادية أمر ضروري و هام يتطلب الموازنة بين السياسات العمومية في بعدها الاقتصادي و الاجتماعي والمصالح الخاصة للأفراد والجماعات العاملة في الميدان (الأعوان الاقتصاديين)، و هو أمر لا يمكن أن توفق فيه السلطات العمومية لوحدها نظرا لكثرة انشغالاتها و تعدد مهامها و مركزية التسيير فيها و بطء إجراءاتها، و بالمقابل يعرف على عالم الاقتصاد تميزه بالحركية السريعة.
لم يعتن المشرع الجزائري بتعريف لمفهوم هذا الصنف القانوني الجديد رغم تكريسه في مختلف قطاعات النشاط الاقتصادي، و هذا قد يعود إلى التباين الكبير بين مختلف الهيئات الممارسة للضبط، و اختلاف الوسائل القانونية و المادية التي منحها المشرع. و بإستثناء ذلك فإن السلطات الإدارية المستقلة تبرز نقاط مشتركة كثيرة تسمح بضمها ضمن صنف قانوني جديد ، وهذا برغم التسميات المختلفة التي استعملها المشرع: هيئة مستقلة، سلطة ضبط مستقلة، لجنة مراقبة مستقلة، سلطة تتمتع بالاستقلال الإداري و المالي … الخ. و أما الفقه فقد أهتم بتعريف مفهوم الضبط الاقتصادي، فيعرفه الفقيه دي ماري بالصيغة التالية : ” إنها الوظيفة التي تهدف إلى تحقيق بعض التوازن بين المنافسة من جهة و متطلبات المصلحة العامة من جهة أخرى، و هذا التوازن هو هدف لا يمكن للسوق لوحده تحقيقه”،[13] و هذا التعريف يفترض التواجد في إطار سوق تنافسية و لكن مع مراعاة انشغالات أخرى اجتماعية و بيئية و غيرها مما يعتبر من صميم أهداف العمل السياسي. كما ينطلق هذا التعريف من مقاربة تفترض أن المنافسة تعني الأشخاص الخاصة، أما الضبط فتختص به الأشخاص العامة، و هذا الأمر أصبح من الماضي، إذ أن الاتجاهات الحديثة تجاوزته.
و لما كان قانون المنافسة على سبيل المثال يهدف إلى ضمان احترام قواعد اللعب التنافسية، بحيث يعمل على “إعادة إلى النظام المعتاد لقانون العرض و الطلب التصرفات التي تنحرف عنه”،[14] فكثيرا ما تكتسي نشاطات مجلس المنافسة صبغة علاجية بحيث يسعى إلى تفادي هيمنة متعامل واحد على السوق، و يعمل على بسط قدرة تنافسية ممكنة بين المتعاملين الاقتصاديين مهما كانت العراقيل التي قد تعيق دخول متعامل جديد و قدرته على المنافسة لمتعامل يحتكر فعليا السوق. و عليه ومن حيث الهدف، فإن عملية الضبط بفضل التدابير المسبقة للرقابة تسعى إلى التنبؤ بالانحراف أو التعسف في السوق قبل وقوعه، أما قانون المنافسة فهو من حيث المبدأ يمارس سلطة رقابة بعدية تكرس أهداف السلطات العمومية التي يتعين على الأعوان مراعاتها “لضمان الشفافية، التوازن و المساواة بين الأعوان في مختلف مجالات النشاط الاقتصادي”.[15]
و على العموم فإن المشرع الجزائري منح سلطات الضبط المعتمدة صلاحيات اتخاذ القرارات بكل سيادة و فوضها بعض من امتيازات السلطات العمومية بشكل جزئي في نطاق اختصاص نوعي محدود. و تجدر الإشارة إلى أن هذا التفويض كان في نطاق القانون الفرنسي بموافقة المجلس الدستوري و هو الأمر الذي تفتقد إليه التجربة الجزائرية. و يهدف هذا التفويض إلى تفادي بعض عيوب الإدارة و بيروقراطيتها و التخفيف من أعبائها الكثيرة المتزايدة، إذ تتميز هذه المؤسسات الجديدة بالسرعة و الفعالية نظرا لقربها من الميدان و تخصصها في مجال معين و تركيبتها التي تسعى إلى التوفيق بين أهمية التمثيل المهني فيها و ضرورة ضمان استقلاليتها بحيث تكون بمنأى عن ضغوط و تأثيرات المقاولات الخاضعة لرقابتها. و هذا يجعل منها خيار ممكن يتماشى و دينامكية الاقتصاد و أحسن حل لبيروقراطية الإدارة. و بهذا الخصوص يقول أحد الفقهاء : ” أكثر قربا لكن بدون هيمنة، هذه هي المعادلة التي تتطلب قواعد متينة للتدخل و انتباه دائم من طرف سلطات الضبط”.[16]
و في الحقيقة إن الصبغة الإدارية لهذه الهيئات لا غبار عليها فقد اعترف بها المشرع صراحة عبر مختلف النصوص القانونية التي كرست اعتماد هذا الصنف القانوني الجديد. و من ثم فإن القرارات الصادرة عنها هي بدون شك قرارات إدارية تختلف من حيث الشكل عن القرارات القضائية التي تصدر في صيغة خاصة. و أما من حيث الرقابة القضائية التي تخضع لها السلطات الإدارية المستقلة، فهي رقابة مشروعية يختص بها مجلس الدولة )المحكمة الإدارية العليا في الجزائر(. إذ أن مقرراتها تخضع للطعن أمام القاضي الإداري، وهو الأمر المكرس بالنسبة لكل السلطات الإدارية المستقلة المعتمدة في الجزائر، يستثنى من هذه القاعدة مجلس المنافسة الذي يخضع لرقابة القاضي العادي في جزء من نشاطه يتعلق بالممارسات المنافية للمنافسة،[17] و الذي كان من باب تقليد المشرع الفرنسي ليس إلا.
الفرع الثاني :
نماذج من السلطات الإدارية المستقلة في الجزائر
عرفت فترة التسعينيات إنشاء مجموعة من السلطات الإدارية المستقلة المكلفة بضبط النشاط الاقتصادي. و أهم القطاعات التي خصها المشرع بسلطات للضبط هي على الخصوص تلك التي يرجى منها جلب الاستثمار الأجنبي، فأراد أن يخلق فيها جو من الفعالية و اختصار للإجراءات، و هو الأمر الذي عجزت عنه الإدارات التقليدية التي تعشعش فيها البيروقراطية و الفساد. و كانت أول سلطة إدارية مستقلة عرفت النور هي المجلس الأعلى للإعلام ( C.S.I) الذي تأسس بموجب القانون 90-07 الصادر في 03 أفريل 1990، و الذي بفضله رفعت الدولة احتكارها لمجال الإعلام. و في نفس السنة )1990( تأسس مجلس القرض و النقد (CMC) و كذا اللجنة البنكية ((CB،[18] تلاها هيئة تسيير و مراقبة عمليات البورصة(COSOB) في سنة 1993.
و في سنة 1995 صدر التشريع المنشأ لمجلس المنافسة (C. .(Cثم تأسست تباعا سلطة ضبط البريد و الاتصالات (ARPT)، و الوكالة الوطنية للثروة المنجمية (ANPM)، و الوكالة الوطنية للجيولوجيا و مراقبة المناجم (ANGCM) و هيئة ضبط الكهرباء و الغاز (CREG)، بالإضافة إلى لجنة مراقبة التأمينات [19].(CSA) و بموجب قانون المالية لسنة 2003 أنشأ المشرع سلطة ضبط النقل،[20] و في سنة 2005 أنشأت سلطة ضبط المياه[21] و الوكالة الوطنية لمراقبة نشاطات المحروقات.[22] كانت هذه هي مجمل مجالات النشاط الاقتصادي و المالي التي شملها المشرع بسلطات إدارية مستقلة لضبط سيرها و منازعاتها. و إلى جانب هذه السلطات أنشأ المشرع سنة 2006 الهيئة الوطنية للوقاية من الفساد و مكافحته،[23] و في سنة 2008 أنشأت الهيئة الوطنية للمواد الصيدلانية المستعملة في الطب البشري.[24] ثم بعد ذلك أستحدثت سلطات أخرى للضبط في مجال الاعلام، إذ في سنة 2012 أنشأت سلطة ضبط الصحافة المكتوبة و سلطة ضبط السمعي البصري بموجب القانون العضوي رقم 12- 05 المتعلق بالإعلام.
جاء هذا الأمر إذن بعد تعمق مسار الخصخصة وتقدم الإصلاحات الاقتصادية و تفتح المشرع الجزائري على التجارب الأجنبية. و إذا كانت هذه السلطات المستقلة قد اكتسبت شرعيتها في القانون المقارن بموافقة القاضي الدستوري، فإن المجلس الدستوري الجزائري لم يتدخل في هذه المسألة، و رغم هذا فان المشرع الجزائري تبنى هذه السلطات في مختلف القوانين المتعلقة بقطاعات النشاط الاقتصادي، بل و منحها اختصاص الفصل في المنازعات التي تنشأ بين الأعوان الاقتصاديين و جعل قراراتها قابلة للطعن القضائي.
