دراسات قانونيةسلايد 1
دراسة حول النزعة الابستمولوجية لفهم القانون
ملخص:
تنطلق هذه الدراسة من فرضية بسيطة مرتبطة “بالإيمان بوحدة المعرفة”، هذه الوحدة التي انطلق منها المقال ستحتم عليه الذهاب نحو التأسيس إلى المقاربة المعرفية الوحدوية من خلال الدراسات القانونية، التي لا ينظر لها كتقنية، وإنما كعلم، لا يتأسس القانون من الناحية العلمية، دون ترابط مع علوم اخرى، في إطار ما سمية في الدراسة “بالدائرة التداولية لعلم القانون”.
تمهيد:
القانون؛ ذاك الشيء المعقد في مبادئه الأولى، وإنشاء قواعده، وتحديد مختلف وسائل الصياغة فيه، بل قل انه شيء ملتبس في جانبه العلائقي مع المجتمع، وقد وضحنا هذا اللبس في مقال قد سبق أن تصدينا فيه لهذا الاشكال، وعنوناه ب:”القانون الملتبس”[1].
وفي هذا المقال نحاول الانطلاق من فرضية الترابط المنهجي بين القانون – ليس كنصوص جوفاء بل كفهم – وباقي العلوم الاجتماعية والعلوم الاخرى بشكل عام، وهذا المنطلق الافتراضي، يجعل الكلام في باب الابستمولوجيا القانونية مهما جدا، حتى نتوخا الحذر المعرفي، ولا نقع في التعميمات أو المسلمات الدوغمائية.
إن المحاولة اليوم، منهجية، ذات بعد ابستمولوجي بالأساس، من أجل الابتعاد عن الربط “التخريجي” أو بلغة الفقه الاسلامي، المنهج “النوازلي” في القانون، والوصول إلى مرحلة متقدمة من خلال البحث عن المقاصد الخفية للقانون، أو البحث الدلالي للنص القانوني (كخطاب).
ويحتاج علم القانون لاكتساب هذه الممارسات العلمية الدقيقة، اتصالا معرفيا مع علوم أخرى، ولو من خلال البعد المنهجي، وتدخل هذه الدعوة في الطرح العام الذي سبق وأن تناوله بعض الباحثين وحاولوا أن يؤسسو له، والمتمثل في الدعوة إلى نهاية التخصص المعرفي الجامد، والدخول في مجال تداولي عام، مرتبط بفكرة التداخل المعرفي أو “تداخل المعارف”[2].
لكن تجدر الاشارة إلى أن الاتجاه نحو “القانون المركب”[3] ليس وليد الصدفة، بل وليد التأمل المطول في المجال المحيط بالقانون المتسم بالجمود، بل إن الكتاب الذي أشرنا له في السابق، قد تم الاطلاع عليه بعد أن تم تشكيل الصورة العامة لهذا الفهم المعقد، وأن هذا الفهم السابق ينطلق من خلال انشاء دائرة تداولية لعلم القانون، لا أن يبقى القانون منفصلا عن النسق العام، حتى اضحى المشتغلون به، منفصلون عن العلم، بل أصبحوا يخرجون المسائل والنوازل بمنطق داخلي وجامد.
والهدف الأساسي من هذا التأسيس محاول تهديم التصور الفوقي والشكلاني للقانون من خلال الدائرة التداولية لعلم القانون: لإن إنتاج القانون دون محاولة دارسته، دراسة علمية، قد يطرح إشكالية الإنتاج، هل من الأعلى أم من الأسفل؟. فالقانون بالمغرب لا يتم إنتاجه من طرف المجتمع، والدليل على ذلك تعارضه في كثير من الاحيان مع العرف أو القانون القروي وتعارضه مع الشريعة الإسلامية كمحددات أساسية للتشريع بالمغرب.
وفي كثير من الأحيان يرتبط القانون في تصوراته الأولى، بمفاهيم يتم تأويلها ضد تطلعات المجتمع، إن المفاهيم المرتبطة بالقانون، من قبيل الضبط الاجتماعي، المصلحة العامة، المنفعة العامة والنظام العام، تؤدي إلى انهيار العلاقة بين المجتمع والقانون، هذا الإنهيار يمكن إجماله في مستويين:
– مستوى الإنتاج من خلال طغيان الجانب الشكلي والمكتبي في صياغة القوانين، صياغة القوانين داخل مكاتب مغلقة غير منفتحة على المجتمع، كذلك إشكالية المصادر.
– وعلى مستوى التطبيق الفعلي للقانون، كإشكالية تنفيذ الأحكام القضائية، وهاته الإشكالية تشكك المجتمع في تطبيق القانون، وتهز الثقة في إمكانية حماية القانون لمصالح وحقوق المجتمع.
يمكن إعطاء مثال بالمادة 16 من مدونة الأسرة التي نصت على عقد الزواج كأساس لإثبات الزواج، وهذا الطرح يعارض الشريعة والعرف لذلك المشرع لم يستطع التخلص من الاستثناء المتمثل في دعوى الزوجية.
وإن التأسيس للدائرة التداولية لعلم القانون تسعى إلى تهديم الشكلانية القانونية كذلك، والمرتبطة بعدم تحقيق عنصر العدالة في القاعدة القانونية. فالإتجاه نحو الشكلية المفرطة يؤدي بذلك إلى الابتعاد عن الإنسان والانصراف في شكلية القانون.
من غير المفيد إذن الذهاب أبعد من النص القانوني والبحث عن معان أخرى مخفية أو غير واضحة. فقد جعلت الشكلانية من القانون أداة لا تحقق العدالة في غايتها، وهذا أمر غير سليم، فليس من المنطقي إذن أن تفصل القاعدة القانونية على العدالة والأخلاق، أو عن العلوم الأخرى، وتصبح قاعدة شكلية جامدة، تبتغي تحقيق أثر اجتماعي دون أي مراعاة لسلوك الإنسان الاجتماعي الذي يتميز بالتطور. هذا الجانب الوضعاني المنحرف سرعان ما يمتعض منه المجتمع، ويدخله في صراع معه، وهو صراع في حقيقة الأمر مع الدولة.
ننطلق في هذه الدراسة من فرضية بسيطة مرتبطة “بالإيمان بوحدة المعرفة”، هذه الوحدة التي انطلقنا منها، ستحتم علينا الذهاب نحو التأسيس إلى المقاربة المعرفية الوحدوية من خلال الدراسات القانونية، التي لا ينظر لها كتقنية، وإنما كعلم، لا تتأسس علمية القانون، دون ترابط مع علوم اخرى، في إطار ما سميناه في الدراسة “بالدائرة التداولية لعلم القانون”، وستكون الدارسة إذن من خلال:
– المحددات النظرية والمفاهيمية لهذا الفهم الإبستمولوجي للقانون والمتجلي في؛ تحديد عملية التأسيس للدائرة التداولية لعلم القانون، في إطارها الشمولي، وكذا محاولة الرصد العام لفلسفة العلم في إطار إشتغالها بالقضايا الكبرى لعلم القانون، محاولة منا لإخراج الدرس القانوني من الجمود إلى الحركة (I)؛
– التطبيق العملي للفهم العلمي للقانون، وقد إخترنا لهذا التطبيق أنموذجين: الأول؛ متمثل في التأسيس للخطاب اللغوي للقانون، من خلال علوم اللغة، كإطار نظري إبستمولوجي لعلم القانون، وإختيارنا لعلم اللغة كأول تطبيق عملي، له مبرر، والمتجلي في إرتباط علم اللغة بالقانون إرتباطا حيويا، على إعتبار أن صياغة النص أو قرائته تحتاج التمكن من اللغة الحاملة لهذا الخطاب القانوني، والمبرر الآخر متعلق بتداخل عدة علوم أخرى في الدراسة اللغوية، بحيث ترتبط بعلم المنطق، وترتبط أيضا بأصول الفقه عل إعتبار أن تعاملنا مع اللغة العربية، وقد كان الأصوليون يهتمون غاية الإهتمام ببحث الدلالات أو المبادئ اللغوية، وأخيرا ترتبط بفلسفة التأويل أو الهرمنوطيقا، لكن هذا لا يعني أننا لن نطيل النظر في هذه العلوم المحيطة باللغة، بل هي كذلك علوم ترتبط بالقانون، وتدخل في الدائرة التداولية. وأما الأنموذج الثاني؛ فمتعلق بتقريب السوسيولوجيا من علم القانون، أو النظرة التصاعدية لعلم القانون، من الخصوصية نحو استعاب كلي لقضايا علم القانون في ظل السوسيولوجيا منهجا وإتصالا(II).
I. المحددات النظرية والمفاهيمية للفهم العلمي للقانون:
إن عملية الفهم العلمي للقانون، تقتضي منا أن نحاول التطرق إلى المحددات النظرية والمفاهيمية بشكل عام، وهذا التحديد مرتبط أساسا بمحاولة تأسيس الدائرة التادولية لعلم القانون، ثم بعد ذلك سيتم دراسة الفهم الإبستمولوجي لعلم القانون، أو قل القانون في ميزان فلسفة العلم .
