دراسات قانونية

في حالة اختلاف القانون مع الشريعة

عندما يختلف القانون الوضعي مع الشريعة الإسلامية
مقدمة :
نحمدك اللهم على هدايتنا لهذا الدين القويم والطريق السليم ونصلي على سيد الأنبياء والمرسلين الذي بعثته بشريعة سمحاء هدفها التيسير وغاياتها تحقيق كل ما ينفع الناس ويدرأ عنهم المضار ونصلي ونسلم على آلك وصحبك وبعد .

في هذا البحث هناك ثلاثة أطراف هي الشريعة والقانون والطب لذلك وجب تعريف كل منهم حتى نستطيع تحديد دوره عند الاختلاف .

1 – الشريعة : كانت بالسابق تطلق على كل ما يشتمل عليه الإسلام من عقائد وأحكام عملية أما الآن فقد خصصت لمجموعة الأحكام الشرعية المستنبطة من الكتاب والسنة والإجماع ، والشريعة هي من أوامر الله سبحانه وتعالى وصلت إلينا عن طريق أشرف الأنبياء محمد r وهي صالحة لكل زمان ومكان وقد أعطت الشريعة الأحكام العامة وتركت التفاصيل والمستجدات للاجتهاد وأعمال الفكر فقد قال سبحانه وتعالى : ( وشاورهم في الأمر ) أي دعهم يعملوا عقولهم في المستجدات .

2 – القانون : هو مجموعة القواعد التي تنظم الروابط الاجتماعية والتي يجبر الأفراد على احترامها بواسطة السلطة العامة . والقانون من صنع الإنسان ولذلك أطلـق عليه لفظ القانون الوضعي وهذا هو من أهم الفروق التي تفرقه عن الشريعة .

3 – الطب : هو علم وفن يعني بصحة الإنسان وشفائه .

كيف يفكر الأطباء :

الأطباء عموما عاشوا عالم التجربة أثناء الدراسة وفي حياتهم العملية لذلك تجدهم ينشدون الحقيقة فيما تأتي تجاربهم العملية المحددة .

وهم يبتعدون عن العموميات أو الغيبيات (التي يحفل بها القانون والشريعة ) فيما يزاولونه من أعمال . هذا الوضع أوقعهم في كثير من المشاكل خصوصا بعد الثورة العلمية الكبيرة في مجال الطب والأبحاث حيث ظهرت للسطح أمور تحتاج إلى تشريعات واجتهادات ومن أهم هذه التطورات في الطب ظهور هندسة الوارثة ، ونقل الأعضاء وتغيير الجنس وغيره من الأمور التي لا أريد أن أسترسل فيها فهي كثيرة .

وقد تصدى لهذه المواضيع رجال القانون والشريعة حيث إنهم أقدر على تفسير هذه المستجدات ووضع الضوابط لها ولكنهم اختلفوا فيما بينهم ، بل إن الخلاف انتقل إلى القانونيين أنفسهم وأصحاب الشريعة فيما بينهم أيضا .

والطب كعلم بذاته ليس له علاقة بالشريعة أو القانون ولكنه كممارسة لا يمكنه تجاوز هذا الموضوع فقد أثبت الواقع العملي أنه لا يمكن فصل الطب عن الشريعة أو القانون فالطب يعني الاتصال بالجسم البشري الذي له حرمة خاصة لا يمكن فصلها عن العلاقات الإنسانية المتعلقة بالشريعة أو القانون تعلقا وثيقا ، هذه العلاقة تضع أمام الباحثين المسئولية الطبية تجاه هذا الإنسان الذي لا يمكنه في الوقت الحاضر الاستغناء عن الطبيب وأخذه بالأسباب فما هو موقف الطبيب عند تعارض الشريعة مع القانون في أمر من الأمور المستجدة ؟

أستميحكم العذر عن الإجابة فلست في موقع العالم حتى أفضي ،ولا الفقيه حتى أدلي ، ولكني في هذه العجالة سأستعرض بعض الأمثلة التي صادفتني وأتركها عارية عن التعليق مع رأي متواضع في النهاية .