المبحث الثاني :
اختصاصات السلطات الادارية المستقلة
غني عن القول أن أي مجلس غير مستقل يخضع لرقابة رئاسية عضوية و وظيفية في آن واحد و هو أمر غير محبذ، فتكون مقراراته قابلة للتعديل، الإلغاء أو السحب من طرف الوصاية، و يمكن أن تكون عرضة لتدخلات أصحاب النفوذ في الإدارة، و يكون المجلس حينها متخوفا من الحل من طرف الوصاية، و هو الأمر الذي يمس بمصداقيته فيكون متغيرا بحسب الأهواء السياسية مما يؤدي إلى عدم استقراره. كما يولد هذا الأمر نوعا من الإتكال على السلطة الرئاسية الأعلى، وأخيرا فإن الموضوع كله يتهدم لأننا نكون حينها بصدد دراسة إدارة من الإدارات الكلاسيكية. و حيث أن أهم ما يميز هذه الهيئات الجديدة هي صفة الاستقلالية فإنه من الأهمية بمكان قياس مدى استقلاليتها أثناء ممارستها لاختصاصاتها )المطلب الأول (قبل التعرض إلى وظائف السلطات الادارية المستقلة و طبيعتها القانونية) المطلب الثاني .(
المطلب الاول:
مدى استقلالية السلطات الادارية المستقلة في ممارسة اختصاصاتها
إن صفة الاستقلالية هي الميزة الخاصة لسلطات الضبط وعمادها، و بإنتفاء هذه الصفة ينتفي هذا الصنف القانوني، و بالعكس بقدر تجسيد مبادئ الاستقلالية بقدر ما نؤسس له. إذ أن عدم تبعيتها هو ما يميزها ويصنفها ضمن نظام قانوني جديد. و في هذا الصدد تقول الفقيهة الفرنسية (Guedon) أن القواعد القانونية المتعلقة بالاستقلالية هي عماد النظام القانوني للسلطات الإدارية المستقلة، لأن عدم التبعية هي التي تعطي لها الأصالة و التفرد في جهاز الدولة.[25] لكن في الحالة الجزائرية فإن قاعدة الاستقلالية يشوبها الكثير من الشك، فواقع الحال يكذب النصوص القانونية، فهل تملك هذه الهيئات حقا مقومات الاستقلالية ؟ إن الإجابة على هذا السؤال تجرنا إلى قياس درجة الاستقلالية من الجانب العضوي )الفرع الأول( قبل دراسة درجة الاستقلالية من الجانب الوظيفي )الفرع الثاني(.
الفرع الأول :
قياس درجة الاستقلالية عضويا
من الجانب العضوي، و إذا أخذنا مجلس المنافسة أنموذجا و بإعتبار عضو مجلس المنافسة ليس بالموظف العام الذي يمارس وظيفة دائمة، فهو أقرب إلى المنتخب لعهدة محددة المدة و المهام في مجلس محلي أو وطني. غير أن إكتساب العضوية لا يتأتى عن طريق الإنتخاب وفقا لأحكام تشريع المنافسة الجزائري.[26] هذا و قد ضمن المشرع وضعية خاصة لأعضاء المجلس و عدم قابليتهم للإقالة أو إنهاء المهام أثناء العهدة العضوية. و بذلك فإن مجلس المنافسة يشكل سلطة حقيقية ذات سيادة وىقدرة على إصدار القرار. و كان المشرع قد نص على مبدأ الاستقلال المالي إضافة إلى الاستقلال الإداري في كل من التشريع القديم الملغى و كذا ضمن تدابير الأمر 03.03 (المادة 23) و هذا بشكل مقتضب لا يبين أدنى وسيلة وفرها المشرع لتكريس هذا المبدأ. فكيف يتم التعيين في المجلس؟ و من هم الأشخاص المؤهلون لذلك؟ و ما مدة و طبيعة عهدة الأعضاء؟
بعد التعديلات التي أدخلت على الأمر 03.03 الخاص بالمنافسة بمقتضى القانون رقم 12.08 الصادر في 25 جوان 2008 ولاسيما المادة 10 التي عدلت أحكام المادة 24، أصبح عدد أعضاء المجلس 12 من جديد. قسم المشرع الجزائري الأعضاء إلى ثلاث فئات، تضم الفئة الأولى 6 أعضاء من ذوي الشهادات الجامعية مع خبرة 8 سنوات مهنية في مجال القانون أو الاقتصاد و بالخصوص في مجال المنافسة، التوزيع و الاستهلاك و في مجال الملكية الفكرية. أما الفئة الثانية فتضم 4 أعضاء يختارون من ضمن المهنيين المؤهلين الذين مارسوا أو يمارسون نشاطات ذات مسؤولية مع خبرة 5 سنوات وشهادة جامعية و هذا في مجالات الإنتاج، التوزيع و الحرف و الخدمات و المهن الحرة، و فئة ثالثة بعضوين مؤهلين يمثلان جمعيات حماية المستهلكين، و لم يعطنا أدنى فكرة عن الجهة التي تختار و لا كيف تختار.
و أهم الملاحظات التي يمكن إبداؤها بهذا الشأن هي: أولا اشتراط المشرع للمؤهل العلمي مع الخبرة المهنية وهو أمر يخدم و لا شك المجلس و يرفع من مستوى أدائه، ثانيا تبني مفهوم الملكية الفكرية كمجال من مجالات المنافسة بما يرد الاعتبار لقيمة الفكر و البحث العلمي والعمل الأدبي، و ثالثا توسيع مجال العضوية في المجلس و انفتاحه على المجتمع المدني في فئة المستهلكين على الأقل. و حسن فعل المشرع لأنه في الحقيقة فإن كل تدابير المنافسة تهدف إلى حماية مصلحة المستهلكين وهم عامة الجمهور إن لم نقل كله مما يجعل منه مصلحة عامة جديرة بالحماية و التبجيل. و رابعا نسجل غياب أي تمثيل للقضاة في تشكيلة المجلس، فبعد تقليص عددهم من خمسة في ظل الأمر 06.95 المنشأ لمجلس المنافسة و الملغى إلى اثنين بموجب الأمر 03.03، ثم أصبح عددهم صفرا بمقتضى قانون 12.08 المتعلق بالمنافسة.
و للمقارنة فإن القضاء لم يبق ممثلا في سلطات الضبط إلا بقاضيين في كل من اللجنة البنكية و لجنة رقابة التأمينات و قاض واحد في سلطة ضبط بورصة القيم المنقولة.[27] و هكذا فبعد أن كنا نعيب على المشرع تغييب السلطة التشريعية عن أي دور لها في تشكيلة السلطات الإدارية المستقلة و حرمانها من حق التعيين في بعض المناصب النوعية في الدولة، ها هو يقصي بكل بساطة السلطة القضائية أيضا لتستحوذ السلطة التنفيذية على المجلس اقتراحا و تعيينا. و بالمقارنة مع تشكيلة مجلس المنافسة الفرنسي في ظل مرسوم 1986، نلاحظ تواجد 16 عضو منهم 7 قضاة، 4 أعضاء يعينون بمرسوم بناءا على تقرير من الوزير المكلف بالاقتصاد انطلاقا من قائمة من 8 أسماء تقترحهم السلطة القضائية، و 5 أعضاء يمثلون القطاع المهني.[28] و لا حاجة للتعليق على الاختلاف الجلي بين التشكيلتين.
و لما كانت عهدة أعضاء المجلس هي 05 سنوات قابلة للتجديد،[29] فإن الطموح بتجديد العهدة هو أمر عادي لكنه غالبا ما لا يكون بلا بثمن، إذ يجعل العضو في مركز ضعف يقدم تنازلات و يخضع للضغوط أملا في تجديد العهدة. والنتيجة التي ننتهي إليها فيما يخص الجانب العضوي لمجلس المنافسة هي غياب مبدأ الانتخاب كأسلوب لاكتساب العضوية في المجلس على الأقل في فئة المجتمع المدني الممثلة بجمعيات المستهلكين و الذين يبقى تمثيلهم محدودا. كما أن المشرع لم يبين لنا من هي الجهة التي لها حق الاقتراح على اعتبار أن تعيين الأعضاء من قبل رئيس الجمهورية ليس معناه أن يختارهم الرئيس بنفسه لأن هذا الأمر صعب التحقيق عمليا.
كل هذا يؤسس لهيئة إدارية عادية تهيمن عليها السلطة التنفيذية عضويا بشكل كامل و لقد تأكد هذا المنحى مع وضع مجلس المنافسة لدى الوزير المكلف بالتجارة حسب نص المادة 9 من القانون 08-12 بعد أن كان وضعه لدى مصالح رئاسة الحكومة. و هو ما يتناقض مع مبدأ الاستقلالية المنصوص عليه في قانون المنافسة. و بنفس الطريقة عمل المشرع على تشكيل سلطة ضبط البريد و الاتصالات و كذلك مجلس القرض و النقد. أما الطريقة الثانية فقد اعتمدها المشرع في باقي الهيئات الإدارية المستقلة ضمن نصوصها التأسيسية، فاللجنة البنكية مثلا تتشكل من محافظ البنك المركزي رئيسا بحكم منصبه و ثلاثة أعضاء يختارهم رئيس الجمهورية، و قاضيين يقترحهما رئيس المحكمة العليا بعد أخد رأي المجلس الأعلى للقضاء، و يصدر رئيس الجمهورية قرارا لتعيينهم جميعا.