1 – عملية التأسيس للدائرة التداولية لعلم القانون:
إذا كان المعطى الشكلاني أو التقني مقبول أثناء صياغة النص القانوني، أو أثناء تنفيذه، فإن دراسته وتحليله وتكوين الإطار المعرفي والنظري لهذا النص لا يجب أن تستحظر المعطى الشكلاني، بل من غير المقبول أن تنساق نحو التقنوية، فتُسقط الباحث في التعميمات وفي الدغمائية القانونية، أي الوثوق في كل ما صرح به المشرع والقضاء معا، دون فحصه، بتحويل نصوص القانون والأحكام القضائية إلى فروض، ثم البحث عن صحة هذه الفروض من عدمها، بمنهج عقلي بالأساس[4].
ومحنة تعطيل العقل في الدرس القانوني، تؤثر بشكل كبير في الممارسة القانونية، فالقاضي مثلا تحول إلى آلة لتطبيق النصوص، تلك النصوص التي سرعان ما يسعى المشرع إلى إرجاعها ذات طابع مغلق غير قابل للتأويل، وبمفهوم المخالفة يبتعد المشرع عن إنتاج خطاب قانوني منفتح على تأويل القاضي، بل إن المشرع دائما ما يحاول أن يصوب أخطاء وثغرات النص فلا يترك للقاضي أي سلطة في إعمال العقل أو إعمال التقدير والاجتهاد، فيصبح عقل المشرع مستبدا بعقل القاضي، ويقول الأستاذ محمد الشيلح في هذا الصدد:
“..إن النص مهما حاول أن يفصل ما يمكن تصوره من الواقع، فإنه يبقى قاصرا عن استغراق كافة تفاصيل هذا الواقع ولذلك يقال إن القانون متناهي والواقع غير متناهي. وما يجعل الواقع غير المتناهي قابلا للاستيعاب في النص القانوني المتناهي هو القاضي بما يملكه من سلطة في فهم النص لجعله ملائما لمستجدات الواقع، وكذا الفقيه الذي يقترح الكيفية الممكن استخدامها لتحقيق هذه الملاءمة.
إن المناداة، كلما تعذر إيجاد جواب عن أي سؤال يطرح، بضرورة تدخل المشرع لتقنين هذا الجواب الذي يبحث عنه، تمثل ضربا من التشجيع على تنامي الكسل الفقهي وتجعل من القضاة مجرد قلم تنفيذي. فمن يقنع بالخمول وينصح للقضاة هذا الدور؟…”[5]
لم يعد لنا من شك أن دراسة القانون لا تستقيم دون الصفة العلمية إلى جانب إستحضار المعطى التقني المرتبط بالنصوص القانونية والأحكام القضائية، وإضفاء الجانب العلمي عليها، وبالتالي الإبتعاد عن النظرة الشكلية. وتتحقق “علمية القانون” عن طريق دمج المقاربات العلمية الأخرى (علم الإجتماع، التاريخ، اللغة، المنطق …) لدراسة القانون، يقول روجر كورتيل[6] (أحد أبرز أساتذة علم الإجتماع القانوني بإنجلترا) في هذا الصدد ما يلي:
” … يمكن الجمع بين النظرات العديدة إلى التحليل القانوني – والتي يمكن تصنيفها بوصفها نظرات إجتماعية بالمعنى الأشمل- فقط من خلال ابتعادها الذاتي المتعمد على وجهة النظر المهنية التي ينتهجها المحامون أو رجال القانون، وهو أمر متضمن في الهدف الذي تسعى إليه النظرية القانونية التجريبية التي تنادي بأن القانون عادة ما ينظر إليه من “الخارج”؛ ومن وجهة نظر الملاحظ للهيئات القانونية، من حيث المذهب والسلوك، (…) (و) الهدف الموحد لدى جميع التحليلات الإجتماعية للقانون هو محاولة علاج القصور المفترض في التحليل المذهبي الذي ينتهجه رجال القانون لدى تحليله…”[7]
هذا الدمج بين القانون وباقي العلوم يقتضي محاولة الجمع بين المعطيات القانونية (النصوص القانونية – الأحكام القضائية …) والمقاربة التي تتسب بطابع العلم، سواء لغوية أو إجتماعية أو منطقية أو أصولية .. أو مقاربة أخرى تبتعد عن المعطى الشكلي.
بل إن “القانون” لا يصح أن نطلق عليه صفة “علم” دون دمجه مع علوم تضفي عليه هذه الصفة، لأن القانون هو بناء لغوي ومنطقي ومعياري، لا تنفصل عنه العلوم الأخرى، وهذا التداخل المعرفي بين القانون والعلم، سميناه بالدائرة التداولية لعلم القانون.
ومفهوم التداولية يحمل العديد من التناقضات والجدل في أصوله وفي معانيه[8]، ولن ندخل في هذا الجدل، والمقصود هنا من الدائرة التداولية؛ هو ذلك التداخل المعرفي أو الجانب العلائقي بين القانون والعلوم الأخرى، والتي تضفي عليه صفة العلم، بل تحيي في القانون المعنى.
فيكون القانون مركز الدائرة، وتحيط به العلوم في إطار الدائرة، ويتصلان بسهم تداولى، عن طريق مبدأ الأهمية أو القرب من القانون، مثلا فاللغة والمنطق، يكون لهما إتصالا قريبا بالقانون مقارنة بالعلوم الأخرى، بحكم أن القانون هو نص يحتاج بناءا لغويا محكما ومنطقيا كذلك، ولعل الرسم أسفله يقرب معنى المفهوم لدى القارئ:
ولعل إطالة النظر العميق والدقيق في العلوم الاسلامية، الفقهية، يوضح بجلاء التعاطي المثمر للمتخصصين في الفقه مع اللغة والمبادئ اللغوية، كذلك علم الدلالات، بل إن أصول الفقه يعد مبحث الدلالات فيه أعظم المباحث وأهمها.
كما أن التمعن في أصول الفقه، يظهر أنه هو أيضا يمكن ربطه التداولي والابستمولوجي مع القانون، من خلال الاستفادة من المنهجية الأصولية ذات البعد العلمي على اعتبار أن اصول الفقه هو منطق المسلمين، وطريقتهم في الاستدلال.
ولما كان الفقهاء يرتبطون ويتعاملون بمنهجية لغوية تأويلية مع نصوص مرتبطة بوحي الله جل علاه (القرآن الكريم)، وما تم اثباته عن الرسول محمد صلى الله عليه سلم (السنة)، فإن النص القانوني يحتاج التأويل ووسائل التعامل معه لغويا أيضا، بل التشديد في هذه الامور أهم بالمقارنة مع النصوص الشرعية، فهذا دليل حاسم، لإنهاء فرضية “تجزيء القانون” أو القول أنه مستقل في منهجيته وفي موضوعه ومضمونه، وهذا الأمر اعتبره الاستاذ “ميشيل مياي” بمثابة معيق ابستمولوجي لعلمية الظاهرة القانونية[9].
إن جرد هذه الأمثلة ليس من قبيل الترف الفكري ولا من قبيل إظهار الاطلاع، بل هو أساس منهجي من خلال الاستناد على دلالة الكلام في موضع الافكار، ويمكن طرح بعض المجالات العلمية التي يجب أن يتصل بها القانون، حتى يحصل الفهم المعرفي المرجوا:
– علم المنطق: الاتصال العقلي، من خلال محاولة تحديد التفكير القانوني، وعصمه من الوقوع في الخطأ، أو قل إنه التنظيم العقلي للفكر القانوني، على عدة مستويات، سواء منها صياغة النص، أو تحرير الأحكام، والبحث العلمي في مجال القانون كذلك.
– علم اصول الفقه: الاتصال المنهجي، من خلال الاستفادة من منهج تلقي العلم الشرعي واسقاط بعض مناهجه على دراسة القانون من خلال الوسائل الكفيلة بالدراسة وليس المضمون التخريجي النمطي الذي يثق في النص وثوقا أعمى.
– علم الاجتماع: الاتصال الموضوعي، فتح المجال لدراسة السوسيولوجية للقانون، واستحضار الجانب العلائقي بين القانون والظاهرة المجتمعية التي تنقسم إلى نوعين:
فأما النوع الأول وهي علاقة المجتمع بالقانون في إطار آمرية القانون على المجتمع، وكيف ينتج هذه الآمرية تفاعلا سلبيا معه، ولعل من الواضح عندما يرى البعض ما يطرح لدى المواطن الرفض المستمر والنقد للآجالات والمساطر القضائية، وينتج هذا الامر تفاعلا سلبيا هذا التفاعل، ينتج سلوكا منحرفا تجاه القانون من اجل التملص منه أو مراوغته.
أما النوع الثاني، فهو علاقة علم القانون بعلم الاجتماع، أو دراسة القانون مستقلا عن العلوم الاجتماعية، وهذه مسألة اخرى مرتبطة بالإشكال الواقعي السابق.
إذن المجال العلائقي بين المجال القانون والمجال الاجتماعي إنما هو علاقة مركبة، تدفع نحو التفكير في محاولة ارجاع القانون كوعاء للمضمون المجتمعي.
– فلسفة التأويل: الاتصال اللغوي، من خلال فهم النص القانوني باستعمال وسائل التفسير، والاستفادة اللغوية من خلال “الهرمينوطيقا” أو الدائرة التأويلية من خلال المؤلف والنص ومستقبل النص، وهو محو هذا التأويل، أن التأسيس إلى هرمينوطيقا القانون يحتاج التعمق في أصل استعمالات اللغة من خلال علم الالسن.