فلموقعي كمسئول عن منطقة صحية يرجع إليه العاملون في المجال الصحي كلما صادفهم ما يقف في طريقهم أو حيرهم تصرف بعض المرضى أو أولياء أمورهم أصبحت لدي حصيلة لا بأس بها من التجربة ولكني لا زلت عاجزا عن ملاحقة كل تطور وذلك لقصور التشريعات التي ترسم الحدود ، وتحدد المقصود بأسلوب يسهل على الطبيب استيعابه بعيدا عن العموميات والإسهاب في الآراء . ومن هذه الأمثلة : ـ

1 – الفحص أو التدخل العلاجي من طبيب :

يرفض بعض الرجال أن يتولى طبيب فحص محارمه أو أن يجرى لهم عملية جراحية قد تكون مستعجلة ولا تحتمل التأخير وقد اضطر أحد الأطباء في إحدى المرات إلى إحضار طبيبة تعمل في مستشفى الولادة وفي يوم ليس يوم خفارتها وفي منتصف الليل لتعمل عملية مستعجلة لامرأة رفض زوجها أن يقوم الطبيب الأخصائي بعمل العملية .

والسؤال هنا هل من حق الطبيب عمل العملية برغم رفض الزوج إن كانت المريضة في خطر وليس هناك غيره ؟ أو كانت الظروف لا تسمح لعدم وجود طبيبة ؟ وهل من حق الزوج قتل زوجته بهذه الطريقة لعدم قبوله المعونة الطبية من طبيب ؟ وما هو موقف ا لشريعة والقانون بهذه الحالة ؟ .

2 – طلبات الإجهاض :

لقد صادف أطباؤنا بعض طلبات الإجهاض من أزواج وزوجات يعاني أبناؤهم من أمراض وراثية تخليقية ويحضرني في هذا المقام بعضها :

أنيميا البحر المتوسط هذا الشخص يعاني أبناؤه من مرض الأنيميا الحادة وتضخم الطحال حيث يتوفى الابن أو الابنة في السنوات الأولى من عمره نتيجة للنزف المتكرر والالتهابات والأب لا يريد أن يخوض تجربة أخرى من العذاب والتعلق بالخلف إذا كان سيفقده بعد مدة . صحيح أن هناك نسبة صغيرة من الأبناء تنجوا من المرض حسب قوانين مندل ولكن البقية من الأبناء إما مصابة أو ناقلة للمرض.

وما ينطبق على مرض أنيميا البحر المتوسط ينطبق على عدد ليس بالقليل من أمراض الدم الوراثية مثل مرض “Haemophilia” “Von Willebrands syndrom” و ” Chrismas Disease” وغيرهم حيث إنه لا يوجد فص يثبت أن الجنين وهو في بطن أمه مصاب أم لا وهو في الغالب مصاب إذا كانت أمه حاملة للعيب الجيني فالكثير يفضلون الإجهاض على ولادة ابن يتعذب أمام أعينهم ثم يموت بعد سنتين أو ثلاثة من ولادته فما هو موقف القانون والشريعة من هذه الحالة ؟ وهل تجهض الأم ؟

الحصبة الألمانية أيضا مشكلة إذا أصيبت الأم أثناء الشهور الأولى من الحمل حيث احتمال تشوه الجنين لا يمكن إغفاله ، فما هو موقف القانون والشريعة في هذه الحالة ؟ .

حسب علمي المتواضع أن الإجهاض محرم في الشريعة وذلك باتفاق الفقهاء ولكنهم اختلفوا في المسألة إن كان الحمل في الشهور الأولى أي قبل نفخ الروح فيه (بين الكراهية والتحريم ) فما هو الموقف إذا أصر الوالدان على الإجهاض إذا وصل الحمل بعد هذه الفترة ؟ .

3 – رضاء ولي النفس
أ – طفل يرقد في قسم الأطفال يعاني من مرض استسقاء الرأس رفض والده عمل العملية في الأيام الأولى بعد الولادة وفضل أن يتركه يموت على أن يحصل على ابن قد يتخلف عنه بعض الإعاقة ، رأس الولد يكبر باستمرار حتى أصبح ضعف حجم جسمه وأصبح التدخل الجراحي الآن غير ذي فائدة وهو في النزع الأخير ومنظره يدمي القلوب ، هل من حق الأب قتل ابنه بهذه الطريقة وما هو موقف الشريعة والقانون بعد أن غلت أيدي الأطباء

ب –بنت عمرها ست سنوات عندها قصور في الكلى وتكلس تحتاج إلى عملية غسيل دم باستمرار ، والدها يرفض عملية الغسيل فهو جندي بالجيش الكويتي ويسكن في الرقة وليس لديه الإمكانيات لنقلها كل ثالث يوم إلى مستشفى مبارك لعمل الغسيل حاولت إقناعه بأننا على استعداد أن نقوم بهذا العمل إلى أن يجدوا كلية صالحة لابنته ولكنه رفض عملية غسيل الكلية متعللا بابن له مات أثناء عملية الغسيل مشابهة وهدد بأنه يحملنا المسئولية إن نحن قمنا بنقلها إلى مستشفى مبارك لهذا الغرض ووقع على ورقة بالرفض وحيث إن حالة البنت سيئة ونسبة البولينا بالدم حوالي 400 واحتمال أن يحدث لها شيء أثناء عملية الغسيل أمر وارد . أحجم الأطباء وأتوا يسألونني الرأي . اتصلت بالسيد وكيل الوزارة الذي أمر بنقلها متحملا المسئولية الكاملة برغم رفض الأب .