و من جهتها فإن هيئة ضبط و تسيير عمليات البورصة يتم تعيين أعضائها بمرسوم تنفيذي لكن الاقتراح يكون من عدة جهات مختلفة : عضو يختاره وزير العدل (قاضي) وآخر من اختيار وزير المالية و ثالث يختاره وزير التعليم العالي من بين الأساتذة الجامعيين.[30] و في ميدان الكهرباء و الغاز يتم تعيين الأعضاء من قبل رئيس الجمهورية بإقتراح من وزير الطاقة. ولعل من الملاحظات المهمة التي تستوقفنا من الناحية العضوية غياب ممثلي الشعب عن لعب أي دور في اقتراح أعضاء في السلطات الإدارية المستقلة فضلا عن عدم تمتع البرلمان بسلطة التعيين في المناصب الحساسة على الأقل في الدولة. بل الأدهى من هذا أن عدم مشاركة البرلمان في تعيين أعضاء في هذه السلطات يتناقض حتى مع الأسلوب المتبع في إطار قانون الإعلام لسنة 1990،[31] و الذي بموجبه يتقاسم البرلمان سلطة تعيين الأعضاء في المجلس الأعلى للإعلام مع السلطة التنفيذية، فمن مجموع 12 عضوا يعين رئيس الجمهورية 3 أعضاء بما فيهم رئيس المجلس، و 3 آخرون يعينهم رئيس المجلس الشعبي الوطني فيما ال6 أعضاء الآخرون ينتخبون بالأغلبية المطلقة من بين الصحافيين المحترفين الذين عملوا لمدة 15 سنة على الأقل في الثلفزة، الإذاعة والصحافة المكتوبة.[32]
ونشير إلى أن قانون الإعلام هذا مأخوذ طبعا عن التجربة الفرنسية، لهذا فلا نستغرب نصه على مبدأ إنتخاب نصف أعضاء المجلس الأعلى للإعلام، و هو العامل المفقود في التجربة الجزائرية. وعليه فإننا لا نفهم سبب إقصاء البرلمان عن المشاركة في تعيين أعضاء مجلس المنافسة، أو بالأحرى لماذا أقصى البرلمان نفسه عن لعب هذا الدور، وقد كان بوسعه أن يعدل نصوص القوانين المعروضة عليه أثناء المناقشة ويلغي ما يراه غير مناسبا، وهذا ما يجعلنا نقول بكل أسف أن البرلمان يفتقد إلى الإستقلالية هو نفسه، وهو أبعد بكثير عن كونه سلطة حقيقية تواجه و تراقب السلطة التنفيذية،[33] فلا يعقل و الحال هكذا أن يساهم في دعم مبدأ الاستقلالية.
الفرع الثاني:
قياس درجة الاستقلالية وظيفيا
بالإحتكام إلى المعيار الوظيفي فلا يمكن للقرارات الصادرة عن السلطات الإدارية المستقلة أن تكون محل إلغاء أو تعديل من طرف سلطة أعلى، وهي تخضع للطعن القضائي و لا تقبل الطعن الإداري فيها برغم من الطبيعة الإدارية التي أعترف بها المشرع لهذه السلطات. لكن واقع الحال ليس كذلك فتستطيع الحكومة أن تتدخل في اختصاصاتها بطرق عديدة عبر ثغرات في تشريعاتها المختلفة. و في مجال المنافسة مثلا تنص المادة 21 من القانون 03-03» : يمكن أن ترخص الحكومة تلقائيا إذا اقتضت المصلحة العامة ذلك أو بناءا على طلب من الأطراف المعنية بالتجميع الذي كان محل رفض من مجلس المنافسة، و ذلك بناء على تقرير الوزير المكلف بالتجارة و الوزير الذي يتبعه القطاع المعني بالتجميع«. فالمادة ترخص صراحة للحكومة بالقفز على قرار مجلس المنافسة السلبي اتجاه مشروع التجميع. كما أن المادة 32 من الأمر الساري المفعول أحالت إلى التنظيم أمر القانون الأساسي وأجور أعضاء مجلس المنافسة. أما المادة 31 فقد نصت على أن يحدد تنظيم مجلس المنافسة وسيره بموجب مرسوم، وعليه نلاحظ أن مجلس المنافسة لا يملك القدرة على إعداد قانونه الداخلي بنفسه.
و مثل هذه النصوص تتعارض مع الامتيازات التي خصها تشريع المنافسة القديم، إذ تنص المادة 34 من الأمر 95-06 على أن يحدد النظام الداخلي للمجلس و يصدر بمرسوم بناءا على اقتراح رئيس المجلس و مصادقة المجلس عليه، مما يعطي للمجلس امتيازات قد لا يحصل عليها إذا تدخلت في إعداد قانونه الداخلي جهات أخرى. و إن شئنا المقارنة فان مجلس القرض و النقد يعد بنفسه نظامه الداخلي حسب المادة 60 من الأمر الخاص بالقرض و النقد،[34] و نفس الشيء بالنسبة لسلطة ضبط البريد و الاتصالات إذ تتضمن المادة 20 من القانون 00-03 الصادر في 05 اوث 2003 و المحدد للقواعد العامة الخاصة بالبريد و الاتصالات على أهلية سلطة الضبط في تحديد قواعد التنظيم الداخلي لمصالحها، قواعد سيرها و مركز مديرها العام و أعضاء مجلسها و طاقمها البشري العامل. و على نفس المنوال سار المشرع بالنسبة لسلطة ضبط الكهرباء والغاز،[35] وهيئة بورصة القيم المنقولة.[36]
و من جهة أخرى فإن الحكومة و بمبادرة من وزير المالية تملك سلطة الحلول مكان الهيئة المستقلة المكلفة بتنظيم عمليات البورصة في حالة وجود إخلال واضح بالمهام المكلفة بها، كما تستطيع توقيف عمليات المضاربة في البورصة لمدة 05 أيام في حالة الظروف القاهرة أو الاضطرابات الكبيرة التي تؤدي إلى عرقلة سيرها العادي، و هذا طبقا لأحكام المادة 50 من المرسوم الرئاسي المتعلق بالبورصة. و رغم أن المشرع جعل العملية استثنائية فإن السلطة التنفيذية تستطيع بما تمتلك من إمكانيات أن تجعل منها قاعدة تكرسها بصفة عادية. نفس الملاحظة نستطيع أن نبديها فيما يخص علاقة مجلس القرض و النقد بالجهاز التنفيذي، لكن مع اختلاف في الآليات فقط فقراراته غير نافدة منذ إعلانها إلا بعد تحويلها كمشروع لوزير المالية في مهلة يومين و الذي يملك مهلة 10 أيام ليطلب تعديلها، و في هذه الحالة يجتمع المجلس مجددا قي مهلة 5 أيام ليصدر قراراته التي تصبح واجبة النفاد مهما كانت طبيعتها. و غني عن القول أن صمت الوزير في فترة العشرة أيام مكتملة يفسر كمصادقة على القرارات، و عليه تصبح نافدة بعد إصدارها،[37] و هذه الطريقة ما هي إلا قراءة ثانية غير معلنة.
مما تقدم نستنتج أن الهيئات الإدارية المستقلة لا تخلو من عناصر و عوامل التبعية المعروفة على الصعيد الإداري سواء على المستوى العضوي أو الوظيفي برغم النصوص القانونية التي تكرس استقلاليتها، فالسلطة التنفيذية تملك عدة طرق تستطيع من خلالها ممارسة نوع من الرقابة الوظيفية على مجمل الهيئات الإدارية المستقلة، و سواء كانت طرق مالية أم قانونية فإنها تؤثر سلبا بدون شك على الأداء الوظيفي لسلطات الضبط الاقتصادي و تحد من مردودها، كما أنها تصيب الطبيعة القانونية لها في مقتل فلا يمكن أن تجتمع صفة التبعية المكرسة في واقع الحال مع صفة الاستقلالية المكرسة نظريا.
المطلب الثاني :
اختصاصات السلطات الإدارية المستقلة و الطبيعة القانونية لقراراتها
ينتظر من سلطات الضبط المستقلة أن تؤدي بعض الوظائف الأصلية للدولة تبعا لانسحاب الأخيرة من ميدان الإقتصاد، فقد زودها المشرع بأدوات قانونية معتبرة تمكنها من أداء وظائفها بنجاح، تتمثل خاصة في جمعها لمهام مختلفة بعضها يعود للإدارة العامة فيما بعضها الآخر يعود للقضاء. وبهذا الصدد يقول أحد الفقهاء : ” إن تجميع عدة وظائف من قبل سلطات الضبط المستقلة يعطيها الوسائل الشاملة والواقعية التي تمكنها من المراقبة، وهذا التجميع للإختصاصات يعتبر ميزة خاصة بها”.[38] لذلك فإن قراراتها تتنوع بحسب مجال النشاط و بحسب موضوعه و هو ما نتناوله في )الفرع الأول( قبل التعرض إلى الطبيعة القانونية لقراراتها )الفرع الثاني(.