هذا التحديد الأولي لمضمون الدائرة التداولية، من خلال تداخل هذا القانون مع علوم أخرى سترجع لدارسيه خصوصا في مراحلهم الاولى ملكة الفهم والتعاطي الحر غير المقيد بالتقاليد العلمية التي لا يمكن له التفكير في تغييرها، وعلى الاقل التفكير في أصلها، سيتيح لنا النظر في المحددات كل على حدة.
2- القانون في ميزان فلسفة العلم (الابستمولوجيا):
نطلق في هذا الجزء من الأسئلة التالية: هل دارس القانون اليوم ينتج المعرفة؟ لعل هذا السؤال المستفز للأذهان نطرحه كمقدمة للكلام، بل إن سؤالا آخر يطرحه العقل، هل القانون علم؟ هل القانون يملك الاطار النظري؟.
إن السؤالين الأخيرين لا نملك لهما جواب النفي، بل إن التاريخ قد يجيبنا في حقيقة الأمر بأن القانون أنتج إطاره النظري منذ مدة، لكن إنتاجه لهذا الاطار النظري قد امتلك المتأخرين ممن يدرسون القانون الآن، فأصبحت العقول المؤسسة للنظرية في القانون تستبد بعقول وأذهان المتأخرين، بل إن المتأخرين من دارسي القانون أصبحوا يعتمدون على النقل لا العقل، وهذا يطرح فرضية التشكيك في علمية القانون.
لن نطيل النظر في إشكالية “إيديولوجية القانون”، قد طرحها من قبل الأستاذ “ميشيل مياي” حول المعيقات “الإبستمولوجية” المؤثرة في القانون كعلم[10]، وهذه إشكالية ذات بعد إيديولوجي، أي إن هذا الأستاذ حاول طرح منهج نقدي للقانون من خلال البعد الأيديولوجي المتحكم في صياغته، وفي تطبيقه، وتلقيه.
لكن سنستفيد من نقده الإبستمولوجي المرتبط باستقلالية القانون في دراسته، وهذا المعطي الأول والتأسيسي للكلام حول الفهم الإبستمولوجي الذي نتوخاه في دراسة النص القانوني، ولعل من يطيل النظر مليا في الكتب والشروح المتعددة بالمغرب، سيجد هذه النظرة الأحادية لدارس القانون؛ فعندما تتم دراسة القانون المدني مثلا، فإنها تكون دراسة نمطية للنصوص دون ربطها بسياقات النشأة أو استحضار البعد الاقتصادي الذي تتحول بسببه أسس العقد مثلا، بل إن الذين يشرحون القانون اليوم أضحو يتناقلون المعلومات دون ضبطها أو تحديدها أو حتى فهم سياقاتها، وفي هذا السياق يقول الأستاذ والعالم السوسيولوجي المغربي “نجيب بودربالة” عن النظرة الداخلية والمستقلة لرجل القانون في دراسته لهذا الأخير:
“… يتساءل الفلاسفة، وعلماء الرياضيات، والبيولوجيون، والمؤرخون، والسوسيولوجيون باستمرار عن وظيفتهم الاجتماعية، أما رجال القانون فيتابعون بهدوء دراسة القوانين والأحكام القضائية حسب منطقها الداخلي …”[11]
إننا اليوم نحتاج إلى تغيير نظرتنا للقانون، المتسمة بطابع الاستقلال والأحادية، واليوم بالملاحظة، يمكن استنتاج وجود أزمة في القانون كعلم، ولما تصبح العلوم عليلة، وقد انغمست في التقليد والجمود، فإن وضعها في ميزان الإبستمولوجيا أمر مهم وضروري، حتى نتمكن من إصلاح الأعطاب التي تتخبط فيها العلوم.
والإبستمولوجيا.على وجه العموم، تحيل إلى نظرية المعرفة، أي العلم الذي يبحث أساسا في العلم وفي شروط إنتاجه، ويمكن ضرب مثال عملي حول نظرية المعرفة، من خلال البحث الذي قام به الأستاذ “عبد الله ابراهيم” حول علم الاجتماع في إطار النسق العربي الذي يعاني من درجة استيعاب الاتجاهات والنظريات المحيطة بعلم الاجتماع الاتية من الغرب، وهذا معيق حلله وبينه من خلال الإبستمولوجيا[12]، أي إن الإبستمولوجيا تعيد التفكير في العلم، وتوصيفاته، وحدوده.
وهذا ما نحاول أن نظهره في علاقة الإبستمولوجيا بالقانون، فلما أصبحت أزمة القانون من وجهة العلم جلية للعيان، فان إظهار مشكلاته ومن التفكير في حلها لن يتأتى إلا من خلال الإبستمولوجيا، هذه العلاقة تتيح التقاء القانون بعدة علوم أخرى وهي علوم لا يمكن الاستغناء عنها في دراسة القانون.
وتجاوز النظرة الشارحة للقانون أو النظرة الوصفية للنصوص القانونية من خلال المحددات الداخلية والمستقلة عن النص القانوني، لا تتحقق إلا بالإيمان العميق بوحدة المعرفة، أو قل هو الترابط الإبستمولوجي بين القانون والعلوم الاخرى.
والكتابات التي تعنى بنظرية القانون تبتدأ كلامها بعد التعريف وتبيان خصائص القاعدة القانونية، بالكلام حول علاقة القانون بالعلوم الأخرى، وغالبا ما يطلق عليها علوم مساعدة، وهذا التوصيف نخالفه، على اعتبار أن إطلاق مصطلح العلوم المساعدة -هكذا- يعطي انطباعا حول عدم أهمية هذه العلوم، أو قل إنها علوم ثانوية، ثم إن هذا التوصيف يُستنتج منه أيضا عدم تعمق النظر لدى هؤلاء الذين يشرحون القانون في العلاقة بين القانون والعلوم الاخرى.
بل إن الذي يزيد من حيرتنا هو أن البعض يميز بين العلوم القانونية والعلوم الأخرى، وتحديد العلوم القانونية في شروحاتهم يتم من خلال التمييز التقليدي بين القانون العام والخاص، ويصبح المتلقي معها لا يعلم ماهية “العلوم القانونية”.
وفي حقيقة الأمر؛ إن القانون بلا وسائل علمية ذات طبيعة اجتماعية ومنطقية وفلسفية ولغوية وأصولية لا يصبح علما.
إن ما يُعرِفُ به أصحاب المداخل القانونية مفهوم “العلوم القانونية” لا يصح؛ فلا يمكن القول مثلا أن القانون المدني علما، دون استحضار الوسائل التي ستحلله لنا من علم التاريخ الذي يبرز أصوله (النشأة)، وعلم أصول الفقه (لاظهار علاقته بالفقه الاسلامي)، وعلم الاجتماع (لتيبيان أثر تلقي القانون المدني في النفوس والمحاكم لتصحيح أخطائه وعلله)، وعلم المنطق (لإبراز وإظهار مآلات هذا القانون في القضاء، ومنطق تعامل القاضي معه)، وعلم اللغة (لتحليل النصوص داخليا وربطها بالواقع).
إذن؛ إن التحديد المفاهيمي لإبستمولوجيا القانون يحيل إلى الاعتبارات التالية:
– تجاوز النظرة التجزيئية للقانون: أي عدم اعتبار القانون دراسات تخصصية تجزيئية تفرغ القانون من مضمونه ودلالاته، فمثلا لا يمكن دراسة التحصيل الجبري دون البحث في القانون التجاري والمدني، وكذا الحجوز في إطار قانون المسطرة المدنية، واليوم يتم تلقي القانون على أنه مجالات متفرقة عن بعضها البعض. ولما يتعمق دارس القانون في مجال ما، يصطدم بهذا التمثل التجزيئي المترسب في ذهنه، ويصبح غير قادر على ربط المعرفة المتجزئة التي تلقاها، بل لا يستفيد أبدا من المقاربات الأفقية للقانون.
– التأسيس للنظرة الشمولية للقانون: يحيل الاعتبار الأول إلى اعتبار ثان مرتبط بمحاولة دراسة القانون في إطار شمولي، أي محاولة الانطلاق من الكليات، أو المنطلقات المركزية للتحكم بالنظرة الجزئية في ما بعد، وهذا يحتاج من الدارس أمرين: الأمر الأول تجاوز النظرة الثنائية للقانون من خلال قانون عام وخاص، أو على الأقل محاولة نقد هذه الثنائية، الأمر الثاني وهو نقد المسلمات المدروسة في ما سبق، أي تلك المنطلقات والمبادئ، أو البداهات الأولى التي بني عليها القانون، مثلا محاولة دراسة خصائص القاعدة القانونية دون التسليم بها مطلقا أو ممارسة الدغمائية عليها.
– الاتصال المعرفي بين العلوم أو الدائرة التداولية لعلم القانون: أي اتصال القانون وعلوم أخرى تخرج القانون من اللاعلمية إلى العلمية، وقد سبق أن تناولناها في أول مقال تأسيسي لهذا الفهم الإبستمولوجي، وسنعمل في المقال القادم على تناولها وتحديد المقصود بها بطريقة أكثر عمقا.
II. التطبيقات العملية للفهم العلمي للقانون: “اللغة وعلم الإجتماع أنموذجا”
إن التحديد المرتبط بإستمولوجيا القانون، يقود نحو تفكيك الدائرة التداولية لعلم القانون، فينتج عن هذا التفكيك تحديد الجزئيات (أي العلوم الأخرى في علاقتها بالقانون).