والسؤال هو هل هناك من يحمي الطبيب من المسئولية وما هو موقف الشرع ؟ فالقانون له موقف ولكنه غير كامل فالمادة 30 من قانون الجزاء الكويتي تقول في فقرتها الثانية ” ويكفي الرضاء الصادر مقدما من ولي النفس إذا كانت إرادة المريض غير معتبرة قانونا ولا حاجة لأي رضاء إذا كان العمل الطبي أو الجراحي ضروريا إجراؤه في الحال أو كان المريض في ظروف تجعله لا يستطيع التعبير عن إرادته وكان من المتعذر الحصول فورا على رضاء ولي النفس ” .

نحن نتكلم هنا عن رفض ولي النفس بل وتوقيعه على الملف بعدم التدخل وتحميله المسئولية للمستشفى وليس عدم رضائه فقط ، وما هو الموقف إذا كان التدخل الجراحي يحمل أخطارا كالوفاة مثلا في حالة البنت السابق ذكرها .

ج – أثناء إحدى الولادات العاديـة ساءت حالـة المولود بما يطلق عليه الأطباء ” Featal Distress” وأصبحت العملية القيصرية ضرورية لإنقاذه من الموت ولكن والد الطفل رفض إجراء العملية القيصرية لامرأته مضحيا بالطفل الذي كانت له فرصة شبه مضمونة بالحياة لو عملت العملية فهل من حق الأب التصرف في حياة ابنه بهذه القسوة وما هو الموقف القانوني والشرعي ؟ .

هذه بعض الأمثلة ناهيك عن التطورات المثيرة في عالم الطب والأبحاث الطبية فليس من مبتكرات الخيال أن نرى قريبا بشرا وحيوانات في أحجام مذهلة فقد وصلتنا حديثا أخبار بأن العلم توصل إلى تنمية حيوانات بأضعاف حجمها العادي ففي جامعة أهايوا حقق علماء مركز أديسون لتقنية علوم الحيوانات نتائج مذهلة في تطوير بعض الحيوانات والفئران إلى ثلاثة أضعاف حجمها الحالي بعد أن عزلوا وكثفوا جينات وراثية بعد جمعها لتكوين جزئيات D.N.A الحلزونية المزدوجة بحيث أمكن توجه الجسد لإنتاج أنواع معينة من البروتينات والهرمونات، وليس من المستغرب أن نرى إدخال D.N.A المجمع إلى جسم الإنسان بحيث يتولد منها أمثال الجبابرة والمردة التي نسمع عنها في قصص ألف ليلة وليلة .

وكم من علم أفضى إلى أمور بشعة ( ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم) سورة البقرة ، ولكنها أمور طبية مستحدثة .

فما هو موقف الشرع والقانون من هذه المستجدات الخطيرة ؟
أترك الإجابة لعلمائنا الأفاضل .

ما يجب أن يعمله الطبيب عند اختلاف الشريعة مع القانون :
لو نظرنا إلى قوانينا في البلاد الإسلامية نظرة متفحصة لرأينا مع الأسف الشديد أن معظمها اقتبس من قوانين أوروبية لا تولي اهتماما لنواحينا الشرعية فهم لا يدينون بديننا ولا يعنيهم ما يعنينا .

وبما أننا ندين بالإسلام ونعيش في بلد إسلامي يقول دستوره في مادته الثانية ” دين الدولة الإسلام والشريعة مصدر رئيسي للتشريع ” لذلك يجب اتباع قول الباري عز وجل في كتابه العزيز : ( فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول ) فهو الحكم والفيصل الذي يجب أن نلجأ إليه عند الاختلاف وهذا بدوره يحتم علينا أن نعبد الطريق أمام الطبيب ولا يمكن عمل ذلك إلا بوجود هيئة مشتركة من خيرة علماء المسلمين وذلك لاستنباط الأحكام الشرعية التي تغطي معظم احتياجاتنا من التشريعات حتى لا يقف الطبيب حائرا أمام مستجدات العصر حيث إن الأمراض لا تنتظر طويلا والساعات والدقائق لها ثمن كبير في اتخاذ القرار بالتدخل العلاجي ، وحتى لا يأثم الطبيب أو يندم على عمل ليس له علم بمداخلاته الشرعية أو القانونية .

إغلاق