الفرع الأول :
أهم وظائف الهيئات الادارية المستقلة
تجمع السلطات الإدارية المستقلة وظائف عديدة بهدف تمكينها من أداء دورها بفعالية، و لأجل مواكبة دينامكية النشاط الإقتصادي إعتمادا على مبدأ المنافسة الحرة، إذ أن ” نجاح سلطة الضبط في أداء مهامها يتطلب منحها سلطات مختلفة ومتوازية : مراقبة دائمة، قدرة على إجراء التحقيقات، تكييف فوري ممكن دائما و إصدار القرارات الفردية أو الجماعية و حق النطق بالعقوبات”.[39] و بما أن هذه الهيئات متعددة و مختلفة فإنه يصعب عمليا استعراض مهامها. لكن يمكن إجمالا تقسيمها إلى وظائف عادية “غير قضائية” (أولا)، و إلى وظائف قضائية (ثانيا)، على أن نتخذ من مجلس المنافسة أنمودجا بإعتباره أهم سلطة إدارية مستقلة.
أولا : الوظائف العادية لمجلس المنافسة
خص المشرع مجلس المنافسة بوظائف مختلفة لتمكينه من أداء مهامه بفعالية، فالمجلس هو “هيئة مستقلة مختصة في تحليل و ضبط سير المنافسة في السوق من أجل حماية النظام العام الإقتصادي”.[40] و منه فإن الوظائف العادية لمجلس المنافسة هي تلك المهام الدائمة التي يمارسها من تلقاء نفسه بهدف ترقية المنافسة و حمايتها بحسب النص المنشأ له، و هذا يتطلب فتح على المنافسة مجالات النشاط الإقتصادي التي ما زال يحتكرها متعامل تاريخي، و فرض رقابة على السوق و حق التدخل لفرض النظام التنافسي فيه. و بصيغة أخرى معالجة الممارسات المنافية للمنافسة. و مجلس المنافسة ليس المتدخل الوحيد في السوق بل هو حلقة في سلسلة مترابطة، لهذا فهو يحتاج إلى التعاون و التشاور مع بقية المتدخلين، و بناءا عليه خصه المشرع بوظيفة إستشارية نتعرض لها أولا قبل التفصيل في وظيفة ضبط السوق و مراقبته.
تنص المادة 19 من الأمر 06.95 المتعلق بالمنافسة (الملغى) على الإستشارة من قبل السلطة التشريعية فيما يخص إقتراح القوانين و مشاريع القوانين حول كل مسألة ترتبط بالمنافسة و هي ليست إجبارية إذ عبر عنها المشرع بعبارة “يمكن”. و اقتراح القوانين لا يعني أن لمجلس المنافسة دور تشريعي بل هو من قبل قدرة السلطة التنفيذية على إقتراح مشاريع القوانين، و لا يفوتنا أن نلاحظ أن أغلب القوانين التي تصدرها السلطة التشريعية مصدرها مشاريع قوانين تقترحها الحكومة. و عليه فلا نرى أي دور تشريعي لمجلس المنافسة و إنما تكون إستشارته من قبل الهيئة التشريعية بصدد طلب الخبرة، بإعتباره مختصا و له من الدراية في مجال اختصاصه ما لا تملكه الهيئة التشريعية. كما حددت المادة 19 سالفة الذكر الأطراف المعنية باستشارة المجلس و هي الحكومة، الجماعات المحلية، المؤسسات الإقتصادية و المالية، و قد وردت نفس التدابير في نص المادة 35 من الأمر 03.03 الحالي مع ملاحظة إسقاط النص الذي يجيز للهيئة التشريعية طلب رأي المجلس.
و من جهتها تنص المادة 20 من الأمر 06.95 على الحالات التي تكون فيها إستشارة مجلس المنافسة وجوبا و هي حول كل مشروع تنظيمي له إرتباط بالمنافسة أو يهدف على الخصوص إلى : إخضاع ممارسة مهنة أو دخول السوق إلى قيود من ناحية الكم، وضع رسوم خاصة في بعض المناطق أو النشاطات، فرض شروط خاصة لمباشرة نشاطات الإنتاج التوزيع و الخدمات، تحديد ممارسات موحدة في ميدان البيع. و قد حافظ المشرع على كل هذه التدابير في نص المادة 36 من التشريع الجديد، مع ملاحظة إسقاط كلمة (وجوبا) التي تضمنتها المادة 20 من التشريع السابق، فهل نفهم من هذا أن الحكومة تستطيع ألا تستشير المجلس حول مشاريع النصوص التنظيمية ذات العلاقة بالمنافسة؟ و الإجابة تكون بنعم لأنه إذا لم تكن الإستشارة وجوبا فسوف تكون إختياريا. و هذا معناه أن المشرع قد ترك مكانا للغموض بشكل مقصود لصالح السلطة التنفيذية، خاصة و أن هذا الأمر مصدره مشروع قانون للحكومة صدر في شكل أمر رئاسي صادق عليه البرلمان بغرفتيه بدون تعديل أو إثراء بما يعتبر استقالة وظيفية للهيئة التشريعية ؟
و من جهة أخرى يعتبر مجلس المنافسة هو المكلف بمهمة عامة لضبط النشاطات الإقتصادية الإنتاجية والتوزيعية، أي إخضاع السوق للمبدأ الأساسي الذي يقوم عليه نظام إقتصاد السوق ألا و هو حرية المنافسة، فيقوم بمراقبة السلوكات التي تمس بهذا المبدأ مثل الإتفاقات والتعسف في وضعية الهيمنة، ويمكنه الموافقة على الإتفاقات التي يثبت أصحابها أنها تؤدي إلى نمو إقتصادي أو تكنولوجي أو تساهم في إمتصاص البطالة أو التي تسمح للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة أن تضمن لها مكانة تنافسية في السوق، بموجب المادة 09 من الأمر 03.03، وهو ما يعطي للمجلس سلطة تقديرية واسعة في قبول أو رفض هذه الاتفاقات. كما أن المجلس يختص بالنظر في مشاريع التجميع الإقتصادي خاصة إذا كانت تهدف إلى تعزيز وضعية هيمنة على السوق، و له أن يمنع أو يقر هذه المشاريع، و في حالة الموافقة فإن له أن يقترح بل يفرض شروطا من شاْنها تخفيف أثار التجميع على المنافسة وفق أحكام المادتين 17 و 19 من الأمر.
ولمجلس المنافسة إختصاص عام للقيام بتحقيقات تخص شروط تطبيق النصوص التشريعية أو التنظيمية ذات العلاقة بالمنافسة، و إذا أثبثت هذه التحقيقات أن تطبيق هذه النصوص ترتبت عليه قيود على المنافسة فإنه يباشر كل العمليات لوضع حد لهذه القيود حسب تدابير المادة 37 من الأمر 03.03. ومن جهته فإن آخر تعديل لقانون المنافسة[41] وسع من نطاق إختصاص المجلس إلى النشاطات الفلاحية الصيد و تربية المواشي الصناعات التقليدية و الخدمات و البيع بالجملة … و هذا مهما كانت الجهات الصادرة عنها. و لا يفوتنا أن نشير إلي مهمة أخرى يتكفل بها المجلس ألا و هي توطيد علاقات التعاون و التشاور على الصعيد الوطني مع سلطات الضبط الأخرى، وكذلك على الصعيد الدولي مع الهيئات الأجنبية المختصة في المنافسة وفق ما تنص علية المادة 39 و ما يليها و التي تحدد شروط التعاون الدولي. و على العموم فإن هذه هي أهم الوظائف العادية لمجلس المنافسة و هي في مجملها مهام إدارية تدخل في إطار سلطات الضبط الإداري المعروفة في أبجديات النشاط الإداري.
ثانيا : الوظائف الجزائية
نص الأمر 06.95 في الفصل الثالث المعنون المخالفات و العقوبات على مختلف المخالفات التي تشكل أساسا للوظيفة الجزائية لمجلس المنافسة و هذا إبتداء من المادة 61 إلى المادة 94، وهي في عمومها نفس المخالفات بإختلاف بسيط في العقوبات المنصوص عليها في الأمر 03.03 ضمن تدابير المواد 56 إلى 62 في الفصل الرابع المعنون العقوبات المطبقة على الممارسات المقيدة للمنافسة و التجميعات. هذا و تعتبر الوظيفة الجزائية ثورة على النظم الكلاسيكية و بمثابة إختراع قانون جزائي للأعمال، فهي أخطر وظيفة يمارسها مجلس المنافسة و هي وظيفة القاضي الجزائي في الأصل. فما الذي أعطى هذا الحق لمجلس المنافسة؟
إنتهى الإجتهاد القضائي المتوج بمجلس الدولة في فرنسا إلى أهمية خلق قواعد إختصاص لبعض سلطات الضبط الإقتصادي المستقلة، و هذا تكريسا لمبدأ الإقتصاد الرأسمالي وضرورة نزع الدولة ليدها عن النشاط الإقتصادي، فلجأ المشرع الفرنسي إلى توزيع مختلف النشاطات الإقتصادية المهمة و كذا مجال حقوق الإنسان على هيئات إدارية مستقلة مع منحها تفويضا لصلاحيات هامة و مختلفة ورثتها من إمتيازات السلطات العمومية، يتم بمقتضاها تجميع هيكل قانوني متناسق يسمح لها بالتحري عن المخالفات من تلقاء نفسها أو بإخطار من جهات ذات علاقة بقطاع النشاط المعني و التحقيق في الجرائم و المعاقبة عليها بإتباع إجراءات معينة مع تقديم الضمانات اللازمة بدون اللجوء إلى جهات أجنبية سواء إدارية أو قضائية، و بناءا عليه منح المشرع الفرنسي صلاحيات مماثلة لمجلس المنافسة.