ويسعى هذا الجزء إلى تأسيس دائرة تداولية لعلم القانون في إطار الفهم الابستمولوجي الذي عقدنا العزم على بداية الكلام فيه لما طرحنا بعضا من أولياته في ما سبق، وفي حقيقة الأمر إن الكلام حول هذا الفهم يحتاج من المرء التعمق في البحث، بل إن كتابة دراسة او دراستين لا يفيد في شيء، سوى محاولة للتأسيس المنهجي غير المكتمل، بمعنى أن الكلام الآتي ذكره لا يشكل سوى تأسيسا اوليا مبني على الفكر والتأمل والملاحظة، لكنه بني على نظر في بعض من حاولوا التأسيس لهذا الترابط.
سنأخد أنموذجين مهمين للكلام حول إتصالهما العلمي مع القانون، وهما؛ علم اللغة، في إطار الفهم اللغوي للخطاب القانوني، وعلم الإجتماع في إطار تقريب السوسيولوجيا من علم القانون.
1- تحديد لغة القانون: التأسيس للخطاب اللغوي القانوني
لما كان علم القانون في أصوله يرتبط باللغة، فان لهذه الأخيرة علوم تظهر معانيها وتجلي مقاصدها، وتوضح حروفها، وهي علوم كثيرة، خصوصا عند تصنيف الفقهاء المسلمون لها، بل انقسم المسلمون إلى مدرسة في الكوفة، وأخرى في البصرة، وقد كان اختلافهما في بعض جزئيات الدراسة اللغوية في النحو وما شبه.
وهذين المدرستين، إنما مظهر من التطور اللغوي الذي حاول المسلمون التأسيس له، وما دامت اللغة حامل للقانون، فإن دراسة اللغة في جانبها العلائقي مع القانون مهمة جدا.
لقد تطورت علوم اللغة، وتعاظم شأنها، ليس في العربية فقط، بل في لغة العجم كذلك، وأصبحت مرتبطة بعلم الدلالة أو “السِّيمَنطِيقَا”؛ من خلال دراسة المعنى اللغوي عن طريق الفهم اللفظي للمفردات والكلمات، وكذلك علم الأدلة أو “السميوطيقا”؛ هي دراسة معقدة تفكيكية تبحث عن التضاد لأجل الوصول إلى المعنى أو الدلالة.
لكن يمكن ابراز ملاحظة مرتبطة بعدم الدعوة في هذا الدراسة إلى تعاطي المشتغل بعلم القانون مع اللغة، كتعاطي العالم المتخصص في اللغة، بل إن هذه الدعوة ستكون ضربا من الخيال، فالبحث اللغوي في النص القانوني، سيكون منهجيا، من خلال انشاء الدائرة التداولية المومأ اليها أعلاه، بين القانون والعلم، وإن عالم اللغة سيكون له دور اساسي بالانتقال من علوم اللغة الصرفة إلى الدراسة اللغوية للنص القانوني.
وإذا كان القانون في بنائه العام خطابا لغويا يقتضي التكليف بالأمور تجاه المجتمع في إطار العلاقة المتصلة، فإن فهمه يحتاج إلى التعمق في اللغة، فالقانون محمول باللغة نحو المكلف به، بغض النظر عن الجدلية الحاصلة بين النص والخطاب، أي هل القانون نص أم خطاب، وممكنات الالتقاء بين هذين الوصفين.
ومن دون الدخول إلى الاستعمالات والأصول والدلالات اللغوية والاصطلاحية لمفهوم النص والخطاب، نعتقد أن القانون إنما نص يحمل خطابا، بمعنى وجود دائرة للإتصال اللغوي يحمل القانون كنص إلى متلق له؛ سواء المكلف به أو المنفذ له أو المتعامل معه نظريا من خلال تحليله وإظهار معانيه ومقاصده، وتبيان مشاكله وعيوبه، ويسمى فقها.
والكلام في باب اللغة القانونية يقتضي التمييز بين صياغة النص القانوني من خلال اللغة، والتعامل اللغوي مع النص الكائن مسبقا. وإن الموضع الثاني هو الذي يعنينا أكثر، لأن الأول هو بديهي لا يحتاج أي كلام.
فأما التعاطي اللغوي مع النص القانوني، فلا يزال مبحثا جديدا، سوى ما حاوله البعض بإن يدرسوا النص القانوني في كليته دراسة لغوية، نذكر على سبيل المثال دراسة الاستاذ سعيد بيومي الموسومة ب”لغة القانون”[13]، ودراسة الأستاذ مرتضى جبار كاظم والمعنونة ب “اللسانيات التداولية في الخطاب القانوني”[14].
إن إعادة فهم القانون إبستمولوجيا؛ تقتضي محاولة منهجية لخلق دائرة تداولية بين القانون واللغة، تمكن من الدراسة اللغوية للنص من خلال علم الدلالة أو “السِّيمَنطِيقَا”؛ من خلال دراسة المعنى اللغوي عن طريق الفهم اللفظي للمفردات والكلمات، وكذلك علم الأدلة أو “السميوطيقا”؛ هي دراسة معقدة تفكيكية تبحث عن التضاد لأجل الوصول إلى المعنى أو الدلالة.
وينتج عن هذه الدائرة التداولية بين اللغة والقانون من خلال الإتصال اللغوي فكرة النزعة التأويلية للقانون من قبل القاضي وهذه النزعة تشكلت ضدا على مدرسة التفسير التي لا ترى النص القانون إلا من خلال منطقه الداخلي الخالص، والتزعة التأويلية تقتضي من المتعامل مع النص القانوني أن لا يرى كلماته وسطوره فقط، بل يجب أن يتوغل نحو مقاصده، أو إرادة المشرع، يقول الأستاذ حمو النقاري في هذا الصدد مايلي:
” … لم يعد بإمكان الفقيه أو القاضي أن يقتصر على مجرد الإستنباط من النصوص الشرعية أو القانون؛ إن عليه أن يرتقي من “النص” إلى “المقصد” الذي قاد إلى صياغة النص وساق إليه، أي إرادة المشرع، ومن ثم كان على الفقيه والقاضي أن يؤول النص تبعا لإرادة المشرع من النص الذي شرع: … إن المعتبر، قبل كل شيء، هو الغاية المتوخاة من التشريع، هو روح النص التشريعي وليس منطوقه والثابت منه لغة …”[15]
ولقد حاول بعض الفقه الإنجليزي، و من بينهم الأستاذ “اللورد دننج”، أن يؤسس منذ مدة إلى منهج قضائي جديد حول التفسير الواسع (أو هو التأويل في حد ذاته) لنصوص القانون والمسمى بـ:”التحقق من نية المشرع”، وهو مثال واضح للكلام السابق عن النزعة التأويلية، وقد قوبل هذا المنهج الجديد بمعارضة قوية من قبل بعض فقهاء وقضاة إنجلترا من بينهم الأستاذ “ماك ديرموت”، بل إن قاضيا إنجليزيا آخر هو “اللورد سيموند” قد انتقد هذا النهج وسماه في ما بعد “بالتغول السافر على وظيفة المشرع”[16].
و تأسس هذا المنهج الجديد بإنجلترا -المخالف للطرح الذي تم ذكره للأستاذ “جيمس. إ. بوند”- في حكم محكمة الاستئناف بإنجلترا سنة 1949 بمناسبة بتها في قضية: “Seaford Court Estates Ltd V Asher” والذي جاء في الحكم الحيثية التالية:
“…المسألة المعروضة للفصل في هذه الدعوى هي فيما إذا كان يمكن لنا أن نمد دلالة الكلمة العادية “عبء” بحيث تشمل عبئا من نوع الطارئ الذي سبق وصفه، وقد سبق لهذه المحكمة أن قررت أن البند الوارد في هذه المادة يجب أن يفسر تفسيرا واسعا بحيث يعطي فعالية للمبادئ المنظمة الواردة في القانون واعتقد أنه يجب علينا أن نفعل المثل…”[17]
وقد سبق أن تحدث الاستاذ “فنست سيريل ريتشارد آرثر تشارلز كراب” عن وظائف المحاكم وفصل فيها ، والتي حدد من بينها؛ “التفسير” معتمدا بالأساس على منهج التفسير الواسع للقاضي الانجليزي اللورد ديننج في بعض احكامه[18]، كقضية seaford Court Estates Ltd. V Asher سنة 1949، وقد كان هذا اللورد ديننج متأثرا بالمنهج القضائي لمحاكم لكسوبورغ والمسماة ب”طريقة شمديت للتفسيرThe Schematic Method of Interpretation.
وتكلم الفقه الإسلامي عن هذا الأمر المتعلق بالتفسير الواسع، والمتعلق بالمعنى، لا اللفظ، ومما جاء في هذا الباب قول “إبن فرحون” ما يلي:
“…أن القضية إذا كانت مشكلة فيكشف عن حقيقتها في الباطن ويستعين بذلك للوصول إلى الحق، وقد أجاب الشيخ أبو عبد الله بن عتاب بعض الحكام في قضية أشكلت بأن قال ووجه الخلاص في هذا على ما كانت القضاة تفعله في شبه ذلك أن تكشف في الباطن عن ذلك، فإذا انكشف لك أمر إجتهدت فيه على حسب ما انكشف لك وفعلت ما يجب في ذلك، فقد كانت القضاة –رحمهم الله تعالى- يستعينون بالكشف عن باطن القضية ولا يخرجون في ذلك عن الواجب…”[19]
والتأويل السابق يحيل إلى التأسيس السيميائي بين القانون وهرمينوطيقا القانون ولعل الكلام سيطول إن شاء الله فيما سيأتي من المقالات حول التعامل النظري والتطبيقي بين فلسفة التأويل والقانون، من أجل التأسيس السليم للفهم الإبستمولوجي للقانون.
ومجمل الكلام فما سبق وفي ما سيأتي، إنما له مناط واحد متعلق بإخراج الدرس القانوني من التقليد والجمود، وليس الكلام هنا عن التقليد العلمي المتعلق بإتباع نمط أو أنماط مسطرة مسبقا تضبط العلم وتحدد قواعده، بل الكلام مأخود إلى تنميط عملية القانون، ومحاولة دراستها دون أسئلة أو علل أو مقاصد.
وإن الدرس القانوني يحتاج إلى التعاطي اللغوي، هذا التعاطي يكون من خلال دراسة النص القانوني كيفما كان، دراسة أفقية مرتبطة بعلم اللغة، في أفق التأسيس إلى علم اللغة القانوني، كمبحث يطور المعرفة القانونية، بل ويجود النص القانوني، ويحوله إلى خطاب مفتوح يحتاج عقلا في فهمه، وفي التعامل معه.
ومخالفة بذلك لما طرحه بعض التقنيين الذين يحولون التعامل مع القانون إلى تعاملا آلي فحسب، ومن بين من إتجه نحو هذا الطرح هو الأستاذ جيمس .إ. بوند من خلال كتابه أساس إصدار الأحكم، وقد جاء فيه:
“…إن صفتا “الحرفيين” و”رجال الدولة”، هما صفتان أكثر دقة لمختلف أنماط القضاة الذين خدموا في المحكمة. فالحرفي القضائي يبحث في المقام الأول عن نص الدستور كدليل يسترشد به عند الحكم في القضايا، ثم في المقام الثاني عن فهم واضعي الدستور لذلك النص … لكن في كثير من الحالات يجب أن يبحث خارج النص عن فهم واضعوا النص. وعلى الرغم من ذلك، فإن الحرفي يخصص اهتماما كبيرا للنص ذاته، ومع احتمال أنه سيقوم بفحص النص لغويا أكثر من إحتمال أن يفعل رجل الدولة ذلك…”[20].
ولقد حاول الأستاذ سعيد بيومي في الدراسة التي سبق ذكرها إلى التأسيس اللغوي للنص القانون من خلال الصيغة، والمعجم، والمصطلح في إطار التماسك النصي للقانون.
2 – تحديد سوسيولوجيا القانون: نحو تقريب السوسيولوجيا من علم القانون
يعتبر علم الإجتماع إحدى أهم هذه العلوم التي تترابط مع علم القانون، من أجل “فهم القانون من خلال علم الاجتماع”،. وفتح المجال للمقاربة السوسيولوجية لعلم لقانون، يتحقق باستحضار الفرضيتين التاليتين:
– الأولى؛ هي علاقة المجتمع بالقانون في إطار آمرية القانون على المجتمع[21]، وكيف ينتج هذه الآمرية تفاعلا سلبيا معه، وتنتج عن هذه العلاقة في غالب الأحيان نظرة سلبية للمواطن تجاه القانون، من خلال الرفض المستمر للقيود القانونية وللآجالات والمساطر القضائية، المترتبة عند تطبيق النص القانوني.
– الثانية؛ علاقة علم القانون بعلم الاجتماع، من خلال تجاوز دراسة القانون مستقلا عن العلوم الاجتماعية، وهذه مسألة اخرى مرتبطة بالإشكال الواقعي السابق.
هذه العلاقة المركبة تطرح فرضية مهمة حول” خصوصية الإشتغال السوسويولوجي بالقانون”بالمقارنة، مع الاشتغال اللغوي، أو الاشتغال المقارن مع الفقه الإسلامي، أو الإشتغال المنطقي بالقانون، بل إن المقاربة السوسيولوجية للقانون تتميز بطابع العمومية والتركيب.
إن الفرضيات السابقة، تجعل المقاربة السوسيولوجية أمرا حتميا، وضروريا، فإذا أخذنا مثالا؛ حول الأنظمة العقارية بالمغرب، المعقدة من الناحية القانونية، والضاربة في القدم، فإن فهمها يجب أن يأخذ بعين الاعتبار الدراسة السوسيولوجية للترسبات والإشكالات المتجلية في تعددها، وكذا قدم بعض النصوص المنظمة لها والتي لا تتماشى مع تطور المجتمع المغربي، بل إن بعضا من القوانين تتسم بطابع الإستعمارية[22]، الشيء الذي يجعلها لا تحقق التنمية والإستثمار المرجوا، وهذه الإشكالات متواصلة إلى اليوم، مؤترة بذلك في علاقة المجتمع بالقانون، خصوصا إذا ما إعتبرنا العقار وجه من أوجه التملك، وهذا الأخير ظاهرة إجتماعية مقعدة، فقد إعتبر الأستاذ والفقيه الفرنسي “جان كاربونييه” حق الملكية من دعائم القانون، أو أسسه، إضافة إلى الأسرة والعقد[23].
لكن يجب أن ننبه إلى مسألة مهمة، حول تأثير الدراسة السوسيولوجية المراقبة للقانون، في إبتعاد الباحثين في العلوم القانونية من المقاربة السوسيولوجية، هذا قيد مؤثر في التعامل بأدوات الإشتغال السوسيولوجية عند دراسة القانون، ولا ينفك هذا القيد إلا بتقريب السوسيولوجيا من علم القانون، وسنعمل على توضيح هذا الإشكال في ما سيأتي من الفقرات.
أ – تجاوز النظرة السوسيولوجية المراقبة للقانون: لما كانت الظاهرة الإجتماعية تتميز بالتعقيد والتشعب في ما ينتج عنها من علاقات وإشكالات، فإن السوسيولوجي لا يستطيع أن يدرس المجتمع من دون إستحضار القانون كمنظم له، طبقا لما سبق ذكره، فهذا الأمر ينتج عنه وجود ترابط بين القانون والمجتمع، سواء في إطار العلاقة المباشرة (إي إعتبار القانون؛ الإطار المنظم للمجمتع)، أو من خلال العلاقة العلمية (من خلال إعتبار القانون مجالا رئيسيا في دراسة المجتمع)، وهذا ما يؤكد فرضية “خصوصية الإشتغال السوسيولوجي بالقانون”. فإذا كان اللغوي أو المنطقي يستطيع دراسة مجاله بعيدا عن القانون، فإن السوسيولوجي لا يستطيع ذلك، فالقانون إحدى الأنساق المكونة للمجتمع.
وبما أن السوسيولوجي في دراسته للقانون، تكون نظرته إلى هذا القانون، من خلال مقاربة علوية أو شمولية، فإن هذا المنظور لا يحقق الدراسة المتصلة بعلم القانون، أي أن السوسيولوجي لما يبدأ في دراسة الظاهرة الإجتماعية المرتبطة بالقانون، يُحَوِلُ هذا الاخير إلى ظاهرة، فيدرسه منفصلا عن سياقه وعن خصوصياته، وهذا الإشتغال الخارجي يحقق نتيجتين سلبيتين:
– أولا؛ تكون نتائج بحثه بعيدة عن القانون نفسه، فلا يستطيع رجل القانون الإستفادة من الخلاصات والنتائج التي توصل إليها السوسيولوجي، بمعنى أن البحوث المقدمة في إطار التكوين السوسيولوجي والتي حاولت دراسة القانون والمجتمع، لا يكون لها أثر في المجتمع، وفي المشرع أيضا.
– ثانيا؛ يترتب عن هذه الدارسة، تبني المقاربة السوسيولوجية للقانون المعطى التاريخاني، أي دراسة القانون في إطار الرصد الزمني له وتفاعلاته مع المجتمع، بمعنى أن السوسيولوجي ينظر من زاوية المجتمع لا من زاوية القانون، وغالبا ما يكون منتصرا للمجتمع، فتكون نظرته للقانون نظرة علوية أو إصلاحية[24]، وهذا المعطى لا يحقق الإتصال المعرفي بين علم القانون وعلم الإجتماع، وهي دراسة تأخد طابعا مستقلا، يشبه نوعا ما إستقلال دارس القانون، والذي يكتفي بدراسة النصوص والأحكام القضائية بمنطقها الداخلي لا بمنطق متصل مع باقي العلوم الأخرى، بل إن هذه التاريخانية الممزوجة بالسوسيولوجيا، تُحوِل الدراسة إلى حقل الأنثروبولوجيا، من خلال تزاوج التاريخ و دراسة المجتمع، في إطار ظاهرة المجتمع و الضبط الإجتماعي، وهي دراسة مفيدة من أجل التأصيل لبعض الظواهر والتصرفات القانونية، كالعقد وما شابه ذلك، لكنها لا تحقق دراسة داخلية للنصوص القانونية، فتبقى هذه الدراسة بعيدة عن القانون ( بإعتباره نسقا من القواعد والمؤسسات)، قريبة من تأصيل الظواهر المحيطة بالمجتمع.