و لم يزد المشرع الجزائري شيئا على تبني النصوص الفرنسية ضمن المنظومة القانونية الوطنية، و من هذا المنطلق تقرر لصالح مجلس المنافسة تسليط عقوبات غير سالبة للحرية على كل شخص طبيعي أو معنوي يقع تحت طائلة الممارسات المنافية للمنافسة وفق أحكام المواد 13و 14 من أمر 06.95 الملغى و المادتين 82 و 83 منه و بالنسبة للأمر 03.03 فالمواد 58 إلى 62. و قبل النص على العقوبات فغني عن القول أن كلا من الأمرين المذكورين ينصان على الممارسات و الأفعال المنافية للمنافسة وهي بمثابة الجرائم المعاقب عليها بموجب قانون العقوبات. و لما كان أمر ضبط الجريمة الإقتصادية يشترك فيه عدة أطراف، فإن تكييفها و العقوبة المنجرة عنها هي أمور تختص بها سلطة الضبط المعنية بنوع النشاط و بمجلس المنافسة الذي يمكن أن يمتد إختصاصه و يتداخل مع بقية السلطات الأخرى بحسب طبيعة موضوعه، إذ أن مبدأ المنافسة مكرس في كل القطاعات، و من هنا يمكننا أن نقارن بين هذا الدور للمجلس و دور القاضي. و لكن السؤال المهم هو: ألا يعتبر منح صلاحيات عقابية لمجلس المنافسة تعديا على دور القاضي الجزائي؟
تصعب الإجابة على هذا السؤال في ظل التشريع الجزائري، و هذا نظرا لإتباع المشرع الجزائري أسلوب حرق المراحل و القفز على الخطوات المنطقية التي يفترض أن يسلكها القانون في تطوره، لأن القانون كغيره من العلوم الإجتماعية يتأثر بعوامل عديدة إجتماعية و سياسية و ثقافية، تلعب هذه العوامل دورا حاسما في توجيه تطوره و في صياغة قواعده و تكوين مؤسساته و أدواته التنفيذية. و هذا خلافا لما يحدث في البيئة الفرنسية مثلا أين تلعب المؤسسات أدوارها المقررة لها كل في مجال إختصاصه، فيتدخل النواب عند اللزوم و المجلس الدستوري و كذا مجلس الدولة، وكل هذا موازاة مع الجدل الفقهي المستمر و الذي يؤدي في نهاية الأمر إلى الوصول إلى إجتهادات فقهية و قضائية تجد طريقها إلى التجسيد عبر قواعد تشريعية.
و بهذا الصدد تدخل المجلس الدستوري الفرنسي في أكثر من مناسبة ليؤسس لصالح هيئات الضبط نظاما عقابيا لا يتعارض مع دور القاضي الجزائي و لا يتعدى على صلاحياته بقدر ما يكمله و يتعاون معه، فأكد في قرار له أن المبادئ الدستورية التي تأسس للإجراءات الجزائية يجب أن تمتد إلى أي إجراءات أو تدابير ذات طبيعة جزائية حتى مع إجازة المشرع لسلطة غير قضائية النطق بها. [42] لكن مع شروط حصرية هي: ألا تكون العقوبات المقررة سالبة للحرية، و لا تمنح لها صلاحيات جزائية إلا في نطاق ضيق بما يسمح لها بأداء دورها المقرر قانونا. و يجب أن يكون النطق بالعقوبات عبر إجراءات قانونية تضمن حماية الحقوق الأساسية و الحريات المكفولة دستوريا.[43]
وإذا أردنا مقارنة مجلس المنافسة باللجنة البنكية المستحدثة بموجب قانون سنة 1990[44]، فإن الأخيرة تمتع بإزدواج وظيفي بحيث أنها أثناء قيامها بمهام مراقبة البنوك و المؤسسات المالية فإنها تقوم بعمل إداري مثل توجيه الإنذار و إتخاذ تدابير إحترازية، أما أثناء تطبيقها للقواعد و الإجراءات التأديبية فهي تمارس عملا قضائيا، و قد تبنى المشرع الفرنسي هذا الأمر فاعتبر اللجنة البنكية هيئة قضاء إداري و هذا بمناسبة تطبيقها لتدابير المادة (613.21.L). و عليه فإن مجلس الدولة الفرنسي أخضع الإجراءات أمامها إلى المبادئ الأساسية التي تحكم الهيئات القضائية أي : إحترام حقوق الدفاع ، وحدة و عدم تجزئة القرار.
ومن جهتها فإن سلطة ضبط البريد و الإتصالات تتجلى فيها بوضوح صفة الإزدواجية الوظيفة من خلال تدابير القانون المتعلق بها[45] خاصة منه المادة 13، لكن الصفة الإدارية جالية أكثر خاصة في جانبها الوظيفي، مثل النص على منح ترخيصات الإستغلال و السهر على وجود منافسة فعلية، تخطيط و تسيير و تخصيص و مراقبة إستعمال الدبدبات، المصادقة على عروض التوصيل البيني و إعداد مخطط وطني للترقيم و غيرها من المهام الإدارية المكلفة بها، فإذا اسثنينا الفقرتين 8 و 9 من المادة المذكورة أعلاه و اللتان تخصان الفصل في المنازعات و التحكيم، فإن بقية المهام تعتبر إدارية. و تخضع سلطة ضبط البريد و الإتصالات لرقابة مجلس الدولة للطعن في قراراتها، و ليس للطعن أثر موقف بحسب نص المادة 17 من هذا القانون.
و مما تقدم فإن السلطات الإدارية المستقلة تتميز بإزدواج وظيفي، فهي تمارس عملا إداريا أثناء أدائها لمهام ضبط السوق و النظر في مشاريع التركيز، وتؤدي كذلك عملا قضائيا أثناء ممارستها لسلطاتها التأديبية و نطقها بالعقوبات المقررة قانونا. و بهذا الصدد يضرب لنا مجموعة من الفقهاء مثالا يشبه حالة مجلس المنافسة، ألا و هو إنعقاد مجلس ذو صبغة مهنية حسب ما هو مقرر في برنامجه لدراسة السير العادي للمهنة فمقرراته تكون إدارية، أما تناول هذا المجلس لقضية تأديبية لأحد منتسبيه فقراره يعتبر ذو طبيعة قضائية.[46] و قريبا من ذلك إعتبر مجلس الدولة في قرارين له أن المجلس الأعلى للقضاء هو سلطة إدارية مركزية، لكن هذا الرأي لا يصمد في حالة إنعقاد المجلس في جلسة تأديبية، ففي هذه الحالة تتوفر فيه كل الشروط التي تعطيه الصفة القضائية بحيث أن قراراته تقبل الإستئناف لا الطعن بالنقض، وهذا ما نص عليه القانون الأساسي للقضاة رقم 11.04 الصادر في 06 سبتمبر 2004، خلافا لما كان عليه الوضع في ظل القانون الأساسي القديم الذي ينص في المادة 99 أن القرارات الصادرة عن المجلس الأعلى في القضايا التأديبية لا تقبل أي طريقة من طرق الطعن فيها.[47]
الفرع الثاني :
الطبيعة القانونية لقرارات الهيئات الادارية المستقلة
إن الميزة الأساسية للضبط تتمثل في تجميع عدة وظائف مختلفة بين يدي سلطة الضبط للسماح لها بالقيام بمهامها المختلفة، فهي لا تتحرك نحو المستوى الأدنى فقط للفصل في النزاعات بين الأعوان الاقتصاديين، لكنها تتحرك أيضا نحو مستوى أعلى نظري للمساهمة في إيجاد قواعد اللعب بين الأعوان و البحث عن التوازنات الضرورية بينهم من أجل تحقيق أهداف عليا للسياسات العمومية في جانبها الإقتصادي. و أمام تعدد المهام فإن القرارات الصادرة عن هده الهيئات تختلف بحسب مجالها و الجهة المخاطبة بها، لذلك فهي تتراوح بين الرأي والتوجيهات بداية، ثم الإنذار و إصدار الأوامر و أخيرا القرارات العقابية. و إذا كان إبداء الرأي و توجيه الإنذار، الموافقة أو رفض إعطاء الترخيص تعتبر قرارات ذات صبغة إدارية فإن إصدار الأوامر و النطق بالعقوبات هي بدون شك قرارات ذات صبغة قضائية. يترتب عن ممارسة المهام الجزائية لهذه السلطات أي النطق بالعقوبة المالية أو إصدار الأوامر واجبة النفاد كهيئات قضائية للفصل في المنازعات المعروضة عليها، إصدارها لقرارات ذات طبيعة قضائية في فحواها حتى و لو لم تصدر في الصيغة المعروفة « باسم الشعب الجزائري ».