ويمكن أخد مثال للفهم، متمثل في مفهوم “الاستقطاع” أو “الضريبة” كإلتزام قانوني وظاهرة إجتماعية، ولما كانت الضريبة “إلتزاما قانونيا تفرضه السلطة العامة، طبقا للمبادئ الدستورية والقانونية المحددة لهذا الفرض”، فإننا سنجد بعضا من الدراسات تدعي المقاربة السوسيولوجية لهذه الظاهرة، قد إبتعدت عن هذا الوصف القانوني التقني لها، وقد اقتربت من التأريخ الاجتماعي، بمعنى محاولة رصد الظاهرة في سياق نشأتها، حتى يحصل الفهم المرجوا.
لقد قارب بعض من الباحثين، موضوع “الإستقطاع” أو “الضريبة” في إطار تاريخاني، مرتبط بثنائية: القبيلة، المخزن والإسلام، العرف. من أجل تبيان تأثير احد الجانبين العضوي، الحسي أوالمرجعي، المعنوي في الإستقطاع، من خلال فرض الضرائب من قبل السلطان فقط إرضاء لبعض من النخب المغربية في ذلك الزمن[25].
النتيجة؛ هي أن المقاربة السوسيولوجية – الخارجية للقانون- لا تحقق التحليل البنوي للنص القانوني وكذا المؤسسات الفاعلة فيه، ولقد أدت هذه النظرة –المفيدة في بعض جوانبها- إلى تكوين قناعة خاطئة لدى بعض الباحثين المتخصصين في القانون الحرفي والتقني، بحيث يعتقدون أن السوسيولوجيا مبحث تأصيلي، أي تبحث في السياقات التاريخية للتصرف أو الفعل أو المؤسسة القانونية المدروسة من قبل رجل القانون، لأجل التوصل إلى جذور الظاهرة، وربطها بسياقات نشأتها، بحيث لا يستطيع رجل القانون الخروج من المفاهيم الاجتماعية في إرتباطها التاريخي أو الأنثروبولوجي مع القانون.
ب – تقريب السوسيولوجيا من القانون: تتحقق تصاعديا، أي من خلال القاعدة القانونية تجاه علم الإجتماع، عن طريق التحليل المباشر للنص في إطار المقاربة الشمولية لعلم الاجتماع، أي تجاوز النظرة الفوقية والخارجية للقانون، التي تحول دون فحص النصوص والمؤسسات القانونية، فحصا داخليا، هذا الأمر هو ما يمكن أن نطلق عليه ب:”تقريب السوسيولوجيا من مجال القانون”، أي العمل بوسائل علم الإجتماع داخل المجال القانوني، أو داخل الدائرة التداولية لعلم القانون.
والنظرة الداخلية الفاحصة للقانون تقتضي مرحليتين: الأولى متعلقة بالرصد الاجتماعي للقانون، والثانية تكريس القوة الإقتراحية المبنية على هذا الرصد السوسيولوجي. والمرحلة المتعلقة بالرصد الإجتماعي تتحقق من خلال:
– الانطلاق الإحصائي من زمن ما قبل تشريع النص القانوني: أي دراسة المجال الذي سيتم صياغة النص القانوني فيه، من خلال الدارسة الإحصائية، التي تعطي للمشرع مجال متسعا من اجل فهم الأرضية الذي سيتم صياغة النص فيها، وهذه الدراسة الإحصائية تكمن من تجاوز بعض الإشكالات التي تطرح على القانون عموما، والقانون المغربي على وجه الخصوص، كالإقتباس مثلا[26].
ويمكن إعطاء مثال حي بالمقتضى القانوني المتعلق بإنشاء أقسام القضاء الإداري بالمحاكم الابتدائية والإستئنافية بالمغرب، والمنصوص عليه في مشروع التنظيم القضائي المغربي، الذي لم يتم دراسته من خلال المقاربة السوسيولوجية (أدوات الإحصاء)، فخلف هذا المقتضى بعضا من المشاكل حول دور هذه الأقسام التي لا ترقى لأن تكون محاكم إدارية، وهذا الأمر سينتج عنه لا محال إنفصال بين المجتمع وهذا القضاء، أي سيصبح المجتمع لا يتق بهذه المؤسسة التي لم تحقق حتى تطورها الداخلي، رغم ما كان للمشرع من نية في تقريب هذه القضاء الإداري من المواطن، ويدخل هذا الإشكال في إشكالية عامة مرتبطة بتزايد القيود الواردة على عمل القضاء الإداري[27].
– الدراسة الاجتماعية أثناء صياغة النص القانوني: ينتج عن المرحلة السابقة، محاولة استحضار علم الاجتماع أثناء صياغة النصوص القانونية، من اجل تفادي النظرة الأحادية في صياغة القانون، أي طغيان الجانب الشكلي والمكتبي في صياغة القوانين، وصياغة القوانين داخل مكاتب مغلقة غير منفتحة على المجتمع، فمن المفترض أن يكون القانون نابعا من المجتمع، كمخرج لتطلعاته، وليس قانونا فوقيا، لهذا يجب على التشريع أن يحقق في الحدود الدنيا نقاشا عموميا يتقدمه المجتمع.
– التحليل السوسيولوجي أثناء دخول النص القانوني حيز التنفيذ، والاحتكاك المباشر مع المجتمع: إن رصد تصادمات القانون مع المجتمع، تمكن من تجاوز بعض الإشكالات القانونية، قبل إثارة المنازعة، بل إن السوسيولوجيا في هذه المرحلة تصبح بمثابة دراسة وقائية، تقترح الحلول قبل الوصول إلى المنازعة.
وعلى سبيل المثال؛ إن دراسة نظام أراضي الجموع من خلال بعد سوسيولوجي، يمكن من وضع مكامن الخلل في كثير من الفصول المنظمة لأراضي الجماعات السلالية، في رصد التقاطعات بين الجماعة ومجلس الوصاية وجهاز الدولة الوصي، أو المقيد، من خلال أبعاد نشوء النص، مثلا الفصل الخامس الذي لا يعطي الحق للجماعة حق التحفيظ دون طلب الإذن من الوزارة الوصية، وهذا مظهر سلطوي لا يدرس إلا في سياقه التاريخي والسوسيولوجي، حتى نتمكن اليوم من تجاوز مثل هاته الفصول غير إجتماعية.
– استحضار البعد الاجتماعي عندما يصبح النص القانوني في محك الممارسة القضائية: أي محاولة دراسة المنازعات القضائية في إطار علم الاجتماع، من خلال مآلات القانون داخل المحاكم، وكذا مدى تقبل المجتمع للمساطر المعقدة أثناء النظر في المنازعات، وتجاوز بعض الإشكاليات المترتبة عن المنازعة، كإشكالية تنفيذ الأحكام مثلا.
على سبيل الختم: من ضيق التقنوية إلى سعة العلمية
لقد أصبح الدرس القانوني أكثر نمطية، بل وشارحا للنصوص بمنطقها الداخلي، لا بمنطق تفاعلي تداولي مع المحيط العلمي، يظهر من هذا التوصيف السابق أن الدرس القانوني طغى عليه الجانب التقني في دروسه الملقاة على الطلبة، بل إن هذه التقنوية قد استبدت بالعقول، فهم يدرسون ويحللون النص القانوني منفصلين عن العالم، فلا يهتمون بمقاصد الخطاب القانوني، او بمآلاته من الناحية الواقعية، وأثره على المجتمع، بل ما يهم رجل القانون هو محاولة اكتشاف النص القانون، ثم إحكام شرحه ووضع الحدود له، ومن تم الانسياق وراء نص آخر جديد، ليحكم زمامه.
لقد أنتج هذا الأمر قناعة خاطئة لدى الطلبة، بحيث يعتقدون أن امتلاك ما أستجد من قوانين وأحكام يؤدي إلى زيادة الحظ في القبول في المهن المرتبطة بالقانون، حقا إن المستجدات القانونية مفيدة في تجويد المجال القانوني، والانفتاح على ميادين بحثية جديدة، من خلال التطور الداخلي المستمر للقانون.
لكن إن الانسياق الكلي نحو التفريعات والمستجدات القانونية يؤدي حتما إلى الاقتناع الخاطئ لدى الطالب بأن الكتب التي لا تواكب المستجدات، هي كتب بالية ليست لها أي قيمة، حتى أن البعض نفر من الكتب التي تأصل للقانون، وتقرأ القانون من زاوية غير شارحة للنص فقط، بل محللة إياه ومفككة لألفاظه ومعانيه، في ضوء علم اللغة وعلم المنطق أو علم الاجتماع أو فلسفة التأويل.
إذا كان الشرح على المتون ينفع في تأهيل الطلبة لأن يمتلكوا صفة “التقنوية القانونية”، والتي تأهلهم إلى أن يكونوا ممارسين للقانون، فإنهم مع ذلك لن يمتلكوا صفة “العلمية القانونية”، فكيف إذن سيتم إنتاج العلمية القانونية؟ والابتعاد بذلك عن “الممارسات القانونية” داخل الدرس الأكاديمي القانوني، كما نبه لهذا الأمر الأستاذ ميشيل تروبير في كتابه “فلسفة القانون”.
إن هذا السؤال لا نستطيع الإجابة عنه بطريقة صريحة، بل إن الكثير ممن طرح إجابة لهذا السؤال قد هُمش أو عُزل من إطار البحث الأكاديمي في القانون، وعلى العكس من ذلك لا زال الكثيرون ينساقون وراءالشكلانية والتقنوية.
تزداد حدة التقنوية الصرفة، البعيدة عن عقل المشتغل بالقانون، عندما يكون هذا المشتغل باحثا أكاديميا، فتسيطر عليه هواجس الممارسة القضائية والقانونية، فتراه منساقا نحو هذه الممارسة، والحال أن هذه الأخيرة هي من يجب أن تستفيد من الطرح النظري الذي يكونه الباحثون، وإن هذا التأثير السلبي بالتقنوية من قبل الباحث يعود إلى الأسباب التالية:
أولا؛ الانكباب الأعمى تجاه التخصص القانوني والانفصال عن المحيط العلمي، حتى أصبح معها الباحث في القانون الفطن يلعن تخصصه الأكاديمي، ذاك التخصص المختل، الذي يحب الانفصال عن المحيط العلمي.
فيصبح رجل القانون في موقع علوي ينظر منه إلى المجتمع ، وقد تحول الباحث إلى إنسان متقوقع في تخصصه القانوني فيرى أصحاب هذا التخصص القانوني أنهم يملكون مفاتيح الإصلاح، ويملكون مفاتيح الآمرية (إحدى صفات القانون الجوهرية)، بل هم أصحاب القانون الصرف البعيد عن العلمية، فلا احد يجب أن يناقش القانون من زوايا علمية أخرى، سوى زاويتهم هم، بل إن رجل القانون يعتقد أنه هو صاحب الحق الأصيل في مناقشة النص في ذاته، وغالبا ما ينتفض غضبا إذا ما حاول بعض من الباحثين في علم الاجتماع أو علم النفس البحث عن أوجه جديدة في القانون.
ثانيا؛ إن السبب الثاني لطغيان التقنوية على حساب العلمية في الدروس والبحوث الأكاديمية بمجال القانون، هو الجانب النفسي للباحث الذي يرى أنه يمتلك المجال، بل يتسيده، ولما يصبح الباحث متملكا للقانون، ومعتقدا أنه هو الوحيد الذي له الحق أن يناقشه، فإنه يغرق في المعطيات الشكلية المتربطة بالآجالات والتقادم وأحكام متفرقة في القانون بطريقة أحادية بعيدة عن العلمية قريبة من جمع المعلومات، في حين إذا كان الباحث يتعامل مع القانون بأسلوب الكينونة لبحث في هذه المعطيات القانونية (أجالات أو أحكام أو شروط أو أركان …) عن المعنى، وعن المقاصد والخلفيات والعلل ومآلات التطبيق على مستوى المجتمع.
ولعل أبرز من عقد المقارنة بين أسلوبين يسودان في العالم، هو عالم النفس الأميركي إريك فروم الذي ميز بين أسلوب الكينونة الجوهري وأسلوب التملك المظهري في كتاب له بعنوان: الإنسان بين الجوهر والمظهر، عالم المعرفة، عدد 140، غشت 1989.
لقد حاول أريك فروم أن يقتني بعناية كافية تجارب ومقارنات واقعية لفهم هذين الأسلوبين، فقد قام بمقارنة الطالب (القانوني مثلا) الذي يتعامل مع المحاضرة بطريقة تملكية لا تهتم إلا بمجال ما سيدونه في المحاضرة، ثم يحفظه عن ظهر قلب ويحرص على ألا تضيع أوراق المحاضرة، أما الطالب (القانوني) الكينوني فيتعامل مع المحاضرة بطريقة أكثر عمقا، فيطورها ويبحث فيها عن كثير من الإشكاليات ذات المعاني المتعددة.
قائمة المراجع المعتمدة في الدراسة:
أولا: باللغة العربية
أ- كتب:
– نجيب بودربالة، القانون بين القبيلة والأمة والدولة، جدلية التشريع: العرف، الشريعة والقانون، ترجمة: محمد زرين، (المغرب، إفريقيا الشرق، 2015
– حمو النقاري، من أجل تجديد النظر في علم أصول الفقه من خلال منطق القانون، (المؤسسة العربية للفكر والابداع، بيروت، ط 1، 2017)
– محمد همام، تداخل المعارف ونهاية التخصص في الفكر الإسلامي العربي (دراسة في العلاقات بين العلوم)، (بيروت القاهرة، دار نماء للبحوث والدراسات، 2017)
– عبد الله إبراهيم، الاتجاهات والمدارس علم الاجتماع، دارسة في فلسفة العلم (الإبستومولوجيا)، (بيروت – الدار البيضاء، المركز الثقافي العربي، 2010)
– سعيد أحمد بيومي، لغة القانون، (مصر، دار الكتب القانونية، الطبعة الأولى، 2010)
– مرتضى جبار كاظم، اللسانيات التداولية في الخطاب القانوني، (المغرب–الجزائر، دار الأمان، منشورات الاختلاف، منشورات ضفاف، الطبعة الأولى، 2015)
– اللورد ديننج، ترشيد الفكر القانوني، في تفسير القانون والوصايا والعقود، ترجمة: هنري رياض، (بيروت، دار الجيل، 1981)
– إبن فرحون، تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام، (القدس للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 2009)
– جيمس إ. بوند، أساس إصدار الأحكام، ترجمة: نهى نايف مرسي، (مصر، الجمعية المصرية لنشر المعرفة والثقافة العالمية، ط 1 1998)
– غاي بيخور، مدونة السنهوري القانونية: نشوء القانون المدني العربي المعاصر (1932-1946)، ترجمة: رشا جمال، (بيروت، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، 2007)
ب- بحوث أكاديمية:
– أحمد السكسيوي، القيود الواردة على اختصاص القضاء الإداري، رسالة لنيل شهادة الماجستير في القانون العام، نوقشت بكلية بجامعة محمد الخامس، بكلية الحقوق سلا، غير منشورة، سنة الإجازة: 2016، ص. 18-19.
ج- مقالات:
– محمد الشيلح، مدلول الفصل 15 من القانون رقم 79 – 6 المنفذ بظهـير 25 دجنبر 1980من خلال تحليل ميتودولوجي، (مداخلة مناسبة تخليد الذكرى الخمسينية لتأسيس المجلس الأعلى)، ص. 39-38.
– أحمد السكسيوي، المسلمات النقدية لدور القاضي الإداري الإنشائي: دراسة في ضوء مبادئ الفقه الإسلامي وفلسفة القانون، مقال منشور بالمجلة المغربية للأنظمة القانونية والسياسية. (عدد 11، 2016).
– أحمد السكسيوي، القانون المُلتبس، مقال منشور بالموقع الإلكتروني لمؤسسة الجزيرة الإعلامية، مدونات الجزيرة، على الرابط التالي:
http://blogs.aljazeera.net/Blogs/201…AA%D8%A8%D8%B3
– أحمد السكسيوي، الدرس القانوني: من ضيق التقنوية إلى سعة العلمية، مقال منشور بالموقع الإلكتروني لمؤسسة الجزيرة الإعلامية، مدونات الجزيرة، على الرابط التالي:
http://blogs.aljazeera.net/Blogs/201…%D9%8A%D8%A9-1
ثانيا: باللغة الأجنبية
أ- باللغة الفرنسية:
– Jean CARBONNIER, Flexible droit. Pour une sociologie du droit sans rigueur, (Paris, LGDJ, 10ème éd 2001)
-Michel Miaille, Une introduction critique au droit, )Paris, Éditions Maspero, 1976.(
ب- باللغة الإنجليزية:
-Alfred Thompson Denning, The discipline of law, )London, Butterworths, 1979.(
-Vincent Cyril Richard Arthur Charles Crabbe, Understanding Statutes, (England, Cavendish Publishing, 1994(
– Roger Cotterrell, The Sociologiel Consept of law, (Journal of Law and Society, vol 10, 1983), p. 242.
[1] – يمكن مراجعة هذا المقال:
أحمد السكسيوي، القانون المُلتبس، مقال منشور بالموقع الإلكتروني لمؤسسة الجزيرة الإعلامية، مدونات الجزيرة، على الرابط التالي:
http://blogs.aljazeera.net/Blogs/201…AA%D8%A8%D8%B3
[2] – يمكن مراجعة هذا الطرح من خلال:
محمد همام، تداخل المعارف ونهاية التخصص في الفكر الإسلامي العربي (دراسة في العلاقات بين العلوم)، (بيروت القاهرة، دار نماء للبحوث والدراسات، 2017).
[3] – يرتبط هذا المصطلح في سياق تبنيه؛ إلى إيماننا العميق بفرضية أن “القانون كنسق هو عبارة عن علم مركب من عدة علوم أخرى” فلا يمكن أن يسير وحيدا دون هذه العلوم، بل سيشكك في علميته.
[4] – أحمد السكسيوي، الدرس القانوني: من ضيق التقنوية إلى سعة العلمية، مقال منشور بالموقع الإلكتروني لمؤسسة الجزيرة الإعلامية، مدونات الجزيرة، على الرابط التالي:
http://blogs.aljazeera.net/Blogs/201…%D9%8A%D8%A9-1
[5] – محمد الشيلح، مدلول الفصل 15 من القانون رقم 79 – 6 المنفذ بظهـير 25 دجنبر 1980من خلال تحليل ميتودولوجي، (مداخلة مناسبة تخليد الذكرى الخمسينية لتأسيس المجلس الأعلى)، ص. 39-38.