1 – إصدار الأوامر :
بمقتضي تدابير المادة 45 من الأمر 03.03 المتعلق بالمنافسة و التي تنص على أن مجلس المنافسة يتخذ أوامر معللة ترمي إلى وضع حد للممارسات المعاينة المقيدة للمنافسة عندما تكون العرائض و الملفات المرفوعة إليه أو التي يبادر بها من إختصاصه، و تضيف المادة أنه يمكن للمجلس أن يقرر عقوبات مالية إما نافدة و إما في الآجال التي يحددها عند عدم تطبيق الأوامر، و يمكنه أيضا أن يأمر بنشر قراره أو مستخرج منه أو تعليقه أو توزيعه. فنلاحظ أن مثل هدا القرار يأتي في صيغة أمر فهو إلزامي و واجب النفاد، و يترتب عن عدم تنفيذه عقوبات مالية ينطق بها المجلس، فمثل هذا القرار و لا شك ذو طبيعة قضائية و إن لم يصدر في الصيغة المعروفة، و يجوز للمجلس علاوة على ذلك نشره أو تعليقه، و هذا الأمر هو بمثابة عقوبة معنوية إضافية (تكميلية). ولما كانت هذه الأوامر ليست عقوبات في حد ذاتها فإن نشرها ضمن النشرة الرسمية للمنافسة التي نص عليها القانون 12.08 يمكن أن يرتب ضررا ماديا أو معنويا على المؤسسات المعنية بها. وعلى هذا الأساس فإن مجلس الدولة الفرنسي إعتبرها قرارات ذات قيمة قضائية و أخضعها إلى اختصاصه فيما يخص فحص مدى مشروعيتها.[48] أما في الجزائر فإن الأوامر الصادرة عن مجلس المنافسة تخضع لرقابة القاضي العادي مثلها مثل العقوبات المالية.
و بإعتبار مجلس المنافسة مكلف بمهمة المحافظة على النظام العام الاقتصادي في بعده التنافسي،[49] فيمكنه التأثير في قرارات المؤسسات بواسطة سلطته في إصدار الأوامر، و يستطيع أن يتدخل في عمق العقود و يفرض تعديل البنود المخلة بمبدأ المنافسة الحرة. و مثال ذلك القرار رقم 99/01 الصادر في 23 جوان 1999 المتصمن أمر إلى مؤسسة ENIE)) لإنهاء ممارساتها المخالفة لأحكام المادة 7 من الأمر 06.95 المتعلقة بإستغلال وضعية الهيمنة. ترتب عن هذا الأمر لجوء المؤسسة إلى معاودة المفاوضات مع شركائها لإبرام عقود جديدة لا تتنافى مع تدابير تشريع المنافسة.[50] و عليه فمجلس المنافسة يمكنه الدخول في صلب قرارات المؤسسات و لعب دور ضابط حقيقي، خلافا لدور القاضي الذي لا يملك إلا إلغاء العقد كليا أو جزئيا.
2 – إصدار القرار بالعقوبة المالية :
يصدر مجلس المنافسة عقوبات مالية تطبق مباشرة أو عند عدم تطبيق الأوامر التي يكون قد أصدرها في الآجال المحددة، و هذا في حق المؤسسات التي تنتهك القوانين التي تضبط المنافسة و بالخصوص الإتفاقات غير المشروعة، إستغلال وضعية الهيمنة، الإستغلال المفرط لحالة التبعية و التجميعات الممنوعة. و قد إعتمد المشرع في تحديد قيمة العقوبة على أساس نسبة مئوية من رقم الأعمال المحقق في آخر سنة و هي 7 % بمقتضى المادة 61 من الأمر 03.03 قبل أن تصبح 12% كحد أقصى تبعا للتعديل الوارد في المادة 56 من قانون 12.08. و في حالة عدم إمكانية تحديد رقم أعمال للمعني بالغرامة المالية فإن المشرع حدد الغرامة المالية ب6 ملايين دج كحد أقصى. كما ترك المشرع سلطة تقديرية واسعة لمجلس المنافسة لتقدير الغرامة، فنص على بعض ظروف تشديد العقوبة مثل مدى خطورة الممارسة و الضرر الذي يلحق بالاقتصاد الوطني و قيمة الربح المحقق من طرف المخالف، و كذلك ظروف تخفيف العقوبة أو عدم الحكم بها على المؤسسات التي تعترف بالمخالفات المنسوبة إليها أثناء التحقيق في القضية و تتعاون و تتعهد بعدم إرتكاب المخالفات المتعلقة بتطبيق أحكام هذا الأمر (المادة 62 من الأمر03.03). كما قرر المشرع لصالح المجلس النطق بالغرامة التهديدية المقدرة ب 150 ألف دج عن كل يوم تأخير، إذا لم تنفذ الأوامر و الإجراءات المؤقتة الواردة في المادتين 45 و46 ، وفقا لأحكام المادة 58 من الأمر 03.03.
3 – العقوبة التكميلية
:
و هي كما أشرنا قيام المجلس بنشر القرارات الصادرة عنه و عن مجلس قضاء الجزائر و عن المحكمة العليا و عن مجلس الدولة المتعلقة بالمنافسة في النشرة الرسمية للمنافسة. كما يمكن نشر مستخرجات من قراراته و كل المعلومات الأخرى بواسطة أي وسيلة إعلامية، وفقا لنص المادة 23 من قانون 12.08 المعدلة لنص المادة 49 من الأمر 03.03. و هذا الأمر يمس بالسمعة التجارية للمؤسسات و يصيبها بأضرار مادية، و هو ما يعتبر رادعا لها و داعيا لإحترام أحكام تشريع المنافسة.
الـخـاتـمـــة:
لم يتم تنصيب مجلس المنافسة المنشأ سنة 2003 إلا في سنة 2013 و هذا بعد وعود عديدة أطلقها وزير التجارة خاصة بعد أحداث جانفي 2011 المواكبة لثورات الربيع العربي، كل هذا يجعلنا نوافق الرأي الذي ذهبت إليه دراسة بقولها :” أثبت مجلس المنافسة عدم فعاليته مند تأسيسه في سنة 1995 و أنه عبارة عن ديكور ليس إلا،”[51] مما يثير أكثر من تساءل حول دور مجلس المنافسة و أهميته بالنسبة للاقتصاد الجزائري. نفس التساؤل يبقى مطروحا بالنسبة لكل من مجلس القرض و النقد و اللجنة البنكية أمام الفضائح المالية التي يعرفها قطاع المالية. و لا أظنني في حاجة للتذكير بفضائح بنك بدر و خليفة بنك و البنك التجاري و الصناعي و أنه قد تم تصفية المؤسستين الأخيرتين، و هو ما يكاد يجعل من البنوك التي لم تتعرض للاختلاس استثناءا إن دل على شيء فإنما يدل على غياب ليس فقط سلطتي الضبط و مجلس المحاسبة بل الوصاية أيضا بكل أجهزة الرقابة التي تملكها و مفتشياتها العامة و الخاصة، و أيضا السلطة القضائية.
أما بقية السلطات الإدارية المستقلة فتلعب أدوارا لا بأس بها و نخص بالذكر سلطة ضبط البريد و الاتصالات و التي تدخلت في أكثر من مناسبة للفصل في منازعات متعاملي الهاتف النقال فأقرت اختصاصها في النزاع الذي جمع متعامل الهاتف النقال جيزي (0TA) ضد المتعامل الأخر (AT) رغم أن موضوعه يتعلق بممارسة منافية للمنافسة، و فسرت ذلك بأن التسعيرة المعتمدة فيما بين شبكات المتعاملين يمكن أن تكون محل تحديد من طرف سلطة الضبط و أن هدف هذا التحديد هو تطور المنافسة في السوق. و في نزاع آخر جمع نفس المتعاملين في موضوع اعتماد سعر مدعم لخدمة تنافسية أو بيع بالخسارة حكمت السلطة لصالح المتعامل الأول ضد الثاني، بل و أصدرت له أمرا لسحب العرض زيادة على تعويض يدفعه للمتعامل المتضرر.[52]
كما أن سلطة ضبط البريد و الاتصالات دخلت في نزاع مع الوزارة الوصية انتهى بمغادرة الوزير لمنصبه و تعويضه بالسيدة التي كانت تشغل منصب مديرة سلطة ضبط البريد و الاتصالات في التعديل الوزاري لسنة 2013، مما يبين المكانة المرموقة التي أصبحت تتبوأها السلطات الإدارية المستقلة. و هذه المكانة جاءت بالعمل و المثابرة و التدخل في السوق كلما كان ذلك ضروريا و استغلال الصلاحيات الممنوحة لها أحسن استغلال و الاستفادة من النصوص القانونية التي تضمنتها مختلف تشريعاتها لأقصى درجة و هذا حتى توقف عند حده كل من أراد أن يقفز عليها و يتخطاها سواء كان الأمر من المتعاملين أو من الوصاية أو من أية جهة أخرى.
و عليه تعتبر السلطات الإدارية المستقلة شكلا جديدا من أشكال ممارسة صلاحيات السلطات العامة من قبل هيئات ذات بنية مجلسية خاصة و متميزة و تتمتع بإستقلالية نسبية عن السلطة التنفيذية. و رغم أن هذه السلطات مقتبسة من التجارب الغربية و الفرنسية بالخصوص فقد أصبحت اليوم جزء لا يتجزأ من المنظومة القانونية التي تمارس الدولة من خلالها الوظائف الجديدة التي أنيطت بها في إطار التحول نحو اقتصاد السوق. و نظرا لتشكيلتها المتأتية على العموم من أعضاء ذوي خبرة و ممارسة في عالم المال و الاقتصاد و لتميزها بالتخصص في مجال محدد بما يؤدي إلى تراكم الخبرة مع الزمن و من ثم التدخل بسرعة و فعالية كلما كان ذلك ضروريا من أجل ضبط السوق و مراقبته، فقد غدت بديلا فعالا لإدارة بيروقراطية و كثيرة الانشغالات و نتيجة حتمية للدينامكية التي تميز عالم الاقتصاد.
ومن جهة أخرى تتمتع السلطات الإدارية المستقلة ببعض صلاحيات القاضي الجزائي و لها القدرة على معاقبة بعض الممارسات المخلة بمبادئ اقتصاد السوق في نطاق اختصاصها النوعي، و قد أصبحت تعتبر مظهرا من مظاهر إقصاء القاضي الجزائي عن الحقل الاقتصادي، نظرا لإجراءاته البطيئة. و هي وسيلة تضفي على أداء الإدارة المشروعية و الفعالية نتيجة مساهمة الأعوان الاقتصاديين في ضبط القطاع الذي يشتغلون فيه بأنفسهم، و كما يقال فإن أهل مكة أدرى بشعابها. وعلاوة على ذلك تحقق هذه السلطات المرونة في العمل و تضمن بعض التوازن بين المصلحة العامة للمجتمع و المصلحة الخاصة للأفراد في مسعاهم إلى تحقيق الثروة و النمو لرأسمالهم، و بالتالي مواكبة التطورات الاقتصادية و المساهمة في تطور البلاد.
لكن ما طبع التجربة الجزائرية في هذا المجال ذلك التناقض بين محتوى النصوص القانونية و بين الممارسات العملية، إذ أن سلطات الضبط المعتمدة إلى اليوم تنحو إلى التبعية الإدارية أكثر مما تنحو إلى الاستقلالية. و تملك الإدارة الكثير من الوسائل للتأثير على السلطات الإدارية المستقلة سواء في الجانب العضوي أو الجانب الوظيفي مما يبين أن الاستقلالية في مفهوم النظام السياسي غير مرحب بها برغم النصوص القانونية التي تكرسها. و للتذكير فإن السلطة القضائية في الواقع تعاني في حد ذاتها من هيمنة السلطة التنفيذية و يبقى أمر استقلاليتها نسبي و نظري أكثر مما هو واقعي.[53] و نفس الملاحظة تصلح اتجاه السلطة التشريعية مما يجعلنا ننادي بضرورة تكريس المبادئ الأساسية لدولة القانون قبل الانتقال إلى مثل هذه التفاصيل.[54]
وأخيرا و من أجل تفعيل أداء السلطات الإدارية المستقلة فإنني اقترح اعتماد الانتخاب كوسيلة أساسية لنيل العضوية في هذه الهيئات على أن تحدد الهيئة الناخبة من بين الفاعلين المتخصصين في مجال النشاط، و أن تمارس العضوية لعهدة واحدة غير قابلة للتجديد. كما أرى ضرورة تدعيم مبادئ الاستقلالية وظيفيا بما يضمن عدم تأثير السلطة على قراراتها و لا المقاولات، وأن تتخذ القرارات بأغلبية مشروطة قانونا و أن تخضع للطعن القضائي الموحد لدى مجلس الدولة لا غير. كما أأكد على ضرورة ضبط صلاحياتها بشكل حصري حتى لا تتداخل فيما بينها بل تتكامل و تتعاون من أجل هدف أسمى يخدم الاقتصاد الوطني و يحفز عملية جلب الاستثمار الأجنبي و بالتالي المساهمة في تحريك التنمية بمفهومها الشامل.
قـائـمـة المـراجـع :
1 – المراجع باللغة العربية :
– بن عبيدة (عبد الحفيظ)، استقلالية القضاء و سيادة القانون في ضوء التشريع الجزائري
والممارسات، منشورات البغدادي، الجزائر، 2008.
– خروع أحمد، دولة القانون في العالم العربي الإسلامي بين الأسطورة والخيال، ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر، 2008.
– سلطان عمار، الثنائية المجلسية للسلطة التشريعية في الجزائر، رسالة دكتوراه، جامعة قسنطينة، الجزائر، 2018.
– سلطان عمار، الطبيعة القانونية لمجلس المنافسة، مذكرة ماجستير، جامعة قسنطينة، 2012.
– لباد (ناصر)، السلطات الإدارية المستقلة، مجلة الإدارة ع 1، 2001،; CDRA الجزائر، 2001.
2 – المراجع باللغة الفرنسية :
– AUTIN (LJ); Le pouvoir d’injonction des autorités administratives indépendantes, JCP, Paris, 1987.,
– COLSON (J.P) ; Droit public économique, Paris, LGDJ, 1995.
– DU MARAIS (B) ; Droit public de la régulation économique. Paris, Dalloz, 2004.
– DUPUIS (G), GUEDON (M.J), CHRETIEN (p) ; Droit administratif, A.colin, 9ème éd, Paris, 2004,
– FRISON ROCHE (AM); Droit de la régulation, Dalloz, Paris, 2004.
– GUEDON (M.J); les autorités administratives indépendantes, LGDJ, Paris, 1991.
– LAGHOUATI (S), FASSIER (F) et MEBROUKINE (A); le droit algérien de la concurrence à la croisé des chemins, RDAI n°5, 2006.
– LOMBARD (M) ; Institution de régulation économique et démocratie politique, AJDA, Dalloz, Paris, 2005.
-TEITGEN-COLLY (C) ; les instances de régulation et la constitution, Paris, RDP, 1990 .
– TEITGEN-COLLY (C); Histoire d’une institution: Les autorités administratives indépendantes, PUF, Paris, 1988.
– ZOUAIMIA (R) ; les autorités administratives indépendantes et la régulation économique en Algérie, Houma, Alger, 2005.
– ZOUAIMIA (R) ; le conseil de la concurrence et la régulation des marchés en droit algérien, Revue Idara
n° 36, Alger, CDRA, 2008.
– ZOUAIMIA (R); les autorités indépendantes de régulation dans le secteur financier en Algérie, Alger, Houma , 2005.
3 – النصوص القانونية :
الأمر 03.03 المتعلق بالمنافسة الصادر في 19 يوليو 2003،
الأمر رقم 37.75 المتعلق بالأسعار والعقوبات الخاصة بمخالفة تنظيم الأسعار الصادر في 29 أفريل 1975.
([1]) – الجزائر، المادة 63 من الأمر 03.03 المتعلق بالمنافسة المعدلة بالمادة 31 من القانون 12.08 المتعلق بالمنافسة.
([1]) – الجزائر، القانون رقم 90-10 المتعلق بالقرض و النقد الصادر في 14 أفريل 1990.
([1]) – الجزائر، القانون رقم 04.06 المتعلق بالتأمينات الصادر في 2006.02.20 المعدل للأمر 07.95 المتعلق بالتأمينات.
([1]) – الجزائر، القانون رقم 02 – 11 المتضمن قانون المالية لسنة 2003 المؤرخ في 24 ديسمبر 2002.
([1]) – الجزائر، القانون رقم 05 – 12 المتعلق بالمياه المؤرخ في 4 أوث 2005.
([1]) – الجزائر، القانون رقم 05 – 07 المتعلق بالمحروقات المؤرخ في 28 أفريل 2005.
([1]) – الجزائر، القانون رقم 06 – 01 المتعلق بالوقاية من الفساد ومكافحته المؤرخ في 20 فيفري 2006.
([1]) – الجزائر، القانون رقم 08 – 13 المتعلق بحماية الصحة و ترقيتها المؤرخ في 20 جويلية 2008 المتمم و المعدل للقانون رقم 85 – 05 ل 16 فيفري 1985.
– الجزائر، القانون رقم 05.10 المتعلق بالمنافسة الصادر في 15 أوث 2010 المعدل و المتمم للأمر 03.03.
– الجزائر، القانون رقم 90- 10 المتعلق بالقرض و النقد المعدل و المتمم الصادر في 14 افريل 1990.