[6] – يشغل كوتريل منصب أستاذ نظرية القانون في جامعة كوين ماري وكلية ويستفيلد (جامعة لندن)
[7] – Roger Cotterrell, The Sociologiel Consept of law, Journal of Law and Society, vol 10, 1983, p. 242.
[8] – للإطلاع على جانب من هذا الجدل يمكن مراجعة: مرتضى جبار كاظم، اللسانيات التداولية في الخطاب القانوني، (المغرب–الجزائر، دار الأمان، منشورات الاختلاف، منشورات ضفاف، الطبعة الأولى، 2015)، ص. 13.
[9] – هنالك أربعة عوائق ابستمولوجية تؤثر في القانون حددهم الاستاذ ميشيل مياي، في كتابه مدخل لنقد القانون وهي:
– النزعة المثالية؛
– طغيان الجانب الوضعاني؛
– تأثر القانون بالمفاهيم المثالية؛
– فكرة استقلالية القانون.
Michel Miaille, Une introduction critique au droit, )Paris, Éditions Maspero, 1976.(
[10] – Michel Miaille, op . cit, p. 67.
[11] – نجيب بودربالة، القانون بين القبيلة والأمة والدولة، جدلية التشريع: العرف، الشريعة والقانون، ترجمة: محمد زرين، (المغرب، إفريقيا الشرق، 2015)، ص ص. 246-247.
[12] – عبد الله إبراهيم، الاتجاهات والمدارس علم الاجتماع، دارسة في فلسفة العلم (الإبستومولوجيا)، (بيروت – الدار البيضاء، المركز الثقافي العربي، 2010)، ص. 2-3.
[13] – سعيد أحمد بيومي، لغة القانون، (مصر، دار الكتب القانونية، الطبعة الأولى، 2010).
[14] – مرتضى جبار كاظم، اللسانيات التداولية في الخطاب القانوني، (المغرب–الجزائر، دار الأمان، منشورات الاختلاف، منشورات ضفاف، الطبعة الأولى، 2015).
[15] – حمو النقاري، من أجل تجديد النظر في علم أصول الفقه من خلال منطق القانون، (المؤسسة العربية للفكر والابداع، بيروت، ط 1، 2017)، ص. 86.
[16] – اللورد ديننج، ترشيد الفكر القانوني، في تفسير القانون والوصايا والعقود، ترجمة: هنري رياض، (بيروت، دار الجيل، 1981)، ص. 25-27-28.
[17] – Seaford Court Estates Ltd v Asher [1949] 2 KB 481 is a case Englis law concerning interpretation of an Act of Parliament.
للإطلاع على الحكم بشكل مفصل يمكن مراجعة:
Alfred Thompson Denning, The discipline of law, )London, Butterworths, 1979.(
[18] – Vincent Cyril Richard Arthur Charles Crabbe, Understanding Statute, )England, Cavendish Publishing, 1994(, pp. 49-51.
[19] – إبن فرحون، تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام، (القدس للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 2009)، ص. 45.
[20] – جيمس إ. بوند، أساس إصدار الأحكام، ترجمة: نهى نايف مرسي، (مصر، الجمعية المصرية لنشر المعرفة والثقافة العالمية، ط 1 1998)، ص. 81.
– وهذا الطرح مخالف للفهم الابستمولوجي الذي نحاول التأسيس له، والرد عليه لا يتسع له المجال الآن، فالرد يحتاج إفراد الكلام له مطولا، وقد حاولنا الرد في دراسة مطولة بعنوان: “المسلمات النقدية لدور القاضي الإداري الإنشائي” على هذه الفكرة.
– أحمد السكسيوي، المسلمات النقدية لدور القاضي الإداري الإنشائي: دراسة في ضوء مبادئ الفقه الإسلامي وفلسفة القانون، مقال منشور بالمجلة المغربية للأنظمة القانونية والسياسية، (عدد 11، 2016).
[21] – يطرح هذا الوصف إشكالية أساسية مرتبطة بالرفض المستمر للقانون من طرف المجتمع، هذا الرفض يجعل من التعريفات المقدمة بمناسبة التهميد للقانون أو تحديد مدخل للقانون قابلة للتفنيد، وهاته التعريفات من قبيل:”… تسعى القاعدة القانونية إلى تنظيم الحياة في المجتمع …”، فهي تعريفات تعتبر عند محدديها مسلمات ثابتة تتناقل من باحث إلى باحث، وهذا مدخل الإشكالية لذلك يبتعد دارس القانون عن الإشكاليات الحقيقية متجها نحو إطار مفاهيمي يقدسه، لكن هذا الإطار هو قابل لإثبات عكسه.
[22] – يحيل مصطلح الإستعمارية أو الكلونيالية إلى زمن نشأة هذه القوانين في ظل الإستعمار الفرنسي، وهي قوانين من ناحية المبدأ لم تكن سوى غلافا لبعض من الأطماع التي أظهرها المستعمر تجاه المغرب.
[23] – Jean CARBONNIER, Flexible droit. Pour une sociologie du droit sans rigueur, (Paris, LGDJ, 10ème éd 2001), p. 345.
[24] – المقصود بالإصلاحية هنا؛ هي تلك النظرة المصلحة التي يتصف بها باحث السوسيولوجيا لما يبدأ بدراسة القانون، فيصبح بمثابة مصلح، ابعد من أن يحلل النص القانوني في ظل علاقته بالمجتمع، وقد نبه لهذا الأمر الأستاذ غاي بخيور لما حاول دراسة القانون المدني المصري، وتأثير فكر السنهوري عليه، فانتقد تلك النظرة الفوقية أو المصلحة للقانون، عن طريق الأنثروبولوجيا والسوسيولوجيا، بل إن الأمر يحتاج حسب غاي بيخور تمازج التاريخ والسوسيولوجيا والقانون.
لتوسع راجع: غاي بيخور، مرجع سابق، ص ص. 3-4-5.
[25] – لمراجعة هذه المقاربة بتفصيل: الهادي الهروي، القبيلة، الإقطاع والمخزن، مقاربة سوسيولوجية للمغرب الحديث (1844-1934)، (المغرب، أفريقيا الشرق، 2010).
[26] – يطرح الاقتباس بالمغرب سؤال تطابق القانون مع خصوصيات المغرب، أو كما يسمى بإشكالية القانون الكولونيالي وعلاقته بالشريعة الإسلامية والعرف المحلي، لذلك فقد حاول بعض من فقهاء الإسلام خصوصا في تونس بتوجيه النظر الفقهي للقوانين الكولونيالية بما يخضع القانون لخصوصية الشريعة الإسلامية، لكن محاولات لم تراعي ما سياتي من تطورات بعد ذلك.
إن إشكالية الاقتباس تبقى أهم إشكالية، وتطرح على المشرع الحالي عبء التخلص من هذا القانون الكولونيالي، فهو مجرد محاولات للسيطرة، والمجتمع يدخل في صراع مرير مع هاته المعرفة الكولونيالية.
ولعل عدم البحث في أصولها ووضع منطلقات للتأريخ الفكر القانوني المغربي والعربي، يعمق من الخلاف، والباحثون المهتمون بهذا المجال هم قلائل، الباحثون الآن يبحثون عن تطبيقات القانون الحالية خصوصا القوانين المدنية المعاصرة وهذا أمر ضروري لكن لن تكتمل دراستهم دون البحث عن العقل الذي أنتج هذه القوانين، ودراسة التصادمات التي حصلت عند تنزيل القانون في المغرب والدول المحيطة به.
إن الاقتباس ظاهرة ليست مرتبطة بأصول القانون بالمغرب في تلك اللحظة المفصلية، بل الاقتباس يمتد إلى عملية تقنية لازالت مستعملة إلى الآن، وهي قد تولد صراعا خفيا للقانون، ودليل هذا الطرح هو ما تلقاه بعد القوانين التي تم جلبها من الدول الأوروبية انتقادا من طرف المجتمع، ولعل مدونة السير بالمغرب المقتبسة من السويد حجة في ذلك، لما لاقته من منع وشجب.
[27] – رغم ما كان للمشرع من نية سليمة في تقريب القضاء الإداري من المواطنين، لكن يجب أن يتم وضع دراسة عميقة لإعادة توزيع المحاكم الإدارية لمراعاة الجهوية، لكن دون إحداث أقسام في المحاكم الابتدائية ومحاكم الاستئناف.
ويمكن الاستفادة من التجربة الفرنسية في توزيع المحاكم الإدارية ومحاكم الاستئناف الإدارية، فقط من الناحية الشكلية على اعتبار أن عدد القضايا الرائجة بفرنسا في المجال الإداري تفوق بكثير عدد القضايا في المغرب.
وبذلك يجب محاولة إعادة توزيع وإضافة بعض المحاكم الإدارية ومحاكم الاستئناف الإدارية بالمغرب، في بعض الجهات وليس كل الجهات كما دعى إليها البعض، من خلال مراعاة المعايير الثلاثة التالية:
– المعيار الجغرافي من خلال مساحة الجهة؛
– المعيار السكاني من خلال عدد السكان الجهة؛
– المعيار المتعلق بعدد القضايا الرائجة في الجهة. لتوسع راجع: أحمد السكسيوي، القيود الواردة على اختصاص القضاء الإداري، رسالة لنيل شهادة الماجستير في القانون العام، نوقشت بكلية بجامعة محمد الخامس، بكلية الحقوق سلا، غير منشورة، سنة الإجازة 2016، ص ص. 18-19.