– أنظر القانون رقم 00- 03 الصادر في 05 أوت 2000 المحدد للقواعد العامة للبريد و الإتصالات.
4 – المراجع الالكترونية :
– الموقع الالكتروني لمجلس المنافسة في الجزائر: www.conseil-concurrence. Dz/ –
موقع سلطة البريد و الاتصالات: www. ARPT.Dz/
; les pouvoirs de sanction des autorités de régulation : les voies d’une juridictionnalisation , (J F) Brisson WWW.gip-recherche-justice.fr
(L) ; Normes , www.credeco.unice.fr BOY
STIRN (A) ; les autorités administratives indépendantes, www. Lexinter. Net
([1]) – الجزائر، الأمر 03.03 المتعلق بالمنافسة الصادر في 19 يوليو 2003، المادة 23 و ما يليها.
([2]) – ينظر :
Les autorités administratives indépendantes et la régulation (R)ZOUAIMIA économique en Algérie, Houma, Alger, 2005, p 5
([3]) – ينظر : ZOUAIMIA (R) ; Les autorités administratives indépendantes… Op.cit , p 58.
([4]) – ينظر : p 37. TEITGEN-COLLY (C) ; les instances de régulation et la constitution, Paris, RDP, 1990,
([5]) – ينظر : ZOUAIMIA (R) ; Ibid, p 15.
([6]) – ينظر الموقع الالكتروني بتاريخ 28 أوث 20013 : (L) ; Normes , www.credeco.unice.fr BOY
([7]) – ينظر: LOMBARD (M) ; Institution de régulation économique et démocratie politique, AJDA, Dalloz, Paris, 2005, p 533.
([8]) – ينظر: .80ZOUAIMIA (R) ; les autorités indépendantes de régulation … Op.cit, p (Décision CC /88 248. du 17 jan 1989).
([9]) – ينظر: . 23 TEITGEN-COLLY (C) ; Op.cit, p
([10]) – الجزائر، الأمر رقم 37.75 المتعلق بالأسعار والعقوبات الخاصة بمخالفة تنظيم الأسعار الصادر في 29 أفريل 1975.
([11]) – ينظر: TEITGEN – COLLY (C) ; Histoire d’une institution : Les autorités administratives indépendantes PUF, Paris, 1988, p 37.
([12]) – ينظر: STIRN (A) ; les autorités administratives indépendantes, www. Lexinter. Net/
([13]) – ينظر: DU MARAIS (B) ; Droit public de la régulation économique. Paris, Dalloz, 2004, p 3.
([14]) – ينظر: Dalloz, Paris, 2004. P 28. FRISON ROCHE (AM); Droit de la régulation,
([15]) – ينظر: p 12. ZOUAIMIA (R) ; Les autorités administratives indépendantes… Op.cit.
([16]) – ينظر: ZOUAIMIA (R) ; le conseil de la concurrence et la régulation des marchés en droit algérien, Revue Idara n° 36, Alger, CDRA, 2008, p 22.
([17]) – الجزائر، المادة 63 من الأمر 03.03 المتعلق بالمنافسة المعدلة بالمادة 31 من القانون 12.08 المتعلق بالمنافسة.
([18]) – الجزائر، القانون رقم 90-10 المتعلق بالقرض و النقد الصادر في 14 أفريل 1990.
([19]) – الجزائر، القانون رقم 04.06 المتعلق بالتأمينات الصادر في 2006.02.20 المعدل للأمر 07.95 المتعلق بالتأمينات.
([20]) – الجزائر، القانون رقم 02 – 11 المتضمن قانون المالية لسنة 2003 المؤرخ في 24 ديسمبر 2002.
([21]) – الجزائر، القانون رقم 05 – 12 المتعلق بالمياه المؤرخ في 4 أوث 2005.
([22]) – الجزائر، القانون رقم 05 – 07 المتعلق بالمحروقات المؤرخ في 28 أفريل 2005.
([23]) – الجزائر، القانون رقم 06 – 01 المتعلق بالوقاية من الفساد و مكافحته المؤرخ في 20 فيفري 2006.
([24]) – الجزائر، القانون رقم 08 – 13 المتعلق بحماية الصحة و ترقيتها المؤرخ في 20 جويلية 2008 المتمم و المعدل للقانون رقم 85 – 05 ل 16 فيفري 1985.
([25]) – ينظر: GUEDON (M.J); les autorités administratives indépendantes, Paris, LGDJ, 1991, p 62.
([26]) – ينظر لمزيد من التفاصيل : سلطان عمار، الطبيعة القانونية لمجلس المنافسة، مذكرة ماجستير، جامعة قسنطينة، 2012.
([27]) – ينظر: ZOUAIMIA (R); le conseil de la concurrence et la régulation… op cit, p 25.
([28]) – ينظر: p 393. COLSON (J.P) ; Droit public économique, Paris, LGDJ, 1995,
([29]) – الجزائر، القانون رقم 12.08 المتعلق بالمنافسة الصادر في 25 جوان 2008 المعدل و المتمم للأمر 03-03 المتعلق بالمنافسة، (أصبحت العهدة 4 سنوات).
([30]) – الجزائر، القانون رقم 04.03 المتعلق ببورصة القيم المنقولة الصادر في 17 فيفري 2003.
([31]) – الجزائر، االقانون رقم 07.90 الخاص بالإعلام الصادر في 03 أفريل 1990.
([32]) – لباد (ناصر)، السلطات الإدارية المستقلة، مجلة الإدارة ع 1، 2001،; CDRA الجزائر، 2001، ص 9.
([33])- ينظر لمزيد من التفاصيل : خروع أحمد، دولة القانون في العالم العربي الإسلامي بين الأسطورة والخيال، ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر، 2008.
([34]) – الجزائر، الأمر رقم 03. 11 المتعلق بالقرض والنقد الصادر في 26 أوث 2003 المعدل للقانون 90-10.
([35]) – الجزائر، القانون رقم 02. 01 الخاص بالكهرباء و توزيع الغاز بالأنابيب الصادر في 05. 02. 2002. (المادة 126)
([36]) – الجزائر، المادة 26 من المرسوم الرئاسي 93-10 المتمم و المعدل الخاص ببورصة القيم المنقولة الصادر في 23. 05. 1993.
([37]) – الجزائر، المادة 65 من الأمر 11.03 المتعلق بالقرض والنقد الصادر في 26 أوت 2003.
([38]) – ينظر: ; les pouvoirs de sanction des autorités de régulation : les voies d’une (J F) Brisson juridictionnalisation , WWW.gip-recherche-justice.fr
([39]) – ينظر: . ; op cit, p 612 (M A) FRISON-ROCHE
([40]) – ينظر: ZOUAIMIA (R) ; le conseil de la concurrence et la régulation des marchés … op cit, p 33.
([41]) – الجزائر، القانون رقم 05.10 المتعلق بالمنافسة الصادر في 15 أوث 2010 المعدل و المتمم للأمر 03.03.
([42]) – ينظر : Les autorités administratives indépendantes, Op.cit, p 80. ZOUAIMIA (R) ; 17/01/1989) (décision CC-88/248.DC. du
([43]) – ينظر: ZOUAIMIA (R) ; Ibid, p 81.
([44]) – الجزائر، القانون رقم 90- 10 المتعلق بالقرض و النقد المعدل و المتمم الصادر في 14 افريل 1990.
([45]) – الجزائر، القانون رقم 00- 03 المحدد للقواعد العامة للبريد و الإتصالات الصادر في 05 أوت 2000.
([46]) – ينظر: Paris, 2004, p 593, A.colin, Droit administratif, 9ème éd, ; (P) DUPUIS (G), GUEDON (M.J), CHRETIEN
([47]) – ينظر: ZOUAIMIA (R); les autorités indépendantes de régulation dans le secteur financier en Algérie, Alger ,Houma ,2005, p 77.
([48]) – ينظر: Autin (LJ); Le pouvoir d’injonction des autorités administratives indépendantes, JCP, Paris, 1987, p92.
([49]) – ينظر الموقع الالكتروني: .(Rapport annuel du conseil de la concurrence 2005, p 95) :www.conseil-concurrence. Fr/
([50]) – ينظر: ZOUAIMIA (R) ; le conseil de la concurrence et la regulation …Op.cit, p 40.
([51]) – ينظر: LAGHOUATI (S), FASSIER (F) et MEBROUKINE (A); le droit algérien de la concurrence à la croisé des chemins, RDAI n°5, 2006, p 691, (une structure décorative)
([52]) – أنظر موقع سلطة البريد و الاتصالات 17)ماي 2014 (:www. ARPT.Dz/ (Décision n°11 /sp.PC/ARPT du 12 mars 2007)
([53]) – ينظر لمزيد من التفاصيل : بن عبيدة (عبد الحفيظ)، استقلالية القضاء و سيادة القانون في ضوء التشريع الجزائري
و الممارسات، منشورات البغدادي، الجزائر، 2008.
([54]) – ينظر لمزيد من التفاصيل : سلطان عمار، الثنائية المجلسية للسلطة التشريعية في الجزائر، رسالة دكتوراه، جامعة قسنطينة، الجزائر، 2018.